فصل: باب: الرَّجُل يَبيعُ الشَّيءَ بأجَلٍ ثم يَشْتَريهِ بأقلَّ مِنَ الثَّمَنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: فيما يجبُ الإخبارُ به في بيع المرابحة وما لا يجب:

3222- فنقول: إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم عاب في يدهِ عيباً يُثبتُ مثلُه الردَّ فإذا أراد أن يبيع مرابحةً بالثمن، أو بما قام عليهِ، فيتعيَّن عليه ذكرُ ما تجدد في يدهِ من العيب، حتى لا يكون ملبّساً على مُعاملِه؛ فإن من خاصيّه هذه المعاملة تنزيلُ العقد الثاني على الأول، حالةَ ورود العقد، والمشتري يعتقد أنه حالّ محلَّ البائعِ في جميع الحقوق إلا في مزيد الربح، فوجب لذلك أن يذكر ما يجري من العيب، ولا فرق بين أن يطرأ العيبُ بآفةٍ سماويَّةٍ أو بجناية جانٍ، أو بجنايةٍ من هذا البائع.
فأما ما لا يوجب تغيير المبيع في صفته: لا في عينه، ولا في ماليّته، فلا حاجة إلى ذكره. فلو اكتسب العبد أو أثمرت الشجرة المشتراةُ، فاز البائعُ بالزيادات المنفصلة، وكان له إجراءُ العقد بالثمن، أو بما قام عليه، من غير تعرضٍ لذكر الزوائد. ولو جنى العبد في يدهِ وفداه، ثم أراد بيعه مرابحةَ بما اشتراه أو بما قام عليه، فليس له أن يذكر مما فداه به-مطلقاًً مع رأس المال- ذِكْرَه مؤنَ التجارة؛ فإنا ذكرنا فيما سبق أن ما لا يكون من مؤن التجارة، ولا يقتضي استنماءً واسترباحاً، فلا يجوز ضمه إلى رأس المال مطلقاًً، من غير تنصيصٍ عليه، وإذَا كنا لا نرى ضم مؤنة العلف إلى رأس المال على ظهورها، فالفداءُ الواقعُ نادراً أوْلى، وهو يناظر مؤن المعالجة إذا فُرِض مرضٌ، ولا شك أنها لا تُضم.
وما ذكرناه معناه إطلاق الضم من غير تنصيص على الجهة، فأمّا إذا قال: بعتك هذا العبد بما قام عليَّ وهو كذا، وبما فديتُه به لما جنى مُرابحةً على كذا وكذا، فهذا لا منعَ فيهِ، وهو مطَّردٌ فيما يريد البائعُ ضمَّه إلى رأس المال مع التصريح.
3223- فأما إذا جُني على العبد وغرِمَ الجاني أرش جنايته، فسبيلُ ضبط المذهب أن أثر الجناية عيبٌ طارىء، فلابد من ذكره، فلو أراد ألا يذكر العيبَ ولا يَحطَّ الأرشَ الذي أخذهُ عن الجاني، بل يذكرَ جميعَ الثمن، أو جميعَ ما قام عليه به، لم يكن له ذلك، وكان مدلّساً.
ولو جرت جناية وزال أثرُها بالكلية، ولكنا كنا نرى في وجهٍ تغريمَ الجاني شيئاً على مقابلة جنايته، فالظاهرُ في هذه الحالة أنه لا يجب عليه ذكرُ ما جرى، والمأخوذ من الجاني في حكم زيادةٍ مستفادةٍ من المبيع، والسبب فيه أن المبيعَ غيرُ مُنتقَصٍ.
ومن أصحابنا من أوجب ذكر ذلك، وهو بعيدٌ، لا أصل له.
وإذا جرينا على الأصح وقلنا: جراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحر من ديته، ثم جرت جناية مُوجَبها من طريق التقدير نصفُ القيمة، وما نقصت من الجنايةِ إلا ثُلثها.
فإذا باع العبدَ بما قام عليهِ، وحَط مقدارَ النقصان من القيمة، ولم يحط ما غرِمه الجاني له وراء النقصان، ففي المسألةِ وجهان، والأصح أن ذلك جائز؛ فإن الزائد على النقصان غرِمه الجاني لحقّ الدية، والمعتبر في المرابحة القضايا الماليّةُ.
ومن أصحابنا من اعتبر جملة الأرش الذي غرِمه الجاني وإن زاد على مقدار النقصان؛ طرداً للباب؛ ومصيراً إلى أن تقدير الشرع أولى بالاعتبار من تقويم المقوّمين في السوق؛ فنجعل كان الناقصَ النصفُ الذي حكم الشرعُ به.
وقد يرى الناظرُ في كتب العراق وجهين مطلقين في أنه هل يجب على البائع ذكرُ الجناية أصلاً.
وهذا غيرُ معقولٍ إلا في أرشٍ لا يقابِل تنقيصاً من القيمة، كما ذكرته الآن في الصورتين: إحداهما- في أرش يقابل جنايةً لم يبقَ أثرُها، والأخرى- أن يكون الأرش وراء النقص مأخوذاً من تقدير الشرع.
3224- ثم تمام البيان في ذلك أنه لا يختلف الأمر بأن يبيع بما اشترى، أو بما قام في العيوب الطارئة؛ فإنا وإن كنا نتبع المسمى ثمناً، فنشترطُ بقاءَ المثمَّن على ما كان عليه حالةَ العقد.
ثم حيث قلنا: يجب ذكرُ العيب الطارىء، فلو لم يذكره وأطلق العقدَ، فمقدار الأرش إذ لم يتعزض له، بمثابة ما لو زاد في الثمن، بأن كان اشترى بتسعين فذكر المائة.
هذا حكمُ تركِ ذكرِ العيب.
فيعود الكلام في الحط والخيار كما مضى حرفاً حرفاً.
ولو علم المشتري بطريانِ العيب، ثم اشترى بالثمن الأول. المذهبُ أن العلمَ كافٍ، والبيعُ ينعقد بالثمن الأول المذكور.
ومن أصحابنا من قالَ: لا أثر للعلِم، والزيادةُ محطوطةٌ-وهي مقدار الأرش- في قولٍ، وليست محطوطةً في قول. نعم لا خيار للمشتري؛ لمكان علمه.
ولو قالَ: بعتُك بمائةٍ، وهي ما اشتريتُ به، فقبل المشتري على ما علم بكذبه، فالمذهب إجراءُ القولين في الحط، مع نفي الخيارِ. ولو قلنا: لا يُحط، فقال المشتري: خضتُ في العقد على تقدير أن يُحطَّ عني، فإن لم تحُطوا، فخيّروني، ففي الخيار خلافٌ، والمذهبُ أنه لا يثبت.
فلو اشترى عبداً وخصاه، فازدادت قيمتُه، فهذا مما يجب ذكرُه، فإنه من العيوب، وقد ذكرنا أن كل ما يُثبت الردَّ يجب ذِكرُه، فلو لم يذكُرْه، فلا حَطَّ؛ فإن الخِصاء لا يَنقُصُ شيئاً من المالية، ولكن لا أثر لما جرى إلاّ تَعْصيةُ البائع لانتسابه إلى التلبيس في معاملةٍ مبناها على الأمانة. ولا شك أن المشتري لهُ الخيار، لاطلاعهِ على عيبٍ بما اشتراه، فليس هذا من خاصيّة المرابحةِ.
ولو اشترى عبداً بثمنٍ غالٍ وغُبنَ في ثمنه، فقد ذكر طوائف من محققينا أنه يجب ذكرُ ذلك، فيكون المشتري على بصيرةٍ من أمره.
وقد قطع شيخي وصاحبُ التقريب أن ذلك لا يجب؛ فإنه باع ما اشترى كما اشترى، ومن باع شيئاً وغَبَن مشتريَه لم يكن مدلِّساً، ولو كتم عيباً يعلمه به، كان غاشّاً مدلِّساً.
ثم الذين قالوا لابد من ذكر الغبن، بَنَوْا عليه أنه لو اشترى من ولده الطفلِ، فيجب عليه ذكرُ ذلك، وإن كان اشترى بثمنِ المثلِ من غير مزيدٍ؛ لأن شراءه من ولده يوهم نظرَه له وتركَ النظرِ لنفسه.
وهذا خَبْط عظيم، وهو بناءٌ على وجوب ذكرِ الغبن، وقد ذكرنا أن الأصح أنه لا يجب ذكرُه، حتى قال المفرّعون على ذكر الغبن: لو اشتراه من ابنه البالغ، أو أبيه، فهل يجب ذكر ذلك؟ فيه تردُّدٌ مبنيٌّ على أن الوكيلَ بالبيع مطلقاًً هل يبيع من أبيه أو ابنه بثمن المثل؟ وفيه تردُّدٌ. والمذهب القطعُ بجواز بيع الوكيل من ابنه وأبيه بثمن المثل. ووجهُ المنعِ بعيدٌ. وهو مذهبُ أبي حنيفة. ثم نحن إن أبعدنا فمنعنا، حَمَلْنَا ذلكَ على تطرق التهمة، ومحاذرةِ الغبن الخفيّ. والعجبُ أن أبا حنيفة جوّز البيعَ بالغبن الفاحش ومنع البيعَ من الابن.
وبالجُملةِ هذه التفريعاتُ في المرابحة مائلةٌ عن سَنَنِ التحقيق عندنا. والوجهُ: القطع بحسم هذه المادّةِ وإسقاطُ وجوبِ ذكرِ الغَبْن.
3225- وممَّا أجراهُ المفرعون على ذكر الغَبْنِ أن من اشترى شيئاً بثمنٍ آجلٍ، ثم أراد بيعَه مرابحةً بنقدٍ. قيل: إن كان هذا البائع ملياً وفياً، فلا تفاوت، ولا يجب ذكرُ كونِ الثمن ديناً، وإن كان هذا البائع مسوِّفاً مطوِّلاً، أو مُعسراً فبالحريّ أن لا يقنع منه بثمن المثل، فهو مغبون أو يمكن ذلك فيه، فلابد من ذكر حقيقة الحالِ.
وكل ذلك خبطٌ. نعم، إذا اشترى بثمن مؤجل ثم أراد بيعَه بمثله حالاً، فهذا تلبيسٌ؛ فإن الماليّةَ تختلف بهذا.
فإن اشترى بثمن حال، فباع بمثله مؤجَّلاً، فلا بأس به؛ فإنه لم ينقُص المشتري شيئاً، بل زاده، ولا خُلفَ أيضاًً في صيغة لفظه.
ولو اشترى عبداً بعَرْض، فليذكر قيمته حالة العقد، حتى لو ارتفعت قيمةُ ذلك الجنس بعد البيع، فلا ينبغي أن يعوّل على تلك القيمة؛ فإن المعتبر ماليّةُ العبد حالةَ العقد.
ولو اشترى عبدين، وباع أحدَهما مرابحة بحصّته من الثمن على التقسيط العدل، فهو صحيح عندنا؟ خلافاً لأبي حنيفة.
3226- فإذا انضبط ما يجبُ ذكره وما لا يجب، فالعبارةُ الجامعةُ على الطريقة المرضية عندنا أنه يجب ذكر ما طرأ مما ينقص القيمةَ أو العينَ. وقال آخرون: يجب ذلك، ويجب معه التعرض للغبن إن كان، وذكرُ ما يوهم الغبنَ.
فصل: معقود في التولية والإشراك وبقية من حكم المرابحة.
3227- فإذا اشترى الرجل شيئاً وقبضهُ، ثم قال لإنسانٍ: ولَّيتُك بيعَه، فقال المخاطَبُ: قبلتُ، انعقد البيعُ بلفظةِ التوليةِ، وابتنى حكمُ العقدِ المنعقدِ بها على العقد الأول.
هذا قاعدةُ المذهب.
فإذا حُطّ عن المشتري البائعِ المولِّي شيءٌ من الثمن، فهو محطوط عن المشترِي منه. ولو حُط عنه جميعُ الثمن، فهو محطوط عن المشتري منه. وحقيقةُ التولية إحلال المولَّى محل المولّي؛ حتى كان المولِّي مرفوعٌ من البين.
هذا ما أطلقهُ الأئمةُ في طُرقهم.
وقالوا: لو اشترى شيئاً واستفاد منه زوائدَ منفصلةً، ثم ولّى عقدَ البيع بالتوليةِ، فتلك الزوائد تسلم للبائع المولِّي لا حق فيها للمشتري المولَّى. ولو كان المشترَى شقصاً، وفيه الشفعة، فأسقَط الشفيع حقَّه، ثم جرت التوليةُ، فالذي ذكره الأصحاب أن التوليةَ تقتضي تجديدَ الحق للشفيع.
فحاصل المذهب أن التوليةَ تبتني على العقد السابق في حَط البعضِ والجميع، ولا ابتناء لَها في الزوائد المتخللة، وليست على حكم الاستمرار في حكم الشُفعةِ، حتى يقال: لا تقتضي شفعةً جديدة.
وقال القاضي: الوجه التردد في جميع ذلك، فكأنا نقول: في وجه خلفَ المولَّى المولِّي، حتى كأن الملك مستمرٌ على الأخير، فعلى هذا يلحقه الحطُّ.
والزوائدُ التي جرت قبل التولية مصروفة إليه، ولا تتجدد الشفعةُ بها، فإنها على هذا الوجه بمثابة استمرار الملك.
والوجه الثاني- أن المولَّى لا يَخلفُ المولِّي في شيء مما ذكرناه، فالزوائد للبائع، وإذا حُطّ عن البائع شيءٌ لم يُحَط عن المشتري منه بلفظ التولية، والشفعةُ تتجدد بوقوع التولية، وهي في حكم بيع جديدٍ، إلا أن لفظ التولية يتضمن نزولَ العقد على ثمنِ العقد الأول، لا فائدة إلا هذا.
والذي ذكره-رحمهُ الله- من التردد في الحط منقاس حسن؛ فإنه لم يثبت عندنا توقيفٌ في إحلال الثاني محل الأول في الحط، وإنما يُتلقَّى ذلك من اللفظ، وليس في اللفظ ما يُشعرُ بهذا تصريحاً.
ومِلك الشفيع مبني على مِلك المشتري، ثم الحط من المشتري لا يوجب الحطَّ من الشفيع عندنا. وهذا ابتناء شرعي، فإذا كنا لا نحط عن الشفيع ما حُط عن المشتري، فالمولَّي والمولَّى بهذا أولى.
وأما ما ذكرهُ من التردد في الزوائد فبعيدٌ لا يليق بمنصبه.
وكذلك يجب القطعُ بأن الشفعة تتجدد للضرورة إلى تقديرٍ يخالف الحقيقة.
وبالجملة ليس الحط في معنى الزوائد، ولا في معنى تجدد الشفعة؛ فإنه يجوز أن يقال: معنى التولية أن المولِّي يقول للمولَّى: لا أطالبك إلا بما أُطلب به.
هذا على ما فيه من الإشكال معقول، فأما تمليكه الزوائد السابقة، فبعيد، وكذلك دفعُ حق الشفيع وقد تجدد التمليك بالمعاوضة غيرُ متخيّل.
ومما يجب التنبه له أنا إذا جرينا على ظاهر المذهب، وحططنا عن المولَّى ما يُحط عن المولَي، فينقدح على هذا ألا يطالِب البائعُ المولَي المشتري المولَّى، حتى يطالبَ البائعُ الأولُ البائعَ الثاني.
فلينظر الناظر في ذلك، وليت شعري هل يثبت للبائع الأول مُطالبة المولَّى المشتري الأخير بناءً على الاستمرار؟ ولا ينبغي أن يُظن أن مطالبة البائع الأول تنقطع عن البائع الثاني المولَّى، فهذا منتهى القول فيما أردناه.
3228- ومما فرعه الشيخ أبو علي على التولية أن قالَ: ليس للمشتري أن يبيع ما اشتراه قبل القبض من أجنبي، وقد اختلفَ أصحابنا في جواز بيع المبيع من البائع قبل القبض منه، فمنهم من منع، وهو القياس وظاهر المذهب. ومنهم من أجاز؛ فإن مقتضاه انقلابُ المبيع إلى من هو في يدهِ وضمانه، فإذا ثبت هذا، فلو ولى المشتري البيع قبل قبض المبيع أجنبياً، ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخُ أحدهما- المنع وهو القياس.
والثاني: الصحّة، ولا وجه له إلا حملُ الأمر على تقدير الاستمرار والبناء، وعلى هذا بنى القاضي عدمَ تجدد الشفعة، وأمرَ الزوائد.
ولو ولّى المشتري البائعَ البيعَ، فوجهان مرتبان على البيع منه من غير لفظ التولية، أو على التولية مع الأجنبيّ.
3229- وهذا منتهى الكلام في التولية.
وفي معناهَا الإشراك، غيرَ أن الإشراك يتضمن البناءَ على العقدِ الأول في بعض المبيع، فإن جرى التصريحُ بمقدارٍ فيه نزل البيع عليه، مثل أن يقول: أشركتك في ثلث ما اشتريت، أو نصفِه. وإن أطلق الإشراك، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه محمول على النصف.
والثاني: أنه مجهول لا ينعقد البيعُ به، ثم لابد من ذكر البيع، ولا يكفي أن يقول: "أشركتك " حتى يقول: أشركتك في عقدِ هذا.
ثم القدر الذي ينعقد البيع عليهِ بلفظ الإشراك حكمه حكم التولية في كل تفصيل قدَّمناه.
فأمّا المرابحةُ إذا جرت، ثم حُط عن البائع المرابح شيء من الثمن بعد لزوم العقد، فالذي ذهب إليه الأصحابُ أنه لا يَحُط ما حُطّ عنه عن المشتري، بخلاف التولية والإشراك، والسبب فيه أن التولية مقتضاها حلولُ المولَّى محل المولِّي، وهذا يُشعر بمشابهته إياه في موجَب الحط، وليس في البيع بالثمن أو بما قام إشعارٌ بهذا فيما يجري في المستقبل من حط.
وذكر شيخي وجهاً آخر أن الحط يلحق المشتري مرابحة. وهذا بعيدٌ، ولست أذكره في مسموعاتي عنه، ولكني رأيتُه في تعليقة بخطه.
فإن قيل: إذا جرى الحطُّ قبل المرابحة، ثم جرت المعاملة، فما رأيكم؟ قلنا: التفريع على المذهب. والذي رأيته للشيخ لست أعتدُّ به. فليُنظر بعد ذلك إلى اللفظ، فإن قال: بعتُكَ بما اشتريتُ، فلا نظر إلى الحطِّ، والمرابحةُ تنزل على البيع الأول وثمنه، وإن قال بعد جريان الحطِّ: بعتك بما قام عليَّ، فالظاهر أن المحطوط لا يجوز ذكره.
وممّا يتعلق بهذا الفصل أنا إذا لم نحط عن المشتري مرابحةً ما حُط عن معامله بعد لزوم العقد، فهل نحط عنه ما كان حُط عنه في مجلس الخيارِ، أو في زمان الخيار؟
فعلى وجهين مشهورين، وهما يجريان في حق الشفيع مع المشتري.
وسيأتي ذلك في تفصيل إلحاق الزوائد بالعقود.

.باب: الرَّجُل يَبيعُ الشَّيءَ بأجَلٍ ثم يَشْتَريهِ بأقلَّ مِنَ الثَّمَنِ:

3230- إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم باعه من البائع بمثل ذلك الثمن، أو أقلَّ، أو أكثر، صح العقدُ عندنا، سواء جرى العقد الثاني بعد نقد الثمن الأوّل أو قبله.
وبالجُملة لا تعلُّق لأحد العقدين بالثاني خلافاً لأبي حنيفة، وتفصيلُه مذكورٌ في الخِلافِ.
والمسألة مبناها بعد أثر عائشة على الذريعة.
ونحن لا نرى عقداً ذريعةً إلى عقدٍ إذا تميَّز أحد العقدينِ عن الثاني. وقد يضطرب فيهِ إذا عم العُرف بشيءٍ، فهل نجعل عمومَ العرف في حكم الشرط؟ مثل أن يعمَّ العرف بإباحة منافع الرهن، فهل نجعل الرهنَ المطلقَ مع اقتران العُرف به بمثابة ما لو شرط في الرهن إباحةَ المنافع للمرتهن؟ هذا فيهِ تردُّد للأصحابِ. وقد ذكرتُه مفصلاً في باب الربا.

.باب: تَفْريق الصَّفقَة:

3231- جمعَ المزني أقاويلَ الشافعيّ في تفريق الصفقة في الكبير، ثم طال عليه ذكرُها في المختصر، فقالَ لمن كان يُملي عليه: بيِّض موضعاً نكتب فيه شرحَ أَوْلى قَوْليه في تفريق الصفقةِ، ثم لم يتفرغ إليه، فماتَ-رحمه اللهُ- وفي بعض النسخ ترك ورقة أو ورقتين على البياض.
وهذا الباب عظيم الوقعِ ومسائلُه كثيرةُ التولّج في الأصول. ونحن بعون الله تعالى نأتي بمسائلِ الباب على أبلغ وجه، وأقرب مسلك في الضبط، لا نغادر حكماً يتعلّقُ بالتفريق إلا نوفيه حقّه والله المستعان.
فنقول: القول في التفريق يتعلق بما يقعُ في الابتداء، وبما يقعُ في الانتهاء.
فأما تقسيم القول فيما يقع في الابتداء، فالصفقةُ لا تخلو: إما أن تشتمل على شيئين فصاعداً، يجوز تقديرُ صحةِ العقد في كل واحد.
وإما أن تشتمل على شيئين فصاعداً يجوز تقديرُ صحةِ العقدِ في البعض منها دون البعضِ.
3232- فأما إذا اشتملت الصفقةُ على عدَد يجوز تقديرُ الصحةِ في آحادها عند إفرادها، فالذي يتعلق بغرض الباب منها اشتمالُ العقد على مختلفين يتباين أثرُ العقد فيهما فسخاً وإجازةً وقرباً من الغرر وبعداً منه، كالصفقة تشتمل منافع وعيناً يقابلان عوضاً أو عوضين فصاعداً، ففي صحَّة الصفقة قولان:
أحدهما: وهو الأصح أنها تصح؛ لأنها ما اشتملت على ما يمتنع إفرادُه بالعقدِ والصفقة متَحدة في نفسها، ولا حاجة إلى تقدير توزيع حتى يُفضي إلى جهالة، فأشبه ذلك ما لو اشترى عبداً وثوباً، وقد قدَّمنا في الربويات أن التوزيع ليس من مقتضى العقد، وإنما ينشأ للضرورة عند مسيس الحاجة.
والقول الثاني- أن الصفقةَ باطلة؛ لأن حكمَ الإجارة والبيعِ يختلف فيما يتعلّقُ بالفسخ ونقيضه. أما المنافع، فلا تحويها اليدُ، وتثبتُ التصرفات فيها مع تعرض العقد للانفساخ عند تقدير التلف؛ فإن من استأجر داراً وقبضَها، تصرف فيها بسبب القبض، ولو تلفت الدار في يدي المستأجر، انفسخت الإجارةُ.
والغرض مما ذكرناه أن العقد إذا اختلف وقعُه وأثره بسبب اختلاف المعقودِ عليه، فالنفوس تتشَّوف لا محالة إلى تقدير التوزيع، وإيراد العقد على قصدهِ، وليس كذلك أجناس المبيعات؛ فإن آثار العقد لا تختلف فيها، فلا تتشوَّف إلى تقدير بقاء العقد في بعضِها وانفساخِه عن بعضها. فرجع ما ذكرناهُ إلى تنزيل العقدِ على مقتضى التوزيع، وهذا يجُرّ جهالةً؛ فإن التوزيع اجتهادٌ بعد ورود العقدِ، فهذا سبيلُ التوجيه.
3233- ثم نذكر ما يتعلق بهذا القسم وما يخرج منه: فالجمع بين بيعِ عينٍ وسلمٍ من صُور القولين؛ فإنه يتطرق إلى السّلَم ما لا يتطرق إلى بيع العين في حكم الفسخ ونقيضه.
ولو جمع بين بيع عين وتزويجِ امرأة أو أمةٍ وقابلهما بعوضٍ ينقسم عليهما، ففي صحة البيع والصداق قولان، كما قدّمناهما، والنكاح صحيح لا شك فيه، فإن المحذور فيهِ جهالةُ العوض، وهذا غير مؤثر في النكاح، فإن أفسدنا الصفقة، لم يخف حكمُ فسادِ البيع وحكم فساد الصداق. وفي هذه الصورة الرجوعُ إلى مهر المثل، كما سيأتي شرحه في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
ومن صور القولين السلمُ في أجناسٍ إلى أجل واحد بعوض واحد، والسلم في جنس واحد إلى آجال. ووجهُ إلحاق هاتين الصورتين بصُوَر القولين أن الأجناس تختلف وجوداً وعدماً، ويختلف الحكم بحسب ذلك في بقاء العقد وانفساخه، فجرى القولان فيهما.
ومن أصحابنا من لم يُلحق هاتين الصورتين بصور القولين، وقطع القول فيهما بالصحة؛ لاتحاد العقد في حكمه وخفاءِ أثر الاختلاف، والأظهر الطريقةُ الأولى.
ولو قال بعتك صاعاً من حنطةٍ ودرهماً بصاعٍ من شعيرٍ ودينارٍ، فهذا يلتحق بصور القولين لاشتمال الصفقة على التفاوت في شرط التقابض.
فإن قيل: كيف يختلف مضمون العقد فيما ذكرتم من التقابض والطعام بالطعام يُشترط فيهِ التقابض، وكذلك النقد بالنقد، ومضمون الصفقة من الجانبين طعامٌ ونقد؟ قلنا: وجه الاختلافِ أنّ الدرهم يقعُ في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، وكذلك الدينار يقع شيء منه في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، والتقابض ليس مشروطاً في بيع الطعام بالنقد؛ فمن هذا الوجه اختلف مضمونُ الصفقة في التقابض.
ولو باع ثوباً وديناراً بثوبٍ ودراهم، فالتحاقُ ذلك بصُور القولين بيّن. وإنما خُصَّ مسألةُ الطعام والنقد بالذكرِ للدقيقة التي نبهنا عليها.
فإن قيل: إذا اشتملت الصفقة على شقصٍ وسيفٍ، فحكم الصفقة مختلف؛ فإن الشفعة تتعلق بالشقص دون السيف، وهذا تباين بيّن في مورد العقدِ. قلنا: الصفقة صحيحة قولاً واحداً؛ فإن مقصود العقد في الشقص والسيف لا يختلف فيما يتعلق بالفسخ والتنفيذ، وصورة القولين تُتلقَّى من اختلافٍ يتعلق بالفسخ والإجازة، بسبب أنه، إذا قُدّر سبْقُ الفسخ إلى شيء، اعتاضَ ما يبقى في مقابلة الباقي، ورجع هذا الإشكال إلى وضع العقد. والشفيعُ إذا أخذ الشقص، فهو مقرر للعقد، وإن كان ينشأ بينه وبين المشتري توزيعٌ، فهذا لا ينعطف إلى العقد فسخاٌ في البعض وإبقاء في البعض. نعم من اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً، ثم إن المشتري باعهُما، فهل يلتحق بصورة القولين؛ من جهة أن الشفيع يملك فسخ بيعهِ في الشقص ولا يملك ذلك في السيف؟ فقد اختلفت الصفقة فسخاً وإبقاءً، على الحد الذي ذكرناه، فاختلف القول.
هذا منتهى الكلام في نوع من تفريق الصفقة ابتداء.
3234- والقسم الثاني في الابتداء أن تشتمل الصفقةُ على عدد يجوز إفرادُ بعضها بالعقد، ولا يقبل بعضُها العقدَ على الوجه الذي أورده العاقد.
وهذا القسم ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يشتمل العقدُ على ما يقبل العقدَ وعلى ما لا يقبله، ولكنه يقبل التقوُّم تحقيقاً.
والقسم الثاني- ألا يكون ما يَفسد العقدُ فيه قابلاً للتقويم.
فأما إذا كان قابلاً للتقويم تحقيقاً، فهو كما لو باع الرجل عبداً مملوكاً له، وعبداً مغصوباً عنده، أو باع عبداً وأم ولد، أو عبداً ومكاتباً.
أما المغصوب، فلا شك في تقويمهِ، والمستولدةُ متقوَّمةٌ باليد والإتلاف، والمكَاتَبُ متَقوَّمٌ بالإتلاف. فإذا جرت الصفقةُ شاملةً لفظاً لما يصح ولما لا يصح، وجرى الحكم بالفساد فيما لا يصح؛ فهل تصح الصفقةُ فيما يصح إفرادُه بالعقدِ؟ فعلى قولين هما من أمهات الباب:
أحدهما: أن البيع صحيحٌ؛ من جهة أن الصفقة اشتملت على ما يصح ويفسد، فمقتضى الإنصاف حذفُ الفساد وتقريرُ العقدِ في جهة الصحة. وهذا من طريق التمثيل يُضاهي قولَ القائل: قدم زيدٌ وعمرو، وكان قدم أحدُهما دون الثاني، فلا نقضي على القول بالخُلفِ فيهما ولا بالصِّدقِ، ولكنهُ خلفٌ في محل الخلف صدقٌ في محله.
والقول الثاني- أن البيع باطل لعلتين: إحداهما- أن ما يقابِل العبدَ المملوك من الثمن مجهول عند المتعاقدين حال العقد؛ فإنه إنما يعرفُ قسطُه من الثمن بتوزيعه على القيمتين، وهذا يستدعي ضبطَ القيمتين، ولا يُتوصل إليه إلا بالاجتهاد.
ولو قال: بعتُك عبدي هذا بما يقابله من الألف، لو وزع عليهِ، وعلى عبد فلان، فالبيع باطل إجماعاً. ومآل الأمر في بيع العبدِ المملوك والمغصوب هذا. فليكن ما تبيّن آخراً بمثابة ما لو وَرَدَ العقدُ كذلك أوّلاً.
فهذا أحد المعنيين.
والمعنى الثاني- أن العقد متَّحد في نفسه، فإذا تطرق الفساد إليه، وجب أن لا ينقسم إذا لم يبن على الغلبة والسريان، وكان مما يفسده الشرط، احترازاً من العتق والطلاق وما في معناهما؛ فإن العتق لا يرتدّ بالشرط الفاسد، بل ينفذ ويلغو الشرط، بخلاف البيع.
3235- فهذا أصلٌ.
ونحن نفرع عليه مسائلَ في الباب فنقولَ: لو باع صاعين من حنطة متماثلين في الصفات، وكان أحدُهما مملوكاً، والثاني مغصوباً، أو باع عبداً نصفُه له ونصفه لغيره، ولم يأذن الشريك في البيع، ففي صحة البيع في المقدار المملوك للبائع قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى. فإن حكمنا بالصحَّة ثَمَّ، فلأن نحكم هاهُنا أوْلى. وإن حكمنا بالفسادِ ثَمّ، فهاهُنا قولان مبنيَّان على المعنيين الذين وجهنا بهما قولَ الفسادِ في الصورة الأولى. فإن قلنا: علةُ الفسادِ في تلك الصورة جهالةُ الثمن، فالبيع يصح فيما أخرناه؛ فإنه لا حاجةَ إلى تقدير التقويم وردِّ الأمر إلى الاجتهاد، بل إذا وزَّعنا، فالواجب نصفُ الثمن مثلاً على ما تقتضيه الجزئيَّة. وإن عللنا الفسادَ في تلك الصورة باتحاد الصفقةِ، وتطرق الفساد إليها، فنحكم بالفساد في العبدِ المشترك، أو الحِنطةِ المشتركةِ لتحقق الاتحاد، وتَطرُّق الفساد.
ومما يلتحق بهذه المرتبة الجمعُ بين مملوكٍ ومغصوبٍ في هبةٍ أو رهنٍ. ووجهُ الالتحاقِ أنه لا عِوضَ في الهبةِ والرهن حتى يتخيلَ الفساد بجهةِ جهالة العوض.
وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن الدَّيْن وإن لم يكن عوضاً عن الرهن، فرهن الشيء بالدَّينِ المجهول لا يصحّ على الأصح، كما سيأتي في كتاب الرهون. نعَم ما ذكرناه جارٍ في الهبَةِ، بل الهبَةُ تَقبلُ وجوهاً لا يقبلها البيع، كما سيأتي، إن شاء الله.
3236- فينبغي أن نتخيل مراتب: أَوْلاها بالفسادِ الجمعُ بين عبدين في البيع، وحيث تمس الحاجةُ في التوزيع إلى التقويم لتبيين العوض. ويلي ذلك في الترتيب الظاهر الجمعُ بين عبدين أحدهما مغصوب في الرهن، والفرق ما نبهنا عليهِ من خروج الديْنِ عن كونه عوضاً. ويلي الرهنَ بيعُ العبد المشترك، وبيع الحنطَةِ المشتركة المتساوية الأجزاء في الصفات. ويلي هذه الصورةَ الهبةُ؛ من حيث إنها قد تقبلُ ما لا يقبله أصلُ البيع.
ومما يدنو من هذه المرتبة نكاحُ المسلمةِ والمجوسيّة في عقدة واحدة، فإذا وقع القطع بفساد نكاح المجوسية، ففي نكاح المسلمةِ قولان: أصَحُّهما- الصِّحةُ. والقول الثاني- أن النكاح يفسد في المسلمة. ورتّب الأئمة هذا على القولين في بيع العبد المملوك والمغصوب، وسلكوا السبيل المقدَّم في البناء على المعنيين بعد الترتيب.
فإن قلنا: علةُ الفساد في بيع العبدين جهالةُ العوض، فهذا لا يضر في النكاحِ، فيجب القضاءُ بالصحة. وإن قلنا: علةُ الفساد الاتحادُ وتطرّقُ الفسادِ، فهذا قد يُعتَقَد في النكاح أيضاًً.
والذي أراه أن النكاح أولى بالصحة من جميع ما وقع في هذه المرتبة، والسببُ فيه أن الصورةَ التي ذكرناها في الهبَةِ والرهنِ والبيعِ في المشترك يفسدُ العقدُ فيها بالشرائطِ المفسدةِ، والنكاح لا يُفسده الشرطُ الفاسد إذا لم يتضمن الاعتراضَ على مقصوده، فانضمام المجوسية إلى المسلمة ينبغي ألا يزيد تأثيره على شرط نكاح المجوسيَّةِ في نكاحِ المسلمة. ولو جرى ذلك، لم يفسد النكاح.
فهذا هو المنتهى في غرضِ الصحة والفسادِ، في هذه المراتب، ولا نَعدُوها إلى القسم الآخر، حتى نذكر حكم العِوض فيها.
3237- فإذا باع الرجل عبداً مملوكاً، وعبداً مغصوباً، أو مملوكاً ومستولدة، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلام. وإن حكمنا بالصحَّة فيما يقبل العقد، فالعقد يثبت فيه بجملة الثمن المسمى، أم يُقَسَّط منه؟ فعلى قولين: أصحهما- أن العقد يثبت فيه بقسطٍ من الثمن، كما يقتضيه التوزيع؛ فإن صيغة العقد تقتضي مقابلةَ العبدين بالألف، فردُّ الألف إلى أحدهما مخالفةٌ لمعنى اللفظ. ويستحيل ثبوت الثمن على خلاف مقتضى اللفظ.
والقولُ الثاني- أن الثمن يثبت بكماله في مقابلة ما صح العقد فيه؛ لأن المضموم إليه ليس قابلاً للمقابلة، فليحذف من العقد، كأنه لم يذكر.
وهذا ضعيفٌ لا ثباتَ له عند القيَّاسين، ولكنه مشهور وسيظهر أثره في التفريع.
فإن قلنا: العقد يصح في المملوك بتمام الثمن، فلا شك أن المشتري بالخيارِ، فإنه بذل الألف على مقابلة عبدين ثم لم يسلّم له إلاَّ أحدهما، واستمر عليه بذلُ الألف.
وإن قلنا: لا يلزم في مقابلة العبد المملوك إلا قسطٌ من الثمن، فالخيار يثبت أيضاًً للمشتري، فإنه وإن كان لا يخسر في الماليَّة، فقد خاض في العقد على أن يسلَّم له العبدان فأخلف ظنُّه، فاقتضى ذلك ثبوتَ الخيارِ له. فإن أجاز المشتري العقدَ على مقتضاه، نُظر: فإن قلنا: إنه يجيزه بتمام الثمن، فلا خيار للبائع؟ فإنه رضي بألفٍ في مقابلة العبدين، فإذا سلَّم الألَف في مقابلة أحدهما، فلا معنى للخيار.
وإن قُلنا: يُجيز المشتري العقدَ في المملوك بقِسطه من الثمن، فهل يثبت للبائع الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما أنه لا خيار له؛ فإنه سُلّم له ثمنُ ما ملك عليه.
ومن أصحابنا من قال: له الخيار؛ من جهة أنه علّق استحقاقه بالألف الكامل؛ فلم يسلّم له.
وهذا رديء لا أصل له، وله التفات على بيع التجزي إذا باع الرجل صُبرَةً بصُبرةٍ مكايلةً، حيث قال الشافعي: وللمشقَّصِ صُبرته الخيارُ.
وكل ما ذكرناهُ فيه إذا كان التوزيع يقتضي جهالةَ العوض، فأما إذا كان التوزيع لا يقتضي جهالة العوض، كالصُور المقدَّمةِ في العبد المشترك وغيره، فالمشتري بكم يجيزُ العقدَ؟ في المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: نقطع القولَ بأنه يجيز بالقسط. وإنما القولان فيه إذا كان التوزيعُ يجرُّ جهالة.
ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في هذه الصُّورة أيضاًً.
والفرق بين المرتبتين أن التوزيع إذا كان يَجرُّ جهالة، فقد يمكن أن يقال: سببُ الإجازة بالجميع أنا لو قسّطنا، لاقتضى التوزيعُ جهالةً، والجهالةُ مفسدةٌ للعقد، وهذا لا يتحقق حيث لا يقتضي التوزيع جهالة.
وإذا ضممنا صُورة الجهالة إلى هذه الصُورة، انتظم في غرضِنا ثلاثةُ أقوال: أحدُها- أن الإجازةَ بالبعض في جميع هذه المسائل. وهذا لا يسوغ في القياس غيرُه.
والثاني: أن الإجازة بكل الثمن في جميع المسائل.
والثالث: أنا نفصّل بين صُورةٍ يجرّ التوزيعُ فيها جهالةً، فيثبت جميعُ الثمن، وبين صورة لا يقتضي التوزيعُ فيها جهالة، فيثبت فيها بعضُ الثمن على ما يقتضيه التوزيع.
3238- ومن تمام القول في ذلك أن من نكح مسلمةً ومجوسيّةً، فصححنا نكاح المسلمة، فالذي قطعَ به المحققون أنا لا نثبت جميعَ الصداق المسمّى في مقابلة نكاح المسلمة، ولا يُخرّج هذا القول. والسبب فيه أنا لو قلنا بهذا كنا مجحفين بالزوج على وجهٍ، لا نجد له دفعاً، من قِبلَ أنه لا يثبت للزوج حقُّ الخيار، وليس كذلك البيعُ؛ فإنا إن قُلنا: الإجازة تقعُ بجميع الثمن، فللمشتري دفعُ ذلك بأن يفسخ العقدَ.
وعلى هذا القياس نقول: إذا اكترى داراً سنةً، ومضت ستةُ أشهرِ من المدة وهو ينتفع فيها، ثم انهدمت الدار، وانفسخت الإجارة في بقيَّة المدَّة، وفرَّعنا على الأصح وهو أنهُ لا نجد سبيلاً إلى فسخِ الإجارة في المدّة المنقضية، عَلى ما سيأتي في القسم الآخر، إن شاء الله تعالى، وهو التفرق في أثناء العقد، فلا جرم لا نقول: جملةُ الأجرة تلزم في مقابلة ما انقضى من المدَّة؛ لأنا لو قلنا ذلك، كنا كلفناه تمامَ العِوض في مقابلة بعضِ المعوَّض، على وجهٍ لا نجد لدفعه سبيلاً.
وذكر الشيخ أبو علي في نكاح المسلمة والمجوسيّه أو الحرة والأمَةِ في حق الناكح الحر القولين في أصل النكاحِ. ثم قال: إذا صح النكاح في محل الصحَّة، ففي المهر ثلاثةُ أقوال: أحدُها- أنه يبطل المهرُ المسمى، والرجوع إلى مهر المثل.
والثاني: أنه يجب للحرة قسطٌ من المهرِ المسمَّى، فيقسّط على مهر مثلها، ومهر مثل الأمة، أو على مهر مثل المسلمة ومهر مثل المجوسيّة.
والقول الثالث: أنه يجب للتي صح النكاحُ عليها تمامُ المسمى. وهذا لم أره إلا للشيخ أبي علي، وهو ضعيف جداً. أما الرجوع إلى مهر المثل، فله خروج، والتوزيع وإيجاب القسط ظاهر، وأما إثبات تمام المسمى، فبعيد.
ثم قال الشيخ: إذا قلنا جميعُ المهر المسمى يثبتُ في مقابلة الحُرة التي صح النكاح عليها، فلا شك أنا لا نقول: للزوج فَسْخُ النكاح، ولكن نقول: لهُ الخيار في ردَّ المسمى والرجوعِ إلى مَهْر المثل. وهذا الذي ذكرهُ لا يخلِّصُ مما ذكرناه؛ فإن مهر المثل قد يكون مثلَ المسمى، أو أكثرَ منه.
وقد نجز غرضُنا في قسم واحدِ من القسمين المتأخرين، حيث قلنا: المنضمُّ إلى ما يصح العقدُ فيه ينقسم إلى ما يتقوَّم وإلى ما لا يُتقوَّمُ. وقد انتهَى القول فيما يُتقوّمُ.
3239- فأمّا إذا كان المضمومُ إلى ما يصح العقد فيه-لو أُفرد- غيرَ متقوَّم، فهذا ينقسم إلى ما يقبل تقديرَ القيمةِ حكماً، من غير تقدير تغيير صفةٍ في الخلقة، وإلى ما لا يقبل التقدير إلا بفرض تغييبر في الخلقة.
فأمَّا ما لا يقبل التقويم تقديراً حكماً، فهو كالحر يضم إلى العبد، فالحرُّ لا يُتقوَّمُ شرعاً. ولكن تقديره رقيقاً، وتقويمه على حسب هذا ليسَ مستحيلاً. وقد يُقدَّر في الحكوماتِ الحُرّ رقيقاً، ويُبنَى عليه مبلغُ الحكومة.
فإذا باع الرجل حراً وعبداً، ففي صحة البيع في العبد طريقان: من أصحابنا من قال: قولان، كما لو جمع بين مملوكٍ له، ومغصوب.
ومنهم من قطع بالبطلان، من جهة أن قَرِين العبدِ خارجٌ عن جنس المبيعاتِ، فكان هذا مقتضياً مزيد فَسادٍ، ولو قلنا: في صحة البيع قولان مرتبان على ما إذا باع عبداً مملوكاً، وآخر مغصوباً، لأفاد ذلك ما ذكرنا من نقل الطريقين. وهكذا كل ترتيبٍ.
فهذا فيما يقبل تقدير القيمَةِ.
فأما ما لا يقبل تقدير القيمةِ إلا بتغيير الخلقة، فهو كالخمر والخنزير والميتَة، فإذا جُمع في عقدٍ بين الخمر والخل، وبين شاة وخنزير، وبين لحم المذكّى ولحم الميتة، فكيف الترتيب فيه؟ قال الأئمةُ: هذه الصورةُ أولى بالبطلان من مسألَةِ الحرّ والعبد؛ فإن تقدير القيمة غيرُ ممكنٍ في هذه المسائل. وإن فرضنا تغير صفاتها خلقةً لم يكن ما نُقَدِّر قيمتَه هو المذكور في العقد، فظهر الحكم بالفساد، والكلام بآخره.
3240- وهذه المسائل أصولها ملتفَّةٌ بفروعِها، حتى يجري في أثناء الكلام أخذُ الأصلِ من فرعهِ.
فنقول: أولاً من أصحابنا من يقدِّر الخمرَ خلاً، ولحم الميتة لحم مذكاة، والخنزيرَ نعجةً، أو ما يقرب على ما يقتضيه الحال.
وهذا ذكره طوائف من أصحابنا من أصحاب القفال. وهو بعيد، وإن كان ينقدح القياسُ على تقدير الرق في الحر، ثم يتطرق من طريق الاحتمال لو فُتح هذا الباب أمران:
أحدهما: أن يُقدَّر الخمر عصيراً، فنكون اعتبرناه بحالة إذا كان عصيراً وكان الخمرية لم تطرأ، وهذا أمثل من تقديرها خلاً، وقد ذكرهُ بعض الأصحاب.
ومما يجري في ذلك تقدير قيمة الخمر خمراً عند من يرى للخمر قيمةً، وكذلك القولُ في الخنزير، وقد نصير إلى هذا الاعتبار في بعض مسائل الوصايا، على ما سيأتي إن شاء اللهُ عز وجل. وسنُجري مثل ذلك في فروع نكاح المشركات.
وكل ذلك خبطٌ، فإن قدَّرنا هذه التغاييرَ، فلا كلام. وإن لم نقدّرْها، فلا خروج للحكم بصحَة البيع فيما يصح إفرادُه به إلا على رأي من يُثبت العقدَ فيما يصح العقدُ فيه بتمام الثمن؛ فإن التوزيع قد يتعذّر.
وهذا أوان تمام البيان فيما نحن فيه.
3241- وذهب المحققون إلى أن صحةَ البيع وفسادَه يُتلقى من أن العقدَ حيث يمكن التوزيع يجازُ في مورد صحيح بتمام الثمن أو بقسطٍ منه. فإن رأينا الإجازة بالتمام، لم نبعد أن نصحح العقدَ في مسألة الخمر والخنزير والميتة، فإنا إذا كُنا لا نوزع، لم يختلف الأمر بأن يكون التوزيعُ ممكناً أو غيرَ ممكن.
وإن رأينا إجازة العقد في مورده بقسطٍ من الثمنِ، فإذا تعذّرَ التقسيطُ، فلا وجه لتصحيح العقد.
وتمام القول في هذا بذكر مسألةٍ، وهي أن البائع إذا ضَمّ إلى المبيع القابلِ للعقد مجهولاً لا يُحاط به، فلا مطمع في تقدير التوزيع أصلاً، ولا خُروج للصحَّة في المعلوم إلا على إجازة العقد بتمام الثمن.
فليفهم الناظر المراتبَ.
وهذه المراتب أولاها- فيما يتقوّم. وثانيتها- فيما يمكن تقدير القيمة فيهِ حكماً من غيرِ تغييرٍ. وثالثتُها- فيما لا يتأتى ذلك إلا بتقدير تغيير الخلقة. ورابعتُها- فيما لا يتأتى فيه التقويم أصلاً.
وهذا آخر القول في تفريق العقد من ابتدائهِ.
3242- فأمّا إذا جرى التفريق في الأثناء، فالقول ينحصر فيما يتعلق بالانفساخ من غير اختيارٍ، وفيما يتعلق بالفسخ المختار بسبب يقتضيه.
فأما القول في الانفساخ، فنقول: إذا اشترى رجل عبدين، وتلف أحدُهما قبل قبض المشتري، فالعقد ينفسخ فيهِ، وهل ينفسخ في العبد القائم الباقي؟ لم يخلُ من أحوال: إما أن يكون العبد القائمُ بعدُ في يد البائع، وإما أن يقبضه المشتري، وهو باقٍ في يده. وإما أن يقبضه المشتري ويتلفَ في يده، ثم يتلف العبد الآخر في يد البائع.
فإن كان العبد الباقي في يد البائع بعدُ، فإذا انفسخ العقدُ في الذي تلف في يده، فهل ينفسخ في الثاني؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه لا ينفسخ لبقائه، وسببُ انفساخِ العقد في التالفِ تلفُه وهو في ضمان البائع. وهذا المعنَى مفقود في القائم.
والقول الثاني- أن العقدَ ينفسخ فيه، حتى لا تتبعَّضَ الصفقةُ، وهي مُتَّحدة.
قال المحققون: مأخذ التفريق في البقاء والانفساخ آخراً، هو مأخذ التفريق في الابتداء صحَّةً وفساداً. ولكن الوجه ترتيبُ الآخِر على الأول.
فإن قلنا: إذا جَمَعت الصفقةُ ما يجوز بيعُه وما لا يجوز بيعُه، فالعقدُ صحيحٌ فيما يجوز، فلأن نحكم ببقاء العقدِ فيما بقي أولى.
وإن قُلنا: يفسُد العقد ابتداء فيما يصح إفراده بالعقد؛ نظراً إلى تطرُّق الفسادِ وتغليباً له، فهل نحكم بالانفساخ في العبدِ القائمِ، فعلى قولين.
والفرق أن الصفقةَ إذا انقسمَتْ في ابتداءِ عقدها، اختَلَّ لفظُها. وإذا صحت الصفقةُ، فالوجه اتباعُ البقاء والهلاك، والحكمُ باستمرار العقد على ما بقي، وانفساخِهِ فيما تلف.
فإن قلنا: العقدُ ينفسخ في العبدِ الباقي، فلا كلام، والثمن مردود على المشتري، وإن قلنا: لا ينفسخ العقدُ في العبدِ الباقي، فللمشتري الخيارُ في فسخِ العقد، فإن فسخ، عاد الكلامُ إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ. وإن أجاز العقدَ فيجيزه في الباقي بتمام الثمن أو بقسطهِ؟ فعلى قولين:
أحدهما: وهو الصحيح الذي لا ينساغ غيرُه أنه يجيز العقدَ فيه بقسطه.
والثاني: أنه يجيز العقدَ في العبد الباقي بتمام الثمن. وهذا لا اتّجاه له ولو لا اشتهارُه في النقل، لما ذكرناه.
3243- ثم قال الأئمة: القولان فيما ذكرناه في الآخِر مرتبان على القولين المذكورين في هذا الحكم في أول تفريق الصفقة.
فإن قُلنا: المشتري يجيز الصفقةَ فيما يصح العقدُ فيه ابتداء بقسطه من الثمن، فهذا في الانتهاء أَوْلى.
وإن قُلنا: المشتري يجيز العقد فيما يصح فيه ابتداء بتمام الثمن، ففي الدوامِ قولانِ.
والفرق أنا إن قلنا: يقف الثمن ابتداء فيما يقبل المقابلة بالثمن، فهذا فن من الكلام. فأما المصيرُ إلى أن الثمن الواقعَ في مقابلة العبدين ينصرفُ إلى مقابلة الباقي منهما، فهذا لا وجه له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا تلف أحداً العبدين والثاني قائم في يد البائع.
فأما إذا قبض المشتري أحدَ العبدين، وتلف الثاني في يد البائع و انفسخ العقدُ في التالف، فهل ينفسخ في العبدِ المقبوضِ القائمِ في يد المشتري؟ فعلى قولين مرتبين على ما إذا كان العبدُ الباقي قائماً في يد البائع، وهذه الصورة الأخيرةُ أوْلى بألا ينفسخ العقدُ فيها في العبد الباقي. والسبب فيه أن العقدَ تأكَّد في العبد المقبوض بانتقال الضمانِ فيه إلى المشتري.
فأما إذا قبض المشتري أحدَهما، وتلف في يدهِ، ثم تلف العبدُ الآخرُ في يد البائع، وانفسخ العقد عليه، فهل ينفسخُ فيما قبَضَ المشتري وتلف في يده؟ فعلى قولين مبنيين على القولينِ فيه إذا كان العبد المقبوض قائماً بعدُ في يد المشتري.
والفرق أن الفواتَ إذا لم يقتض انفساخاً، فإنه يبعد فيه تقديرُ الانفساخ بعده، فقد تأكَّد العقدُ بالقبض، والتلفُ في المقبوض. فاقتضى ذلكَ فيها ترتيباً.
وقالَ الأصحاب تخريجاً على هذه الصورة الأخيرة إذا اكترَى رجل داراً، وقبضها وانتفع بها ستة أشهر، ثم انهدمت الدار، فلا شك في انفساخ الإجارة في بقية المُدَّة، وهل تنفسخ في المدة الماضية؟ هذا يُخرّجُ على ما ذَكرناه في العبد المقبوض التالف في يدِ المشتري. فإن قلنا: ينفسخ العقدُ فيه، فتنفسخ الإجارةُ في المدة الماضية، وإن تلفت المنافع فيها في يد المستأجر. وإن منعنا الانفساخَ في المقبوض التالف فيمتنع الانفساخُ في المدةِ الماضية في الإجارة.
هذا تمامُ القول في التبعيض الواقع انتهاءً بطريق الانفساخ.
3244- فأما القول في التبعيضِ المتعلق بالفسخ الاختياري فإذا اشترى رجل عبدين وقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيباً، فهل له أن يُفرد العبدَ المعيب بالرد ويستردَّ قسطه من الثمن؟ فعلى قولين مشهورين:
أحدهما: له ذلك.
والثاني: لا سبيل له إلى التفريق. وهذا يقرب مما تقدم الآن.
فإن قُلنا: له ردُّ المعيب: فإذا ردَّ، استردَّ قسطاً من الثمن على ما يقتضيهِ التوزيع، لا خلاف فيه؛ إذ لو قُلنا: يسترد جميع الثمن والعبد الآخر باقٍ في يده، لكان ذلك محالاً، خارجاً عن الضبط، مفضياً إلى إثبات شيءٍ من المبيع في يد المشتري من غير أن يكون له مقابل.
وإن قلنا: لا يرد العبدَ المعيبَ، فله ردُّهما جميعاً، لم يختلف العُلماءُ فيه؛ وذلكَ لاتحاد الصفقة.
3245- ومن تمام التفريع: أنا إذا جوزنا له ردَّ المعيب وحدَه، فلو قال: أردّهما: المعيبَ والسليمَ، فالمذهبُ أن له ذلك.
ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يرد إلا المعيبَ منهُما على هذا القول.
وفرَّع الشيخ أبو علي، فقال: إذا قلنا: لا سبيل إلى التبعيض، فلَو قالَ المشتري: رددتُ المعيبَ، هل يكون هذا رداً لهُما؟ ذكر وجهين:
أحدهما: أنه ردٌّ لهما جميعاً. وهذا في نهايةِ الضعفِ.
والثاني: وهو الذي لا يصح غيره أنه لا يكون ما جاء به رداً فيهما، ولكنه يلغو، فكأنه لم يردّ.
ومما فرَّعه حيث انتهى الكلامُ: أنا إذا منعنا التفريقَ، فلو رضي البائع بردِّ العبد وحده، وردّ قسطٍ من الثمن، فهل يصح ذلك مع رضاه؟ فعلى وجهين. وفيهما احتمالٌ على حال؛ فإن الرد على الجملةِ متعلقٌ بالاختيار وليس كالانفساخ وكالحكم بفسادِ العقد ابتداءً؛ فإنه غير متعلق بالاختيار، فينفذ الحكم المنعقد ولا يؤثر الرضى بعده.
ولو اشترى الرجل عبدين وقبضهما، وعَثَر منهما جميعاً على عيب، فأراد ردَّ أحدهما دون الثاني، ففي المسألة قولان. ومنْعُ التفريق هاهنا أولى؛ بسبب ثبوت العيب الموجب للخيار في كل واحدٍ منهما.
وكل ما ذكرناه فيهِ إذا قبض العبدين، فأراد ردَّ أحدهما مع قيام الثاني.
3246- فلو قبضهما، وتلف أحدُهما في يده، ووجد بالثاني عيباً، فهل له رده مفرداً؟ فعلى قولين مُرتَّبَيْن على القولين فيه إذا كان العبدان باقيين. وهذه الصورةُ الأخيرةُ أوْلى بجواز ردَّ أحد العبدين؛ فإن العبدين إذا كانا باقيين، أمكن ردُّهما وفسخُ العقد من غير تفريق، وإذا تلفَ أحدهما فيعسُر الرد في التالف ويعذَر المشتري بأفراد العبدِ الباقي بالرد.
فإن قلنا بردِّه، فلا كلام. وإن قلنا: لا يردُّه، فلو قال: أُخرج قيمةَ العبد التالفِ، وأضمُّها إلى العبد القائم وأردُّهما وأسترد جملةَ الثمن، فهل له ذلك؟ فعلى قولين:
أحدهما: له ذلك؛ فإن فيه استدراكُه للظُّلامةِ التي لحقته، وإقامةُ القيمةِ مقام الفائت في حق المردود عليه، مع ترك تفريق الصفقة.
والقول الثاني- ليس له ذلك؛ فإن القيمة ليست موردَ العقد، وسبيل الفسخ أن يَرِدَ على ما وردَ عليهِ العقد. ولا خلاف أن من اشترى عبداً، وقبضه وتلف في يدهِ، ثم اطلع على عيب بهِ، فأراد بذلَ قيمتِه وإيرادَ الفسخ عليها، لم يكن له ذلك، فليكن الأمر كذلك في أحد العبدين.
وقد تقدم في تفصيلِ المذهب في العيب الحادث في يد المشتري مع الاطلاع على العيب القديم أنه لو أراد ضمَّ أرش العيب الحادث إلى المبيع وردَّهما، فهل يجبر البائع على قبول ذلك وردِّ الثمن. وقد قال الأئمة ردُّ قيمةِ أحدِ العبدين مع العبد القائم أبعدُ عن الجَوازِ؛ من جهة أن العبدَ التالفَ مبيعٌ مقصودٌ، وينفسخ العقد بتلفهِ في يد البائع، فردُّ قيمةِ مقصود أبعدُ من ردَّ أرش نقصانٍ لا يتأصل.
ولا خلاف أن العبدَ إذا عابَ في يد البائع، لم يُقضَ بانفساخ العقد في شيء، وليس للمشتري إلا الخيارُ في الفسخ والإجازة، كما تقدَّم.
فإن قُلنا: للمشتري ردُّ العبدِ والقيمةِ، فلا كلام. وإن قلنا: ليس له ذلك، فيرجع بأرش العيب القديمِ.
ومن تمام تفريع هذا أنه لو طلب أرشَ العيب القديم، فقال البائع: اغرم لي قيمةَ العبد التالف وارددها مع العبد القائم، فهل يجبر المشتري على هذا الحكم إن أراد استدراك الظُّلامة؟ فعلى قولين.
وقد أجرينا مثل هذا في أرش العيب الحادث، وذكرنا الخلاف في مُطالبة البائع المشتري، ومطالبةِ المشتري البائعَ.
وهذا آخر القول في أصول تفريق الصفقة، أتينا به على أكمل وجه وأشمله.
ونحن نرسم وراءها فروعاً.
فرع:
3247- إذا قال: بعتُك هذين الصاعين بدرهمٍ، فقال المخاطب: اشتريت أحدهما بنصف درهم، فالبيع مردود؛ فإن الصفقة متحدة؛ فلا سبيل إلى تبعيضِها في الجوابِ. وهذا متَّفَقٌ عليهِ، وإن حكمنا بأن الفسادَ في بعض مضمون العقد لا يتَداعَى إلى فساد باقيه وإن كان يصح إفرادُه بالعقدِ.
ولو زوج الرجل أمتيه من عبدٍ، فقال العبد: قبلت نكاح إحداهما، فقد قطع الشيخ أبو علي بصحة النكاح، وفرق بين النكاح والبيع، وهذا محتمل. ولو قيل: يجب تخريج ذلك على ما قدمناه في أحكام التفريق من أن الرجل إذا نكح مسلمةً ومجوسيةً في عقد واحدٍ، فهل يخرج فسادُ نكاح المسلمة على تفريق الصفقة أم يقطع بصحة النكاح فيها؟ لكان حسناً. فإن أفسدنا النكاحَ في المسلمةِ بسبب التفريق، وجب القطع بأن تفريقَ القبولِ يمنع صحةَ النكاح. وإن صححنا النكاح في المسلمة، وفرقنا بين النكاح وبين البيع في الترتيبات المقدمة، لم يبعد على ذلك الحكمُ بصحة النكاح في الصورة التي ذكرناها.
فرع:
3248- إذا اشترى عشرين درهماً بدينارٍ، وأقبض الدينارَ، وقبض من الدراهم تِسعةَ عشرَ، وتفرقا قبل قبض الدرهم، انفسخ العقد في الدرهم، وما يقابله من الدينار. وهل ينفسخ في الباقي؟ فعَلى قولين، كما تمهَّد في أصول التفريق. فإن قلنا: لا ينفسخ في الباقي، فهل يثبت الخيارُ للمشتري الذي لم يقبض تمام حقه؟ فعلى أوجهٍ: أحدُها- له الخيار؛ طرداً لقاعدة الخيار عند تبغض مقصودِ العقد.
والثاني: لا خيار له؛ فإنه هو الذي سعى في هذا التبعيضِ. والمسألةُ مفروضة فيه إذا تفرقا عن اختيارٍ.
والوجه الثالث: أنهما إن علما أن العقد ينفسخ في الباقي، وتفرقا على قصدٍ، فلا خيار فيما جرى التقابض فيه. وإن لم يعلما ذلكَ، ثبت الخيار للمشتري.
فرع:
3249- إذا نكح امرأتين وأصدقهما عبداً، وقُلنا يصح الصداقُ مُوزَّعاً على مهريهما، على ما سيأتي تمهيدُ هذا الأصل في الصداق. فلو بان فساد نكاحِ إحداهما، وارتد ما ثبت في العبد صداقاً لها، وثبت قسط من العبد صداقاً للتي صحّ نكاحُها، قال الشيخُ: للزوج الخيارُ في حق هذه التي صح نكاحُها في رَدّ المسمى صداقاً لها، والرجوعُ إلى مهر المثل. والسبب فيه أن العقدَ تبعّض عليه لمَّا بان فسادُ نكاح إحداهما. والتبعيض عيبٌ، فليتخير لذلك.
هكذا. قال: وقد عرضتُ هذا على الشيخ يعني القفالَ، فرآه صواباً ورضيه.
وهذا مشكِل عندي، فإن التبعيض لم يأت من قِبل هذه التي صح نكاحها، فاسترجاع ما صح صداقاً لها بعيدٌ، ولا يبعد أن ينتسب الزوج في هذا إلى قلّة التحفظ، وتركِ البحث عن حال التي فسدَ نكاحها.
فرع:
3250- ذكرنا اختلافَ القول فيه إذا اشترى الرجل عبدين فأرادَ رَدّ أحدِهما بالعيب، فلو اشترى عبداً فوجد به عيباً، فأرادَ رَدَّ نصفه، فالذي قطع به الأصحاب امتناعُ ذلك؛ من جهة أن التبعيضَ عيبٌ، فلو أثبتنا له ردَّ نصفِه، لكان قابضاً بعيبٍ رادّاً بعيبين. وقال الشيخُ رأيت لبعض أصحابنا أن المسألة تخرج على قولين فيها. وقد رأيتُ هذا لصاحب التقريب.
وهو خطأ عندي غيرُ معتد به.
والذي ذكره الأئمّةُ أنه لو اشترى عبداً، وباع نصفه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، فأراد ردَّ النصفِ الثاني مع ضمه أرشَ عيب التبعيض، فهو يندرج تحت التفاصيل المقدَّمةِ في العيب القديم والعيب الحادث.
فرع:
3251- إذا باع عبداً وحُرّاً من إنسانٍ، وكان المشتري جاهلاً بحقيقة الحال، فالمسألةُ على قولي تفريق الصفقة، ولا يتغيّر الأمر بعلم البائع.
ولو كانا عالمين بحقيقة الحَالِ، فقد كان شيخي الإمام يقول: الوجه: القطع بالبطلان، وتنزل المسألة منزلة ما لو قال الرجل لمن يخاطبه: بعتُك عبدي هذا بما يخُصّه من ألفٍ لو وزع عليه وعلى قيمة فلان.
وهذا عندي غيرُ سديدٍ. والوجه طردُ القولين في الأصلِ. نعم، يجوز أن يتخيل في صورة العِلم اتجاه قولنا في وقوع كل الثمن في مقابلة العبدِ، على أنه خيالٌ أيضاًً؛ فإن تيك المسائل بتفريعاتها مدار على مقتضى الألفاظ. نعم، إن كنا نقول: العقد يُجاز في العبدِ بقسطٍ من الثمن، فلا وجه لاثبات الخيارِ للمشتري؛ فإن العلم بحقيقة الحال ينافي ثبوتَ الخيار.
فرع:
3252- إذا قبض المشتري العبدين، وتلف أحدُهما، وجعلنا له أن يردَّ العبد القائم وقيمةَ التالف، فلو اختلف البائع والمشتري في مقدار قيمة العبد التالف، فالقولُ قولُ المشتري باتفاق الأصحاب؛ فإنه الغارم، وإذا تنازع الغارم والمغروم له، فالرجوعُ إلى قول الغارم؛ لأن الأصل براءةُ ذمَّتهِ.
وكذلك لو باع رجل ثوباً بعبد وجرى التقابضُ، ثم تلف العبدُ في يد قابضهِ، ووجد قابضُ الثوب عيباً بما قبضَه، فإنه يردُّه، وإن كان عِوضه تالفاً؛ فإن الاعتبارَ بوجود المردود، ولو تلف أحدُ العوضين في يد قابضه ومقابلُه باقٍ، فأراد من تلف في يده ما قبضه أن يغرَم قيمتَه ويردها بناء على وجود المقابل، لم يكن له ذلك، فالتعويل في ثبوت الرد ونفيه على وجود المردود وعدمه. فإذا كان موجوداً فيردّه. وإن كان مقابله تالفاً، فإنه يسترد قيمتَه.
ولو اختلفا في مقدار القيمة، فالقول قولُ غارمِ القيمة؛ بناء على الأصل الذي قدمناه.
ولو مات أحد العبدين في يدِ المشتري، وقلنا: له أن يردَّ العبدَ القائم من غيرِ قيمة التالف ويستردَّ قسطاً من الثمن، وكان لا يتأتى الرجوعُ إلى قسطِ الثمنِ إلا بتوزيعهِ على قيمةِ القائم، وقيمةِ التالف، فاختلفا في قيمة التالف، فالقول قول من؟
فعلى قولين:
أحدهما: أن القول قولُ البائع؛ فإنه يسترد منه شيء من الثمن قد تقدَّم استحقاقه فيه، فعلى المشتري أن يبيّن استحقاقَ الاسترداد.
والقول الثاني- أن القول قولُ المشتري؛ فإن البائع يدَّعي استقرارَ ملكه على مقدار، فلا يقبل قولُه مع بدوّ العيب القديمِ. وهذا فيه احتمالٌ على حال. ولعل الأصح الرجوعُ إلى قول البائع ويمينه.
فإن قيل: أطلقتم القيمةَ ولم تذكرُوا تفصيلَها، وأنها تُعتبر بأي وقتٍ؛ قُلنا: هذا سَيُذكَر في باب التحالف. ولعلنا نذكر فيه ما يتعلق بأطراف هذا الفَصل إن شاء الله عز وجل.