فصل: باب: الشَّرْطِ الَّذي يُفْسِدُ البَيعَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشَّرْطِ الَّذي يُفْسِدُ البَيعَ:

3297- قال أئمة المذهب: الشرائط المذكورة في صُلب العقد قسمان: قسم يقتضيه إطلاق العقد، وقسم لا يقتضيه الإطلاق. فأما ما يقتضيه مطلقُ العقد، فكالملك ووجوب التسليم والتسلُّم، وجواز التصرُّف، فهذه الأشياءُ وما في معانيها مقتضياتُ العقد، فإذا وقع التعرُّضُ لها على وَفْقِ موضوع العقد، لم يضرّ.
والقسمُ الثاني- ما لا يقتضيه مطلقُ العقد، وهو ينقسم قسمين:
أحدهما: لا يتعلق بمصلحة العقد.
والثاني: يتعلق بها. فأما ما لا يتعلق بمصلحة العقد، ولم يرد بتسويغه الشرع، فهو ينقسم، فمنه ما يتعلّق بغرض العقدِ، ومنه ما لا يتعلق به، فأما ما لا تَعلُّق له بغرض العقد، فهو مثلُ أن يقول: بعتُك هذا العبدَ بألفٍ، على ألا يلبسَ بعده إلا الحرير، أو ما ضاهى ذلك من الاقتراحاتِ التي لا تعلق لها بمقصود العقد، فهذا فاسد ملغى غيرُ مفسدٍ للعقد، وهو في حكم اللغو.
وأما ما يتعلّق بغرض العقد، فهو مثل أن يقول: بعتك العبد على ألا تبيعه، أو بعتُك الجارية على ألا تطأَها، أو ما أشبه ذلك. فهذه الشرائطُ فاسدةٌ، وإذا ذُكرت في صلبِ العقد أفسدَت العقد.
هذا ما ذكرهُ الأئمّةُ، ودلّت عليه النصوص.
وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن الشرائط الفاسدةَ تلغو ويصحُّ العقدُ، وردّد هذا القولَ في مواضعَ من كتابه. وحكاه الشيخ أبو علي أيضاً، وزَعم بعض أصحابنا أن أبا ثور حكى هذا القولَ عن الشافعي في جميع هذه الشرائط الفاسدة التي نحن فيها.
فهذا حكيناه، ولا عَوْدَ إليه.
3298- فأما ما يتعلق بمصالح العقد، كالأجل والخيارِ، وشرط الكفيل والرهن، فهذه شرائط تصحُّ إذا وافقت الشرعَ، ولا يتأتى ضبطُها من طريق المعنى؛ فإن مصالح العقود في مقاصد الخلق كثيرة، وإنما يصح منها ما ورَد التوقيف به.
ثم هذه المقاصد إن شُرطت على مقتضى الشرع، صحت وثبتت، وإن شرطت مخالفةً لمقتضى الشرع، مثل أن يثبت الخيار زائداً على الثلاث، أو يُشْرَط على الجهالة، والأجلُ إذا أثبت مجهولاً، أو شرط في عقدٍ لا يقبله.
فسبيل التقسيم فيه أن نقول: ما يذكر على الفسادِ ينقسم: فمنه ما لا يقبل الإفرادَ ولا يثبت قط إلا مشروطاً، ومنه ما يفرد بعقدٍ من غير شرطٍ. فأما ما لا يفرد كالخيار والأجل، فإذا شُرط على الفَساد، فَسدَ وأفسد العقدَ.
وما يفردُ بعقدٍ كالرهنِ والكفيل، فإذا شرط على الفساد فسدَ الشَرط. وهل يفسد العقدُ؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما، إن شاء الله، مع التوجيه والتفريع في كتاب الرهون.
فهذا في حكم التراجم الكليّة لمسائل الباب.
فصل:
3299- وإذا اشترى مملوكاً، وشرط عليه البائع أن يعتقه؛ فالمنصوص عليه للشافعي أن العقد لا يفسُد، والشرط يصح، وإن لم يكن موافقاً لمضمون العقد ومقصودِه. وليس من مصالح العقد أيضاً.
وخرَّج بعضُ أصحابنا قولاً أن البيعَ يفسد بشرط العتق، اعتباراً بسائر الشروط الفاسدة. وهذا مذهب أبي حنيفة. وهو القياس.
والمعوّل في نصرة القول المنصوص عليه حديث بريرة، كما سنرويه في أثناء الفصل إن شاء الله.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً آخر: أن البيعَ يصح والشرط يلغو.
وحكى العراقيون هذا القولَ عن أبي ثور عن الشافعي.
ونقل صاحب التقريب هذا عامّاً في جميع الشرائط الفاسدة، وحكاه هؤلاء في هذا على الخصوص.
فإن ألغينا الشرطَ، فلا كلام. وإن صححناه، فيجب الوفاء به.
ثم العتق المشروط حق الله تعالى أو حقُّ البائع؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: أنه حق الله، وهو كالعتق الملتَزَم بالنذرِ، فعلى هذا يتعين على المشتري أن يعتق، ولو عفا البائع عنه، وأسقط حقَّ العتق، لم يؤثر عفوهُ وإسقاطُه.
ولو أعتق المشتري العبد المشترَى عن كفارته، نفذ العتقُ، ولم ينصرف إلى كفارته؛ فإن من أصلنا أن العتق المستحقَّ في جهة لا ينصرف إلى جهة الكفارة، وعليه بنينا امتناعَ انصراف عتق المكاتب إلى كفّارَة العتق، إلى غيرِ ذلك من المسائل.
ومما نفرعه على هذا القول أن العتق إذا أثبتناه لله، فهل يملك البائع المطالبةَ به أم لا؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يملك ذلك؛ فإن العتق وإن كان لله تعالى، فقد ثبت بشرط البائع، وقد يكون له غرضٌ في تحصيل العتق، وإن كان منسوباً إلى حق الله تعالى.
وإن قلنا: العتق حق البائع، فإن وفَّى المشتري به، فلا كلام. وإن امتنع، فهل يجبر المشتري عليه؟ ذكر صاحب التقريب فيه قولين:
أحدهما: أنه يُجبر عليه، ويؤمر به قهراً قياساً على سائر الحقوق المستحقَّة.
و القول الثاني- أنه لا يجبر عليه، ولكن إذا لم يَفِ المشتري، فللبائع خيار فسخ البيع، وهو كما لو شرط في البيع رهناً أو كفيلاً، فلم يف المشتري بما اشترطه، فلا يجبر عليه، ولكن للبائع حق فسخ البيع إذا لم يسلّم له المشروط.
ولم يطرد صاحبُ التقريب القولين في شرط الرهن والكفيل، وكان لا يبعد في القياس طردُ القولين. ولعل العتق اختص بالوجوب والإجبار عليه لتميزه عما سواه بمزيَّة القوة والنفاذ، ولذلك يسري إلى ملك الغير.
التفريع:
3300- إن حكمنا بأن المشتري يجبر على الإعتاق، فيتَّجه تخريج ذلك على قولين كالقولين في المُولي إذا لم يفىء بعد انقضاء المدة. وثَم قولان:
أحدهما: أنه يُحبس حتى يُطلِّق.
والثاني: أن السلطانَ يطلَِّقُ عليه.
ويجوز أن يُقال: لا يتجه في الإجبار على العتق إلا الحبسُ، وإنما خُصَّ النكاح بتمليك السُّلطان الطلاقَ لما على المرأةِ من دوام الضِّرار. وقد يصابرُ الزوجُ طولَ الحبس نَكَداً.
ولو عفا البائع عن حق العِتاق، فظاهرُ المذهب أنه يسقط، وكذلك إذا كان شرط في العقد رهناً أو كفيلاً، ثم أسقط عنه ما استحقه من ذلك بالشرط، يسقُط حقّه. حتى لو أراد الرجوع إلى الطلب، لم يمكنه.
وفي كلام شيخي رمزٌ إلى خلاف هذا؛ فإن هذه الحقوقَ لا تستقل بأنفسها، فلا وجه لتخصيصها بالإسقاط. وهذا كما أن الأجلَ حق المشتري وفُسْحَتُه، لا حقَّ للبائع فيه، ولو أسقط المشتري حق الأجل، لم يسقط.
فإذا جرينا على ظاهِر المذهب، وحكمنا بأن حقَّ البائع يَسقطُ بالإسقاطِ، والعتقُ حقُّه، فلو أعتق المشتري العبدَ عن كفارته، بعد إسقاطِ البائع حقَّه، فهل يقع العتق عن كفارته؟ فعلى وجهين مشهورين: أصحهما- أنه يقع عن كفارة المعتق؛ فإنه لم يبق للبائع حقٌ، والمشتري معتق على الاختيار.
والوجه الثاني- لا يقع عن كفارته؛ من جهة أن العقدَ على شرط العتاقة لا يخلو عن محاباةٍ في الثمن؛ فإن العتقَ في مقابلة تلك الحطيطة، والمشتري في حكم معتقٍ عبدَه بمالٍ عن كفارته.
وهذا في نهاية الغثاثة، ولولا اشتهار هذا الوجه في الطرق، لما حكيته.
3301- ومما يجب الاعتناءُ به أنا إذا جعلنا العتق لله تعالى، فإذا حققه المشتري، فلا شك أن الولاءَ له؛ فإن العتق صدرَ في ملكه، والأصل أن ولاءَ العتاقة لمن يقع العتق في ملكه.
وإن قلنا: العتق للبائع، فالولاء للمشتري، قطع به صاحب التقريب، وشيخي، والأئمةُ، والسبب فيه أن الولاءَ لو كان للبائع، لاقتضى ذلك تقديرَ انقلاب الملك إليه، ونفوذَ العتق على ملكه؛ هذا لابد منه، ولو كان كذلك، لتجردَ الثمنُ عن مقابِلٍ في عقد المقابلة؛ وهذا محالٌ.
فلو شرط البائع العتقَ، وشرط لنفسه الولاء، ففي فساد العقد قولان:
أحدهما: أنه يفسد؛ لأن مقتضاهُ ردَّ الملك في الرقبة إلى بائعها، مع دوام استحقاقه في الثمن.
والقولُ الثاني- أن البيع لا يفسد؛ لقصة بريرة لما جاءت إلى عائشةَ تستعين بها على أداء شيء من النجوم، فقالت: لو باعوكِ، لصببت لهم ثمنَك صبّاً، فأخبرت ساداتِها، قالوا: لا نفعل ذلك إلا بشرط أن يكون ولاؤك لنا، فأخبرت عائشةَ ما قالوه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اشتري واشترطي لهم الولاء، ثم قام خطيباً، وقال: ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله... الحديث"، ووجه الدليل أن النبي عليه السلام إذ أمرها بأن تشتري وتشترط، فقد كان الشراء على هذه الصفةِ مأذوناً فيه من جهة الشارع، والمأذون فيه صحيح.
فإن قيل: ما معنى قوله في خطبته؟ وما وجه إنكارِه؟ قلنا: الممكن فيه أنه نهى عن الإقدام على أمثال هذه الشرائط، واستحث على اتباع الكتاب والسنة. ولِمَا جرى حُكْمٌ بصحته؟ فإنه عليه السلام مبرأٌ عن التناقض، والأمرِ سرّاً في معرض التقرير، مع النهي عنه جهراً.
فإن قلنا: البيع فاسدٌ، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة البيع، ففي الولاء المشروط نظر: ذهب بعضُ الأصحابِ إلى أن الوجهَ فيه إلغاءُ الشرط وتصحيحُ العقد. وهذا فاسد مع أمر النبي عليه السلام بالاشتراط، إذ قال: "اشتري واشترطي لهم الولاء " ومتعلق القول بصحة العقد قصةُ بريرة، فلا ينبغي أن يُعتبَرَ أصلُها ويعطّلَ تفصيلُ القول فيها؛ فإذاً الوجهُ تصحيحُ الشرطِ إذا صححنا العقدَ؛ تعلّقاً بقصَّة بريرة. ويلزمُ من هذا أن يكون الولاءُ للبائع على حسب الشرط.
فإن قيل: يلزم منه انقلابُ الملك إليه.
قلنا: لا وجه في هذا المنتهى إلا إثباتُ الولاء للبائع من غير تقدير نقلِ الملك، وقد ثبت الولاءُ بأسبابٍ، من غير تقدم ملك فيمن عليه الولاء، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. فمن أمثلة ذلك أن السيد إذا باع عبده من نفسه بمالٍ، فإذا اشترى نفسَه عَتَق، وسبيل العتق أنه ملك نفسَه، فاستحال أن يكون مملوكاً لنفسه ومالكاً. ثم إذا حصل العتق، فالولاء للسيّد.
وفي مأخذ الولاءِ على الجملة تعقيداتٌ لا يستقل هذا الفصل ببيانها.
فإن قلنا: إن الولاء للمشتري، فلا كلامَ. وإن قلنا: إنه للبائع، فلا نقدّرُ انقلابَ الملك إليه قطعاً؛ فإنّ الحكم بتقرير البيع على حقيقة المعاوضة يناقض الحكمَ بانقلاب الملكِ إلى البائع. وسببُ انفساخ البيع بتلفِ المبيع قبلَ القبض أن الملك ينقلبُ إلى البائع قبيل التلف، فامتنع مع هذا إمكان بقاء العقد.
فرع:
3302- إذا صححنا العقدَ عند شرط العتق على الأصح، فلو تلف هذا العبدُ الذي اشتراه في يدِ المشتري بهذا الشرط قبل الوفاء، فقد تعذر المشروط الذي صار مستحقاً.
وفي المسألةِ أوجه ذكرها العراقيون: أحدها: أنه لا يجبُ على المشتري شيء بسبب فوات العتق؛ فإنه تعذَر الوفاء بالمشروط وليس ذلك المتعذِّر مما يتقوّمُ في نفسه، ولو قدَّرنا للمشروط الفائت بدلاً، لكان بدلُه جميعَ القيمةِ، ولو ألزمنا المشتري جميعَ القيمة، وألزمناه الثمن المسمى؛ لكان ذلك خارجاً بالكلية عن ضبطِ القياسِ؛ ولتضمن الجمعَ بين البدل وبين المبدل في حق البائع.
والوجه الثاني- أنا نلزم المشتري تفاوتاً بين القيمتين منسوباً إلى الثمن المسمى.
وبيان ذلك أن نقولَ: هذا العبد لو بيع مطلقاً من غير شرط، فما ثمن المثل؟ فيقال: مائة وخمسون ديناراً، فنقول: وكم قيمة مثله مع هذا الشرط؟ فيقال: مائة. فنعلم أن التفاوتَ بين الثمنين في الإطلاق والشرط بنسبة الثلث، فنعود بعد ضبط هذه النسبة، ونقول: الثمن المسمى تسعون، وقد بان أن ما فات بالنسبةِ إلى الجملة ثلث الجملة فكأنه أخذ ثمنَ ثلثي العبد، فإذا كان ثمنُ ثُلثي العبدِ تسعين، فثمن الجملة مائةٌ وخمسة وثلاثون، فيغرم المشتري للبائع على مثل هذه النسبةِ خمسةً وأربعين.
وذكرَ الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، وألزمَ المشتري قيمةَ الثُّلث، من غير نظرٍ إلى مبلغ الثمن؛ فإنَّا قدَّرنا القيمةَ في الإطلاق مائة وخمسين، فقيمةُ الثلث خمسون إذاً، فلا حاجة إلى النظر إلى مقدار الثمن المسمى؛ بل نُلزم المشتري قيمةَ ما فات في يده، والفائت الثلثُ تقديراً، وهو خمسون.
وحقيقةُ الجوابين يرجع إلى وجهين آخرين في بيان النسبة:
أحدهما: أنا نلزم المشتري القيمةَ المحققةَ في مقابلة الثلث، ولا ننظر إلى المسمى، ولا نبالي بأن تكون هذه القيمةُ مثلَ المسمى، أو أكثر منه. وفي الوجه الثاني نقول: لما باع العبدَ بتسعين، وكان قيمتُه مع الشرط مائة، فقد نزّل العقد على المسامحة والمحاباة بالثمن، فلا نُلزم المشتري إلا على نسبة المحاباة.
هذا بيان الجوابين في ذلك.
وذكر أصحابنا وجهاً ثالثاً في أصل المسألة- وهو أنا نحكم بانفساخ العقد، لتعذّر الإمضاء؛ إذْ لا وجه لإيجاب شيء من غير انتساب المشتري إلى إتلاف شيء، أو ضمان شيء بحكم اليد؛ فإنّ يده ما ثبتت إلا على ملكه؛ ولكن جرى العقدُ في وضعه مائلاً عن القياسِ فقدّر فيه وفاء بالشرط عند الوجود، ثم تعذر الوفاءُ بالموتِ، فلا حاجة لإيجاب شيء على المشتري لم يلتزِمه، ولا وجه لتخليصه مجاناً؛ لأن البائع لم يرض بالقدرِ الذي سمَّاه من الثمن إلا لما شرطه من الحق، فعلى المشتري قيمةُ العبدِ، وَيسْترد الثمنَ المسمى.
هذا موجب الانفساخ.
ويُفتَرض وراء بيان الوجوه نظر في شيء، وهو أنا ذكرنا وجهين في أن العتقَ حقُّ الله تعالى أو حق البائع. فإذا فات الوفاءُ، فالأوجه الثلاثة في الظاهر تتفرعُ على أن العتقَ حقُّ البائع، أم تتفرع على الوجهين؟ هذا فيه تدبر للناظر، ويجوز أن يقال: إنما يغرَمُ البائع إذا قدرنا الحقَّ له، ويظهر في القياس أن يطرد هذا على الوجهين؛ فإن البائع يقول: كأني لم أبع ثلث العبد، فإذا فات مشروطي فيه، فاغرَم لي في مقابلته ما يقتضيه التقسيط.
وسبب الإشكال في هذه التفريعات خروج الأصلِ عن قاعدة القياس.
فصل:
3303- إذا فسدَ البيع بفساد الشرط في أحد العوضين، فالبيع الفاسد لا يفيد الملكَ عندنا، سواء اتصل به القبضُ، أو لم يتصل، خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنه قال: إذا اتصل البيع الفاسد بالقبض، تضمن الملكَ للمشتري القابض على وجه الفساد.
ثم ما قبضه المشتري مضمونٌ عليه، ولو تلف في يده، لزمته قيمتُه للبائع؛ فإنّا إذا كنا نُضمِّن المستامَ لقبضه على حكم المعاوضةِ المنتظرة، فالقبض على ظن المعاوضَة الواقعة أولى باقتضاءِ الضمان.
ثم إذا ضمناه القيمةَ، فالاعتبارُ بأيّةِ قيمة؟ ذكر الأئمة في طرقهم ثلاثة أقوالٍ، قولان منها ذكرهما العراقيون، فنذكرهما على ما ذكروا:
أحدهما: أن الضمانَ على القابض كالضمان على الغاصب، فيغرَم أقصى القيم، من يوم القبض إلى يوم الفواتِ، كما سنقرر ذلكَ في أحكام الغصوب.
والقول الثاني- أنا نعتبر قيمةَ يومِ التلف؛ فإن الأصل فيما يجب رَدّه ردُّ العين، والتحول إلى القيمةِ سببه فواتُ ردَّ العين. وهذا إنما يتحقق بالتلف.
وذكر المراوزَةُ القولين، فوافقوا في ضمان الغصب، وقالوا في القول الثاني الاعتبارُ بقيمته يوم القبض. هكذا ذكره الشيخ والصيدلاني وغيرُهما.
فانتظم من الطرق ثلاثةُ أقوال: أحدها: قيمةُ الغصب.
والثاني: قيمةُ يوم التلف.
والثالث: قيمةُ يوم القبض. والقولان أو الأقوال نجريها في كل ضامنٍ غيرِ معتدٍ، ولا متصرفٍ في غصب، فإذا ضَمَّنا المستامَ قيمةَ ما تلف في يدهِ، فالقول في القيمةِ المعتبرةِ كما ذكرناه. وهذا يطرد في اليد المضَمَّنة التي ليست غصباً.
3304- وفي المستعار فضلُ نظرٍ؛ فإن من استعارَ ثوباً وقبضه، فلو تلف في يَده، لزمه ضمانُه، فلو اعتبرنا أقصى القيم، لضمّناه الأجزاءَ التي أتلفها بالإبلاء، مع العلم بأنه أتلفها بإذن مالك الثوب. وكذلك لو اعتبرنا قيمةَ يوم القبض، ففيه هذا التعذّر، فما الوجه فيه؟ هذا يُبتنى على أن المستعيرَ هل يضمن الأجزاءَ التي أبلاها؟ فإن قضينا بأنه يضمنها، وهو أضعف الطرق، فيقع في عماية أخرى؛ فإن ما يفوت لا تعتبر قيمته بعد فواته. وفيه تتسلسل فروعٌ لابن الحداد في مسائل الغصوب، فلا معنى للخوض فيها الآن.
والوجه التفريعُ على الأصح، وهو أن الفائت بالبلى غيرُ مضمونٍ.
فالوجه أن نقول: إذا انسحق الثوبُ بعضَ الانسحاق، ثم تلف في يده، ففي قولٍ نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحقٍ بأقصى ما يقدَّر من يومِ القبضِ إلى يوم التلفِ.
وفي قولٍ تجب قيمتُه يومَ التلفِ. وهذا منطبق على الغرض.
وفي قول نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحق يوم القبض.
فهذا منتهى الغرض في القيمة المعتبرة.
3305- ثم ذكر الشافعي جملاً تتعلَّق بقضايا الضمان في تصرفات صاحب اليدِ المضمنة، وتلك الأحكام تأتي مفرقةً في محالّها، ولكنا نتَّبِع ترتيب " المختصر " فنذكر منها ما يليق بشرح السواد.
فإذا قبض المشتري الجاريةَ المشتراةَ على الفسادِ ووطئها، فإن كان عالماً بالتحريم وفساد العقد، ففي الحدَّ نظر؛ من جهة خلافِ أبي حنيفة في مِلك المشترى، فيجوز أن يقال: لا حدَّ؛ لهذه الشبهة. ويجوز أن يقال: يلزم الحدَّ، لأن أبا حنيفة لا يبيح الوطء، فخلافه في الملك كخلاف العلماء في وجوب الحدّ وانتفائه، وليس هذا كما لو وطىء في نكاح المتعة، والنكاح بلا شهود وولي؛ فإن المخالف في هذه المسائل يبيح الوطء.
وتحقيق منازل الشبهات في كتاب الحدود.
وإن كان المشتري جاهلاً، فلا حد، ويلزمُ المهرُ إن كانت الأمةُ جاهلة. وإن كانت عالمةً، فينعكس هذا على الأصل، وهو أنَّ علم المشترى هل يُلحقُه بالزناة، أم لا؟ فإن لم يلحقه بالزناة، فلا أثر لعلمِها، وإن ألحقه علمه بالزناة، فإذا كانت عالمة، فهي بمثابة جاريةٍ مغصوبةٍ تطاوعُ الغاصبَ من غير استكراه ولو كان كذلك ففي ثبوت المهرِ وجهان، سيأتيان في كتاب الغصب، إن شاء الله تعالى.
فهذا قولنا في المهرِ والحدّ. فليقع الفرضُ في اطراد الجهل. ثم حكم المهر على ما ذكرناه.
وإن علقت الجارية بمولودٍ، فالولد حرّ لا ولاءَ له؛ فإنه لم يمَسه رِق، ولم ينله عتقٌ، وعليه قيمةُ المولود يوم يسقط حيّاً. وسبب ذلك أن الرق اندفع عن المولود بظنه.
ولو انفصل الولد ميتاً، فلا ضمان بلا خلاف. وهذا جارٍ في الضمان الذي يتعلق بمحالّ الغرور.
ولو غصب الرجل جاريةً، فعلقت بمولود من سفاحٍ، وانفصل المولودُ ميتاً فالمذهب أنّه لا ضمان. وفيه شيء بعيد، سنذكره في موضعه، إن شاء الله.
وكذلك ولد الصيد في حق المحرم.
والقياس المتبع في الضمانِ في كل جنين ينفصل ميتاً هذا. إلاّ أن ينفصل بجنايةِ جان، فعلى الجاني الضمانُ. ثم ثبوت الضمان في حقّه يثبت الضمانَ في حق صاحب اليد، وفي حق المغرور.
ولا وفاء ببيان هذه الأُصول؛ فإنها قواعدُ تأتي في محالّها إن شاء الله تعالى.
ثم مما يتصل بهذا الفصل أنّ المغرورَ إذا غرِم قيمةَ الولد يرجع على من غَرّه، وفي الرجوع بالمهرِ على الغارِ قولان. والمشتري على حكم الفساد يُنظر فيه: فإن كان البائع عالماً بالفسادِ، فهو في صورة الغارّ، فلا معنى لإثبات قيمةِ الولد له؛ فإنه لو غرمه لرجع على من غرَّه. والمغروم له في هذا التقدير هو الغارُّ بعينه.
وإن كان البائع لا يدري فسادَ العقد، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر؛ من جهة أنه لم يعتمد تغريراً، حتى ينتهض ذلك سبباً لانقلاب الضمان عليه.
وقد رمز المحققون إلى هذا التردد. واستقصاؤه في باب الغرور، إن شاء الله تعالى.
3306- ومن أهم ما يجب الاعتناءُ به في هذه الفصول أن من ثبتت له يد مضمَّنة من غير فرض تصرّف في مغصوبٍ، فلو حدثت في يده زوائدُ منفصلةٌ وتلفت، فقد خرَّج الأئمةُ ضمانها على القاعدةِ التي صدَّرنا الفصل بها، وهي أن العين تضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فإن قضينا بأنها تضمن ضمان الغصوب، فالزوائد مضمونة. وإن حكمنا بأنها لا تضمن ضمان الغصوب، فالضمان لا يتعداها إلى الزوائد.
وظاهر نص الشافعي يُشعرُ بإثبات ضمان الغصوب في الأيدي المضمَّنة. وذلك أنه قال: "لو غصب جارية، وتلفت في يده، ضمن أكثر ما كانت قيمته من يوم الغصب إلى يوم التلف". ثم قال: "وكذلك البيع الفاسدُ". فكان هذا العطف ظاهراً فيما ذكرناه.
فإن قيل: إذا لم توجبوا ضمانَ الأولاد، فلم أوجبتم قيمة الولد إذا انفصل حياً على الحرية؟ قلنا: سببه أن المغرور في تقدير الشرع منتسبٌ إلى تفويت الرق، وهذا يلتحق بباب ضمان القيم على المتلِفين، ولكنا لا نضمنه إذا انفصل ميتاً؛ لأنه لم يخرج وله تقدير قيمة، وليس مفوتَ روحه، بخلاف الجاني الذي تصير جنايتُه سبباً لتفويت الروح أو منعها في الانسلاك.
ومما أجراه الأصحاب في أدراج هذه الأحكام المرسلة أن الجاريةَ لو علقت بالمولود، وماتت في الطَّلْق، وجب ضمانُ قيمتها وإن ماتت بعد الرَّدِّ؛ لأنه المتسبّب إلى الحمل المفضِي إلى الطلق.
ولو وطىء حُرّةً زانياً، واستكرهها وعلقت بمولود، ثم ماتت في الطلق، ففي ضمان الدِّية قولان:
أحدهما: أنه يجب قياساً على نظيره في الجارية.
والثاني: لا يجب؛ فإن اليدَ لا تثبت على الحرة. وإنما اعتضد الضمان في الأمة باتصالِ اليد المضمنة بها في ابتداءِ السبب.
ثم إذا علقت الجاريةُ بمولودٍ حرٍّ، لم تصر أمَّ ولد في الحال؛ فإن الوطء لم يصادف ملكَ الواطىء. ولو ملك الواطىء الجاريةَ يوماً، فهل تصير عند الملكِ مستولدةً له؟ فعلى قولين سيأتي توجيههما في أمهات الأولاد، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو اشترى زرعاً، واشترط على البائع حصادَه... إلى آخره".
3307- إذا اشترى زرعاً بدينارٍ، على أن يحصده البائع. هذه صورةُ المسألة. وعلى الناظر أن يعتني في مضمون هذا الفصل بصيغ ألفاظ العاقدين.
والذي نرى في ذلك أن نجدّد العهدَ بأصولٍ سبقت، ونرمز إلى بعض ما يأتي مما تَمَسُّ الحاجةُ إليه، ثم نخوضُ في تفصيل مسائل الفصل:
فممَّا مضى أن من جمع في صفقةٍ واحدةٍ بين إجارة وبيعٍ، فهل يُقضى بصحة العقد؟ وذلك إذا قال: بعتُك عبدي هذا وأجرتك داري بدينارٍ. هذا من قواعد تفريق الصفقة، وقد مضى. ومما سيأتي أن شرط عقدٍ في عقدٍ يُفسد العقدَ المشروطَ فيه، وذلك مثل أن يقول: بعتُك داري هذه بألفٍ على أن تبيعني عبدك. فبيعُ الدارِ يَفسُد بشرط بيع العبد فيه. وعليه حمل " نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة " على ما سيأتي إن شاء الله.
وممَّا يتعين ذكره في مقدمة هذه المسائل أن الرجل إذا قال لعبده: كاتبتُك وبعتُك عبدِي هذا بكذا، فإذا قبل العبد، فقد وقع أحد سْقَّي العقد من العبد المخاطب، قبل انعقادِ الكتابةِ، والظاهرُ الحكمُ ببطلان البيع، لما أشرنا إليه.
فإذا تمهدت الأصول، خُضنا بعدها في المسائل.
3308- فإذا قال: اشتريت منك هذا الزرعَ، واستأجرتُك على حصاده بدينارٍ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين: فمنهم من قال: في فساد الإجارة والبيع قولان مأخوذان من الجمع بين الإجارة والبيع في صفقةٍ.
ومنهم من قال: الإجارةُ فاسدةٌ قولاً واحداً؛ لأن أحدَ شِقَّيها وقع قبل ملك الزرع، وإنما يصح الاستئجار على العملِ في مملوكٍ، فإن من استأجر إنساناً على حصاد زرعٍ لم يملكه، ثم استفاد ذلك الزرعَ، فذلك الاستئجار مردود. ثم إذا فسدت الإجارةُ في مسألتنا، ففي فساد البيع قولان ملحقانِ بالقولين في صفقةٍ تشتمل على شيئين، وتفسدُ في أحدهما، هل يُقضى بفسادها في الثاني؟ كالجمع بين عبدٍ مملوكٍ وعبدٍ مغصوبٍ؟
هذا تفصيل القول فيه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ، واستأجرتك على حصَادهِ.
فأما إذا قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده، فقد اختلف أصحابنا أولاً في قوله على أن تحصدَه، فمنهم من قال: هذا شرط عقدٍ في عقد؛ فتفسدُ الصفقةُ من أصلها، ولا يكون من فروع تفريق الصفقة. ومنهم من قال: قوله على أن تحصده وإن كان على صيغة الشرط، فالملتمَس والمقصودُ من اللفظ تحصيلُ الزرع ومنفعةُ الحاصدِ بدينارٍ، فيكون كما لو قال: اشتريت الزرعَ واستأجرتُك بدينارٍ.
وقد فصلنا هذا على ما ينبغي. والألفاظ تُعنَى لمعانيها.
3309- ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ، واستأجرتُكَ على حصاده بدرهم، فقد فصل الإجارةَ عن البيع، وذكر لكل واحد من المقصودين عوضاً.
أما الإجارةُ ففي فسادِها وصحتها ما تقدَّم. وأما بيع الزرع، فصحيح قولاً واحداً، ولا يلتحق هذا بتفريق الصفقة؛ فإن التفريق إنما يجري إذا اتحد العوضُ، وجَمَعت الصفقةُ مقصودَين مختلفين. وسبب الاختلاف ما تقدم من مسيس الحاجةِ إلى توزيعِ العوض عند اختلاف المقصودَين فسخاً وإبقاءً.
ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده بدرهمٍ، فبيع الزرع باطل، قولاً واحداً؛ فإنه لما أفرد الإجارةَ بعوضٍ، جعلها عقداً على حيالها، وشرطها في عقد البيع؛ فكان هذا تصريحاً بشرط عقدٍ في عقد.
3310- وجميعُ مقاصدِ الفصل تأتي في تفصيل هذه المسألةِ الواحدةِ. ولكنا نذكر أخرى للتوطئة والتمهيد.
فإذا قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم، واستأجرتُك لخصفه على هذا الخف، فهذا يناظر ما لو قال: اشتريت منك هذا الزرع واستأجرتُك لحصاده. وإن قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم بدرهمٍ على أن تخصفه على هذا الخف، فهو كما لو قال: اشتريت منك هذا الزرعَ على أن تحصده.
والجملة في نظائر هذه المسائل أنه يجري فيها إجارةٌ يقع شقُّها قبل الملك، ويجري فيها إقامةُ لفظ الشرط مقام الاستئجار، ويجري فيها قواعدُ تفريق الصفقة، ويجري أيضاً شرطُ عقدٍ في عقدٍ، على وفاق وعلى خلاف.
فلا يُشكِل بعد هذا الترتيب هذا الفنُّ على الفطن.
فصل:
قال: "ولو قال: بعني هذه الصُّبرة كل إردبّ بدرهم... إلى آخره".
3311- الإردب مكيال من مكاييل مِصرَ، واللفظ من لغة أهله، وقيل: إنه يسع أربعة وعشرين صاعاً، والقفيز عندهم على النصف من الإردب.
فإذا أشار الرجل إلى صبرةٍ معلومةِ الصّيعانِ أو مجهولةِ الصيعان، وقال: بعتك هذه الصُّبرةَ، كل صاع بدرهم. فالبيع صحيح، سواء كانت الصّبرةُ معلومةَ الصيعان، أو مجهولةَ الصيعان.
فإن قيل: كيف قطعتم بصحة العقد، ولو سئل المتعاقِدان على مبلغ الثمن، لم يُعربا عنه، ولم يعرفاه، وهلاَّ نزلتم هذا منزلة ما لو قال الرجل: بعتك داري هذه بما باع فلان عبده؟ قلنا: الصُّبرةُ مرتبطة بالعِيان، وهو أعلى جهات الإعلام، والثمن مرتبط بها، فالثمن إذن معلوم من نفس مقتضى العقد؛ من جهة إعلام المبيع. وليس ذلك كربط الإعلام بشيءٍ لا تعلّق له بالعقد. والكلام الظاهر فيه أن من اشترى ملء بيت من الحنطة على نسبة معلومةٍ من الثمن، فهو في العرف ليس مغروراً، والرجوع في طريق الإعلام إلى العرف. وإذا قال: بعتُك بما باع به فلانٌ، فهو على غررٍ منه، وبين حالتين في القلّة والكثرة تسوءه إحداهما وتسرّه أخرى.
3312- ثم صور الشافعي صيغاً في العقد والاستثناءات، ونحن نتبع مسائله.
فمما ذكره أنه لو قال: بعني هذه الصُّبرةَ كل صاع بدرهم، على أن تزيدَني صاعاً، فأجابه صاحبُ الصُّبرة على حسب لفظه. فقوله على أن تزيدني لفظٌ فيه تردد، فإن زعم الشارطُ أنه أراد بقوله على أن تزيدني أن يهب منه صاعاً من غير هذه الصبرة، فهذا شرطُ هبةٍ في البيع، وهو مفسد للعقد لا محالة.
وإن قال عَنَيْت بقولي: "على أن تزيدني صاعاً " أن يعتبر صيعانَ الصبرة بالدراهم، وُيعري عن هذا الحساب صاعاً واحداً، ولم يقصد أن يكون ذلك الصاع موهوباً، ولكن رام إدراج جميع الصُّبرة في العقد، على الحساب الذي قدره.
فالذي ذكره الأصحاب في ذلك أن صيعان الصُّبرة إن كانت معلومة، فالبيع صحيح، والتقديرُ فيه أن الصبرةَ إذا كانت عشرة آصُع مثلاً، وعلم المتعاقدان ذلك، فيرجع حاصل ما ذكره المشتري إلى بيع الصبرة كل صاع وتُسعٍ بدرهم. ولو صرح بهذا، صح. فإذا عناه بلفظه، وهو محتمل، صح.
وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه: أن البيع لا يصح في هذه الصبرة؛ فإن ما ذكره من المعنى وهو بيع الصاعِ والتسع بالدرهم وإن كان صحيحاً، فالعبارةُ لا تنبىء عنه إلا على بُعدٍ في المحمل، يضاهي محامل اللُّغز، وينضم إليه أنه ذكرَ مقصودَه بصيغة الشرط. وقد قدمنا في الفصل السابق ما يبطل بصيغ الشروط، وعليه خرَّجنا فسادَ الصفقةِ في وجه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ منك على أن تحصده.
وإن كانت الصُّبرةُ مجهولةَ الصيعان عندهما، أو عند أحدهما، فالبيع باطل؛ فإن الصاع المستثنى يغيِّر مقابلةَ الصاع بالدرهم. ويرجع الأمر إلى مقابلة صاعٍ وشيء بدرهم، وليسا يَدرِيَان أن الزوائد على كل صاعٍ ليقابله درهم كم تقع؛ فالمقصودُ إذاً مجهول. ولو أراد أن يعبر عن سعر الحنطة في الصفقة، لم يجد إليهِ سبيلاً، وكأنهما قالا: كلُّ صاع وشيء بدرهم. وهذا باطل.
فهذا بيان مسألةٍ.
3313- والمسألة الثانية: أن يقول: اشتريتُ هذه الصبرةَ كل صاعٍ بدرهمٍ، على أن أنقص صاعاً، فهذه اللفظةُ مترددةٌ، كما تقدَّم.
فإن عَنَى بذلك أن يهبَ منه صاعاً من الصبرة، ويبيعَ الباقي بحساب الدرهم، فهذا شرطُ هبةٍ في بيعٍ. وإن أراد تغيير الحساب، وقال: يكون الحساب بيننا والصبرة مبيعةٌ على هذا النحو، فهو كما لو قال: على أن تزيدني. وقد مضى التفصيل فيه والفرق بين أن تكون الصيعان معلومة أو مجهولة.
وقد نجز غرضُ الأصحاب.
3314- ولا يصفو الفصل عن الكدر إلا بالتنبيه لأمرٍ: قال الأئمة رضي الله عنهم: كل لفظ نيط به حكم، وهو مما ينفرد اللاَّفظ به، ولا يحتاج إلى جواب مخاطب، فهو قابل للصَّريح والكناية: كالطلاق والعتاق، والإبراء، والإقرار، وما في معانيها.
فهذه الأشياء يتطرّق إليها الصريح والكناية، ثم الكنايات مفتقرةٌ إلى نية اللاَّفظ، والرجوعُ فيها إليه، كما سيأتي تفصيله في كتاب الطلاق.
وأما ما لا يستقل فيه لفظُ شخصٍ واحدٍ، ويستدعي جواباً: كالعقودِ المفتقرةِ إلى الإيجاب والقبول، فلا شكّ في انعقادِها بالصريح.
وأما تقديرُ عقدِها بالكنايات، فالعقود تنقسم إلى ما تفتقر إلى الإشهاد وإلى ما لا تفتقر إليه.
فأما المفتقر إلى الإشهاد: كالنكاح وكبيع الوكيل إذا شرط الموكِّلُ عليه الإشهاد على البيع، فلا ينعقد بالكناية؛ فإن الشهود لا يطلعون على القُصود، ومجردُ الألفاظ إذا كانت كنايات لا تكون عقوداً.
فأما ما لا يفتقر إلى الإشهادِ، فينقسم إلى ما يتطرق إليه التعليق بالإغرار، وإلى ما لا يقبل ذلك: فأمَّا ما يكون مضمونه قابلاً للإغرار، فيصح العقد فيه بالكنايات مع النياتِ، كالخلع وعقود العتاقة، والصلح عن الدم. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا قال لامرأته: أنت بائنٌ بألفٍ، فقالت: قبلتُ ونويا، وقع الطلاق مبيناً، وصح الخلع.
وأما العقود التي لا يقبل مقصودُها التعليقَ ولا يشتَرط فيها الإشهاد، ففي انعقادِها بالكنايات وجهان مشهوران:
أحدهما: الانعقاد كالخلع وما في معناه، وكالألفاظ الفردةِ التي لا تفتقر إلى جواب.
والوجه الثاني- أنها لا تصح، فإن المخاطَبَ لا يدري بم خُوطب، ولا يتأتى التخاطب بالكناياتِ، كما لا يتأتى تحمّل الشهادة، حيث تُشرط الشهادة في الكنايات.
فهذا عقدُ هذه الجملة.
3315- والذي أراه فيها أن قرائن الأحوال لا معتبر بها عندنا في التحاق الكنايات بالصرائح. حتى إذا قال الرجل في حال مسألة الطلاق وظهور مخايل إرادة الطلاق: أنتِ بائن. وقال: لم أُردِ الطلاق، صُدِّق مع يمينه. خلافاً لأبي حنيفة.
ومجرد القرائن لا تصلح للعقود، ولذلك لا نجعل المعاطاةَ بيعاً، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وإذا فرض في العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول كناياتٌ، وانضمَّت إليها قرائن الأحوال، وترتب عليها التفاهم، فيجب القطع بصحة العقد؛ تعويلاً على التفاهم.
ومَوضع خلاف الأصحابِ في انعدام قرائن الأحوال، والظاهر أن لا عقدَ إذا لم يحصل التفاهم.
فإن قيل: هلاّ انعقد النكاح بالكناية مع قرينة الحال إذا حضر الشهود؟ قلنا: ما يتعلق بالجحود لا ينفع فيها قرينة الحال عندنا، والغرض من حضور الشهود إثباتُ مجحودِ. ثم مسألة النكاح لم تبن على هذه النكتة فحسب، وإنما مدارها على تعبُّدات رعاها الشافعيُّ كما قرَّرناه في (الأساليب).
فإن قيل: أطلق الشافعي ألفاظاً مجملةَ، وحكم بانعقاد العقد بها. وهذا يخالف ما رتّبتموه. قلنا: لم يقصد الشافعي الكلامَ على المجمل والمفصَّل، والصريح والكناية، وإنما تعرض لتفصيل المعاني التي تصح العقود عليها وتفسد. كما تفصّل الغرض فيه.
ويُمكن فرض الأمر في قرينة كما ذكرتها حتى يردَّ غرض الفصل إلى المعنى. فأما إذا ذكر اللفظ من غير قرينةٍ، وهو كناية، فلابد من تخريج المسألة على القاعدة التي مهَّدناها في الصرائح والكنايات.
فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبره في نظائر هذه المسألة من الألفاظ المترددة من جهاتِ الاحتمالات.
فصل:
قال: "ولو اشترط في بيع السمن أن يزنه بظروفه... إلى آخره".
3316- الفصل يشتمل على مسائلَ مرسلة نذكرها، إن شاء الله: منها أنه إذا أشار إلى سمن في وعاء وقد عُهِد الوعاء من قبل، وعُرف غلظه ودِقته، أو كان شيئاً لا يتوقع فيه تفاوت به مبالاة، كالزِّق وما في معناه. فإذا قال والحالةُ هذه: بعتك هذا السمنَ بكذا، وكان وجهه بادياً وأجزاؤه متساوية، فالبيع صحيح لا شكَّ فيه.
ولو كان السمن في ظرف مختلفِ الأجزاء دقةً وغلظاً، وكان بحيث لا يستدل بما يبدو من طرفه على ما يغيب عن البصر من باطنه، وجوَّز المشتري أن يتفاوت الأمرُ تفاوتاً بيِّناً، فقد ذهب بعضُ المحققين إلى أن البيع يبطل في هذه الصورة.
والسبب فيه أن التعويل على العِيان في هذا البيع، والعِيان ليس مفيداً إحاطة، فكان كَلاَ عِيان، والجهالة مفسدةٌ للعقد.
وقال شيخي أبو محمد: البيع في مثل هذا مخرَّج على قولي بيعِ الغائب، ولا وجه للقطع بالفساد. وهذا الذي ذكره صحيح لا شك فيه.
ومن أفسد البيع من أصحابنا فرَّع قولَه على منع بيع الغائب. ولا يُظن بمن يرجع إلى تحقيقٍ يخرّج بيعَ الغائب فيه إذا قال البائع: بعتك الثوبَ الذي في كُمّي على قولين، مع القطع ببيع السمن في الظَّرف الذي يُظن اختلاف أجزائه.
والذي يبيّن الغرضَ في هذا الفصل أن العِيان إذا أفاد الإحاطةَ بالجوانب، ولم يُبن خلافَ ذلك، فهو إعلام، وإن كان العيان لا يفيد الإحاطةَ في الحال، كما ذكرناه في الظرف المشكل. فالوجهُ إلحاق ذلك ببيع الغائب.
وإن بني العقدُ على عيانٍ يثير غلبةَ الظن بالإحاطة، ثم يتبين أمر يخالف هذا: كالرجل يشتري صُبرةً، ويظنها على استواءٍ من الأرض، ثم يبينُ في خَلِلها دِكّة، أو كما اشترى فاكهةً متساويةَ الأجزاء في قرطالة، يحسبها ملءَ القِرطالة، فيبين في أسفلها حشوٌ، الصحيح الحكمُ بالصحة في هذه المسائل، مع إثبات الخيار للمشتري؛ فإن العيان أشعر بظنٍّ في الإعلام، فاعتمده العقدُ، ثم لما بان خلافُ المظنون، اقتضى ذلك الخيارَ.
وكان شيخي أبو محمد يُلحق هذا القسمَ ببيع الغائب أيضاً. ويقول: إن ظننا إفادَةَ العيانِ علماً، فقد تبيَّنا بالأَخَرة خلافَ ذلك، فليقع التعويل على المعلوم آخراً، لا على المظنون أولاً.
ولو اشترى سمناً في بُستوقةٍ وهو يرى الغِلَظَ والدقة من رأس البستوقة، والغالب على الظن أنها لا تتفاوت، فالذي يقعُ الحكمُ به ظاهراً الصحَّةُ، فإن بان تفاوتٌ في غلظ الداخل على خلاف الاعتياد، التحقت المسألةُ بالصُّبرة التي يبين تحتها دكة. وقد تفصل المذهب فيه.
3317- فإن قيل: إذا كان العيان لا يفيد إعلامَ المقدار، ولا تغليبَ الظن، فقد ألحقتم القولَ فيه ببيع الغائب، فبم تنكرون على من يقول: إذا كان المبيع متساوي الأجزاء، ولم يختلف ظاهره وباطنه، وإنما بان تفاوتٌ في المقدار، فالبيع صحيح، فإن صحَّةَ البيع تعتمد العلمَ بصفةِ المبيع، لا بمقدارِه؛ فإن المقدارَ إنما يراعى في عقود الربا؟
قلنا: القدر معني من المبيع، كما أن الصفة معنيّهٌ منه، ولعلّ القدرَ أوْلى بالرعايةِ؛ فإن المقدار من المبيع مبيعٌ، والصفةُ لا تستحق إلا تبعاً، وإنما صح بيع الصُّبرة على الاستواءِ من الأرض؛ من حيث إن العِيان يحصرها ويحيط بها.
فإن قيل: العيان لا يقدّر الصبرة إلا خرْصاً وحزْراً، وقد لا يعرف الحَزْر إلاَّ الخواصُّ من الناس، ثم صح البيع، دلَّ أن القدرَ ليس معنِياً، ولما كان القدر معنيّاً معتبراً في الربويات، لم يجز التعويلُ فيها على العيان. واعتقد مالكٌ الاعتناءَ بمعرفة المقدار، فمنع بيع الصُّبرة جزافاً بالدراهم، ومنع بيع السلعة بكف من الدراهم جزافاً.
قلنا: أما الربويات، فالتعويل فيها على التعبد، وما تعبدنا فيه بالكيل لا نقنع فيه بالوزن، وإن كان أَحْصرَ. وأما ما ذكره السائل من الحزر، واختصاص بعض الناسِ به، فصحيح. ولكن العقد يبتنى على إحاطة العيان، لا على إحاطة المقدار؛ فالذي عاين الصُّبرة واشتراها، اعتقدَ أن الصبرةَ إلى استواء الأرض حنطةٌ، وربط العقدَ به، فهذا هو المعتبرُ لا الحزر.
وعلى الجملة لِما بحث السائل عنه وَقْعٌ.
وقد ذهبَ بعض أصحابنا فيما حكاهُ الشيخ أبو علي في مذهبه الكبير أن جهالةَ المقدارِ لا تُلحق البيعَ ببيع الغائب، ولكنه من تفرّداته. وإنما يُفتَى بما يأتي به في شرحه، فلذلك أخرتها. فهذه مسألة.
3318- ومن مسائل الفصل أنه لو باع السمنَ مع الظرف: كل منّ بكذا، وشَرَطَ طرحَ وزن الظرف، صح البيع. وإن قال بعتُك هذا السمنَ كلَّ مَن بكذا على أن أزنه بظرفه، ولا أحط وزنَ الظرف، فهذا باطل؛ لأنه وجه العقد على السمن، ثم شرط أن يتسلم ما ليس بسمن بدلاً عن السمن. وهذا قولٌ متناقض؛ فلا ينعقد البيع.
وإن قال: بعتُك السمن مع الظرف، كل من بكذا، فمقتضى لفظه لا تناقض فيه، ومقصوده وزن الظرف مع السمن، وبيعه بحسابه، فإن كان الظرف متقوّماً بحيث يصح إفراده بالبيع، فالبيع صحيح وإن اختلفَ جنس السمن والظرف. وقد تختلف القيمة، وهو كبيع الفواكه المختلطة على وزن واحدٍ في الجميع.
وقال بعض أصحابنا: لا يجوز البيع كذلك؛ لأنه لا يعرف قدر السمن والظرف، والمقاصد تختلف في ذلك. وقد قدمنا في الفواكه المختلطة كلاماً فيما مضى، فلو كانا عالمين بمقدار الظرف وجرى العقد كما ذكرناه، صح بلا خلافٍ.
فرع:
3319- إذا قال بعتك من هذا السمن كلَّ منّ بدرهم، أو بعتك من هذه الصُّبرة كلَّ صاع بدرهم، فلفظه ليس يتضمن استيعاب الجميع؛ فإن من مقتضاه التبعيضُ، فلا يصح العقد بهذا اللفظ في جميع السمن والصبرة. وهل يصح العقد في منّ أو صاع؟
ذكر صاحب التقريب فيه وجهين، وشبَّهها بمسألة في الإجارة: وهي إذا قال:
آجرتك هذا الحانوتَ، كل شهر بعشرةٍ، فليس للإجارة أمد بحدود وإنما هي معقودةٌ على الأبدِ، والمعتمد تبيين حصَّةِ كل شهر، فالإجارةُ فاسدة فيما وراء الشهر الأول، وهل تصح في الشهر الأول بالقِسط المذكور؟ فعلى وجهين. قال صاحب التقريب: الصاع من الصبرة بمثابة الشهر في الصورة التي ذكرناها. وما ذكره قريبٌ. ولكن الأصح فساد الإجارة في الشهر الأول. والوجه المذكور فيه ساقط غير معتدِّ به.
فرع:
3320- إذا قال بعتك السمن مع ظرفهِ هذا، كل من بدرهمٍ، وكان الظرف غير متقوم؛ بحيث لو قدر إفراده بالبيع لم يصح. فقد قطع بعض أصحابنا بفساد البيع في السمن؛ من حيث اشتمل على اشتراط بذل مالٍ في مقابلةِ ما ليس بمال. والوجه عندنا تخريج هذا على تفريق الصفقة: فالزق مع السمن جُمعا في العقد، وقوبلا بالثمن، فكان ذلك كصفقة تجمع حُرّاً وعبداً، أو شاة وخنزيراً.
فصل:
قال: "ولو اشترط الخيار في البيع أكثرَ من ثلاث... إلى آخره".
3321- قد سبق القول في خيار المجلس وخيار الشرط على أبلغ وجهٍ في الاستقصاءِ، والغرض من ذكر هذا الفصل بيانُ ميل النص إلى وجهٍ ضعيف في القياس، ثم نذكر بعد التنبيه ما رأيناه للأصحاب. فإن كان زائداً على ما قدمناه في صدر الكتاب، فليضمَّه الناظرُ إلى ما تقدَّم، وإن لم يكن زائداً، لم تضر الإعادة.
ظهر اختلاف الأصحاب في أن البيع إذا اشتمل على شرط خيار ثلاثة أيامٍ، فابتداء زمان الخيار يحسب من وقت العقد، أو من وقت التفرق؟ فيه وجهان ذكرناهما: أقيسهما- أنه من وقتِ العقد؛ فإن وقت التفرق مجهول، والمجلس قد يقصر وقد يطول، وإثبات المجهول لا يليق بعقد البيع. هذا هو القياس.
والوجه الثاني- أن ابتداء المدة محسوبٌ من وقت التفرق، وعليه يدلّ نص الشافعي، وقد ذكرنا توجيهَ هذا الوجه في موضعهِ. والغرضُ من إعادته ما ذكرنا من ميل النصّ إليه.
وإذا كان كذلك، فيتعين الاعتناءُ بالجواب عما ذكره صاحبُ الوجهِ الآخر من الجهالةِ، فنقول: لا جهالةَ في الخيارِ المشروط، وإنما الجهالةُ في أمدِ المجلس، وذلك محتمل بلا خلافٍ. والذي ذكره ناصرُ ذلك الوجهِ لا يفضي إلى جهالةٍ في الخيار المشروط، فإن جُهِلَ مبتدؤه، فهو بمثابة الجهل بمبتدأ لزوم الملك. وهذا بالِغٌ في دفع فصل الجهالةِ.
والذي يتوجَّه به النصُّ أن شرط الخيار يشعر بتخير مشروطٍ، لولا الشرطُ، لثبت نقيضُه. ولو أثبتنا خيار الشرط من ابتداء العقد، لما كان في الشرط معنى، والخيارُ ثابتٌ لحق المجلس، والأجلُ المطلق في العقد خارج على الخلاف أيضاً. ولكن الإمام كان يرتّبه على خيار الشرط، ويقول: إن حكمنا بأن ابتداءَ الخيارِ محسوبٌ من وقتِ العقد، فالأجل بذلك أولى. وإن قلنا: ابتداءُ خيار الشرط من وقت التفرق، ففي الأجل وجهان. والفرق أن الخيارَ يجانس الخيارَ، فيبعد اجتماعهما.
والأجل يخالف الخيارَ في مقصوده ووضعه، فلم يبعد أن يثبت في وقت ثبوت الخيار.
فإن قيل: هذا الفرق واضح جداً، فما وجه قول من يقول: الأجلُ يحسب ابتداؤه من وقت التفرق؟ قلنا: وجهه أن المقصود من الأجل تأخير الطلِبة بالثمن، وهذا المقصود يحصل بالخيار؛ فإن البائع لا يملك الطَّلِبةَ بالثمن في زمان الخيار، فالأجل وإن لم يكن خياراً، فمقصودُه يضاهِي مقصودَ الخيارِ، ولذلك يمتنع شرط الأجل في البيع الذي يمتنع فيه شرط الخيار.
3322- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنا إذا رأينا حَسْبَ ابتداء الأجل من وقت التفرق، فلو اشتمل العقدُ على شرطِ الخيار ثلاثةَ أيام وأجل الثمن فيه، فابتداء الأجل على الوجه الذي انتهينا إليه يحسب من أي وقت؟ على وجهين:
أحدهما: أنه يحسب من انقضاء الخيارِ المشروط حتى لا يجتمع الأجل والخيار، كما أنا لا نجمع بين الأجل وخيارِ المجلسِ.
والثاني: أنه يحسب من وقت التفرق عن المجلس، وكأنَّ الثمنَ يلحقه نوعان من الأجل:
أحدهما: يتضمن الخيار.
والثاني: يتضمن الفُسحةَ والمهلة.
والوجه عندنا القطعُ بأن ابتداء الأجل من انقضاءِ الخيار المشروط على الوجهِ الذي عليه نفرع؛ فإن الأجل أحق بمجانسة خيارِ الشرط منه بمجانسة خيار المجلس، والمجانسة تؤثر في منع الجمع.
فإن قلنا: الخيار المشروط المطلق محسوبٌ من وقت التفرق، فلو صرح العاقدان بحَسْب ابتدائه من وقت العقد، ففي صحة العقد والشرط وجهان:
أحدهما: أنهما إذا صرحا بذلك، وقع الأمر كما شرطاه، وإنما الكلام في الإطلاق.
ومن أصحابنا من قال: يفسد العقد والشرط.
وحقيقةُ هذا الخلاف ترجع إلى أن منع الجمع بين الخيارين من مقتضى اللفظ المطلق، أم هو حكم يجب اتباعه؟ وهذا مختلف فيه: فمن راعى من أصحابنا في صورةِ الإطلاق مقتضى اللفظ، وزعم أن شرط الخيار مشعر بثبوت تخيرٍ لولاه، لكان اللزوم بدلَه، فإذا وقع التصريح بجمع الخيارين، لم يمتنع عنده.
ومن اتبع الحكمَ ورأى اجتماعَ الخيارين بعيداً، واعتقد أن خيار الشرط لغوٌ مع خيار المجلس، فالتصريحُ بالشرط يفسُد من طريق الحكم، ولا يبعد أن يؤثر في فسادِ العقد.
وهذا فيه نظر عندنا. وإن اتبعنا الحكمَ فَقُصارَاهُ أن يلغوَ خيار، وليس الخيارُ مقصوداً في البيع؛ حتى يؤثِّر كونُه لغواً في إفساد البيع، والشرط المفسد هو الذي يغير مقصوداً من العقد.
فالأظهر إذاً أَنَّ المتعاقدَيْن إذا صرَّحا باحتساب ابتداء الخيارِ من وقتِ العقدِ، جاز ذلك. وقد يتجه لمن يميل إلى الإفساد شيء وهو أن يقول: إذا كان يلغو خيار الشرط في زمان المجلس، فكأَنْ لا خيارَ من جهة الشرط في المجلس، وإنما يثبتُ منه ما يقع بعد التفرق ولا يدرَى كم قدرُه، فهو خيار مجهول المقدار.
وإذا فرعنا على أن خيار الشرط عند الإطلاق محسوب من ابتداء العقد، فلو صرّح المتعاقدان بشرط احتساب أول مدة الخيار من وقت التفرق، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا مفسد للعقد على الوجه الذي نفرع عليه. ووجه ذلك ظاهر؛ فإن المعتمد عند هذا القائل ما في ذلك من الجهالةِ، وإذا وقع التصريح بها، فالوجه الحكم بالفساد.
وذكر صاحب التقريب وجهين على هذا الوجه، كالوجهين اللذين فرعناهما على الوجه الأول.
وهذا لا أصل له؛ فإن الوجهين المذكورين المفرَّعين على الوجه الأول مأخوذان من التردد في أن ذلك الوجه مبنيٌّ على حكم متَّبع، أم هو متلقًّى من صيغة اللفظِ المطلق، ولا ينقدح في الوجه الثاني هذا؛ فإن المعتمد في الوجهِ الثاني اجتنابُ الجهالة. والتصريحُ بهذا يناقض المقصودَ.
3323- ومما فرعه الأصحاب في ذلك أن البيع إذا اشتمل على خيار الشرط، فإذا قلنا: ابتداؤه محتسب من وقت العقد، فلو قال المتعاقدان في المجلس: أبطلنا الخيارَ، فهذا يتضمن قطعَ الخيارين؛ فإن الإبطال صادفهما جميعاً. وإذا قلنا: ابتداءُ خيار الشرط محسوب من وقت التفرق، فإذا قالا في المجلس: أبطلنا الخيار، وأطلقا ذلك، فينقطع خيار المجلس، وفي بطلان خيار الشرط وجهان:
أحدهما: أنه لا يبطل؛ فإن إبطالهما لم يصادفه، فوجب أن يقصر على خيار المجلس.
والثاني: أنه يبطل خيارُ الشرط؛ فإن إطلاقَ إبطالِ الخيار يتضمَّن قصد إلزام العقد؛ وهذا يقتضي قطعاً قطعَ التأخير ودفعَ ما سيقع.