فصل: باب: الشهادة على الوصية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: علم الحاكم بحال من قضى بشهادته:

قال:"وإذا علم الحاكم أنه قضى بشهادة عبدين أو مشركين... إلى آخره".
12186- إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين في ظاهر الحال، ثم تبيّن له أنهما مشركان أو عبدان أو صبيان، فالحكم منقوض، وقد أوضحنا أن المعنيّ بالنقض التبيّن، وإلا فليس القضاء أمراً يعقد ويحل.
وذكر القاضي في صدر هذا الفصل أن القاضي لا يجوز له أن يصغي إلى قول المشركين، والعبيد، والصبيان إذا أحاط بحقيقة حالهم، وكذلك إذا كانوا فسقة-وقد تحقق القاضي ذلك- لم يُصغ إلى شهادتهم، وقد قدمت من قبل تردداً في ذلك.
وقد تحصل لنا ما يجب الاستقرار عليه في الإصغاء إلى شهادة الفسقة. أما المعلنون بالفسق، فلا ينبغي أن يصغي القاضي إلى شهادتهم- إلا أن يصح مذهبٌ في قبول شهادة المعلنين، ويرى القاضي أن يصغي، فلا معترض عليه في مجتَهد.
ولو أصغى إلى شهادة العبيد، ليقبلها على رأي أحمدَ، وطوائفَ من أئمة السلف، فلا معتَرَضَ. وإن كان لا يقبل قطعاً-وسبب الرد ظاهر- فالوجه ألا يصغي كما لا يصغي إلى شهادة المشركين، والعبيد، والصبيان.
وإن كان الفاسق مكاتماً، وكان القاضي عالماً بفسقه، فهذا موضع التردد؛ فإنه لو منعه من إقامة الشهادة، لكان ذلك هتكاً للستر، فالوجه أن يصغي ثم لا يَقْضي، والقياس ألا يصغي إلى من يعلم أنه مردود. والوجه أن يقدم النُّذُر إلى من يريد الإقدامَ على الشهادة من هؤلاء؛ حتى لا يتعرضوا، فإن فعلوا، فهم الذين هتكوا أستار أنفسهم.
ولو قضى القاضي بشهادة رجلين، وبانا فاسقين، وتبين اقتران فسقهما بوقت القضاء، ففي المسألة قولان: أقيسهما- أن الحكم منقوض؛ لأنه بأن من الشهود ما لو عُلم حالةَ القضاء، لامتنع القضاء بشهادتهم، فاشبه الرق والكفر.
12187- قال الشافعي:"شهادة العبد أقرب من شهادة الفاسق؛ لأن ردّ شهادة الفاسق بالنص. قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
وردُّ شهادة العبد بالتأويل، ثم قال: "من العلماء من قبل شهادة العبد، وهو أحمد وغيره. ورد شهادة الفاسق متفق عليه".
فأما وجه القول الثاني، فعسرٌ، ولا يتجه فيه كلام، إلا أن نحوّم على ما ذكره أصحاب أبي حنيفة من أن الفاسق من أهل الشهادة، بدليل مسألة الرد والشهادة المعادة، وهذا على بُعده عن مذهبنا لا متمسك فيه.
ومن أصحابنا من قطع بأن الحكم يتبين انتقاضه إذا استند الفسق، وحمل قول الشافعي حيث قال: "لا ينتقض" على فسق يظهر بعد القضاء على قرب العهد، ولكن لا يتبين استناده، فالحكم لا ينتقض؛ وإن كنا نظن أن ذلك الفسق مستند، وعليه تبيّنا فسق الأصول في باب الشهادة على الشهادة.
12188- وقال الشافعي: "ولو أنفذ القاضي بشهادتهما... إلى آخره".
إذا بان الشهود عبيداً، أو مشركين، أو فسقة على القول الصحيح، وحكمنا بانتقاض القضاء على معنى التبين، فإن كان المشهود به عينَ مالٍ، وأمكن استردادها، استردها، وردّها على المشهود عليه، فإن كانت فائتة، غرم المشهود له بدلَها إذا فاتت في يده، وسلّم القيمة إلى المشهود عليه، وإن لم نتمكن من المشهود له، فالقاضي يغرم للمشهود عليه، وفي محل الغرم قولان:
أحدهما: يجب في ماله، والثاني: يجب في مال بيت المال، وهذا مما استقصيناه في بابه ضما إلى أحكام خطأ الولاة.
ثم إذا غرم القاضي من ماله مثلاً، فهل يرجع على الشهود بما غرم؟ قال الأصحاب: إن بانوا فسقة، لم يرجع عليهما. وإن بانوا عبيداً أو مشركين، ففي الرجوع قولان:
أحدهما: لا يرجع، كما لو بانوا فسقة.
والثاني: يرجع.
والفرق أن الفاسق مأمور بكتمان الفسق، مندوب إلى حفظ الستر على نفسه، إلى أن يوفقه الله للتوبة، والمشرك لا يُخفي الشرك، والعبد لا يُخفي الرق، وهما مأموران بإظهار الرق والكفر.
فإن قلنا: يثبت الرجوع- فإن كان المرجوع عليه مشركاً ملتزماً للحكم بذمة أو عهد، فيرجع عليه بما غرِم في الحال. وإن بأن الشاهد عبداً، فحق الرجوع يتعلق بذمته أو برقبته؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يتعلق برقبته؛ فإن ما صدر منه في حكم الجناية. وأروشُ الجنايات تتعلق برقبة العبيد.
والثاني: لا يتعلق برقبته؛ لأن العبد يبعد أن يعلق حقاً برقبة نفسه بقول يصدر منه، ولو أقر بجناية موجَبُها مال، لم يتعلق الضمان برقبته.
وقطع الأصحاب في الطرق أن الشاهد لو بان صبياً، فلا رجوع عليه في ماله؛ فإن التقصير من القاضي، والصبا لا يخفى.
وإن فَرَض متكلِّف صبياً مناهزاً شاطّ القدّ قد طُرّ شاربه، فما ذكرناه لا يندفع بهذه الصورة، وكان القاضي مؤاخذاً بالبحث عن هذا.
وذكر شيخي في الصبي في مثل الصورة التي ذكرناها خلافاً، وهذا لا أعتدّ به، وكان لا يبعد عن القياس إثبات الرجوع على من بأن فاسقاً؛ فإنه إذا ساوى الفسقُ الكفرَ والرقَّ في انتقاض الحكم بسبب ظهوره، لا يبعد في القياس أن يثبت الرجوع عليه أيضاً.
وهذا الذي ذكرناه بيان احتمال، وليس بمذهب. والذي اتفق عليه الأصحاب أنه لا رجوع على الفاسق.
ومما يجب التنبّه له أن المشهود عليه إذا ثبت له تغريمُ القاضي، فليس يبعد عن القياس أن يغرِّم الشاهدَ، حتى يقال: هو بالخيار، إن أحب طالب الشاهد، وإن أحب طالب القاضي. وهذا أيضاً غير منقول من أئمة المذهب، ولكن في كلام الأصحاب ما يدل على هذا، والظاهر المنقول ما ذكرته، من توجيه الطلب على القاضي، ثم هو يرجع، كما فصّلنا.

.باب: الشهادة على الوصية:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبدٍ غيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه".
12189- هذا ما نقلوه من لفظ الشافعي. والرأي عندنا أن نقدم أصولاً على قدر مسيس الحاجة، ثم نعود إلى بيان مراد الشافعي، فنقول: إذا أعتق المريض عبيداً، وكان الثلث لا يفي بجميعهم، وقد أعتقهم معاً تنجيزاً، فمذهب الشافعي أنا نقرع بينهم، ولا نعتق من كل واحد منهم جزءاً؛ فضّاً للثلث على أقدار قيمهم، وسيأتي هذا مشروحاً، إن شاء الله.
والقياس أن نعتق من كل عبدٍ مقداراً، ولكن ترك الشافعي القياسَ لحديث عمران بن حصين، كما سيأتي إيضاح ذلك، إن شاء الله.
ولو أعتق في المرض عبداً، هو قدر الثلث، ثم أعتق بعده عبداً آخر، هو مقدار الثلث أيضاً، فنقدّم من قدّمه. ولا قرعةَ، وقد تعين السابق والمسبوق. وهذا في التبرع المنجّز في الحياة.
ولو أوصى بعتق عبيد، وكان الثلث لا يفي بهم، ولم يوص بتقديم بعضهم، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يقرع بينهم، كما لو أعتق عبيداً في مرض موته.
وهذا هو المذهب المعتمد، وقد قطع به الصيدلاني، فقال: لا خلاف في المذهب في ذلك.
وذكر بعض الأصحاب قولين- وأشار إليهما القاضي:
أحدهما: القرعة قياساً على العبيد المجموعين في تنجيز الإعتاق في مرض الموت. والقول الثاني- أنا نوزعّ العتقَ ولا نقرع في الوصايا، وإنما الإقراع في المعتَقين في الحياة. وهذا القائل احتج بأن القياس التسويةُ بين العبيد في الحياة والممات جميعاً، وتخصيص البعض القرعة، وحرمان البعض خارج عن قصد المتبرع، وعن قياس الاستحقاق؛ فإن المعتق أثبت لكل واحد من العبيد حقاً في العَتاقة. غير أن الخبر مقدم على القياس، وإنما ورد الخبر في تنجيز العتق في الحياة؛ فبقّينا الوصية على القياس في اقتضاء التشريك، ورأينا بين العتق في الحياة وبين الوصية بالعتق فرقاً يقطع أحدَهما عن الثاني، ويُخرج الوصية عن كونها في معنى العتق المنجز، والفرق الذي نبديه ناشىء من عين المقصود.
وبيانه أن القرعة تقتضي تكميل العتق لعبدٍ وتكميل الرق في عبد، وكأن للشرع غرضاً في رفع تبعّض الرق والحرية، وهذا لائق بحالة الحياة؛ فإن المريض لو أعتق بعضاً من عبد، وكان العبد بكماله خارجاً من الثلث، فعتقه الموجه على بعض العبد يسري إلى كماله؛ فلم يبعد التكميل في الحياة، والقرعة تنبني عليه، والتكميل بعد الموت ممتنع؛ فإنه لو أوصى بإعتاق بعضٍ من عبد، وكان الثلث وافياً بتمام العبد، فالعتق لا يسري من بعض العبد إلى كماله، فإذا جرت الوصية على القياس، وانقطعت عن مورد الخبر، تعين قياس الاشتراك في الوصية حتى لا يحرم البعض.
ثم من سلك هذا المسلك، لم يفصل بين أن يقع الإيصاء بعتق العبيد دفعة واحدة، وبين أن تترتب الوصايا، فالمترتب منها كالمجموع، والخلاف الذي ذكرناه جارٍ في صور الوصية.
12190- فإذا تمهد ما ذكرناه، عُدنا بعده إلى شرح كلام الشافعي، وبيان اختلاف الناس فيه.
ظاهر ما نقله المزني أنه إذا أعتق عبيداً، فيعتق من كل واحد بعضُه ولا يُقْرع، وهذا في ظاهره يخالف القانونَ وقاعدةَ المذهب، ولكن اختلف أصحابنا في أن كلام الشافعي مفروض في العتق المنخز أو في العتق الموصى به، ونحن نذكر التنجيز وحكمه، ونخرّج عليه التعرض لقسمة العتق وفضّه، ثم نذكر الوصية، ونختتم الكلام بتعلق الأصحاب في تنزيل كلام الشافعي على التنجيز والوصية، وما يُظهر كل فريق من فحوى كلامه ومنطوقه.
فأما التنجيز، فإذا أعتق المريضُ عبدين، قيمةُ كل واحد منهما مقدار الثلث، نُظر؛ فإن أعتقهما معاً، لم يختلف الأصحاب في الإقراع. وهذا مورد نص الحديث الذي رواه عمران بن حصين.
فأما إذا أعتق سالماً أولاً، ثم أعتق غانماً، وكان كل واحد منهما ثلثاً، فالمقدم عتق سالم، ولا مجال للإقراع، وإن أشكل الأمر، ولم ندر أيَّ العتقين وقع أولاً، وجوّزنا أن يكون وقوعُهما معاً، والتبس علينا التقدم والترتب والوقوعُ معاً؛ فإنا نقرع بينهما كما لو وقعا معاً.
وإن علمنا تقدم أحدهما على الثاني، وأشكل علينا المتقدم والمتأخر، فالغرض من هذا الموضع يتبين بتجديد العهد بمثال من أصلٍ، وهو إذا عقدت جمعتان في بلدة لا يجوز عقد الجمعتين فيها، فلو وقعتا معاً، لم تصح واحدة منها، ولو تقدمت إحداهما، وتعينت، فهي الصحيحة، وعلى الذين أقاموا الثانية صلاةُ الظهر. وإن لم ندرِ أوقعتا معاً، أم تقدمت إحداهما، فهو كما لو وقعتا معاً.
وأثر حكمنا بفساد الجمعتين أن نقول لهم- إن كان الوقت باقياً: اعقدوا الآن جمعة، فالذي مضى فاسد غيرُ منعقد وإن سبقت إحداهما وأشكلت السابقة، فقولان:
أحدهما: أنا نحكم بفسادهما، والثاني: أنا نحكم بصحة جمعة لا بعينها، وأثر ذلك أنا نأمر الجميع بأن يصلى الظهر، ولو أرادوا جمعة في الوقت، لم تقع الموقع.
ولو تقدمت إحدى الجمعتين وتعينت، ثم التبست بعد التعيين، ففي المسألة طريقتان: إحداهما- القطع بأنه انعقدت جمعة، والأخرى- جعل المسألة على قولين، وقد أجرينا مثلَ هذا الترتيب في نكاحين، عقدهما وليان على امرأة واحدة مع خاطبين، والمثال الواحد كافٍ.
12191- فنعود إلى العتق، ونقول: إذا وقع العتقان في العبدين على صورة لو وقعت الجمعتان عليها، لحكمنا بفسادهما؛ أخذاً باجتماعهما، فنحكم في مثل هذه الصورة من العتق بالقرعة؛ أخذاً بوقوع العتقين معاً، ولو وقعا معاً، لحكمنا بالقرعة لا محالة.
وحيث يختلف القول في صحة جمعة وفسادها، فنطرد القولين في العتقين إذا تُصوّرا بتلك الصورة، وذلك إذا استيقنا الترتيب، ولم ندرك اليقين، ففي قولٍ نقرع إذا حكمنا بفساد الجمعتين، وإذا حكمنا بصحة جمعة لا بعينها، فنحكم بنفوذ عتق في عبد لا بعينه، ثم ليس أحدهما أولى به من الثاني، ولا جمعَ؛ فنُقرع، فنجعل كأنهما يتداعيان عتقاً بينهما، كل واحد يدعيه بكماله، فنحكم بفض العتق عليهما، ونعتق من كل واحد منهما نصفه إذا كان كل واحد موازيا ثلثاً، هذا بيان هذه الصورة. والقيمتان في جميعهما متساويتان، كلُّ قيمةٍ ثلث.
12192- فأما إذا أعتق عبداً قيمته ثلث، وأعتق عبداً آخر قيمته سدس، ثم وقع الكلام في الجمع والترتيب، فإن وقعا معاً فليس إلا القرعة، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عتق، ورق القليل القيمة، وإن خرجت القرعة على القليل القيمة، عَتَق كله، وعَتَق من الكثير القيمة نصفُه، ورَقّ نصفُه.
وإن صورنا صورة القولين؛ فإن أقرعنا، فالجواب ما ذكرنا، وإن أردنا التقسيط، فقد اختلف أصحابنا في كيفيته؛ فمنهم من قسط على الدعوى، وقال: الكثير القيمة يقول للقليل القيمة؛ نصفي يعتق في كل حساب، لا نزاع فيه، وإنما النزاع في نصفي الآخر؛ فأنا والقليل القيمة نزدحم وراء ذلك؛ فيقسم العتق بين نصفي الثاني وبين جميع القليل القيمة نصفين، فيعتق من القليل نصفه، ويعتق من الكثير ربع آخر، فيعتق ثلاثة أرباع الكثير القيمة ونصف القليل القيمة، وهذا وجه.
ومن أصحابنا من سلك مسلكاً في قسمة العتق بينهما، فقال: الكثير القيمة ضِعف القليل القيمة، والقليل القيمة نصف الكثير القيمة؛ ويعتق منهما مقدار ثلث المال، فالكثير القيمة يقع مع القليل القيمة ثلثين، والقليل القيمة يقع مع الكثير القيمة ثلثاً، فيضرِبُ الكثيرُ بالثلث كلِّه، ويضرب القليلُ بنصف الثلث، فنوزِّع الثلث عليهما أثلاثاً، نصرف ثلثيه إلى الكثير القيمة ونصرف ثلثه إلى القليل القيمة، فيجب من ذلك أن يعتق الثلثان من الكثير، والثلث من القليل، وفي ذلك استكمال الثلث.
وقد قال الأصحاب: لو تداعى رجلان وصيتين، فأقام أحدهما البينة أن الموصي أوصى له بكل ماله، وأقام الآخر البينة أنه أوصى له بثلث ماله، وأجاز الورثة الوصية في كل المال؛ فإنهما يقسمان المال بينهما على حساب العول، فإن أحدهما يضرب بثلاثة أثلاث المال، والثاني يضرب بثلثه، وحساب العول يقتضي أن يكون المال أرباعاً بينهما: ثلاثة أرباعه للموصى له بالكل، وربعه للموصى له بالثلث.
ومذهب أبي حنيفة أن المال يقسم بينهما على الدعوى، فيقول صاحب الجميع: الثلثان لا نزاع فيهما، فلْيُسلّما إليّ. ويبقى الثلث بيننا، أنا أدعيه وأنت تدعيه، فنُقَسِّم هذا الثلث بيننا نصفين، فيخلص لصاحب الجميع خمسةُ أسداس المال، ولصاحب الثلث سدسه، والأصحاب لم يذكروا هاهنا إلا مذهب العول، ورأوا مذهب التداعي لأبي حنيفة، وقد ذكرنا مذهب التداعي وجهاً لأصحابنا في مسألة عتق العبدين، وأحدهما ثلث والثاني سدس، ولا فرق قطعاً بين المسألتين. فيلزم من ذكر قسمة التداعي وجهاً ومذهباً لنا أن نطرد ذلك الوجهَ في الصورة التي ذكرناها آخراً في الوصية وأمثالها، حتى نجري التداعي مهما اتجه إجراؤه.
12193- وكل ما ذكرناه طريقة واحدة للأصحاب؛ فإنهم قالوا: نصُّ الشافعي محمول على العتق في العبدين إذا نُجِّز في حالة الحياة والْتبس المتقدمُ والمتأخر. وقال هؤلاء: لو فرضنا الوصية بعتق عبدين بعد الموت، فليس فيهما إلا الإقراع، سواء جمع الموصي الوصيتين أو قدم إحداهما ذكرا على الأخرى من غير أن يوصي بمراعاة ترتيبه في تقديمه وتأخيره، وذلك لأن التفاوت في الذكر لا أثر له في الوصايا؛ إذ وقوع جميعها بعد الموت-وإن ترتبت في الذكر- فصارت الوصيتان بالعتق في العبدين بمثابة تنجيز العتق فيهما معاً في مرض الموت. هذه الطريقةُ المثلى.
واستتمامه أنه لو أوصى بعتق عبدين وأوصى بتقديم أحدهما عند ضيق الثلث، فلا شك أنا نمتثل أمره، فإن أشكل الأمر، فلم ندرِ أنه أوصى بتقديم سالم أو بتقديم غانم، فيعود في هذه الصورة صورة الوفاق، والقولين في أنا نقرع أو نوزع، كما ذكرناه في العبدين المعتقين في الحياة إذا سبق أحدهما، وأشكل عين السابق.
12194- ومن أصحابنا من قال: مسألة (السواد) مفروضة في الوصية بعتق العبدين، ثم هؤلاء رأوا الشافعي وزع العتق على العبدين، فالتزموا التوزيع في الوصايا، وخصصوا القرعة بالعتق المنجز في الحياة، وقد قدمنا ذكر ذلك، ثم لم ينظروا إلى التقدم والتأخر، بل قالوا: لو أوصى بعتق العبدين جمعاً في الذكر، وزعنا مقدار الثلث عليهما. وهذا مسلك ضعيف رمز إليه بعض الأصحاب، وصرح به القاضي نقلاً ثم زيّفه.
12195- وقد انتجز حكم المسألة، وبقي تعلق كل فريق بلفظ الشافعي، ونحن ننقل لفظه على وجهه، ونذكر متعلَّق الأصحاب فيه، قال: "لو شهد أجنبيان أن فلاناً المتوفى أعتقه، وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبد كيره أنه أعتقه، وهو الثلث في وصيته، عتق من كل واحد منهما نصفه".
فمن قال من الأصحاب المسألة في تنجيز العتق رأى صريح اللفظ موافقاً له؛ فإن الشافعي قال: "أن فلاناً المتوفى أعتقه" وهذا صريح في التنجيز، ومن رأى حَمْلَ كلام الشافعي على الوصية حمل قولَه " أعتقه" على الوصية بالعتق، وقال: معناه أوصى بعتقه. واستدل على ذلك بأنه ذكر على الاتصال بهذه المسألة لفظَ الإعتاق، وصوّر الرجوع عنه، والرجوعُ عن الإعتاق المنجز غير ممكن من المعتِق، وقد قال: "لو شهد وارثان أنه رجع عن عتق الأول، وأعتق الآخر، أجزتُ شهادتهما" فدل أن الحمل على الوصية أوجَه.
هذا منتهى كلام الأصحاب في ذلك، مذهباً، وتصرفاً على اللفظ، وتنزيلاً لكلام الشافعي على التنجيز أو الوصية.
فصل:
قال: "ولو شهد الوارثان أنه رجع عن عتق الأول... إلى آخره".
12196- إذا شهد أجنبيان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان بأنه وصى بعتق عبده سالم، وكل واحد من العبدين ثلث، وشهد الوارثان أنه رجع عن الوصية لغانم- قال الشافعي والأصحاب معه: جازت شهادة الوارثين في الرجوع، ونفذ العتق في العبد الذي عيّناه.
وتعليل ذلك أنهما ليسا يجران بهذه الشهادة نفعاً إلى أنفسهما في مالية، وإنما ينقلان الوصية من عين إلى عين؛ فإنه لو ثبتت الوصيتان، ولم يثبت رجوع، لكان للورثة ردهما إلى الثلث بمسلك يقتضيه الشرع، فلا تهمة إذاً، والوجه قبولُ شهادة الوارثَيْن في الرجوع عن إحدى الوصيتين. قال الشافعي: لا أنظر إلى الولاء، كأنه عرف من مذهب بعض الناس أنه لا يقبل شهادة الوارثين، إذ قد يكون لهما غرض في عين أحد العبدين، وقد يكون لهما غرض في ولاء أحدهما بأن كان كسوباً جمّاعاً، فيطمع الوارثان في حيازة ما يكتسبه إذا مات.
ثم قال الشافعي: هذه أمور موهومة، لا يجوز رد الشهادة بأمثالها، إذا لم تكن تهمة في الحال ناجزة في مقدارٍ من المال.
هذا بيان صورة. وهي إذا كان قيمة كل واحد من العبدين ثلثاً.
12197- فأما إذا شهد أجنبيّان بأنه أوصى بعتق عبده سالم، وهو ثلث ماله، وشهد الوارثان بأنه أوصى بعتق عبده غانم، وهو سدس المال، وشهدا على رجوعه عن الوصية بعتق سالم، فلا شك أنهما جارّان في هذه الحالة؛ من قِبل أن الرجوع لو ثبت عن الوصية الأولى بشهادة أجنبيين مثلاً، لعادت الوصية إلى السدس، فإذا شهد الوارثان على ما يقتضي ذلك، فقد حطّا نصفَ الوصية من الثلث.
12198- فإذا تبين هذا، فنذكر نص الشافعي أولاً، ثم نذكر تصرف الأصحاب.
قال الشافعي: "يَعتِق العبدان جميعاً، أما القليل القيمة؛ فلإقرارهما بأنه المستحق للعتاقة، وأما الكثير القيمة؛ فلِردّ شهادتهما في الرجوع عن الوصية بعتقه؛ فيعتقان، وإن زاد العتقان على الثلث".
وهذا مشكل جداً؛ فإن غاية الأمر أن تثبت الوصيتان، ويبطل الرجوع عن الوصية الأولى. ولو اعترف الورثة بثبوت الوصيتين جميعاً، ولم يدعيا رجوعاً، لكُنا لا نزيد على الثلث، بل نقرع على الرأي الظاهر، ونقول إن خرجت القرعة على الكثير القيمة عتق، ورَقّ القليلُ القيمة. وإن خرجت القرعة على القليل القيمة عَتَقَ، وعَتق النصف من الكثير القيمة. فإذا رَدَدْنا شهادةَ الورثة على الرجوع، فكأن لا رجوع، هذا وجه الإشكال.
وقد خرّج أصحابنا قولاً في المسألة مخالفاً للنص، وقالوا: نُقرع بين العبدين-كما وصفناه- إذا جرينا على الأصح، وهو الإقراع، وهذا قياسه بيّن، ولكنا نسوق كلام الأصحاب على وجهه، ثم نتعرض لمواقع البحث.
قالوا: القولان-المنصوص منهما والمخرّج- مبنيان على أصلٍ، وهو أن من جمع في شهادته بين ما يرد شهادته فيه، وبين ما يقبل شهادته فيه، فإذا ردّت شهادته فيما لو أفرده، لردت الشهادة فيه، هل ترد شهادته في المضموم إليه؟ فعلى قولين. وهذا أصل في الشهادات.
ومن صوره أنه إذا شهد بمال مشترك بينه وبين شريكه، فشهادته فيما يدعيه لنفسه مردودة، وهل تقبل شهادته في حصة شريكه؟ فعلى قولين.
فإذا تمهد هذا، وقد نعيده في مسائل الدعوى، إن شاء الله، قال الأصحاب بعده: الوارثان شهدا على الرجوع عن الوصية الأولى، وأثبتا الوصية بالسدس، وتطرقت التهمة في نصف العبد الكثير القيمة؛ لأنهما أرادا إبطال الوصية في نصفٍ من غير تعويضٍ ونقلٍ، فكانا جارّين. فأما النصف الآخر من العبد فقد عَوّضا عنه العبدَ القليل القيمة، فكان ذلك نقلاً؛ وقد ذكرنا أن تهمة النقل لا توجب رد الشهادة، لكنهما جمعا بين ما يرد لو أفرد، وبين ما يقبل، فإن رأينا رد الشهادة في الجميع، فالجواب ما ذكره الشافعي من الحكم بإعتاق الجبدين جميعاً، وإن رددنا الشهادة في البعض، وقبلنا في البعض، فالجواب هو القول المخرج.
وهذا التصرف مضطرِب من الأصحاب، لما ذكرناه في مقدمة المسألة من أن الشهادة، وإن ردت، فكأن الرجوع لم يثبت، وحصول الوصيتين من غير رجوع عن إحداهما لا يوجب عتق العبدين، هذا وجه الإشكال، ولا يؤثر في هذا ردُّ الشهادة في الجميع أو تبعيض الرد، وتمام البيان وراء ذلك.
12199- فالوجه عندنا أن يقال: يقرع بين العبدين، فإن خرجت القرعة على الكثير القيمة، عَتَق العبدان، كما قال الشافعي؛ لأنا نبطل الرجوع، والقرعة اقتضت عتق الكثير القيمة، والوارثان يُقران للقليل بأنه العتيق، والعتق مستحق له، فالوجه حمل نص الشافعي على هذه الصورة.
فلو خرجت القرعة على القليل القيمة؛ فإنه يَعتِق. ويجب أن يقال: لا يَعتِق من الكثير إلا نصفه؛ حملاً على أن لا رجوع، وقد حصل العتق في القليل القيمة على موجَب إقرار الورثة. فإذا حصل ما أقروا به، وبنينا الأمر على إبطال الرجوع، فهذا أقصى اللازم.
فخرج منه أن ظاهر النص مشكلٌ والقول المخرَّجُ على الإطلاق باطل، والحق الذي لا يُدفع، ما ذكرناه.
12200- فإن قال قائل: لو فرعت هذه المسألة على أن لا إقراع في الوصايا، وأن المتبع فيها القسمة.
قلنا: نفرض هاتين الوصيتين ولا رجوع، ولو كان كذلك يخرج وجهان في كيفية القسمة:
أحدهما: القسمة على الدعوى، والثاني: القسمة على حساب العول، كما ذكرنا المسلكين في إعتاق العبدين- الكثير القيمة والقليل القيمة تنجيزاً.
ثم إذا أجرينا مذهباً نرتضيه، فالوجه أن نقول بعده: يَعْتِق من الكثير ما يقتضيه الحساب، ويعتق تمام القليل القيمة أخذاً بالإقرار. وقد انكشف إشكال المسألة.
12201- ونحن نستتم الكلام بذكر صورة، فنقول:
لو شهد أجنبيان بأنه أعتق سالماً تنجيزاً وهو ثلث ماله، فكذبهما الورثة في الشهادة، وقالوا ما أعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، فيعتق العبدان لا محالة؛ لأن تكذيب الورثة للشاهدين لا وجه له؛ فإنهما عدلان، والورثة مؤاخذون بإقرارهم في غانم، فيعتق غانم لا محالة، ولا دفع لذلك، ويبقى سالم، والشاهدان مصدقان في إعتاقه.
فلو قال قائل: هلا أقرعتم بينهما، حتى إن خرجت القرعة على غانم، ارتد عتق سالم، وينزل هذا منزلة ما لو قال الورثة: صدق الشاهدان، ولكنه أعتق مع سالم غانماً، ولو كان كذلك، لأقرعنا.
قلنا: هذا السؤال يُحمل على تفصيل. فإن قال الورثة أعتق غانماً، وليس في إقرارهم وشهادة الشاهدين تاريخ، وأمكن وقوع العتقين في علم الله معاً، فقد يتجه الإقراع، وقد لا يتجه، كما سنصف.
ولو اشتملت الواقعة على تاريخ، فشهد الأجنبيان على أنه أعتق سالماً يوم السبت، وقال الورثة: كذبا، لم يعتق سالماً، وإنما أعتق غانماً يوم الأحد، فإذا تصورت المسألة بهذه الصورة، فلا إقراع، ويعتق العبدان، وحيث لا يقع التعرض لتأريخ، فالإقراع ممكن على ما خيّله السائل، ثم الجواب أن القرعة لو خرجت على عبد الورثة وهو غانم، لم يَعْتِق سالم، وإن خرجت على سالم، عَتَقَ العبدان بالقرعة والإقرار. هذا مسلك.
وقد يقال: القرعة إنما تجري بين مشكلَيْن، فإذا كان غانم متعيَّناً للعتق لا محالة، فإدراجه في القرعة محال، وسيأتي لذلك نظائر في كتاب العتق، إن شاء الله.
فيلزم منه إذا لم يقرع أن يعتِق العبدان جميعاً، غانم بحكم الإقرار، وسالم باستحالة التكذيب، فهذا منتهى الكلام ونجازه.
فصل:
قال: "وقال في الشهادات في العتق والحدود إملاءً... إلى آخره".
12202- العبد إذا ادعى على مولاه أنه أعتقه، وأقام شاهدين، واحتاج القاضي إلى مراجعة المزكين في تعديلهما، فلو سأل العبد أن يحال بينه وبين المولى حتى يتفق التعديل أو نقيضه؛ فقد قال الشافعي والأصحاب: يُجاب العبد إلى ذلك، وينفَق عليه من كسبه إن كان له كسب، ويُحفظ ما يفضُل من النفقة، فإن عُدّلت البينة، دُفع فاضل الكسب إلى العتيق، وإن جُرّحت البينة، رُد الفضل على المولى، وإن لم يكن له كسب أُنفق عليه من بيت المال، ثم إن بان عتيقاً، فهو فقير أنفقنا عليه، وإن بان رقيقاً، رجعنا على السيد بما أخرجناه.
ولو لم يسأل العبد الوقفَ، ورأى القاضي ذلك من غير سؤاله، فله أن يفعله على الترتيب الذي ذكرناه.
وإن كان الأمر متعلقاً بأَمةٍ، فحتمٌ على القاضي أن يفعل ذلك.
ولو أقام شاهداً واحداً، وكان يأمل أن يشهد شاهد آخر، فقال للقاضي: حُلْ بيني وبينه حتى أقيم الشاهد الثاني، فهل يجاب إلى ذلك؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يجاب إليه، كما لو أتمّ العدد، وتخلفت التزكية؛ فإن التزكية لابد منها، كما لابد من العدد، والقول الثاني- أنه لا يُجاب؛ فإن الشاهد الواحد ليس بحجة، فلا مبالاة به، ولا يغيَّر الحكمُ به، وليس كما لو تخلفت التزكية؛ فإن التزكية إذا ثبتت، تبيّنا أن البينة كانت تمت، ونحن جاهلون بها، وليس كذلك الشاهد الواحد.
12203- ومما يتعلق بهذا أن البينة لو قامت على استحقاق عينٍ، وتخلفت التزكية، فطلب مقيمُها أن تُزال يدُ المدعى عليه حتى لا يُضيِّع ولا يُغيِّب، فإن أمكن الضياع والتغييب، أجيب المدعي، ووقفت العين؛ ولو شهد شاهد واحد، فقولان، كما ذكرناه في العتق. وإن كانت تلك العين عقاراً لا يتأتى تغييبه ولا يضيع، وقد قامت بينة وتخلفت التزكية، فللأصحاب طريقان:
أحدهما: أنه يجاب، فيحال، والثاني: لا يُجاب؛ إذ لا غرض في إيقاع الحيلولة، ثم لا يخفى تخريج الشاهد الواحد على الترتيب الذي ذكرناه.
وإذا أقام شاهدين على الدَّين، وتخلفت التزكية، وطلب أن يحجُر القاضي على المشهود عليه مخافة أن يضيّع ماله أو يحتال، فيُقِرَّ به لإنسان، فهل يُجاب المدعي والحالةُ هذه؟ اختلف أصحابنا: فقال الأكثرون: لا يُجاب، فإن الحجر ضرر عظيم في غير المشهود به، فلا سبيل إلى الإجابة إليه، ولا يتّجه عندنا إلا هذا. وقال القاضي: إن كان يتوسم القاضي هذا في المشهود عليه بأن كان عرفه محتالاً خَصِيماً، فله أن يجيب، وإن لم يتوسم ذلك منه، لم يجب إليه، وهذا الذي ذكره من الحِكم التي لا نبني على أمثالها مسائلنا.
وإذا ادعى على امرأة أنه تزوجها، وأقام شاهدين وتخلفت التزكية، عزلنا المرأة ومنعناها من الانتشار، وفي الشاهد الواحد الخلاف. وذكر بعض أصحابنا وجها أنا لا نعزلها إذا تخلفت التزكية بخلاف العبد؛ فإن الأصل في المرأة الحرية وتخلية السَّرْب. وهذا وجه ضعيف، والتمسك بالاحتياط للبُضع أولى.
قال الصيدلاني: إذا رأينا تخليتها، فهل نأخذ منها كفيلاً ببدنها؟ فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب. هكذا حكاه الصيدلاني.
فصل:
قال: "وإذا قال لعبده: إن قُتلتُ، فأنت حرٌّ... إلى آخره".
12204- إذا قال السيد لعبده: إن قُتلت فأنت حر، ثم قضى السيد نحبه، فشهد شاهدان أنه قُتل، وشهد شاهدان أنه مات حتف أنفه، فقد قال الشافعي: من جعل شاهدي القتل أولى، لأنها أثبتت زيادةَ علم-وهو قول أكثر المفتين- قال: عَتق العبد. ومن لم يجعل إحداهما أولى من الأخرى، قال: سقطت البينتان ولا عتق.
فذكر قولين:
أحدهما: ترجيح بينة القتل؛ من جهة اشتمالها على زيادة العلم؛ إذ كل قتيل ميت، وليس كل ميت قتيلاً، فعلى هذا يَعتِق العبد. والقول الثاني- أن البيّنتين تتعارضان وتسقطان، ولا عتق، إذا حكمنا بالتهاتُر، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فإحداهما تقتضي العتق. والأخرى تقتضي دوام الرق، فسيأتي أقوال استعمال البينتين.
ويخرج فيها قول القرعة بين البينتين، فإن خرجت عن بينة الموت رَقَّ العبد، وإن تكن الأخرى عَتق.
ومن أقوال الاستعمال الوقفُ، وهذا لا يخرج هاهنا؛ فإنه لا منتهى له، وهو في التحقيق ضبط العبد، وتعطيل منفعته. وأما قول القسمة، فموجبه إن سبق إليه ذو مذهب أن يعتق النصف ويرق النصف. وفي مثل هذا كلام سيأتي مشروحاً في كتاب الدعاوي إن شاء الله تعالى.
ومما ذكره الشافعي أنه لو قال لعبده سالم: "إن متُّ في شهر رمضان، فأنت حرّ" وقال لغانم: "إن مت في شوال، فأنت حرّ" ومات. وشهد لكل واحد شاهدان، فقد ذكر قولين:
أحدهما: شاهدا الموت في رمضان أولى؛ لأن عندهما زيادة علم، وهو إثبات الموت في رمضان.
والثاني: هما سواء. قال ابن سريج: بينة شوال أولى؛ لأنه قد يغمى عليه في رمضان، فيظن ظان أنه قد مات. فإن أمكن حمل الأمر على هذا، اقتضى ذلك ترجيحَ بينة شوال، ثم إن رجّحنا بينةً، قضينا بموجبها، ورددنا الأخرى، وإن حكمنا بتعارض البينتين وتساقطهما، فقد عتق أحد العبدين، وأشكل الأمر. ولو اتفق مثل ذلك، لم يخفَ الحكم في أن الرجوع إلى الورثة أم كيف السبيل فيه؟ وهو بمثابة ما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فسالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فغانم حرّ، ومر الطائر وأشكل الأمر، ومات المولى، وهذا مما تمهد في الطلاق. وغالب الظن أنه سيعود طرف منه في كتاب العتق إن شاء الله.
فصل:
12205- شهادة الحسبة مقبولة في حدود الله. إذ لا مدّعي لها من الآدميين، وليست متعلقة بحظوظهم الخاصة.
والمعني بشهادة الحسبة شهادةٌ من غير تقدم دعوى، والطلاق، والعتاق، وتحريم الرضاع يثبت بشهادة الحسبة، والوقف إن كان على جهة عامة يثبت بشهادة الحسبة، وإن كان على معيّنين، فإن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى- فالذي قطع به الصيدلاني أن شهادة الحسبة تقبل فيه من غير دعوى من الموقوف عليه، والذي ذهب إليه معظم الأصحاب خلاف ذلك؛ فإن الغالب على هذا الوقف حظوظٌ خاصة، متعلقة بأشخاص، فيبعد قبول شهادة الحسبة فيها.
وتقبل شهادة الحسبة في الخلع ليثبت الفراق، لا ليثبت المال، ولا نقول: يثبت المال تبعاً إذا لم يفرض فيه دعوى، ولا يثبت شراء الأب من غير دعوى، وإن كان عقَد عَتاقه، لأن المقصود منه التملك، ثم العتق يترتب عليه، هكذا ذكره القاضي، وفي القلب منه شيء، وليس يبعد أن نقول: يثبت بشهادة الحسبة.
والأوجه ما ذكره القاضي؛ فإن العوض رُكنٌ في المبيع، فلو أثبتناه، لأثبتنا العوض من غير دعوى، ولو أثبتنا العتق من غير مال، لكان إجحافاً، وليس كالخلع، فإن العوض غيرُ مقصود فيه، ولست أُبعد في الخلع ثبوتَ المال تبعاً، حتى لا يبطل حق الزوج بالكلية، ولا أبعد أن يثبت الطلاق ولا تثبت البينونة، كما لو خالع الرجل المحجورةَ بالسفه.
ولو تقدم عبدان إلى القاضي، وقالا: أعتق السيد أحدنا، وأقاما البينة، قبلت البينة، وذلك لأن الدعوى وإن فسدت بالتردد، فالبينة مسموعة حِسْبةً مستغنية عن الدعوى.
وإذا شهد شاهدان أن المرأة ولدت الولد على فراش زوجها لستة أشهر فصاعداً، والزوج يقول: أتت به لأقل من ستة أشهر، قال الصيدلاني: تقبل البينة-وإن لم تدّع المرأة شيئاً- حسبةً.
وذكر القاضي أن شهادة الحسبة لا تسمع في الأنساب، فإنها متعلقة بالحظوظ، وهذا يخالف ما ذكره الصيدلاني، والمسألة محتملة.
ويخرج من مجموع ما ذكرناه أن ما يضاف إلى حق الله، فشهادة الحسبة فيها سائغة. وأعلى الدرجات في الحسبة ألا يفرض فيها دعوى.
ومما يلتحق بها ماله تعلق بالحظوظ، ولكن حق الله غالب حتى لا يُدْرأ بالتراضي، كالعتق، وجهات التحريم، وهذه الأقسام من حيث ارتبطت بالحظوظ، اتجهت فيها الدعوى، والأنساب من حيث لا يتصور قطعها، وتأكَّد في الشرع تعظيمُها، ولكن عظمت الحظوظ فيها، فتردد الرأي كما ذكرنا.
فرع:
12206- إذا شهد للمدعي شاهدٌ على المدعى عليه أنه أخذ منه ثوباً قيمته دينار، وشهد شاهد آخر على أخذ ذلك الثوب، وقال قيمته نصف دينار، فإذا أراد المدعي أن يحلف مع شاهد الدينار، فهل يثبت الدينار؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: أنه يجوز له ذلك، كما لو شهد أحدهما أنه أخذ منه ديناراً، وشهد الثاني أنه أخذ منه نصف دينار، فله أن يحلف مع شاهد الدينار، ويطلبَه كاملاً.
وكذلك إذا اختلفا في القيمة، والثاني ليس له إلا نصف دينار؛ فإن الشاهدين قد اختلفا في القيمة واجتمعا على ثوب واحد، وتناقض قولاهما فضعفت شهادة شاهد الدينار، ولم تصلح لتقوية جنبة المدعي، وليس كذلك إذا شهد أحدهما على أخذ دينار وشهد الثاني على أخذ نصف دينار، فإنه لا تناقض بين القولين.
فرع:
12207- إذا شهد شاهدان في عتق أو مال، ولم يعدّلا بعدُ، فللقاضي أن يوقع حيلولة إلى اتفاق التعديل، هذا هو المذهب الظاهر. وفيه شيء بعيد، لم أورده في القانونَ.
ولو شهد شاهد واحد عَدْلٌ، ففي الوقف خلاف مشهور ذكرته؛ ولو كان ذلك الشاهد مستوراً، ففي الوقف خلاف مرتب، وغرض الفرع أنا إذا وقفنا، والشاهد واحد، فلا نطيل الوقف، ولكن إن أتى بشاهد في مدة ثلاثة أيام، فذاك، وإن لم يأت بالشاهد الثاني في هذه المدة، رفعنا الحيلولة، ودفعنا المشهودَ به إلى المدعى عليه.
فأما إذا شهد مستوران، وأوقعنا الحيلولة، فإنا نطيل الوقف، ولا نرفع الحيلولة، حتى تتحقق العدالة أو الجرح؛ فإن المدعي أتى بما عليه. والبحث على القاضي؛ فليس من الخصم تفريط؛ نعم على القاضي أن يجدّ ويستحث المزكي.
فرع:
12208- قال صاحب التقريب: لو اجتمع طائفة، فشهد اثنان منهم لاثنين منهم بوصية في تركة، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين بوصية في تلك التركة بعينها، قال الشافعي: لا تقبل شهادتهما، فإنهم متهمون.
قال صاحب التقريب: كذلك لو كان لرجل ديون على طائفة من الغرماء، ولقوم عليهم ديون أيضاً، فتناوبوا في الشهادة على الصورة التي ذكرناها، فالشهادة مردودة.
وعندي أن ما ذكره مشكل، والقياس القطع بقبول الشهادة، ومن أحكم الأصولَ، لم يخف عليه درك ما ذكرناه، ولم أر ما حكاه صاحب التقريب في شيء من الكتب.
فرع:
12209- قال صاحب التقريب: لا تقبل شهادة القسّام على القسمة، فإنه إنما يذكرها إذا انقضت. والقاسم بعد القسمة كالوكيل بعد العزل، وأيضاً فإن شهادته تتعلق بعين فعله، وليس كشهادة المرضعة؛ فإن المقصود منها وصول اللبن إلى الجوف، لا صدر فعل من جهة المرضعة.
فرع:
12210- الأب هل يحبس في دين ولده؟
ما صار إليه معظم أئمتنا أنه لا يحبس، وكذلك القول في الجد والجدة والأم؛ فإنه لا يتوجه للابن عقوبة على أبيه، والحبس عقوبة، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال أبو زيد المروزي: من أصحابنا من قال إنه يحبس في دين ولده، قال: وهو القياس عندي؛ فإن الحبس ليس عقوبة مقصودة في نفسها، وإنما هو توسل إلى استيفاء حقٍّ.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً- وهو اختيار صاحب التلخيص، فقال: الأب يحبس في نفقة ولده إذا امتنع من الإنفاق عليه، ولا يحبس في غيره من الديون.
ثم إذا قلنا: لا يحبس الأب، فلا سبيل إلى إبطال حق الولد، فمهما أثبت الابن لأبيه مالاً، أخذه القاضي قهراً، وصرفه إلى دين الابن.
ومما يداني ما نحن فيه، الاختلاف الذي قدمناه في أن العقوبة هل تثبت على الأب بشهادة الابن؟ واضطرب الأصحاب في أن الابن الجلاّد هل يقتل أباه حداً؟ والأصح أنه يقتله. والحبس من جملة ما ذكرناه أولى بالنفي. والله أعلم.