فصل: باب: القَسْمِ للنساء إذا حَضَرَ سفرٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: القَسْمِ للنساء إذا حَضَرَ سفرٌ:

8654- نقول في صدر الباب: إذا أراد الانتقال إلى بلدة أخرى، فهو بين أمرين، إمَّا أن يستصحبَ جميعَ زوجاته، وإمَّا أن يخلّفهن، ولا معترض عليه في ظاهر الحكم في واحد من الأمرين.
وأمَّا إذا أراد أن يستصحب بعضَهن، وينتقلَ معها، ويخلِّف الباقيات، فهذا حرامٌ محض.
وإذا كنا نُحرِّم تفضيل امرأة بلحظة من القَسْم؛ لما فيه من إثبات التخصيص والميل، فالانتقال ببعضهن وتعطيل الباقيات أعظم من هذا.
والذي يدور في الخَلَد أنه إذا انتقل إلى بلدة أخرى، وأزمعَ إدامةَ الإقامة، وخلّف الزوجات بجملتهن، فقد يخطِر للفقيه أنهن يتضررن باحتباسهن عمرَهن. وليس كما لو كان يمتنع من الدخول عليهن وهو حاضر؛ فإنهن كنَّ يرجون أن يعود إلى المألوف من معاشرتهن، والعَوْدُ ممكن، وأما إذا انتقل وخلّفهن، فهذا ضرر بيِّن، وليس ينتهي الأمر إلى التحريم.
8655- فإنْ لم يكن سفرُه سفرَ نُقلةٍ، فهو في الخِيرَتين المذكورتين في سفر النُّقلة على ما ذكرناه، فإنْ شاء خلّفهن ولم يستصحب واحدة منهن، وإن شاء سافر بهن.
ولو أراد أن يسافر ببعضهن ويخلِّفَ الباقيات، فليس له أن يفعل ذلك بانياً على تخيّره وإرادته؛ إذ ذلك لو فعله مناقضٌ لوضع القَسْم، من المنع عن إظهار الميل.
وحقه إذا أرادَ المسافرةَ ببعض نسائه أن يقرع بينهن، فيسافرَ بمن تخرجُ القرعةُ عليها، وإذا فعل ذلك، فالأيام التي تنقضي في سفره لا يلزمه قضاؤها للمخلّفات إذا رجع إليهن.
والأصل في الباب، ما روي عن عائشة أنها قالت: "كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتُها سافر بها". ثم صح بطريق الاستفاضة أنه كان إذا رجع يجري على النوب في القَسْم.
وذكر الأئمة معنى كلياً-والتعويل على الخبر- ونحن نذكر منه ما ينضبط به المذهب إذا تفرعت مسائل الباب، فنقول: المرأة التي تخرج مع زوجها مسافرة، وإن كانت تحظى بصحبة الزوج، فإنها تشقى بما تلقى من محن السفر، وينضم إلى هذه سقوطُ اعتبار الرجل في تحكيمه القرعة. والمخلّفةُ وإن كانت تشقى بفُرقة الزوج، فهي على حظٍّ بالتردد والتودع في البلد. فهذا أصل الباب. وأبو حنيفة يُلزم قضاء أيام السفر للمخلّفات، ولا يجعل للقرعة أثراً في إسقاط القضاء.
8656- ثم ذكر أئمتنا مسائلَ مرسلةً تأتي على أطراف الباب، ونحن نأتي بها، ثم نجمعها في ربقة جامعة.
فمما ذكروه: أن الرجل إذا بلغ المقصد، فلو نوى مقام أربعة أيام، فعليه قضاؤها للمخلَّفات إذا رجع؛ فإنه في إقامته خرج عن حكم المسافرين، وهذا مما أجمع عليه أئمة المذهب، القاضي، والصيدلاني وغيرهما.
ثم إذا ابتدأ الرجوعَ، فهل يلزمه قضاءُ مدة الرجوع؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: يلزمه؛ فإنه من وقت الخروج عن حد المسافرين، انقطع حكم السفر المُسقط للقضاء، فتلتحق أيام رجوعه بأيام إقامته.
والوجه الثاني- أنه لا يقضي للمخلفات أيام الرجوع؛ فإنه من وقت ابتداءِ الرجوعِ تركَ ما لابَسَهُ من الإقامة، وعاد إلى حكمِ السفر، وقد اقتضى السفر سقوطَ القضاء، وهو من وقت الرجوع مسافر.
وناصر الوجه الأول يقول: الظاهر يقتضي أن يقضي للمخلَّفات إذا خصص واحدة من الضَرَّات بالصحبة، ولكن القرعة اقتضت جواز التخصيص من غير قضاء، فإذا انقطع حكم القرعة بالإقامة، لم يعد حكمُها، ولابد من استفتاح قرعة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك إلاَّ عند العَوْد، وفرضِ إنشاء سفر، وابتداء إقراع عنده، وهذا بمثابة ما لو اعتدى المودَع وضمن، فإذا ترك العُدوان، لم يعد أميناً؛ إذ جرى الائتمان أولاً مطلقاً.
ثم إن حكمنا بأنه يقضي أيام رجوعه للمخلفات، فلا كلام، وإن حكمنا بأنه لا يقضي؛ فالذي قطع به الأئمة: أن الأيام التي لا يقضيها أولها من وقت خروجه متوجهاً إلى الوطن الذي به المخلّفات.
8657- وفي بعض التصانيف أنَّ أول الوقت عند عزمه على الانكفاء وقصده. وهذا غلط صريح؛ فإنَّ حكم الإقامة إذا ثبت لا يزول إلا بمزايلة المكان الذي ثبت حكم الإقامة فيه.
وإنما وقع لهذا المصنف هذا من قول الأصحاب: إنه إذا قصد الإقامة، لزمه القضاء من هذا الوقت؛ فظن أن قصد الرجوع في قطع الإقامة كقصد الإقامة في قطع السفر، وهذا ظاهر السقوط، ولا مصدر له عن فكرٍ؛ فإنَّ الإقامة تحصل بمجرد القصد، كما تحصل القِنية في البضائع لمحض النية، ولا تنقطع الإقامة إلاَّ بفعل السفر، كما لا ينعقد حول التجارة إلا بإنشاء عقد التجارة، فليس هذا إذاً معدوداً من المذهب.
وقد ذكر العراقيون اختلافاً للأصحاب على مناقضة هذا، فقالوا: إذا سافر الرجل ببعض نسائه عازماً على الانتقال إلى البقعة المقصودة، فهذا ظلم منه، وإذا انتهى إلى البقعة المأمومة، فالأيام التي تتفق الإقامة فيها بها مقضية، والأيام التي قطع فيها المسافة من الوطن إلى البقعة، فعلى وجهين:
أحدهما: أنها لا تُقضى؛ فإنها أيام سفر، والمسألة مفروضة في الإقراع واتباع خروج القرعة لا محالة.
والثاني: أن تلك الأيام مقضية؛ فإنها قصدُ ظلم، فكانت في معنى الظلم، وهذا أوجه، والوجه الأول مزيف، وليكن ميل الفقيه في الباب إلى القضاء، مهما وجد فيه مستمسكاً.
8658- وإذا أقام في البقعة التي قصدها، وثبت له حكم الإقامة، وانقطعت رخص المسافرين، ثم إنه أنشأ سفراً من تلك البقعة قُدُماً، وهو مُستدبر وطنَه مثلاً، فإن قلنا: أيام رجوعه إلى الوطن مقضية- فهذه الأيام مقضية، وإن قلنا: أيام الرجوع لا تُقضى، فالحال ينقسم في تقدمه بالسفر، فإن بدا له هذا السفر الآن، ولم يكن عازماً عليه في خروجه الأول، فهذه الأيام مقضية؛ فإنه أنشأ السفر عن إقامةٍ، وما كان عزم عليه قبلُ.
وإن كان نوى أن يمتد إلى بغداد، فأقام بالرَّي الإقامة التي وصفناها، ثم استتم سفرته إلى بغداد؛ فهذا فيه احتمالٌ، على قولنا: أيامُ الرجوع غيرُ مقضية، والأوجه هاهنا: وجوب القضاء.
ويجوز أن نَفْصل بين أن يقطع نيةَ السفر، ثم تبدو له فيعود، وبين أن يكون مستديماً لنية السفر الأقصى، ولكن نوى إقامة أيامٍ في بقعة، فتنتظم أوجه، وجهان عامَّان في النفي والإثبات، ووجه مُفَصَّل، كما نبهنا عليه.
ولو نوى مُقام المسافرين، فهو مسافر، لا يتغير من الحكم الذي ذكرناه في القسم شيء.
8659- وذكر العراقيون أنه إذا سافر ببعض نسائه سفراً قصيراً، فيلزمه القضاء، وزعموا أن القضاء إنما يسقط في السفر الطويل عند فرض القرعة المسقطة للاختيار، وكأنهم عدُّوا سقوط القضاء في مقابلة المشقة التامة.
وكان شيخي يتردد في هذا ويقول: من الرخص ما يتعلق بالسفر القصير والطويل وفاقاً، أو على قولٍ، وأحراها بالذكر الجمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً.
والوجه عندي: القطع بما ذكره العراقيون؛ فإنَّ ما نحن فيه يضاهي إسقاط العبادات، أو تخلية الأوقات منها. وهذا الفن لا يثبت إلا في السفر الطويل، والله أعلم.
فهذه المسائل أطلقها الأصحاب وما أحوجَها إلى رباط يحويها.
8660- وقد أجرى الأصحاب في صدر الباب النُّقلة، وهذا قد يخيِّل أن إقامة أيام وإن جرى العزم عليها لا توجب القضاء، ثم صرحوا بأنه لو أقام أربعة أيام على قصد وعزم- فهذه الأيام مقضية. وكل ما ذكروه صحيح.
والضبط فيه أنَّ سفر النُّقلة ببعض النساء محرَّم، يعني تخصيصَ المخرَجة.
والسفرُ إذا لم يكن سفرَ نُقلة، وكانت الحاجة تَمَسُّ إلى إقامة أيام بالقصد، فهذا النوع من السفر مما يسوغ فيه تخصيص بعض النسوة بالقرعة، وليس كسفر النقلة، ويجب قضاء أيام الإقامة؛ لمكان التودّع وزوال المشقة.
وإن كان السفر عرياً عن قصد النقلة، ولم تكن فيه إقامة تزيد على مدة المسافرين؛ فيجوز الخروج ببعض النسوة بالقرعة ولا يلزمه القضاء.
8661- فالأسفار إذن على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى: سفر النقلة، وهذا هو الذي لا يجوز الخروج فيه ببعض النسوة؛ فإنه لا يتصور أنْ يجمع من يقصد الانتقال بين قصد الانتقال وقصد القضاء، فيجرد قصدَه ظلماً، فكان مقصودُه محرماً.
والمرتبة الثانية: سفرةٌ فيها تودّع يُسقط رخص المسافرين، فالخروج ببعض النسوة على شرط تحكيم القرعة جائز، ثم أيام الإقامة إذا انقضت مقضيةٌ؛ لما فيها من التودّع.
والمرتبة الثالثة-هي سفرة طويلة لا يتخللها ولا يتصل بمنتهاها، إقامة في أيام تزيد على مدة إقامة المسافرين، فيجوز تخصيص بعض النسوة بالإقراع، والقضاءُ منتفٍ في جميع الأيام، فإنَّ حكم السفر مطرد فيها.
8662- ثم ننعطف ونقول: إذا خرج بالبعض وقصدُه النقلة، وأقرع، فعلى أيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد خلاف، ذكره العراقيون وإذا كان على قصد إقامة أيام في منتهى السفر مثلاً، فأيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد غيرُ مقضية بلا خلاف.
وأما المرتبة الثالثة، فلا كلام فيه؛ فإنَّ جُملة الأيام عرية عن التودّع، وفيها دقيقة لطيفة، وهي: أنَّ المسافر إن كان لا يقيم بمقصده إلاَّ يوماً واحداً؛ فإنه لا يقصر في المقصد ولا يفطر؛ إذ لو عُدَّ ذلك منزلاً، لكانت مرحلة واحدة كافية؛ لأجل أنها إذا حسبت ذهاباً ومجيئاً، صارت مرحلتين، فإنا نميز الرخصة في السفر من غرض القَسْم؛ فإنَّا لا نوجب القضاء إذا لم يُقم في مقصده، وإن كان لا يقصر، لأن مبنى هذا الباب على زوال التودّع، ومبنى الرخص على انتهاء السفر، والرجوع ابتداءٌ آخر.
والذي يقتضيه هذا القياس أنَّ السفر إذا كان مرحلة واحدة، فيجب أن يكون في إسقاط القضاء كمرحلتين في التقصير، فإنَّ مدة الكون في خاصية الباب في منتهى السفر كالإقامة في مرحلة من المراحل، وهذا لطيفٌ حسن، والاحتمال مع ذلك قائم.
8663- ومما بقي في الفصل: الكلام في أيام الرجوع، فنبدأ بالمرتبة الثالثة، ونقول: أيام الرجوع في السفرة التي لا تودّع فيها كأيام الذهاب، وأيام الرجوع من السفرة المبنية على قصد النقلة على وجهين، والأصح فيها: القطع بوجوب القضاء؛ فإنه لم يجر إقراع له حكمٌ في ابتداء الأمر، ولست أرى لنفي القضاء وجهاً، ولكنه مشهور.
فأما أيام الرجوع من المقصد الذي أجرى فيه قصدَ الإقامة لا قصدَ الاستيطان، ففيه وجهان: أصحهما- أنَّا لا نقضي؛ فإنَّ السفرة جائزة بسبب القرعة، وإذا اطَّرد الجواز؛ فلا يُستثنى من سقوط القضاء إلاَّ أيام التودع.
8664- ومما يعترض في الباب أنَّ المسافر إذا قصد بقعة ولم يُزمع الإقامة في مدة، ولكن ربط أمره بانتجاز حاجة، فالقول في أنه هل يترخص إذا زادت إقامتُه على مدة المسافرين مذكور في الصلاة.
فإن أدمنا الرُّخَصَ، فالأيام غير مقضية، وإن أسقطناها وألحقناه بالمقيم؛ فالقول فيه كالقول في إبرام العزم على الإقامة أربعة أيام، فإن قيل: لا تودّع بمن يبرم عزمه على الرحيل بانتجاز حاجته، قلنا: أُلحق هذا الشخص بالمتودّع بدليل سقوط الرخص.
8665- ومما يجري ركناً في الباب أنه لو خرج بواحدة من غير قرعة، فإذا آب، قضى للمخلفات إجماعاً، وينضم إلى وجوب القضاء عصيانُه بالخروج بالتي اختارها؛ فإنه أظهر الميل إليها، فاقتضى ذلك تعصيتَه وإلزامَه بالقضاء، فلا نظر-مع ما ذكرناه- إلى مقاساتها المشقة.
8666- ولم يختلف العلماء في أنه إذا أقام عند واحدة من نسائه في الحضر ليمرضها، فهذه الأيام مقضيةٌ للأخريات، فإن ماتت المريضة، خرجت من البين، ولم يظهر أثرُ وجوبِ القضاء في حق الباقيات، فالوجه أنْ نقدر كأنَّ التي ماتت لم تكن. وإن استبلّت وبرئت، قضى تلك الأيام للباقيات؛ فإنَّ قيامه بتمريضها يقع محضاً لها، وليس كذلك الخروج ببعضهن سفراً؛ فإنها وإن حظيت من وجه، شقيت من وجه.
ثم لا يجوز للرجل أن يقوم بالتمريض ويقطع النُّوبَ إلاَّ عند حاجة. وقد رأيت في هذا تردداً للأئمة، فالذي ظهر من كلام المعظم أنَّا نشترط أن يكون المرض مخوفاً، وأشار مشيرون إلى أنَّ الحاجة الحاقّة كافية، حتى إذا عظمت الآلام-وإن لم تبلغ مبلغ الإخافة ولم تجد ممرضاً- فللزوج أن يقوم بتمريضها.
وإذا كان المرض مخوفاً، ووجدت المرأةُ من يقوم بتمريضها ففي جواز قيام الزوج بتمريضها تردد.
وحاصل المذهب أنَّ المرض إذا اشتدَّ ألمُه، ولم تجد المرأة غيرَ الزوج، فللزوج تركُ النوب لتمريضها، وإن وجدت غيرَه، فعلى التردد.
وللزوج القيام بتمريضها في المرض المخوف إذا لم تجد من يقوم مقامه، فإن وجدت، فعلى التردد.
وقد نجز مضمون الباب تأصيلاً وتفصيلاً، ونحن نذكر على إثر ذلك فروعاً مرتّبة المآخذ..
فرع:
8667- إذا سافر بواحدة بالقرعة-حيث يسقط القضاء- فلو تزوج بجديدة في خلال الطريق، فإنه يخصها بحق العقد ثلاثاًً أو سبعاً، ثم يَقْسِمُ بينها وبين التي سافر بها، فلو أراد أن يخلّف إحداهما ببلد، لم يجز إلا بالقرعة، وإذا فعل ذلك بالقرعة، فالتفصيل على ما قدمناه.
ولو خرج بامرأتين بالقرعة، جاز، فلو بدا له أن يخلِّف إحداهما ببلد، لم يجز إلاَّ بالقرعة.
ولو ظلم إحداهما في الطريق لصاحبتها، قضاها في الطريق، فإن لم يتفق القضاء حتى رجع، قضى للمظلومة من حق التي ظلمها بها دون حق صاحبتها المتخلفتين.
ولو خرج منفرداً، ثم تزوج في الطريق، لم يلزمه أن يقضي للمخلَّفات كل الأيام التي صحب فيها المُتَزَوَّجَةَ في السفر؛ لأنه خرج ولا حقَّ لهن، ثم تزوج في السفر، ولا يتصور عليه القَسْم بينهن، وإنما يجب الإقراع في اللواتي يجتمعن تحته حالة السفر، فإذا كان الإقراع يُسقط حق المتخلفات، فابتداء الزواج بذلك أولى.
فرع:
8668- إذا كان تحته زوجتان، فنكح جديدتين، فقد ثبت لهما حق العقد، فلو أراد سفراً وأقرع، فخرجت القرعة على إحدى الجديدتين، فإذا سافر بها، فلا شك أن أيامها تندرج تحت صحبة السفر، إذا كان يصحبها.
فإذا عاد، فهل يلزمه أن يوفي الجديدةَ الأخرى حقَّ العقد-إذا لم يكن وفاها من قبل؟ والمسألة فيه إذا زُفَّت إليه، فلم يُقم عندها؟ اختلف أصحابنا في المسألة فيما نقله العراقيون، فمنهم من قال: لا يوفيها حق العقد؛ فإنَّ أيام حق العقد قد انقضت في سفره، كما انقضت نُوبُ القديمتين، ثم لا يجب قضاءُ نوب القديمتين، فلا يجب تدارك حق العقد.
ومن أئمتنا من قال: يجب أن يوفيها حقَّ العقد، ولا يقاس حقُّ العقد في ذلك بالقَسْم، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي؛ والسبب فيه أن معنى التوحش قائم، وحق القَسْم قد يسقط بأسباب، وهو يجب شيئاً شيئاً، فإذا كان الرجل مسافراً على شرط الشرع، فلا يجب للمخلَّفات حقُّ القَسْم. وحق العقد يجب دفعةً واحدة، لا على قياس القسم؛ فإنَّ القسم للتسوية، وحق العقد حق مستَحقٌّ في الذمة، فلابد من الوفاء به.
وعندنا أنَّ ما ذكروه في المزفوفة. فأمَّا التي لم يزفها بعدُ إذا أدخلها في القرعة، ولم تخرج القرعة عليها، فإذا عاد وزفها؛ فيجب القطع بأن حقها-والحالة هذه- قائم.
ولو نكح جديدةً وزفها على قديمة، وخرج مسافراً، ولم يستصحب واحدة منهما، فإذا عاد، فالذي أراه أنه يلزمه أن يوفي المزفوفةَ حق العقد هاهنا، فإن مضت أيام في السفر غيرُ محسوبة عليه، وفي المسألة احتمال على حال، والعلم عند الله تعالى.

.باب: نشوز المرأة على الرجل:

8669- للمطيعة المنقادة النفقةُ والقَسْمُ على زوجها. والناشزة هي الممتنعة من التمكين، والأصل في الباب قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]. وقد ذكر الشافعي للآية تأويلين:
أحدهما: أنَّ هذه الخصال مرتبة على أحوالٍ تصدر منها، فإن خاف الزوج نشوزَها، ولم يبدُ بعدُ عينُ النشوز، بل بدت أماراته، فيعظها حينئذٍ.
فإن لم تتعظ وأبدت النشوز، هجرها في المضجع، فإن أصرت وتمادت ولم تحتفل بالهجر في المضجع، ضرَبَها، واقتصد، عالماً بأنه لو أفضى الضربُ إلى الهلاك، أو إلى فساد عضو، ضمن.
وقد يرد لفظُ الجمع والمراد به ذكْرُ المراتب، والتخييرُ فيها على حسب وقوعها، قال الله تعالى في آية المحاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[المائدة: 33] فاللفظ للتخيير، والمراد به الترتيب على قدر الجرائم، هذا أحد التأويلين.
والثاني: أن يحصر معنى الآية فيما بعد وقوع النشوز، وعند ذلك يجمع بين الوعظ والهجر والضرب، فإذا أمكن حمل هذه الخصال على الجمع-وظاهر الصيغة مُشعرٌ بالجمع-، فالأولى أن يحمل على ذلك، فعلى هذا معنى قوله: تخافون، أي: تعلمون النشوز. وقد يرد الخوف والمراد به العلم.
8670- واختلفت الأخبارُ في ضرب النساء، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تضربوا إماء الله» فجاء عمر وقال: "يا رسول الله ذَئِر النساء أي نشزن واجترأن، فأذِن في ضربهن، فبسط الرجال أيديهم إلى ضرب النساء، وجاوزوا الحد، فأطاف بآل محمد أي: بحُجَرِ نسائه وأهل بيته صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثيرات كلهن يشتكين أزواجهن، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: لقد أطافَ الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلُّهن يشتكين أزواجهن!! خيارُكم خيارُكم لنسائكم، لا يضربن أحدُكم ظعينتَهُ ضربه أَمَته".
ثم تكلم الشافعي في ترتيب الكتاب والسنة، فذكر وجهين:
أحدهما: أنه يحتمل أن تكون الآية وردت بإباحة الضرب، ثم نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه تنزيهاً، ثم لمَّا استطالت النسوة بأذاهن على الأزواج أذنَ في ضربهن، فلما بالغوا، قال آخراً: خياركم خياركم لنسائكم، واستحث على الصبر على أذاهن والإعراض عن مجازاتهن على شكاسة الأخلاق وشراستهن، وهذا لعمري هو الأصل.
8671- فإذا تبيَّن أصل الباب، فَسِرُّه وأهمُّ ما فيه: تصوير النشوز، ونحن نذكر فيه ما يشفي الغليل-إن شاء الله عز وجل-، ثم نذكر طرفاً من الكلام في ضربهن، ثم نذكر حكم النشوز.
8672- فنقول أولاً: لسنا نشترط في النشوز أن تمتنع المرأةُ امتناعاًً لا يدخل في إمكان الزوج ردُّها إلى الطاعة قهراً، بل إذا نشزت وتمكن الزوج من ردها، فهي ناشزة، هذا طرف أطلقناه، ويعارضه أنها لو كانت تمتنع امتناعاً يمكن عده من فنون التدلل والمجاذبة لتكون أشهى، فليس هذا من النشوز، وليس من شرط طاعتها المبادرةُ التي تُخرج من خَفَر الحياء إلى تشوُّف التوقان، فما المعتبر إذن في تصوير النشوز؟
فنقول: إن خرجت عن مسكنه، فهي ناشزة على تحقيق، وإن استمكن من ردها. وإن كانت معه، ولكن كانت تمتنع على الزوج امتناعاً يحوجه إلى تأديبها، فقد يتعرض الرجل بسبب امتناعها لضررٍ؛ بسبب تخلف قضاء النَّهْمة والشهوة، فهذا نشوز؛ فإنَّ النشوز ضدُّ الطاعة.
والطاعة معلومة في المنقادة على حسب العادة، وقد تختلف بالبكارة والثيابة، وعلو المنصب، والتوسط في الدرجة، وهذا على تصوير لزوم المرأة أُبهة الحياء، والامتناع هو الذي يلحق إضراراً بالرجل بسبب تأخر الحاجة، أو يحوجه إلى أن ينتصب مؤدِّباً، والنكاح للإيناس والاستئناس، والذي يحقق ذلك: أن الطاعة تمكينٌ منها، وهي تستفيد به تقرير حقها، فإذا احتاج الزوج في تحصيله إلى تضرر أو مقاساة كُلفة، فله أن يتركها حتى يضيع حقها.
8673- والترتيب في ذلك أنها إذا خرجت من مسكن النكاح، فهي ناشزة كيف فرض الأمر، وإن لم تخرج وعُدّت مطيعةً، والزوج لا يحتاج في تحصيل الغرض منها إلى مقاساة كلفة، أو تعرض لضرر أو إقدام على ضرب؛ فهي مطيعة. وإن كان يحتاج إلى كُلفة أو ضرب أو تعرض لضرر، فهي ناشز.
ولو كانت تمكن من الوقاع، وتمنع مما عداه من جهات الاستمتاع، فكيف السبيل وهي ممكِّنةٌ من المقصود؟ فهذا نوع من النشوز، وأقرب أصلٍ إلى ذلك ما ذكرناه في الأَمَة، إذا كان السيد يسلمها ليلاً ولا يسلمها نهاراً، فذاك أولاً سائغ للسيد. ثم في وجوب النفقة خلاف، وما ذكرناه في الحرة غير سائغٍ لها، وهي مُمكَّنةٌ من المقصود، ففي استقرار النفقة تردد، ولكنها مجبرة على ما يحاوله الزوج منها إذا كان لا يكلفها ما لا يسوغ.
فهذا قولنا في تصوير النشوز.
8674- وليس من النشوز أن تبذو على زوجها، وتستطيل عليه سبَّاً وشتماً، فإنها إذا كانت تُمكِّن مع ذلك، فالتمكين جارٍ ولا نشوز، وهي ممنوعة عن المسابّة مزجورة عنه، وإنْ أفضى الأمر إلى التعزير عُزِّرت، وفيه فضل نظر أذكره في فصل الضرب.
8675- فأما القول في الضرب؛ فالأولى ألاَّ يضرب، وليس كالولي في حق الطفل العرِم، فإنَّا نؤثر له أن يؤدبه، والفرق أنَّ الولي يؤدبه لاستصلاحه، والزوج يؤدب زوجته لتصلح له، والضرب ليس فيه توقيف، والجبلاَّت تختلف باختلاف الأحوال في احتمال الضرب، فالأولى ألاّ يتعرض للضرب المفضي إلى الغرر لحظّ نفسه ففيه الحيدُ عن الصفح وحُسن المعاشرة.
وإذا أراد الضربَ، ففي وقته تردد، ذكر العراقيون وجهين في أنَّ الزوج هل يُبادر الضرب بأول نشوز، أم لا يجوز له الضرب حتى يستمر أو يتكرر منها النشوز؟ وتلقَّوْا ما حكَوْه من الاختلاف عن ظاهر القرآن؛ فإنَّه عز من قائل قدم ذكرَ الوعظ، ثم عقّبه بالهجر، ئم اختتم بالضرب، فنبّه سياقُ الخطاب على رعاية تدريج، ثم ظاهر كلامهم-في هذا إذا نصروا المنع من الهجوم على الضرب- يشير إلى أنَّ الضرب يقع في الثالثة، فإنهم لما نصروا الوجه الثاني رأَوْا هذه الخصال مجموعة كما ظهر النشوز.
8676- وتحقيقُ القول في هذا يعطف الفقيه على النظر في حال من يقصد الإنسان في بدنه أو ماله، فإنَّ الدفْعَ يقع على التدريج، على ما سيأتي مشروحاً-إن شاء الله تعالى- حتى إذا كان الدفع ممكناً بتهييبٍ وزجرٍ في المنطق، لم يجُز الانتهاء إلى الفعل، ثم الأفعال تترتب على أقدار الحاجة، والقول في ذلك متيسرٌ سنضبطه في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
ويجوز أن يقول القائل: المنع من النشوز يجري على ترتيبِ دفع الصائل في رعاية التدريج، ونهايته في أنَّ الصائل لا يُدْفع إلا بما يأتي عليه، فيجوز دفعه إلى ما يُفضي إلى هلاكه، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا، فانَّ للتأديب موقفاً من طريق التقريب، لا يُتعدّى، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
ويجوز أن يقال: ليس ضربُ الناشزة في معنى الدفع، وإنما هو في معنى إصلاحها في مستقبل الزمان. وإذا كانت تنزجر في كل نوبة من النشوز، نقول: فقد تعتاد ذلك؛ فلا يمتنع أن يقال: إذا نشزت وظن الزوج أنَّ الوعظ يصلحها والهجرَ، فيقتصر. وإن ظن أنها ستمرن وسيفسد حقه منها، فيضربها لتصلح له في المستقبل، وهذا هو الحق لا غير، وعليه يجري تأديب الأب ابنه، غيرَ أن الأب يصلحه له، والزوج يصلحها لنفسه.
8677- ثم المتبع في ذلك الظن، فإن ظهر للزوج سوء خلقها بنشوزٍ واحدٍ، ضربها، وإن قدر النشوز الواحد نادرة، لم يضربها، ويختلف هذا باختلاف الأحوال والأشخاص، ولا نطلب في ذلك يقيناً، ولا يجوز الإقدام على الضرب من غير ظن في أنَّ الاستصلاح يحصل به.
وإنْ أبت المرأةُ وتمادت؛ وكانت لا تنكفّ إلا بالضرب المبرِّح، فليس للزوج أن يبرِّح بها، وينتهي إلى حالة توقع الخوفَ عليها؛ فإنَّ الغرض إصلاحُها، فإذا ظن أنها لا تصلح فَضَرَبَها، كان ذلك حَنَقاً وشفاءَ غليل، وهو غير مسوّغ، هذا هو السر المتبع، ولو أفضى الضرب إلى الهلاك، وجب الضمان، وإنْ أفضى إلى نقيصةٍ ثبتت لمثلها حكومة، فعلى الزوج أن يضمنه.
وإن جرَّ الضرب شيئاً، ثم زال نوجب على الجاني في مثل ذلك شيئاً على وجهٍ بعيد، والوجه هاهنا: القطع بأنه لا يجب على الزوج شيء.
فإن قيل ضرب الزوج إذا أفضى إلى نقيصة، فالبعض من هذا لو اقتصر عليه، لما كان موجِباً ضماناً، فهلاَّ جعلتم النقيصة بمثابة أثر يترتب على مستحِق وغير مستحِق؟ قلنا: إذا جاوزَ الزوجُ الحد، أَخرجَ بآخر فِعْلِه أوّلَه عن كونه إصلاحاً، فصار جميع ما صدر منه جناية، وسنصف هذا في أبواب التعزيرات من كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.
8678- ومما أطلقه الأئمة ونطق به القرآن الهجرُ، وكان شيخي يهجرها في المضجع، ولا يترك مناطقَتَها وراء ثلاث ليال؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وهذا فيه نظر عندنا؛ فلو رأى استصلاحها في مهاجرتها في المنطق، فلست أرى ذلك ممنوعاً، وهو أهون من الضرب. والذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو تَهَاجُر الأخوين من غير سبب يقتضيه في الشرع.
هذا بيان الهجر والضرب.
8679-ويتصل به أنها إذا كانت تؤذيه في المنطق ولا تمتنع عليه، فهل له أن يؤذيها، أو يرفعها إلى السلطان؟ فيه ترددٌ بين الأصحاب، قال قائلون: هي فيما تأتي به وراء التمكين من موجبات التعزير، كالأجنبية، كما أنها في منعها حق الزوج من مال أو غيره مما يتعلق بحقوق الزوجية كالأجنبية.
وقال قائلون: يؤذيها الزوج على استطالتها، وبذاءة لسانها؛ فإنها وإن كانت ممكِّنةً مع ذلك، فهذا ينكِّد المعاشرة، ويكدّر الاستمتاع، ولسنا ننكر تعلقه بما يوجب استصلاحَ الزوجة في الحقوق الخاصة في النكاح.
فأما الحكم في سقوط النفقة، ففيه تفاصيل تتعلق بكتاب النفقات.