فصل: باب: الربا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الربا:

وما لا يجُوزُ بَعضُه ببَعض مُتَفاضِلاً ولاَ مُؤجَّلاً والصَرف
2942- قال الشافعي: "أخبرنا عبد الوهَّاب... الحديث".
قد نصّ الله تعالى على تحريم الربا وتوعّد عليه، ولكن ذَكَرَ الربا مجملاً في القرآن، والتفسيرُ مُحالٌ على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعتمدُ في الباب الخبرُ، وقد روى الشافعي بإسنادهِ عن مسلم بن يسار، ورجل آخر عن عبادةَ بنِ الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبيعوا الورِقَ بالورِق، ولا الذهبَ بالذهبِ، ولا البُرَّ بالبُرّ، ولا الشعيرَ بالشعير، ولا التمرَ بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيدٍ، ولكن بيعوا الورِقَ بالذهب، والذهبَ بالورق، والبر بالشعير، والشعيرَ بالبُرّ، والملح بالتمر، والتمر بالملح كيف شئتم يداً بيد».
فنقول: نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الرِّبا في ستة أشياء وهي الدراهم، والدنانير، والبر، والشعير، والتمر، والملح، واضطربت مذاهب العلماء في تعدّي مورد النصّ، ولا يليق التعرُّضُ للاختلاف بهذا الكتاب المقصور على بيان مذهب الشافعي وأصحابه، فالوجه الاقتصار على هذا المذهب.
2943- والباب يشتمل على ضروب من الربا. وأصل جميعها ربا التفاضل، فنبدأ بهذا، ونستقصي القولَ فيه، ثم نذكر ما عَدَاهُ، ونصنّفُ الأشياء الستة صنفين، فنذكر الأربعة منها فنّاً: وهي البُرّ، والشعيرُ، والتَمرُ، والملح، ثم نتكلم بعدها في الدراهم، والدنانير. فأما الأشياءُ الأربعة، فتحريم ربا الفضل فيها عند الشافعي معلَّلٌ في قوله الجديد بالطعمِ، ثم لهذه العلةِ محل وهو اتحاد الجنس، فإذا صادف الطعم جنساً متحداً، اقتضى تحريمَ التفاضل. وليس الجنسُ صفةً في العلةِ، وإن كان الحكم يتوقف عليه، وهذا بمثابة قولنا: الزنا موجبٌ للرّجم إذا صدر من محصنٍ، وليس الإحصانُ صفة في العلة، ولكنه محلّها. وقد استقصينا القول في ذلك في مجموعاتِنا في الخلاف.
وأثر ما ذكرناه يبين في ربا النساء، وباب الصرف.
وقد ثبت الآن تحريمُ التفاضل في كل مطعوم متّحدٍ جنسُه سواء كان مقدراً بكيل، أو وزنٍ، أو لم يكن مقدراً، كالسفرجل، والرمان، والقثاء، والبطيخ.
واعتبر في القديم الطعم كما ذكرناه، وضمّ إليه التقدير وقال: علة الربا من الأشياء الأربعة الطعمُ، وإمكانُ التقدير. واعتبار التقدير في القديم وصفٌ في العلّة، وهي مركّبة من الطعم والتقدير، ومحل العلّة المركَّبة اتحادُ الجنس كما تقدم، وهذا أصل الباب في هذه الأشياء.
وإذا اختلف الجنسُ لم يحرم التفاضل، كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "وإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم".
2944- ثم أول ما نبدأ به شرح الطعم الذي اعتبرناه في العلّة: فكل ما يكون الغرض الغالب منه الطعْم، وإنما يُعد غالباً له، فهو مالُ ربا على الجديد، مقدَّراً كان أو غير مقدَّرٍ. والمقدر مما يُطْعم مال ربا في القديم؛ فالأغذيةُ والفواكه داخلةٌ تحت الطُّعْم، والأدويةُ مطعومةٌ، وإن كانت تستعمل على نُدورٍ، ولكنها مُعَدَّةٌ لتُطعم إذا مست الحاجةُ إليها.
هذا هو الأصل، ونذكر مسائلَ فيها تردد.
قال العراقيون: الطين الأرمني مطعوم دواءً، فهو مال ربا، والطين الذي يأكله السفهاء لا ربا فيه؛ فإنه لا يعدّ مأكولاً، وأكله سفهٌ. وكان شيخي يتردد فيه، ويميل إلى أنهُ مال ربا، وما ذكروه في الطين الأرمني صحيحٌ، لا خلاف فيه. وذكر العراقيون فيما صُرف عن الطُّعم اعتياداً وأصله مطعوم، كدهن البنفسج، والورد، وغيرهما، أن المنصوص أن هذه الأدهان مال ربا، فإنها شَيْرج اكتسب روائح من الأزهار، وانكف الناس عن أكلها ضِنّة بها. قالوا: وذكر بعض الأئمة قولاً مخرَّجاً أنها ليست مالَ رباً؛ لأنها لا تُعدّ مطعومةً عرفاً.
قال صاحب التقريب: "دهن البنفسج مال ربا، وفي دهن الورد وجهان".
ولستُ أفهم الفرق بينهما، ثم إذا جعلناها مال ربا فكلُّها جنسٌ واحد؛ فإنها شَيْرج اختلفت روائحها، لمجاورة أشياءَ مختلفة. هكذا ذكره العراقيون، وهو الوجه.
وذكر الإمام وجهين في الكتان ودهنه، وقطع العراقيون بأن دهنَ الكتان المعد للاستصباح ليس مالَ ربا، والظاهرُ ما قالوه؛ فإن الكتان ودهنه إن فُرض أكلُهما على ندور، فلا نظر إلى ما يندر، وإنما الاعتبار بما هما معدّان له غالباً، وهذا كالكبريت والقطران، قد يندر من بعضٍ أكلُهما، ولكنهما ليسا مُعدَّيْن لذلكَ.
قال العراقيون: ودَكُ السَّمكِ المعَدُّ للاستصباح وتدهين السفن ليس مال ربا، وعللوا ذلك بما قدمناه. وهذا يظهر فيه جعلُه مالَ ربا؛ فإنه جزءٌ من السمك، وهو مطعوم فيه، والزعفران مأكولٌ، والمقصود الأظهر منه الأكل تلذذاً وتداوياً.
ولو فرض علينا شيء يجري فيه الطعم وغيرُه على التقارب في التساوي؛ فالوجه القطع بأنه مال ربا؛ فإنه ظهر كونه مطعوماً، فكفى ذلك، ولا يضر ظهورُ غرضٍ آخرَ فيه، وفيما نقله العراقيون في دهن البنفسج وودك السمك المعدّ للاستصباحِ تناقضٌ؛ فإنهم لم ينظروا إلى العادة في انصراف دهن البنفسج عن الطُعم، واختاروا كونه مالَ ربا، وحكَّموا النص فيه، وقولهم في ودكِ السمكِ يخالف ذلك. وهذا غامض عليهم.
والوجه عندنا تخريجُ هذا الفن على الخلاف؛ فإنه متردّد بين الأصل المأكول، وبين الانصراف عن جهة الأكل لغرض في العادة.
فرع:
2945- اختلف الأئمة في بلع السمكة الحيّة؛ فإن منعنا ذلك، فليس السمك مال ربا في الحياة. وإن جوزنا بلْعَها، فقد تردد شيخي في إجراء الربا فيها، وهذا بعيدٌ عندي. والوجه القطع بأنه لا ربا فيها؛ فإنها لا تُعدّ لهذا الشأن. وكان تخصيص ما ذكره بالصغار التي تُبتلع. وتردّد صاحب التقريب في السمكة، وبنى أمرها على ما ذكرناه، وقطع بالفصل بين الكبار والصغار.
وأما الماء، فمطعوم لا شك فيه، والمذهبُ أنه مملوك يباع، فهو مال رباً. ومن أصحابنا من قال: الماء لا يُملك؛ فيمتنع عنده بيع الماء بالدراهم، وسأذكر أحكام المياه مجموعةً في إحياء المواتِ، وتمام الضبط في هذا أن المعتبر في الاعتداد بالطُّعم حالةُ الاعتدال والرفاهية، فأما ما يطعم في سِني الأَزمِ والمجاعة، فلا معوّل عليه.

.فصل في اعتبار طريق التقدير:

2946- ما جرى في تقديره طريقٌ في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو المعتبرُ فيما يحرم فيه التفاضل، فالحنطة والتمر والشعير كانت تكال، فلا يجوز بيع بعضها ببعض مع اتحاد الجنس وزناً بوزنٍ، وإن كان الوزن أحصرَ من الكيل، ولكن المتبعَ الشرعُ، وإن صح الوزن في شيء في عَصر الشارع صلى الله عليه وسلم، تعيّن الوزنُ فيهِ؛ حيث تحرم المفاضلة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة» فما معنى الحديث؟ قلنا: لعل اتخاذ المكاييل كان يعمُّ في المدينة، واتخاذ الموازين يعمُّ بمكة، فخرج الكلام على العادة، وإلا، فلا خلاف أن اعتبار مكاييل أهل المدينة، وموازين أهل مكة لا يرعى، ويجوز أن يقال: ما تعلق بالوزن من النُّصب وأقدار الدياتِ وغيرها، فالاعتبار فيها بوزن مكة، وما تعلق بالكيل في زكاةِ الفطر، والكفارات، فالمعتبرُ ما كان يغلب في المدينة. وليسَ في الحديث تَعرُّضٌ لأمر الربا.
فرع:
2947- إذا اتخذ مكيالٌ لم يُعهد مثله في عصرِ الشارع، وكان يجري التماثل به، فالوجه القطع بجواز رعاية التماثل به؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعبَّدْنا في الحديث إلا بالكيل المطلق فيما يكال، ولم يعيّن مكيالاً، وأجمع أئمتنا: على أن الدراهم إذا بيعت بالدراهم، وعُدِّلَتا بالتساوي في كفّتَي ميزان، فالبيع صحيح. وإن كنا لا ندري ما تحويه كلُّ كِفة.
وهذا الذي ذكرته في مكيالٍ يجري العرف باستعماله، ولكن لم يعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو بيع ملءُ قصعة بملئها، وما جرى العرف بالكيل بأمثالها، فقد حكى شيخي تردّداً عن القفال، والظاهر عندنا الجواز. والوزن بالطيّان وزنٌ، وإن لم يكن له لسانُ وزنٍ، والاستواء يبين فيه بتساوي قَرْعتي الكِفتين، والوزن بالقَرَسْطون وزنٌ، وقد يتأتى الوزن بالماء بأن توضع دراهم في ظَرْف، فتُلقى على الماء ويُنظر إلى مقدار غوصه، ثم يفعل مثل ذلك بمقابلهِ، وليس ذلك وزناً شرعيّاً ولا عرفيّاً. والظاهرُ أنه لا يجوز التعويل عليه في تماثل الربويات.
وما استَربْنا فيه، فلم ندرِ أنه كان مكيلاً في عَصر الشارع أو موزوناً، فلا يخلو إما أن يكون له أصل يعرف تقدير الشارع فيه، أو لا يكون، فإن لم يكن له أصل يُعلم تقديرُه شرعاً، وكان يتأتى فيه الكيل والوزن جميعاً، ففيه أوجه: أحدها: أن يكالَ؛ فإن الكيل كان غالباً في معظم المطعومات، فنعتبر موضع الإشكال بالغالب.
والثاني: أنه يتعين الوزن؛ فإنه أحصرُ من الكيل، فإذا لم يثبت الكيل بالتوقيف، فطلبُ الأحصَرِ أولى. والثالث: أنا ننظر إلى العادة الغالبةِ في موضع المعاملة؛ فإنه إذا عسر اعتبار عرف الشارع، وقد وجدنا العرف أصلاً متبعاً، فالأقربُ اعتبار عرف الوقت.
وذكر شيخي وجهاً رابعاً- وهو أنا نتخيَّر بين الكيل والوزن؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني. وهذا بعيد جداً لم أره لغيره. وإذا جرى التقديران، فلابد من تفاضل يجري لأحدهما. ولو منع مانعٌ أصلَ البيع لاستبهام طريق التماثل، لكان أقربَ مما ذكره، ولكن لا قائل به من الأصحاب. فأما إذا كان للشيء أصل يعرف طريق تقديره في عصر الشارع، ولكنه في نفسه لا يُدرَى بماذا كان يُقَدَّر في العصر الأول، ففيه الأوجه المتقدمة، وزاد شيخي وصاحب التقريب والصيدلاني وجهاً آخر أنهُ يتعيّنُ أن يقدَّر بما يقدر به أصله.
فصل:
2948- في بيان الحال التي تباع في مثلِها أموال الربا، بعضُها ببعض، ويتصل به التفريع على القول القديم؛ فنقول: قد منع الشافعيُّ في معظم العلماء بيعَ الرطب بالتمر، واعتمد فيه الحديث المشهور، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: «أينقصُ الرطبُ إذا جف؛ فقيل نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: فلا إذن». ثم استنبط الشافعي من مورد الحديث أن المماثلة حقها أن يعتبر فيها حالُ كمال الشيء، فالتمر حالةُ كماله جفافه، فإذا بيع الرطب بالتمر مع التساوي في الحال، ثم فرض جفاف الرطب، نقص مقداره عند جفافه عن التمر الذي قابله، وكأنا تخيّلنا على الجملة أنَّ تعبّدَ الشارع في منع التفاضل يعتمد بشرف الطعام، فنعتبر التماثل في أشرف الأحوال، ثم بنى الشافعي على ما مهّدَهُ في ذلك منعَ بيع الرطب بالرطب؛ فإنهما إذا جفّا، لم يُدْرَ هل يتماثلان.
2949- فنقول: بعد تمهيد القاعدة: كل رطب يعتاد تجفيفه لا يجوز بيع بعضه ببعض، وكذلك القول في العنب.
فأما الرطب الذي لا يجفف ولو فُرض تجفيفُه، لاستحشف وفسد، فهل يجوز بيع بعضِه ببعضٍ؟ فيه وجهان:
أحدهما: الجواز، وهو القياس؛ لأن هذا النوع كماله في إرطابه، وليست له حالة منتظرة أكمل من هذه.
وقد أجرى بعض أصحابنا لفظ الادّخار في أدراج الكلام، وهو غير معتمد؛ فإن اللبن يباع بعضه ببعضٍ، كما سنذكره، ولا يتأتى فيه الادخار، ولكن لما كان ذلك أكملَ أحوالهِ، روعي كمالُه، ولم يثبت أيضاً توقيف في النهي عن بيع الرطب بالرطب خصوصاً، وإنما النهي في بيع الرطب بالتمر. والوجه الثاني أن البيع باطل، نظراً إلى جنسِ الرطب، و امتناعاً من تتبع التفاصيل في أنواع الجنس؛ فإن القول في ذلك يطول.
ولم يختلف أئمتنا في منع بيع الرطب الذي لا يجفف بالتمر، وكان القياس يقتضي تجويزَه عند من يجوّز بيعَ الرطب بالرطب، إذا كان لا يجفف. وما ذكرته مدلول كلام الأئمة، ولم أجد لهم نصاً في منع بيع التمر بالرطب الذي لا يجفف.
2950- وأمَّا المشمش والخوخ، فقد يجري العرف في تشميسهما، ولكن لا يعم عمومَ تجفيف الرطب والعنب، فذكر الأئمةُ ثلاثة أوجهٍ فيها: أحدُها- أنه لا يجوز بيع الرطب منها بالرطبِ من جنسهِ؛ إذ له حالة جفاف منتظرة، فأشبه الرطبَ والعنبَ. وهذا القائل يجوّز بيعَ الجاف منه بالجافّ، قياساً على الرطب.
والوجه الثاني- أنهُ يجوز بيع الرطب بالرطب، فإن أكمل أحوال المشمش، وما في معناه الرطوبةُ، والتجفيف فيه في حكم النادر، الذي يستعمل في الفاضل عن الأكل من رطب الجنس، وكُثْر الغرض في الرطوبة بخلاف الرطب؛ فإن الأصل فيه التجفيف.
والوجه الثالث: أنه لا يجوز بيع بعضه بالبعض، لا رَطباً ولا يابساً؛ فإنه لم يتقرر له حالة كمال؛ والبيعُ يعتمد حالة الكمال؛ فإمكان الجفاف وجريانه أخرج حالة الرطوبة عن قضية الكمال، وعدمُ عموم ذلك أخرج حالة اليبوسة عن حكم الكمال.
ولم يصر أحد من أئمة المذهب إلى تجويز البيع في حالة الرطوبة ومنعه في حالة الجفاف.
نعم، الرطب الذي لو جفف فسد، ولم يبق فيه انتفاعٌ يُحتفل به، يجتمع فيه أربعةُ أوجُهٍ: ثلاثة منها كما ذكرناها، والرابع- التجويز في حالة الرطوبة، والمنع في حالة اليبوسة؛ فإن الرطوبة في هذا النوع هي الكمال، والجفاف غير معتاد أصلاً.
2951- وممّا يتصل بهذا الأصل-وفيه التفريعُ على القول القديم- تفصيلُ القول في بيع القثاء بمثله، وكذلك ما في معناه مما لم يجر فيه العرف بتجفيفٍ أصلاً، فنقول: أولاً- هذا غير مُقدّرٍ عُرْفاً بكيل ولا وزن، وإنما يباع عدداً، فإن فرَّعنا على القول القديم، ورأينا ضمَّ التقدير إلى الطعم، فليس هذا الجنسُ مالَ ربا؛ فيجوزُ بيعُ بعضه ببعضٍ كيف قُدّر وفُرض، وإذا أخرجناه على هذا القول من كونه مال ربا، فلو جُفف على نُدور، وكان مأكولاً، وجرى فيه الوزن في جفافه، فقد ذكر الإمامُ عن شيخه القفال، أنه لا يجري الربا فيه على القديم، وإن تقدر؛ فإن أكمل أحواله الرطوبة، وقد خرج في حال الرطوبة عن كونه مال ربا، فلا ننظر إلى حالة جفافه، ونتبع هذه الحالةَ تلك الحالة في سقوط الربا.
والظاهر بخلاف هذا؛ فإنه مطعوم مقدَر في الجفاف.
ويجوز على القديم بيعُ الجوز بالجوز، والبيض بالبيض، وكذلك كل معدود في العرف. ويمتنع بيعُ لب الجوز واللوز بعضُه متفاضلاً على القديم؛ فإنه مقدَّر مطعوم في حالة شَرَفهِ، وليس مصيرُه إلى إجراء التقدير فيه نادراً، بخلاف ما قدمته في القثاء والسفرجل، وما في معناه. ولا رباً على القديم في الرمَّان. ويجري في حب الرمّان إذا جف ما ذكرته في اللُّبوب.
فرع:
2952- الشعير في سنبله لا يقدَّر، فإذا فرّعنا على القول القديم، فالوجه عندي منعُ بيع بعضه ببعض؛ فإنه من جنس ما يقدّرُ، ولا ننظر إلى حالته هذه، وليس كالجوز مادام صحيحاً، وكيف نستجيز التشبيب بالخلاف مع قيام النص في الشعير.
وقد تقرر في (الأساليب) ردُّنا على أبي حنيفة في إخراجه الحفنة، وهي بعض المنصوص عليه في الخبر. وهذا تفريعُنا على القديم.
2953- فأما الجديد، فنقول عليه: كلُّ مطعوم مالُ ربا، وإن كان لا يُقدّر، وإذا كان كذلك امتنع بيعُ بعضه ببعض عدداً، والمانع تعذر التقدير، وهل يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؟ فعلى وجهين:
أحدهما: وهو ظاهر المذهب أنه لا يجوز؛ فإن الوزن فيه غير معتاد، لا في عصر الشارع صلى الله عليه وسلم، ولا بعده، ولا سبيل إلى تجويز البيع عدداً؛ فالوجه المنع.
والثاني: أنه يصح؛ فإنَّا إن نظرنا إلى الكمال، فرطوبتُه أكمل أحواله، والتقدير قد حصل بالوزن.
وأما عدم جريان العرف بالوزن؛ ففيه سرٌّ يجب رعايته. فنقول: ما جرى فيه عرف الشارع بالكيل، فقد تُعُبِّدْنا فيه بالتساوي في الكيل، فلا معدل عنه إلى الوزن، وما تقدر وجهلنا فيه عرفَ الشارع؛ ففيه اضطرابٌ تقدم ذكره، فأما ما نحن فيه، فقد جرى العرف فيه بالعدد، وذلك تساهل في الطريق، والشرع لا يقنع به، وفي الوزن الضبط التام، وليس فيه تركُ تقديرٍ تعلَّق به تعبّدٌ.
وهذا وإن كان فقيهاً، فالأصح الأول. فلو جفف ما نحن فيه، وكان إذ ذاك يوزن، وقد منَعْنا بيعَ رطبه بالرطب وزناً، ففي جواز البيع في حالة الجفافِ خلافٌ مشهور: من أصحابنا من مَنع. وتوجيهُه أنه امتنع فيه عند هذا القائل جوازُ البيع في أكمل أحواله، فكان ما جرى من الجفاف على ندورٍ، تابعاً في المنع لحالة الكمال.
وهذا يلاحظ ما ذكرناه من التفريع على القول القديم في مثل ذلك.
ومن أصحابنا من قال: يجوز بيع البعض بالبعض في الجفافِ؛ لجريان العُرف بالوزن، وإذا جوزنا بيعَ الرطب بالرطب وزناً، وضممنا إليه القولَ في حال الجفاف، كان ذلك بمثابة الرطب الذي لا يجفف اعتياداً، فيجري في حالة الرطوبة واليبوسة الأوجه الأربعة، التي تقدمت مشروحة.
قال العراقيون: جفاف البطيخ حيث يعتاد ذلك من البلاد في حكم جفاف المشمش، والأمر على ما ذكروه.
فرع:
2954- قال صاحب التقريب: بيع الزيتون بالزيتون جائز؛ فإنه حالة كماله وليس له حالة جفاف، ولكن يعتصر الزيت منه، وليس ذلك من باب انتظار كمالٍ في الزيتون؛ فإنه تفريق أجزائه، وتغييره عن حاله، كما يستخرج السمن من اللبن.
والأمر على ما ذكره.
ومما يتصل بتمهيد هذا الأصل، القول في الدقيق، وكل ما يُتَّخذ منه. فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجوز بيع الدقيق بالدّقيق مع اتحاد الجنس؛ والسبب فيه أن كمال البُرّ في كونه بُرّاً، والدقيق زائل عن الكمال، وهو إلى الفساد لو لم يُستعمل، وإذا كان كذلك، فلو بيع الدقيق بالدقيق كيلاً أو وزناً، ثم لاحظنا حالة كونهما بُرّين، لم نَدْرِ هل كانا متماثلين بُراً أم لا. فكان نظرنا إلى الكمال الزائل، بمثابة نظرِنا إلى الكمال المنتظر عند بيع الرطب بالرطب، وكذلك نمنع بيع الحنطة بالدقيق، كما نمنع بيع الرطب بالتمر، وكل ما يتخذ من البُرّ من كعك، أو خبز، أو سويق، فهو في معنى الدقيق؛ فيمتنع بيع بعضهِ بالبعض، ويمتنع بيعُه بالبُرِّ.
وقد يعترض فيما ذكرناه علةٌ أخرى مع ما ذكرناه؛ فإن الخبز في معنى المختلِط؛ إذ فيه ماء وملح. وسنذكر بعد ذلك إن شاء اللهُ تعالى منعَ بيع المختلط بمثلهِ.
فهذا قاعدةُ المذهب، وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل نصوصاً غريبة في ذلك.
فإن قيل: الحنطة المسوسة إذا قربت من العفونة، فما القول فيها؟ قلنا: ظاهر قول الأئمة جواز بيع بعضها بالبعض، وإن أمكن أن يقال فيها: إنها زايلت كمالَها، وهي أقرب إلى العفن من الدقيق. وإنما راعَوْا في هذا النظرَ إلى طرد القول في الجنس، ولا وجهَ غيرُه؛ فإنا لو ذكرنا غيرَ ذلك، لعَسُرَ النظرُ في تفصيل الحنطة، التي تمادى زمانُ احتكارِها. وهذا مما يعسرُ تتبعه.
ولعل هذا قبل أن تتآكل، فأما إذا تآكلت، وخلت أجوافُها، ففيها نظرٌ عندنا؛ فإن الأئمةَ أطلقوا بيع المسوسة بالمسوّسة، والمسوسة هي التي بدأ التآكل فيها، والقياس القطعُ بالمنع؛ إذ الحنطة المقليّة لا يباع بعضها ببعض، لما فيها من التجافي الحاصل بالقلي، فكذلك لا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالحنطة المبلولة والجافَّة، لما ذكرناه في المقليّة، ولو بُلت الحنطة ونُحّي منها قشرتُها بالدّق والتهريس، وهي الكَشْك- قال الأئمةُ: هي كالدقيق؛ فإنها تفسد على القرب، ويتفاوت ما يزايلها من القشر، ولو بُلَّتْ ثم جُفّفت ولم تُهرَّسْ، فإنها تتشَنج في جفافِها على تفاوت يُفضي إلى جهلٍ بالمماثلةِ قبل البلّ، فإن كان كذلك، فالوجه المنع. وفي الجاوَرْس إذا نُحّيت منه القشرةُ احتمالٌ عندي، ولا شك في جواز بيع الرّز بالرّز المنقَّى عن قشرته. فتأَملوا هذه المراتبَ.
2955- ومما يتعلّقُ بهذا الفصلِ القَولُ في بيع هذه المطعومات بعضها ببعضٍ مع نزع النَّوى، والسبب فيه أنه يكتنز في المكيال، ويتجافى على تفاوت ظاهرٍ، على قدر الضغط، وإذا امتنع هذا، فلا شك في امتناع بيع التمر المنزوع نواه بالتمر مع النوى.
وكان شيخي يذكر خلافاً في مُقدَّد المشمش والخوخ، فيقول: من أصحابنا من أجراهما مجرى التمر، فمنع البيع مع نزع النوى، ومنهم من جوَّز البيعَ مع النزعِ؛ فإن ذلك معتاد في جنسها، ونواها لا يُصلحها، بخلاف نوى التمر؛ فإنه عصامُها من التسويس. وهذا القائل يجوّز البيعَ مع النوى ومن غير نوى، ولم أر لأحدٍ اشتراط نزع النوى، إلا لشيخي، فإنه ذكر عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في اشتراط نزع النوى، كما يشترطُ نزع العظم عن اللحم في ظاهر المذهب.
فقد تحصلنا على ثلاث مراتبَ، أما التمر، فنزع نواه يمنع بيعَه، واللحم في ظاهر المذهب يتعيّنُ نزع عظمه، إذا حاولنا بيع بعضه بالبعض، وبينهما المشمش، وما في معناه، فيجوز بيعُ بعضِه ببعضٍ مع النوى، وفي تجويز البيع مع النزع الخلافُ المذكور.
وذكر العراقيون وجهين في جواز بيع التمر بالتمر مع نزع النوى، وهذا بعيد جدّاً، ثم جاؤوا بما هو أبعد منه، وذكرُوا خلافاً في بيع تمرٍ منزوع النوى بتمرٍ غير منزوع النوى، وهذا ساقط لا يُحتفلُ بمثله.
وقد تم الغرضُ من الفصلِ.
2956- ونذكر الآن النصوص الغريبة في الدقيق والكعك.
نقل المزني في المنثور أن الشافعيَّ كان يمنع بيع الدقيق بالحنطة، ويجوّز بيع الدقيق بالدقيق، ونقلَ حرملةُ ذلك أيضاًً، وهذا النصُّ ليس يشعر بأن الدقيق يخالف جنسَ الحنطة، ولكن مقتضاه أن منع بيع الدقيق بالحنطة سببُه التفاوت الظاهر في الكيل، والدقيق مع الدقيق لا يتفاوتُ.
ونقلَ الحسينُ الكرابيسي عن الشافعي أنه كان يقول: الحنطةُ ودقيقُها جنسان؛ فيجوز بيع أحدهما بالثاني متفاضلاً، لاختلاف الصفة، والاسم، والمنفعة. والدقيق مع الدقيق جنس واحدٌ.
وحكى ابن مِقلاص أن الشافعي جعل السويقَ مخالفاً لجنسِ الحنطة؛ لأنه يخالفها في المعنى. والدقيقُ مجانس للحنطة؛ فإنه حنطة مفرقة الأجزاء، والحنطة دقيق مكتنز. وعلى هذا الخبز يخالف الحنطة، ويجب أن يخالف الدقيقَ السويقُ أيضاًً.
وقال العراقيون: بيع الخبز غيرِ اليابس بمثله، أو باليابس لا يجوز؛ لأن الرطوبة التي فيه ماءٌ، وفي بيع اليابس بمثله خلاف. وذكروا الخلاف في بيع الدقيق بالدقيق.
فهذا مجموع النصوص.
ولكن اتفق أئمة المذهب على أنها لا تُعدّ من متن المذهب، وإنما هي ترددات جرت في القديم، وهي مرجوعٌ عنها، والمذهب ما مهدناه قبل هذا.