فصل: باب: الشرط في المهر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشرط في المهر:

8501- نقل المزني عن الشافعي مسألتين متشاكلتين في الصورة، وأجاب فيهما بجوابين مختلفين، ونحن ننقل لفظيهما. قال: قال الشافعي: "وإذا عقدَ النكاحَ بألف على أن لأبيها ألفاً، فالمهر فاسد؛ لأن الألفَ ليس بمهرٍ لها، ولا بحقٍّ له باشتراطه إياه.
ولو نكحَ امرأةً على ألف، وعلى أن يُعطي أباها ألفاً، كان جائزاً، ولها منعه وأخذها منه، لأنها هبةٌ لم تقبض، أو وكالة "
هذا لفظ السواد. وليس يخفى تشاكل المسألتين في التصوير. وجوابه في الأُولى: إنَّ المهرَ فاسدٌ. وجوابه في الثانية: إنَّ ذلك جائزٌ. وقد اختلف أصحابنا مذهباً، فنذكر اضطرابَهم في المذهبِ أولاً، ثم نرجع إلى (السواد).
فمن أصحابنا من قال: إذا عقد النكاح بألف على أنَّ لأبيها ألفاً، فالمهر فاسد، كما نَصَّ عليه. َ والمسألة مفروضة فيه إذا كان عقدُ النكاح على اللفظ الذي صورناه.
ولو قال: نكحتُها على ألفٍ، وعلى أن أُعطي أباها ألفاً، فالمهر فاسدٌ أيضاً؛ إذ لا فرق أن يقول: على أنَّ لأبيها ألفاً، وبين أن يقول: على أن أعطي أباها ألفاً.
فأما إذا قال: نكحتها على ألفين، على أنْ أُعطي أباها ألفاً، فهذا فيه نظر، فإنْ قال: ذلك بأمرها وإذنها، فلا يبعدُ تصحيحُ المهرِ. فكأنه أصدقَها مِقْداراً صحيحاً، وضم إليه التزام عملٍ لها، قريب المأخذ.
ثم هي-كما قال الشافعي-: واهبةٌ، أو واعدة، أو موكِّلة بالهبة، والنظر في ذلك مجتمِع غيرُ منتشر.
ولو شرط الزوجُ عليها أن تهب من أبيها ألفاً، فهذا فاسد مفسد؛ فإنه ملَّكَها وحَجَر عليها. ثم ما ذكره هذا القائل لا يختص بألف من ألفين يذكرهما، بل لو أصدقها ألفاً على أن تسلمه إلى أبيها على التأويل الذي ذكرناه، فالجواب كما ذكرناه.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان. وقد نقلهما المزني في مسألتين متشاكلتين، بين لفظيهما أدنى تفاوت، وقد مضت صورةُ المسألتين. فأحد القولين: إنَّ المهرَ يفسدُ، وتوجيهه بَيِّنٌ، فإنه شَرَطَ شيئاً في العِوض لغير المستحِق في العقد، فكان كما لو اشترى شيئاً وشَرَطَ شيئاً في معرض الثمن لغير البائع. والقول الثاني-وهو المنصوص عليه في القديم- إنَّ المهرَ يصحُّ، وتستحق المرأةُ الألفين. وهذا القائل يقول: ذَكَر الزوجُ الألفين في لفظين وأثبتهما لأجلها، وكانا حقَّها، وإن أضاف أحدَهما إلى أبيها. وهذا بعيد جداً لا اتجاه له في وجه من الرأي.
8502- فإذا ثبت ترتيب المذهب؛ فالذي ذكره المزني مشكلٌ في المسلكين. أما على الطريقة الأولى، فلا شك في اضطراب المسألة الثانية؛ فإنه لم يقل فيها: أصدقتك ألفين، بل أضاف إليها ألفاً، وأضاف الألف الآخر إلى أبيها. ولا فرق بين أن يضيفه بقوله: على أن أعطي أباها ألفاًً، وبين قوله: على أن لأبيها ألفاً.
والنصان أيضاً على الطريقة الثانية مضطربان؛ فإنه لم ينبه فيهما على القولين، وأعجب من ذلك كله أنه لم يتعرض للكلام على النصين، ولو استرسل في الاعتراض بخيال يتخيله على بعد.
وأما الطريقة الثالثة: طريقة القولين، فمسلك التصحيح على غاية البسط؛ لأن الزوج لا يضيف إلى أبيها ما يضيف إلاَّ تشبيهاً، وهذا يتضمن إثبات الألفين جميعاً لأجلها، فكان هذا بمثابة إضافة الألفين إليها. وهذا القياس يقتضي أن نُجري القولين في البيع لو تصور بالصورة التي ذكرناها في النكاح.
وسمعت شيخي يحاول تقرير المسألتين، ويتكلف الفرق بينهما، ويقول: لفظ العقد في المسألة الأولى: "أن يقول: نكحتها بألف على أنَّ لأبيها ألفاًً"، يتضمن تمليك الأب الألف في وضع العقد؛ فكان ذلك فاسداً. وإذا قال: أصدقتكِ ألفاً على أن أُعطي أباكِ ألفاًً، فمن حمل الإعطاء على التسليمْ، والملك في المعطَى للمرأة، فليس لفظ العقد تمليكَ الألف للأب.
وهذا تكلف لا نتحصل منه على طائل؛ فإنَّ الألف الثاني إذا لم يضف إليها، فقد تخبط اللفظ فيه، ثم " أُعطي " المقرون بـ " على " للتمليك، وستأتي-إن شاء الله تعالى- مسائلُ الخلع شاهدة على ذلك.
ولو قال: اشتريت منك هذا العبد على أن أعطيكَ ألفاًً، كان ذلك بمثابة ما لو قال: اشتريت منك هذا العبد بالألف.
فلا وجه عندنا إلا الجري على الطريقة الأولى، وحمل الخلل على النقل؛ فإنه على كل وجه مختل.
فصل:
قال: "ولو أصدقها ألفاًً على أنَّ لها أن تخرج، أو على ألاَّ يخرجها من بلدها... إلى آخره".
8503- قال الأئمة: الشرائطُ في النكاح قسمان: شرطٌ يقتضيه مُطلقُ العقدِ، وذلك أن يتزوجَها على أن يُنفقَ عليها، أو يَقْسمَ لها، أو ما أشبهَ ذلك، فالذي ذكره صحيح، والشرطُ متضمّنُ العقد.
فأما إذا كان الشرطُ بحيث لا يقتضيه العقد، فإنْ أثَّرَ في مقصودِ النكاحِ أثراً بيِّناً، أفسد النكاح، وذلك مثل أنْ يؤقِّت النكاح أو يشترطَ ألاَّ يطأها. وإن اشترط أن يطلقها؛ فالمذهب: فساد النكاح، لتأثير الشرط في مقصود العقد. وذكر بعضُ أصحابنا قولاً: أن الشرطَ يَفْسُد والنكاح يصح، وهذا غير مُعتدّ به.
فلو شرط شرطاً فاسداً لا يعظم أثرُه في مقصود النكاح، مثل أن يشترط ألاَّ يتزوج ولا يتسرى عليها، وأنها تخرج من الدار متى شاءت، وأنه لا يطلقها، فهذه الشرائط تفيدها فوائدَ، وهي فاسدة.
وقد تكون الشرائطُ عليها، مثل أن يشترطَ ألاَّ ينفق عليها ولا يَقْسم لها، ويجمعَ بينها وبين ضرَّاتها في مسكن واحد.
فهذه الشرائطُ لا تُفسد النكاح، ولكنها تُفسد الصداقَ، فإنَّ الصداقَ يَفسُدُ بما تفسد به أعواضُ العقودِ؛ من جهةِ أنَّ العِوضَ إذا لم يتجرّد، وانضمَّ إليه شرطٌ، صار عوضاً وشيئاً مجهولاً، ومساق ذلك يتضمن إفساد الصداق. ثم الفساد من جهةِ الجهالة يوجبُ الرجوعَ إلى مهر المثل، كما مهدناه.
8504- وقال محمد بنُ الحسن: إن زاد المسمى على مهر المثل وزادها بالشرط، لغا الشرطُ، وصحت التسمية، وإن نقص عن مهر المثل، وكان الشرطُ ينقُصُها؛ فيلغو الشرطُ وتصحُ التسمية أيضاًً. وإن زاد في المهر ونقص في الشرط، أو زاد في الشرط ونقص في المهر، فسدت التسمية؛ لأنه زاد في المهر زيادة هي في مقابلة الشرط، فجَعَل الباقي مجهولاً، وإذا نقص المهرُ وزاد في الشرط، جعل الشرط في مقابلة ما نقص من المهر، فصار المهرُ مجهولاً.
وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد عن مسلك الفقه، وكنا نَوَدُّ لو كان مذهباً لبعض الأصحاب، حتى كنا نقول: الشرط الزائد مع المهر الزائد أو المنطبق على قدر مهر المثل ليس يعكس جهالةً على المهر، ولكن المعتمد عند الأصحاب أن المشروطَ فاسدٌ مضمومٌ إلى الصداق، والعوض يفسد تارةً بما ينعكس عليه من الجهالة، وتارةً باقترانه بفاسد.
وهذا يتطرق إليه كلام- هو منتهى النظر في المسألة، وهو: أنَّ ما ذكره محمد من أنَّ المهر الزائد أو المنطبق على القدر، لا يصير مجهولاً بالشرط الزائد، فلو كان صحيحاً، لكان يجبُ أن يُقال: إنْ زاد المهرُ ونقصَ الشرط، فالرجوع إلى مهر المثل، وكذلك إن نقص المهرُ وزاد الشرط، أو زادا ونقصا، فسد المهرُ بالاقتران، ولكن لا يقطع القول بأن الرجوع إلى مهر المثل. ويجوز أن يقال: لو أثبت العوض دراهم وشرطاً، وذلك الشرطُ مجهولُ الأثر، وهما جميعاً مهر، فكان الرجوعُ إلى مهر المثل لذلك.
فهذا منتهى البحث، وقد ناقض محمد ما قاله في الصداقِ في البيع، فقال: لو باع ما يساوي ألفاًً بألفين وزقِّ خمر، وقبض المبيع، وتلف في يده؛ فإنه يغرم القيمة، وليس للبائعِ أن يقول: اطرحْ الزقَّ من ألفين ليصح العقدُ بالألفين.
فصل:
قال: "ولو أصدقها داراً، فاشترط له، أو لها، أو لهما الخيار... إلى آخره".
8505- نصّ الشافعي هاهنا على أن شرطَ الخيارِ يُفسدُ الصداقَ ولا يُفسدُ النكاحَ.
ونصَّ في القديم على أنَّ شرط الخيار في الصداق يُفسد النكاح.
فمن أصحابنا من حمل ما قاله في القديمِ على ما إذا شرط الخيار في النكاح نفسِه، حتى يثبت التخيير في رفعه على حكم الرؤية، فأما إذا خصَّص الصداق بالخيار، فلا يفسد النكاح، قولاً واحداً.
ومن أصحابنا من قال: إذا خصّص الصداق بالخيار، ففي المسألة قولان:
أحدهما: إنه يبطلُ النكاحُ به، كما لو شرط في النكاح.
والثاني: لا يبطل، كسائر الشروط الفاسدة في الصداق.
ثم إن قلنا: يبطل النكاحُ بشرط الخيار في الصداق، اختلف أصحابنا، فمنهم من عدّى هذا إلى كل شرطٍ فاسدٍ في الصداق، فطرد قولاً مثلَ مذهب مالك في النكاح يفسد بفساد الصداق، ولا خلاف أن النكاح لا يفسد بالتعرية عن العوض، ولا خلاف أن النكاح لا يرتد برد الصداقِ بالعيب.
ومن أصحابنا من خصَّص القولين بفساد الصداقِ بجهة الخيار، وفرّق بأن الخيار في صيغته، وإن خُصّ بالصداق يتضمن الارتباط بالعقد الذي الصداق عوضٌ فيه، وشَرْطُ الخيار في أحد العوضين في البيع يتعدى إلى العوض الثاني، فإن كان الخيارُ في وضعه قابلاً للتخصيص؛ إذ لو خصّ بأحد المتعاقدين، لاختصّ به، فمع هذا لم يختص بأحد العوضين.
8506- ووراء ما ذكرناه طريقة أخرى مبنية مناسبة، ذكرها الصيدلاني في كتاب البيع، وهو أنَّ شرط الخيار صحيح في الصداق وفي خيار المجلس في ذلك قولان ووجه خروج ذلك على القياس أن الصداقَ يتطرقُ إليه الردود والنكاحُ قائم بحاله.
8507- فإذا تمهَّد ما ذكرناه انتظمَ بعد ذلك الترتيبُ، فنقول: في صحة الخيار في الصداق قولان. ولا خلاف أنَّ الخيارَ في النكاحِ نفسِهِ يُفسده، فإن صحَّحنا الخيارَ في الصداق، فلا كلام، وأثر الرد والإجازة يختص بالصداق.
وإن أفسدنا الخيارَ في الصداق، فهل يفسد النكاحُ به؟ فعلى قولين أصحهما: إنه لا يفسد. وإن أفسدنا النكاح به، فهل يفسد النكاحُ بسائر وجوه فساد الصداق سوى الخيار؟ فعلى وجهين.
8508- ثم قال الشافعي: "ولو ضمن أبُ الزوجِ نفقتَهَا عشر سنين... إلى آخره".
فرض الشافعي المسألة في ضمان الأب، ولا اختصاص به، فلو فُرِض الضمانُ
على هذا الوجه من أجنبي، لكان كذلك.
وعرض المسألة أنَّ من ضمن النفقةَ في أيامٍ معدودة في الاستقبال وأعلَمَها، فهذا ضمان ما لم يجب بعدُ ووُجد سببُ وجوبه، وفيه الخلاف المعروف، والترتيب في الجديد والقديم، وقد ذكرناه في أول كتاب الضمان، وفي معناه إبراؤها عن نفقة أيام معدودة، ولسنا لإعادةِ تلك الفصول، وقد جرت على أكمل وجه في البيان في موضعها.

.باب: عفو المهر:

8509- وقد تقدم أنَّ الزوجَ إذا طلق امرأتَه قبل المسيس، وقد جرى مُسمًّى صحيح، فإنه يتشطر. والمعتمد في ذلك قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. وقد تكلموا في قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]؛ فإنها استحقت الجميع بالعقد، ثم عاد النصف بالطلاق، قيل: التقدير فنصف ما فرضتم لهن، ثم إذا اختص الاستحقاقُ في جانبها بالنصف، ارتدّ النصفُ الآخرُ إلى الزوج.
وقيل: المذكور النصف لكن بغرض التثنية على النصفين، والمعنى: فنصف ما فرضتم لكم والنصف لهن.
8510- ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أراد به الزوجاتِ يعفون عن المهر، فيخلص الكل للأزواج، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. وقد اختلف القولُ في الذي بيده عُقدة النكاح: فقال في القديم: هو الولي، وبه قال ابنُ عباس، ورجَّح الشافعي هذا القولَ في القديم من أوجه: أحدها: أنَّ قول ابنِ عباس مقدم في التفسير؛ لأنه ترجمان القرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم وهو يمسحُ رأسَهُ بيده-وكان إذ ذاكَ صبياً-: "اللهم فَقِّههُ في الدين، وعَلمهُ التأويل".
ومما ذَكَرهُ أنه تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فكان ذلك راجعاً إلى عفو يخلص به الصداق للزوج ليكون المعفوّ واحداً، وأيضاًً فإنَّ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فإنَّ ذِكْرَ الزوج جرى على صيغةِ المخاطبة، وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ} على صيغة المُغايبة، ولا يحسن عطفُ المغيابة على المخاطبة في حق شخص واحد.
والقول الثاني-وهو المنصوص عليه في الجديد- إنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وروى الشافعي هذا عن علي، وابنِ جريج، وابنِ المسيب، وغيرهم.
وأيضاًً فإنَّ الله تعالى ذَكَرَ خلوص الصداق له بعفوها، ثم عطف هذا عليه، فظهر أنَّ المرادَ عفوٌ يخلصُ به الصداق لها.
اشتملت الآية على ذكر الخلوص من الجانبين، وذكر التشطر والانقسام على الجانبين، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والأقرب للتقوى عفوُ الزوجِ، فأما عفوُ الأب عن حقِّ ضعيفةٍ، فلا يتَّصف بهذه الصفة. وقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} خطاب لهما.
8511- فهذا ذكرٌ للقولين على صيغة التردد في التفسير، وثمرتهما اختلافُ القول في أنَّ الولي هل يملك الإبراء عن صداقِ ولِيَّتِهِ؟ وفيه قولان: الجديد-إنه لا يَملك. وهو مذهب أبي حنيفة. ووجهه في القياس لائح؛ فإن الصداقَ مالٌ من أموالها، فلم يملك الأبُ إسقاطَه كسائرِ أموالِها.
والقول القديم: إنه يملك الإسقاط؛ لأنه أكسبها هذا المال في مقابلة البضع، ثم رجع البضعُ إليها، وهو على كمالٍ من الشفقة، ولا يُنكَر في جهات الاستصواب إسقاط المهر، فإذا صدر ممن كملت شفقته، كان محالاً على النظر.
التفريع:
8512- إنْ منعنا العفوَ، فلا كلام. وإنْ جوزناه، فنفوذه مشروط بخمسة أشياء، أحدها: أن يكونَ الولي أباً أو جَدَّاً؛ إذْ لا مُجبر غيرهما.
والثاني: أن يفرض العفوُ قبل الدخول؛ فإنَّ المهر إذا تأكد بالدخول، فقد تحقق فواتُ البضع، ولأجله استقر العوض. فإنْ كُنا نتلقى إسقاطَ المهرِ من حملِ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} على الولي، فالعفوُ واردٌ في شطرِ الصداق، إذا فُرض وقوع الطلاق قبل الدخول.
والشرط الثالث: أن يكون العفوُ بعد الطلاق، أو يقعُ الاختلاعُ به؛ والسبب فيه اختصاص الآية أولاً بما بعد الطلاق، ومعتمد هذا القول الاتباع، وأيضاًً فإنها تبقى في أسر النكاح، فلو سقط مهرُها وهي باقية في الزوجية، والزوج ربما يستمتع بها- فيفوت بضعها مجاناً.
والشرط الرابع- أن يكون الصداقُ دَيناً، فلو كانَ عيناً، لم يجز للولي هبته من الزوج. هذا ما صار إليه معظم أئمة المذهب، وتمسكوا بظاهر العفو؛ فإنه مُشعِرٌ بالإبراء، وأيضاًً فإنَّ الملكَ لا يستقر في الدين استقراره في العين. وكان شيخي أبو محمد يرى للولي على هذا القولِ هبةَ العين؛ اعتباراً بالإبراء عن الدين، وهو متجهٌ لا بأس به، وكان يُجَوِّزُ الاختلاعَ على عين الصداق؛ اعتباراً بالدين. والصحيحُ ما صار إليه الجماهير.
والشرط الخامس- أن تكون صغيرةً عاقلةً بحيث يُرْغَبُ في مثلها، فإن كانت مجنونةً، فحكمها حكم الصغيرة العاقلة، وقالت المراوزةُ: لا ينفذ الإبراء عن مهر المجنونة؛ لأنه لا يُرغب فيها، وكأنَّا إنما نُجوّز اختلاعَ الصغيرة بمهرها، والإبراءَ بعد الطلاق؛ حتى يُرغب فيها، وهذا المعنى مفقود في المجنونة التي لا يتشَوَّفُ الخُطَّابُ إليها.
8513- ولو كانت ثَيِّبا بالغةً، فلا شك أن الأب لا يبرىء عن مهرها.
وإنْ كانت بكراً بالغة-والتفريع على تنفيذ إبراء الولي- هل ينفذ إبراؤه عن مهر البكر العاقلة؟ فعلى قولين:
أحدهما: ينفذ، لملكه عُقدةَ النكاح؛ فإنه يملك إجبار البكر بالغة.
والثاني: لا ينفذ إبراؤه؛ فإنَّ الولاية إن كانت مستمرة على البضع، فلا ولايةَ للأب على مالها، وصداقُها من مالها.
وهذا يقرب مما قدمناه قبلُ من أن الأب هل يملك الانفراد بقبض مهر البكر البالغة السفيهة كالبكر الصغيرة، لثبوت الولايتين عليها؟
والصغيرةُ إذا ثابت بوطء شبهة، وإنما صورنا وطء الشبهة حتى لا يتقرر المهر بفرض المسيس من الزوج، فإذا ثابت الصغيرة تحت زوجها كما ذكرناه، فقد صارت إلى حالة لا يملك الأبُ تزويجَها فيها قهراً حتى تبلغ، فتأذن.
فقال أئمةُ المذهب: إذا كانت كذلك، لم يملك الولي إسقاطَ مهرها؛ فإنه لا يملك إجبارَها، وليس بيده عقدةُ نكاحها. وأبعدَ بعضُ أصحابنا بأن جوّز للأبِ أو الجدِّ العفوَ عند الطلاق أو بعده إذا كانت صغيرةً؛ نظراً إلى نفاذ ولايته في مالها، وهذا ضعيف، غيرُ معدود من المذهب؛ فإن ولايةَ المالِ لا تسلِّط على العفو والإسقاط، وإنما المتبع ما يُشعر به ظاهرُ القرآن، وهو يشير إلى ملك عقدة النكاح، والثيب الصغيرة في حق الأب بمثابة الثيب البالغة في التزويج.
فصل:
قال: "وأي الزوجين عفا عما في يده، فله الرجوع... إلى آخره".
8514- هذا الفصل وفصول بعده تشتمل على مُكرَّرات، ونحن نوفّر لها جهدَنا والتنبيهَ عليها من غير بسط.
وهذا الفصل مفروض في وقوع الطلاق قبل المسيس وتشطّرِ الصداق، ثم إذا تشطر الصداق، عيناً كان أو ديناً، يترتب عليه حكم الهبة والإبراء، فإن كان عيناً فالنصف له والنصف لها، فإن وهبت ما هو لها من زوجها، لم يخف تفريعُ الهبات، فإن كان في يدها سلَّمَته، وإن كان في يده، نُفرّع فيه ما إذا وهب مالكُ الوديعة من المودَع، وعاد التفصيل وإعادة القبض، وفيه اختلافُ قولٍ وتفصيلٌ طويلٌ تقصَّيناه في موضعه.
وإن وهب الزوجُ ما ارتدّ إليه منها، فالأمر كذلك.
وإن كان الصداقُ ديناً وسقط شطرُه، وبقي لها الشطرُ فأبرأت، فلا يخفى حكم الإبراء، والظاهر أنه لا يفتقر إلى القبول وفيه وجه بعيد ذكرناه.
8515- والذي نذكره في هذا الفصل أنَّ الهبةَ مستعملة في الأعيان، ولفظ الإبراء لا يستعمل في تمليك الأعيان، والعفو مختلف فيه، فالذي ذكره معظم المحققين: أن الهبة في الأعيان لا تصح بلفظ العفو؛ فإنه في معنى الإبراء.
وذكر القاضي أن العفو يجوز استعماله في الهبة، وظاهر قوله فيما نقل عنه يدل على أن استعمال العفو في الهبة يختص بالصداق فيما يدور بين الزوج والزوجة، أو يصدرُ من الولي، على أحد القولين، فاستدلّ في هذا بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فذكر الله تعالى لفظ العفو مع انقسام الصداق إلى العين والدين، والألفاظ قد يأخذ بها صاحبُ المذهب من الشرع، وعليه بناء صرائح الطلاق.
وهذا الذي ذكره لم يرتضه غيره، وقالوا: ليس المرادُ بذكر العفو في القرآن التنبيه على اللفظ الذي يستعمله الزوجان، وإنما المراد أنْ يتركَ كلُّ واحد منهما حقَّه، ثم طريق الترك فيه موكول إلى بيان الشرع. ثم لو صح ما ذكره في الصداق، للزم طرده في سائر الهبات.
8516- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا لم نر الإبراء والعفو من ألفاظ الهبات في الأعيان، فهل يلتحقان بالكنايات؟
وقد قدمنا تفصيلاً في أنَّ عقودَ التمليك هل تنعقدُ بالكنايات إذا كانت مفتقرة إلى الإيجاب والقبول؟
قال شيخي: الإبراء ليس كنايةً أيضاًً في هبة الأعيان، فإنه لا يتضمن تمليك الغير، وإنما معناه إسقاط المُبرِىء في حقَّ نفسه، وعماد الهبة تمليك المتّهب، وهذا متجه حسنٌ، لا يجوز غيره، وفي كلام القاضي ما يدل عليه أيضاًً.
وإذا كان الصداق ديناً، فاستعمل الإبراءَ، فهل يشترط القبول في الإبراء؟ وهل يشترط القبول إذا جرى الإبراءُ بلفظ الهبة؟ ففي المسألة وجهان. وهذا منتهى المراد في هذا الفصل.
فصل:
قال: "ولو وهبت له صداقَهَا، ثم طلقها قبل أن يمسّها ففيها قولان... إلى آخره".
8517- إذا أصدقَ الرجلُ امرأته عيناً من الأعيان وسلّمها، ثم إنها وهبت عين الصداق من الزوج، وسلّمته إليه، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، والصداق قد عاد إليه بهبتها، فهل يرجع عليها بنصف قيمة الصداق؟ فعلى قولين منصوصين:
أحدهما: يرجع عليها؛ لأن الصداق عاد إليه بتمليكٍ منها، فصار كما لو باعته منه ثم طلقها.
والثاني: لا يرجع عليها؛ لأنها عجّلت ما كان يستحقه عليها مؤجَّلاً بالطلاق، والمستحَق في المال إذا عُجّل، لم يبعد وقوعه الموقعَ عند دخول وقت الاستحقاق، كالزكاة إذا عُجّلت.
والأقْيس القول الأول؛ فإن العَوْد إلى الزوج، لم يكن عن جهة تعجيل حق الزوج في الشطر.
ولو قدمت إليه الصداق زاعمة أنَّ نصفَه هبةٌ ونصفَه تعجُّلٌ لما يجب للزوج عند الطلاق، فلا يصح من الزوج التصرف في الشطر المعجل، ولا يصح التمليك فيه؛ فإنه على الحقيقة تعليق تمليك بما سيكون، ولا يقبل التمليكُ التعليقَ على أمرٍ منتظر.
وإذا رجع الصداقُ إلى الزوج ببيعِ محاباة، فإنه يرجع عليها بنصف قيمة الصداق عند الطلاق؛ فإنّ المحاباة في معنى الهبة، في كونها تبرعاً، على ما كان يذكره شيخنا، ولم أرَ في الطرق ما يخالفه؛ والسبب فيه أنا وإن كنا نعد بيع المحاباة من التبرعات، فالمبيع مقابَلٌ بالثمن وإن قلّ، وإذا كان مقابلاً به، استحال انصرافه إلى جهة استحقاق الزوج شطر الصداق عند الطلاق.
8518- ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين لا يختصان بالطلاق، بل إذا وهبت الصداق، ثم جرى ما يوجب ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، كالردة، ففي رجوع الزوج عليها بتمام القيمة القولان.
فلو باع رجلٌ عبداً بجارية، ثم وهب قابضُ الجاريةِ الجاريةَ من قابض العبد، ثم اطلع قابض العبد على عيب قديم به، فردَّه، فهل يرجع على بائع العبد بقيمة الجارية؟ فعلى القولين، والمسائل متناظرة في جريان القولين فيها.
ثم رأيت في مرامز كلام الأصحاب تردداً لطيفاً في أنَّا إذا قلنا: لا يملك رادّ العبد الرجوعَ بقيمة الجارية، فهل يملك رده؟ وإن ردّ، فهل ينفذ ردُّه أم لا؟ وهذا محتمل حسن، وهذا من جهة أن الغرض من الرد استرداد العوض، فإذا لم يثبت له حقُ الاسترداد، ففي رده بُعْدٌ، وليس هذا كالطلاق؛ فإنه لا مرد له، والفسوخ التي أُثبتت في النكاح ليس مقصودُها استردادَ الصداق، فما ذكرناه من التردد في الرد بالعيب في المبيع.
8519- وما ذكرناه فيه إذا كان الصداق عيناً، أما إذا كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فهل يرجع عليها بنصف الصداق؟
في المسألة طريقان: من أئمتنا من جعل فيها قولين كما في العين، ومنهم من منع الرجوع عليها عند الطلاق قولاً واحداً، وفرَّق بين العين والدين بأنها إذا أبرأت، لم تستوف الصداق، ولم يستقر ملكها فيه، بل أسقطته، وفي العين استقر ملكها. وكان شيخنا يقرب الطريقين في القطع وطرد القولين من اختلاف الأصحاب في أنَّ الإبراء: هل يفتقر إلى القبول أم لا؟
ولو كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها بلفظ الهبة، وحكمنا بأنه يفتقر إلى القبول، فهذا مرتب على الإبراء. والفرق اقتضاء الهبةِ التمليكَ، فكأنها ملّكت زوجها ما عليه.
فإنْ قيل، كيف سبيل الهبة في الدين، وركن الهبة القبض وأين القبض في الديون؟ قلنا: إذا وهب مستحقُّ الدين الدينَ ممن عليه، فلا حاجة إلى تقدير القبض في هذه الحالة، ونحن قد نُبرم هبات من طريق آخر، كتقديرٍ من غير إجراء قبضٍ حسي، وكما أن القبض ركن التمليك في الهبة، فإنه يتعلق به حكم نقل الضمان، ثم إذا كان لرجل على رجل دين، فاعتاض عنه عيناً، فحكم الدين أن يسقط، ويكون كالعوض المقبوض المتلف في يد مستحقه.
ولو أصدق الرجل امرأته ديناً، ثم نقد ووفّى، فلما قبضت وهبت من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي هذه المسألة طريقان على العكس: إحداهما- القطع بأن الزوج يرجع عليها. والأخرى- طرد القولين.
8520- فيترتب مما ذكرناه ثلاثة أحوال: إحداها- فيه إذا كان الصداق عيناً، فجرت الهبة، ثم الطلاق، وفيها القولان.
والثانية- أن يكون الصداق ديناً، فتبرىءَ عنه، ثم يجري الطلاق قبل المسيس، وفيها طريقان، إحداهما- القطع بأنه لا رجوع عليها.
والحالة الثالثة- أن يكون الصداق ديناً، فيوفرَه الزوج، ثم إنها تهب ما تقبض، ففي المسألة طريقان:
أحدهما: القطع بأنه يرجع عليها إذا طلقها.
ثم إذا كان الصداق في الذمة، ففُرض النقدُ، والهبة، والطلاق؛ فلا فرق بين أن يكون من ذوات الأمثال، وبين أن يكون من ذوات القيم. هذا كله إذا عاد جميع الصداق إلى يد الزوج، ثم فرض الطلاق قبل المسيس.
8521- فأما إذا أصدقها عيناً وسلّم إليها، ثم إنها وهبت نصف ذلك الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، فهذا يترتب على ما إذا عاد جميعُ الصداق إليه، ثم طلقها:
فإنْ قلنا: إذا رجع الجميع إليه، فإنه يرجع عليها بنصف القيمة إذا طلقها، فهاهنا نُثبت له حقَّ الرجوع في النصف لا محالة.
ثم في كيفية الرجوع أقوال: أحدها: إن حق الزوج ينحصر في النصف الباقي في يدها، ويتعين الموهوب من حقها، وهذا كما قال الشافعي في الزكاة: إذا أصدقها أربعين شاة، وأخذ الساعي منها واحدة، ثم طلقها قبل المسيس، رجع عليها بمقدار عشرين شاة مما بقيت في يدها، ويتعين ما أخرجته من حقها. وكما قال في التفليس: إذا اشترى عبدين بمائتين، وقضى مائةً، وتلف أحد العبدين، ثم فُلّس، وكانت قيمتاهما متساويتين، فإذا رجع البائع، انحصر حقه في العبد القائم، وهذا القول يعرف بقول الحصر.
والقول الثاني- إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الجملة، فيشيع ما أخرجته وما أثبتته فيحصل للزوج مقدار النصف عيناً وقيمةً. و هذا القول يُشْهر بقول الشيوع.
والقول الثالث: إنه بالخيار بين ما ذكرناه في القول الثاني، وبين أن يرجع في نصف العين كلها.
وقد نصَّ الشافعي على القولين الآخرين في مسألةٍ في الصداق، وهي إذا أصدقها إناءين، فكسرت أحدَهما، ثم طلقها، نص على قولين:
أحدهما: إنه يرجع في نصف الإناء الصحيح ونصف قيمة المنكسر، والثاني: إنه بالخيار بين هذا وبين أن يرجع في نصف قيمة الإناءين. والقولان المذكوران في مسألة الإناءين إذا انكسر أحدهما يمكن بناؤهما على تفريق الصفقة في الرد بالعيب إذا اشتملت الصفقة على عينين، ثم اطلع على عيب بأحدهما. ثم الأقوال الثلاثة تجري في مسألة إصداق أربعين شاة، وفي كل ما يناظر ذلك. وفي المسألة بحث سنذكره عند نجاز المنقول.
8522- قال الأئمة: لو وهبت المرأةُ النصفَ من أجنبي، ثم طلقها الزوج قبل المسيس؛ فإنه يرجع في النصف، ثم في كيفية التوزيع والحصر والشيوع والتخيير الأقوال الثلاثة.
8523- وكل ما ذكرناه تفريع على قولنا: جميع الصداق إذا عاد إليه، ثم طلقها، فإنه يرجع عليها بالنصف.
فأما إذا قلنا: لو رجع جميع الصداق إلى الزوج من جهتها، لم يرجع عليها عند الطلاق بشيء، فإذا وهبت منه النصف، ثم طلقها، ففي المسألة جوابان على الحصر والشيوع: أحدهما- إنه لا يرجع، فكأنها عجلت يوم الهبة جميع ما كان يستحقه يوم الطلاق.
والوجه الثاني- إنه يملك الرجوع، ثم في قدر ما يرجع فيه جوابان:
أحدهما: إنه يرجع في نصف ما بقي في يديها، وهو ربع الجملة، ونجعل الفائت بالهبة من الحقين النصف من حقه والنصفُ من حقها، وكأنها عجلت نصف ما كان يستحق عليها؛ لأن الحق شائع. وهذا اختيار المزني.
والثاني: إنه يرجع في تمام النصف، ويتعين حقها فيما وهبت، فتحصَّل أجوبةٌ: أحدها: إنه لا يرجع بشيء، وما قبضه من النصف هبة محسوب عليه.
والثاني: إنه يرجع بنصف الباقي فحسب، وهذا على الإشاعة.
والثالث: إنه يرجع بتمام النصف، وهذا على الحصر.
وتحقيق ذلك: أنَّا في قولٍ نحصر حق الزوج فيما قبض، وفي قولٍ نحصر حقها فيما وهبت، وفي قول نُشيع، فاستكمال الحصر من وجهين يقتضي جوابين:
أحدهما: إنه لا يرجع بشيء، والثاني: إنه يرجع بتمام حقه، والإشاعة توجب التبعيض لا محالة.
ثم إذا قلنا إنه يرجع بتمام حقه، ففي كيفية الرجوع الأقوال الثلاثة التي قدمناها:
أحدها: إنه يرجع في النصف الباقي.
والثاني: إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الكل. والثالث: إنه يتخيّر.
هكذا ذكر الأصحاب.
وهذا فيه وهمٌ؛ من جهة أنَّا نفرّع على منع الرجوع لو وهبت الكل، وعلى هذا إذا وهبت النصف، لم ينقدح الرجوع بتمام الحق عند الطلاق إلا على الحصر، وقول الحصر يوجب حصرَ حقه فيما بقي، فإعادة الأقوال الثلاثة لا معنى له.
هذا ما ذكره الأئمة نقلناه على وجهه.
8524- ونحن نقول بعد ذلك: إذا وهبت المرأة جميع الصداق من الزوج، ثم طلقها، فقد مضى أصل القولين فيه.
فإذا وهبت النصف، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال، وكلها بينة، فإن حصرنا حق الزوج فيما بقي، فلا كلام، وإن أثبتنا له الرجوع إلى نصف ما بقي وإلى ربع قيمة الكل، فإنَّ أكثر أصحابنا لم يذكروا على هذا القول تخيراً، وإن تبعض الحق عليه، وذكروا التخير في القول الثالث.
وهذا فيه غموض؛ من جهة أن التبعيض يُثبت الخيار في أمثال هذه المسائل؛ فكان يجب أن نقطع بالخيار، وهذا فيه وقفة على الناظر؛ من قِبَل أنَّا قطعنا بإثبات الخيار، ففي المسألة قولان إذاً:
أحدهما: إنه ينحصر حقه في النصف الباقي، فيخلص له العبد هبة ورجوعاً، والثاني: إنه بالخيار، إن شاء، رجع إلى نصف ما بقي، وإلى ربع قيمة الكل، وإن شاء، رجع إلى نصف قيمة الكل. وإن أثبتنا التبعيض بلا خيار، كان ذلك مناقضاً لأصلٍ بَيِّنٍ في المعاملات، وهو: أن التبعيض عيب.
8524/م- وإذا طلق الرج امرأته، فصادف الصداق معيباً في يدها بعيب حادث
قبل الطلاق، فللزوج الخيار، إن شاء، رضي بشطر الصداق معيباً، وإن شاء، رجع
بنصف القيمة سليماً. فإذا كان التبعيض عيباً، وحُكم العيب في الصداق تخيير
الزوج، فرفْعُ التخيير بعيدٌ جداً فإن قال قائل: مبنى الصداق على التبعيض إذا فرض الطلاق، واحتمل ذلك على قول من الأقوال، لم يكن لهذا الكلام تحصيل؛ فإن الطلاق يقتضي التشطير، وهذا تربيعٌ. وإذا قلّ الجزء، قلّت القيمة على قدره، فإذا كانت الجملة تساوي ألفين وكان نصفها عند فرض الإفراد يساوي أربعمائة، فالربع قد يساوي مائة وخمسين؛ فإن الرغبة في الجزء الكثير أكثر من الرغبة في الجزء القليل.
فإن قال قائل: إذا رجع النصف إلى الزوج بالهبة، ثم فرض الرجوع في ربع آخر إليه، فلا تبعيض في حقه. قيل: هذا أيضاًً لا حاصل له، من قِبَل أن الهبة غيرُ محسوبةٍ عليه، فينبغي أن يكون النظر محصوراً على هذا النصف الآخر، وقد تحقق التبعيض فيه، كما ذكرناه. فهذا منتهى البحث سؤالاً وجواباً.
8525-/والحق المستقيم على القياس: ردُّ الخلاف إلى قولين، ووجه قول من لا يُثبت الخيار-على بعده- أن التبرع على قول الإشاعة مَلَّك الزوجَ ربعَ العين وربعَ القيمة، مع أن في يدها النصف الكامل، و إذا ملَّك الشرعُ الزوجَ المُطَلّق شيئاً، فإثباتُ الخيارِ-مع أن الشرعَ ملّكه كذلك- بعيدٌ. فإذاً؛ وجه نفي الخيار أن الإشاعة تقتضي التمليك على هذا الوجه، ولا خيار فيما اقتضاه الشرع. هذا هو الممكن، والوجه ما قدمناه. فهذه مباحثة في هذه الطرق.
8526- مباحثة أخرى: إذا طلق الرجلُ امرأته، وصادف الصداقَ معيباً في يدها، فقد ذكرنا أنه إن أراد، رجع بنصف القيمة، وكذلك لو تلف الصداقُ في يدها ثم طلقها.
وهذا كلام أطلقه الفقهاء وتساهلوا في إطلاقه، والغرض منه يبين بسؤال.
فإن قال قائل: يرجع الزوج بنصف قيمة الكل، أو بقيمة نصف الكل، وبينهما تفاوت؟ قلنا: يرجع بقيمة نصف الكل؛ فإنه لم يفته إلاَّ نصف الكل، وهذا مما يجب إجراؤه في المسألة التي نحن فيها؛ فإنا أطلقنا ربع قيمة الكل، والمراد قيمة ربع الكل.
8527- ومن المباحثات في المسألة: التعرض لانكسار أحد الإناءين، وفي معناه: لو أصدقها عبدين، فعاب أحدهما، وقد حكينا قولين:
أحدهما: إن الزوج يرجع بنصف الإناء الصحيح، ونصف قيمة المنكسر، والثاني: إنه يتخير بين ما ذكرناه، وبين الرجوع بنصف قيمة الإناءين. وقد ذكرنا أن هذا يخرج على تفريق الصفقة في الرد بالعيب.
وتصوير ذلك في التفريق: أن من اشترى عبدين، فوجد بأحدهما عيباً، فأراد ردّ المعيب منهما وإمساكَ الصحيح، ففيه قولان، وإن أراد، ردَّهما، كما تقرر هذا في كتاب البيع.
وهذا فيه نظر؛ فإنَّا في مسألة الإناءين ألزمناه-في أحد القولين- الرجوعَ إلى نصف الصحيح ونصف قيمة المنكسر، وفي القول الثاني خيرناه، فكيف ينطبق هذا الذي ذكرناه على ما جئنا به مثلاً في شراء العبدين، مع الاطلاع على عيب بأحدهما؟ وصورة القولين ثَمَّ: أنه يرد المعيب في قولٍ، ولا يرده وحده في قول؛ بل يردهما ويسترد الثمن، ثم على هذا القول طريق استدراكه للظُّلامة، ردُّ الصحيح والمعيب. فإن لم يرد ذلك، فليقنع بالمعيب، وليمسكه مع الصحيح.
ونظير هذا من الصداق لو قلنا: طريق استدراكه أن يرد الإناءين ويطالبها بقيمة نصفهما، فإن أبى ذلك، فليقنع بنصف الإناء المنكسر مع نصف الإناء الصحيح، وليس الأمر كذلك؛ فإنَّا نقول في مسألة الإناءين في أحد القولين: يتعين إمساك نصف الصحيح، وطلب نصف قيمة المنكسر، وهذا في التحقيق إلزام التبعيض إذا أراد الاستدراك.
وفي القول الثاني- نخيّره بين التبعيض-وهو الأصل- وبين ردهما. وكان الأصل في البيع ردّهما. وإذا جوّزنا التبعيض، فهو دخيل، والأصل هاهنا التبعيض، وإذا أراد ردهما، فهو دخيل.
8528- ولن يحيط الناظر بحقيقة هذا ما لم يفهم فرقاً كلياً بين القاعدتين، وهو أن البيع مفسوخ بالرد، وهو متَّحد لا يتعدد بتعدد المعقود، فبعُد عند بعض العلماء إيراد الفسخ على بعضه، فينشأ منه منع التفريق. وأما رجوع الصداق إلى الزوج، فليس في حكم عقد يعقد، ولكنه رجوع قهري شرعي، غير أنا قد لا نرد إليه ما في رده إليه إضرار به، وينتظم من هذا أن استمساكه بنصف الصحيح على القاعدة؛ فإنه لا ضرار فيه. بقي طريقٌ للاستدراك في نصف المنكسر، فله الرجوع إلى نصف قيمته، فهذا بَتٌّ لا كلام فيه، فإن أراد رد الصحيح مع المنكسر، فهذا خروج منه عن قاعدة الصداق؛ فإنَّ من اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً؛ فإنه يردهما باتحاد العقد، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا.
فقال قائلون: لا سبيل إلى ردهما في الصداق؛ لافتراق الأصلين، وتباعد القاعدتين، ونظر ناظرون نظراً ظاهراً من غير بحث عن تباعد القاعدتين، وقالوا: يملك الزوج ردهما. ولم يترك هذا القائل التمسك بجواز التبعيض، وكذا وقع لهذا الإنسان هذا، من حيث ظن أنَّ إفراد العين مشابه للعيب، وأن المشتري إنما يرد العبدين لذلك. ثم قد وجد في الصداق الردّ بالعيب مع إمكان دفع الضرر دونه؛ فإنَّ الزوج إذا صادف الصداق معيباً في يدها، رجع إلى نصف القيمة، ولو قالت: أجبرُ النقصَ لم يُبالَ بها. وهذا وهم؛ فإنَّ تميّز أحد العبدين عن الثاني ليس عيباً، وإنما سببه ما ذكرناه من اتحاد العقد.
بان تحقيق القول في الأصلين، وانتظم منه أنَّا في البيع نقول في قول: يجمع ولا يُفرِّق. وفي قول: إن شاء فرَّق وإن شاء جمع. فإن أراد الزوج ألا يستدرك الظلامة، استمسك بنصف الصحيح ونصف المنكسر. وتلك المناقشات فيه إذا كان يبغي استدراك الظلامة.
فهذا تمام المباحثة في الانعطاف على أطراف الكلام في المسألة. وقد انتظم قبلها النقلُ على وجهه.
فصل:
قال الشافعي: "ولو خالعته بشيء مما عليه من المهر، فما بقي، فعليه نصفه... إلى آخره".
8529- أورده المزني من الخلع، وغرضه إنما هو الاستشهاد بنص الشافعي على ما يدل على قول الشيوع؛ فإنا لما ذكرنا الهبة في بعض الصداق، أجرينا نصوصاً للشافعي دالَّةً على الحصر، فاختار المزني قولَ الشيوع- وهو الأصح والأَقْيَسُ.
وتمسك بنص الشافعي في المسألة التي سنذكرها وهي قليلة النَّزَل، ومدارها على أصول سابقة، ومن معه رشد من الفقه يُخرّج المسألة، ونحن نذكرها ولا نغادر شيئاً منها، فنحرص على الاختصار جُهدنا.
8530- فنقول: إذا اختلعت المرأة نفسها من زوجها نُظر: فإن كان بعد الدخول، فلا يخلو، إما أن كان إلى غير جنس الصداق، أو على جنس الصداق، فإن كان على غير جنس الصداق، مَلَك الزوج عليها العوض، ثم الخلع مفروض قبل المسيس، فيتشطر الصداق، فله عليها عوض الخلع، ولها عليه نصف الصداق.
فإن خالعها على ما هو جنس الصداق، صح الخلع؛ فإنه لم يورده على الصداق. ثم يتشطر الصداق إن كان الخلع قبل المسيس، ويجب المسمى بكماله إن كان بعد المسيس. ثم تجري أقوالٌ في التقاصّ في قدر التساوي على ما ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
8531- وإن خلعت نفسها بصداقها، وكانت مدخولاً بها، صح الخلع، وبرىء الزوج عن الصداق الذي كان استقر عليه بالمسيس.
وإن خلعت نفسها قبل المسيس بالصداق، لم تخل إمَّا أن تخلع بتمام المسمى، وإما أن تختلع بنصف المسمى، فإن اختلعت بتمام المسمى قبل الدخول، فحكم الخلع تشطير الصداق. فإذا كان الصداق ألفاًً، وقد جرى منها الاختلاع عليه، فنصف العوض المذكور حقُّ الزوج. فالعوض متبعِّض إذاً، بعضه مستحَق، وبعضه ثابت على ما تقتضيه المعاملة.
فيخرج في هذا المقام قَوْلا تفريق الصفقة: فإن أفسدنا الصداق بالتفريق، جرى القولان في أن الصداق إذا فسد؛ فالرجوع إلى مهر المثل، أو إلى بدل العوض المسمى، فإن قلنا: الرجوع إلى مهر المثل، فالزوج يستحق عليها مهرَ مثلها، وقد سقط نصف المسمى، وهي تستحق نصفَ المسمى، فإن تجانسَ المالان، جرى أقوال التقاصّ.
وإن رجعنا عند فساد المسمى إلى بدله، فالمسمى دراهم، وبدلها دراهم؛ فإنها من ذوات الأمثال؛ فيستحق الزوج عليها ألفَ درهم، وهي تستحق على زوجها خمسمائة، ولا يخفى التقاصّ، هذا إذا فرعنا على أن التفريق مفسدٌ.
فأما إذا قلنا: التفريق لا يُفسد، فيصح نصف المسمى، وهو نصيبها من المهر.
ويجري الآن القول في أن للزوج الخيار، فإن فسخ، عاد القولان إلى أن الرجوع إلى مهر المثل، أو إلى مثل جميع المسمى؟ ففي قولٍ يستحق عليها مهرَ مثلها، وفي قولٍ يستحق عليها مثلَ ما سمى، وهو ألف درهم. وإن اختار الإجازة، جرى الخلاف في أنه يجبُر بالكل أو بقسطٍ، فإن قلنا: إنه يجبر بالكل، فيجبر الخلع بمقدار حصتها من المهر، وهو خمسمائة، فيسقط الشطر بالتشطير، ويسقط الباقي بالعوضية. وإن قلنا: يجبر بالقسط؛ فيرجع فيما هو مستحق بنصف مهر المثل، أو بنصف البدل، والبدل مثلٌ؟ فعلى القولين.
ولا يخفى أن ما ذكرناه من الخيار فيه إذا كان الزوج جاهلاً بحقيقة الحال في الشطر والتفرق.
هذا كله إذا كان الصداق ألفاًً فاختلعت نفسها بالألف الذي هو صداق. ولو اختلعت نفسها بألف مطلَقٍ، فلا يكون صداقاً، ويصح الخلع، واستحق الزوج عليها الألف، وهي تستحق الخمسمائة.
8532- ولو أنها اختلعت نفسها عن زوجها بنصف مهرها-وهو خمسمائة- وهي غير ممسوسة، فهذا يصوّر على أوجه: أحدها: أن تقول: اختلعت نفسي بالخمسمائة التي تبقى لي، فإذا قالت ذلك، صح الخلع بتنصيصها على تخصيص المقدار الخالص لها، ثم لا يخفى أن موجب ذلك سقوط جميع المهر، النصف منه بحكم التشطر، والنصف بحكم المعاوضة.
والصورة الثانية- أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة شائعة من مهري، وصرَّحَت بما ينافي الاختصاص، فهذا تفريق؛ فإن النصف مما ذكرته مستحَق للزوج، والنصف لها، فيعود التفريع كما مضى، ولكن تختلف الأقدار. أما النصف من الألف، فيسقط بحكم التشطر، ويقع الكلام في النصف الثاني.
فإن أفسدنا العوض بالتفريق فيرجع الزوج-في قولٍ- إلى تمام مهر مثلها، وفي قول إلى خمسمائة. وإن لم نُفسد واختار الزوج الفسخ، فالجواب كذلك. فإن اختار الإجازة وقلنا: يجبر بالتمام، كان بدل الخلع مائتين وخمسين، والحكم أن الزوج يبرأ عن سبعمائة وخمسين بحكم التشطير والعوض ويبقى لها بقية المهر. وإن قلنا يجبر بالبعض، ففيما يرجع به قولان:
أحدهما: إنه يرجع بنصف مهر المثل، فله عليها نصفُ مهرها، ويسقط من مهرها سبعمائة وخمسون، ولها عليه مائتان وخمسون.
الصورة الثالثة- أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة من المهر، ولم تصرح بالإشاعة ولا بما يختص بها، ولكنها أطلقت الاختلاع كذلك، فنقدم عليه تجديد العهد بما إذا قال الشريك في الدار بالنصف: بعت نصفي، فإن قال ذلك، صح، وإن قال: بعت النصف من هذه الدار. فمن أصحابنا من حمل ذلك على ملكه، ومنهم من حمله على الإشاعة، فمن حمل على النصف الذي له صحح، وإن حمل على الإشاعة؛ فإن النصف مما باعه له، والنصف لشريكه، فتتفرق الصفقة.
نعود إلى مسألتنا، ونقول: إذا اختلعت المرأة بخمسمائة على الإطلاق؛ فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خَرَّجَ هذا على بيع نصف الدار مطلقاً ممن يملك نصفها، ففي وجه نقول: اختلاعها بالخمسمائة محمول على اختلاعها بحقها الخالص، وهذا يلتفت على الحصر. وفي وجه نقول: اختلاعها واقع بحقها وحق الزوج. ثم تسترسل التفاريع على قوانينها. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الخمسمائة محمولة على الإشاعة، والفرق بين هذه الصورة وبين بيع نصف الدار أن من يبيع نصفَ الدار مالكٌ لنصفها دون غيره، يُحمَلُ تصرفُه على ما يملك. وإذا اختلعت بالخمسمائة في مسألتنا، فقد أنشأت الاختلاع والمهر غير متشطر، وإنما يقع التشطر مع اختلاعها، فهذا موجَب القطع بالحمل على الإشاعة.
وقد يرد على ذلك أنها إذا خصصت بما يبقي لها، فهذا تعليق بما سيبقى إذاً، فهذا منتهى الكلام في هذا.
8533- ثم تعلق المزني بنص الشافعي في الحمل على الإشاعة في هذه المسألة التي نقلها، واستدل بنصه في مسألة هبة بعض الصداق، وقال: ينبغي أن تحمل هبة البعض على الشيوع، كما نقله في مسألة الاختلاع ببعض المهر.
فاختلف أصحابنا في الجواب؛ فقال بعضهم: جرى الشافعي فيما نقله على قول الشيوع، وهذا النوع متداول بينه وبين الأصحاب.
وقال قائلون: نفرق بين مسألة الخلع وبين مسألة الهبة، ونقول في مسألة الخلع: اقترن سببُ استحقاق الزوج بتصرفها، فنفوذ التصرف واستحقافُ الزوج يلتقيان ويقربان، فكل ما وقع التصرف فيه يجعله عوضاً محسوباً من الحقين، حق الزوج، وحقها. وليس كذلك مسألة الهبة؛ لأنها وهبت النصف في حالةٍ لم يكن للزوج فيها استحقاقٌ في عين الصداق، ولا سببٌ للاستحقاق، فكان تصرفها محمولاً على خالص حقها، وإذا حمل تصرفها على حقها الخالص، تعين صرف ما بقي إلى خالص حق الزوج، وقال هؤلاء: نظير مسألة الخلع أن يطلقها والصداق بعدُ في يدها بكماله، فلو تصرفت في النصف، فلا يكون تصرفها في خالص حقها، بل يجعل شائعاً في الحقين.
فصل:
قال: "فأما في الصداق غيرِ المسمى، أو الفاسد، فالبراءة في ذلك باطلة؛ لأنها أبرأته مما لا تعلم... إلى آخره".
8534- إذا نكح المرأة نكاحَ تفويض، فقد ذكرنا أن لها حقَّ طلب الفرض. فلو قالت: أسقطت حقي عن طلب الفرض، لم يسقط حقها. فلو أكبّت على الطلب، فبادر وطلقها، فقد كُفي الرجل أمر الطلب، وليس لها إلا المتعةُ قبل الدخول.
8535- وإذا طلق الرجل امرأته في نكاح مشتمل على التسمية قبل المسيس، وحكمنا بأن شطر المهر لا يرجع إلى الزوج إلا باختيار التملك، فلو قال: أبطلت حقي في التملك، بطل حقه، ولا حاجة في ذلك إلى قبول المرأة، وإن فرعنا على أن صحة الإبراء تقف على القبول. وسبب هذا أن ثبوت حق التملك يضاهي ثبوتَ حق الشفعة، ثم حق الشفيع يبطل بالإبطال من غير قبول؛ فإن من يشترط القبولَ في الإبراء يحمله على التمليك. وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه.
هذا قول القاضي فيما نقله عنه من يوثق بنقله، ويظهر عندي ألا نحكم ببطلان حقه من التملك إذا فرعنا على الوجه الضعيف؛ وينزل إبطالُ حق التملك منزلةَ إبطال الواهب حقَّه في الرجوع في الهبة؛ فإنه لو قال: أبطلت حقي في الرجوع، لم يبطل حقه، ولغا ما جاء به.
فإن قيل: هلا شبهتم ذلك بالغانم يُبطل حقه عن المغنم؟ فإنه يَبطُل حقُّه من أجل أنه لم يملك المغنم، بل ملك أن يتملك. قلنا: لا بأس بهذا السؤال، ولكن الواهب يملك نقضَ ملكٍ قام للمتهب، والغانم يُبطل حقَّ تملّكٍ وليس تملّكه نقضاً لملك تام. فهذا تشبيه من طريق الظاهر. والتشبيه بالرجوع في الهبة أعوص، وذلك أن ملكها تم بالإصداق، وقد تلقّته من قِبل الزوج، وإذا أراد الزوج استراداد النصف، فإنما يسترجع ملكاً تاماً، فكان تشبيهاً بالرجوع في الهبة.
وهو بعيد عن حق الشفعة؛ من قِبَل أنه دَفْعُ ضرار، كالرد بالعيب، والشفيع داخل على ملك المشتري، فكان أصلُ حقه نازحاً عن القياس، ربطه الشرعُ بدفع الغرر، فإذا وقع الرضا به، لم يبعد سقوطه، ولهذا كان طلبُ الشفعة على الفور على الأصح، واختيار الزوج التملك ليس بهذه المثابة، والمسألة على حالٍ محتملة.
وقد قدمنا في صدر الكتاب تشبيه تملك الزوج بالرجوع في الهبة، فكان ذلك جرياناً على أحد الوجهين في الاحتمال.
8536- وإذا كان النكاح نكاحَ تفويض، فإن قلنا: لا تستحق المرأة بالعقد شيئاً، فلو أبرأت عن المهر، لم يصح ذلك منها؛ فإنه إبراء قبل الوجوب. وإذا فرعنا على أنها تستحق المهرَ بالعقد، نُظِر، فإن كانت عالمة بمهر مثلها، صح إبراؤها، وإن كانت جاهلة بمبلغ مهر المثل، فلا يصح إبراؤها فيما جهلته، وهل يصح إبراؤها في المقدار المستيقن؟ فعلى قولين.
وبيان ذلك أنها لو استيقنت أن مهرها لا ينقص عن ألف، وجوّزت أن يبلغ ألفين، فإذا أبرأت عن مهر مثلها لم يصح إبراؤها عما هي مترددة فيه. وهل يصح إبراؤها عن الألف المستيقن؟ فعلى ما ذكرناه.
فإن قيل: إذا فرعتم على أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، فهلا جعلتم إبراءها عن مهر المثل إذا علمته بمثابة الإبراء عما لم يجب، ووُجد سببُ وجوبه؟ و في مثل هذا قولان؟ قلنا: ليس هذا بمثابة إبراء المرأة عن نفقة غدها؛ فإن النفقة وإن لم تكن واجبة في الحال، فالنكاحُ يفضي إلى وجوبها من غير سببٍ آخر، فاستمر القولان في مثل ذلك، ومهر المفوضة على قولنا: إنها لا تستحق شيئاً بالعقد لا يثبت إلا بسبب سيحدث، يتعلق إنشاؤه بالاختيار: كالفرض والمسيس. وقد ذكرت قولاً جامعاً في ضمان ما لم يجب في ترتيب القديم والجديد، والإبراءُ عما لم يجب بمثابة ضمان ما لم يجب.
8537- ومما يجب التنبه له أن نص الشافعي في كتبه يشير إلى أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، وفي هذا الفصل من نص الشافعي ما يدل على أنها تستحق بنفس العقد المهر؛ فأنه قال: "فأما في الصداق غير المسمى أو الفاسد فالبراءة في ذلك باطلة لأنها أبرأته مما لم تعلم". فقوله: "الصداق غير المسمى " يشير إلى صورة التفويض. ثم أبطل الشافعي الإبراء، وعلل إبطاله بأنها أبرأت عما لم تعلم.
ولو كان الصداق غير واجب بالعقد، لكان تعليل إبطال الإبراء بعدم الوجوب؛ فإن ما لا يجب لا يعلل إبطال إسقاطه بكونه مجهولاً؛ إذ المجهول ثابت على الجهالة وهذا حسن.
ولكن يتطرق إليه حمل النص على تعرية النكاح عن ذكر المهر من غير إذن صريح من المرأة في التعرية. وقد ذكرنا أن هذا يقتضي ثبوتَ المهر، وليس من صور التفويض، وإنما يلتحق النكاح بالتفويض التام إذا صرَّحت المرأة بالرضا بإسقاط المهر.
والمفوضة لو أبرأت عن المتعة قبل الطلاق، لم يصح إبراؤها؛ لأن ذلك إسقاط ما لم يجب بعدُ، ولا يخرج على القولين المشهورين في أنَّ ما لم يجب، ووُجد سبب وجوبه، هل يصح الإبراء عنه؟ فإن وجوب المتعة محال على الطلاق الذي سيقع؛ فليس النكاح سبباً خاصاً في إيجاب المتعة، وقد ذكرنا هذا في إبرائها عن المهر، إذا قلنا إنها لا تستحق المهر بأصل العقد.