فصل: باب: الخلع في المرض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الخلع في المرض:

قال الشافعي رضي الله عنه: "ويجوز الخلع في المرض كما يجوز البيع...
إلى آخره".
8911- نجدد العهد بالنكاح في المرض، ثم نذكر الخلع، فالمريض إذا نكح بقدر مهر المثل، أو أقل، فلا حرج عليه ولا يحتسب ما يسوقه صداقاً من الثلث؛ لأن ذلك معدودٌ من حاجته، ولا مطلع على حاجته إلا من جهته، فنكاحه بمثابة شرائه لذائذ الأطعمة، ولا معترَض عليه في شيء من ذلك، وإن استوعب مالَه بمهور الأبكار وقضاء الأوطار.
وإن نكح بأكبر من مهر المثل، فالزيادة تبرع، فإن كانت المرأةُ وارثةً، فالزيادة مردودة، وإن كانت ذمّية لا ترث هذا المسلم، أو كانت أمة والمهر لمولاها، فالزيادة تبرعٌ محسوب من الثلث.
8911/م- ولو خالع المريض زوجته، فلا معترض عليه، ولا مؤاخذة بمقدار بدل الخلع، فإنه لو طلق مجاناً، جاز فإذا طلّق بمالٍ ثبتَ وإن قلّ. وهذا كما ذكرناه في مخالعة السفيه زوجته، والزوجات لا يتعلق بهن حقوق الورثة، كأمهات الأولاد.
وقد ذكرنا طرفاً من الكلام فيه إذا أعار المريضُ نفسَه، وخدم غيره، وأوضحنا كلام الأصحاب في أن بذل منافعه هل يحسب من الثلث، أم يقال: لا يحتسب؛ فإن منافع بدنه لا تبقى لورثته؟ وقد ذكرنا هذا ونظائره في كتاب الوصايا.
8912- فأما المرأة إذا نكحت في مرض الموت، نظر: فإن نكحت بمهر المثل أو أكثر، فذاك. وإن نكحت بأقلَّ من مهر المثل، فإن كان الزوج حراً يرثها، انعقد العقد، وثبت مهر المثل، ولا وصية لوارث.
وإن كان الزوج عبداً فالمسامحة مع السيد، وظاهر المذهب أن ما حابت به وصيةٌ محسوبةٌ من الثلث.
ومن أصحابنا من قال: ليس بوصية؛ فإن منافع بضعها لا تبقى لورثتها، وإنما الشرع فيما يبقى للورثة لولا التبرع.
8913- وإن اختلعت المرأة في مرض الموت نفسَها من زوجها بمهر المثل، أو أقل، لم يحتسب من ثُلثها وقال أبو حنيفة: يحتسب، وهذا بناه على أصله في أن البضع لا يتقوّم عند الخروج من النكاح. وإن كان قد تقوّم عند الدخول في النكاح.
وأما المكاتبة إذا اختلعت أو المكاتب إذا نكح، فينبغي ألا تُتلقّى هذه التصرفات من تصرفات المريض؛ فإن لها مأخذاً سيأتي موضحاً في كتاب الكتابة، إن شاء الله عز وجل.
وإن اختلعت نفسها بأكبر من مهر المثل، فالزيادةُ وصية.
فصل قال:
"ولو كان خالعها بعبد يساوي مائةً ومهر مثلها خمسون... إلى آخره".
8914- صورة المسألة عرية عن مقصود الفقه، ولكن في لفظها وفتوى الشافعي فيها تعقيد، والغرض التنبيه عليه، ووجه الجواب عنه.
والصورةُ مريضةٌ اختلعت نفسها على عبدٍ يساوي مائة، وهو جميع مالها، ومهر مثلها خمسون، فالخلع يثبت، وقدر مهر المثل يثبت لا محالة، والزائد عليه وصية، فينفذ ما يسعه الثلث، وهو سدس العبد، فيسلم للزوج ثلثاه: النصفُ بحكم الاستحقاق، والسدس بحكم التبرع، فإن السدس ثلث الباقي. غير أن الزوج بالخيار من جهة التبعّض. ثم إذا فسخ، فالرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة.
هذا جواب المسألة. غير أن المزني نقل في جواب المسألة: "أن الزوج بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد ونصف مهر مثلها، وإن شاء، رده ورجع بمهر مثلها"، وأخذ يعترض ويقول: "لا بل يستحق نصف العبد، لأنه قدر مهر المثل، ويستحق من الباقي ما يحمله الثلث".
قال أصحابنا: ما ذكره المزني صحيح. ثم منهم من غلطه في النقل، وقال: إنما قال الشافعي: الزوج بالخيار إن شاء أخذ ما يخصه من العبد، وإن شاء رده ورجع بمهر المثل، ولم يقل ونصف مهر المثل.
وهذه المسألة لا تُلفى منصوصة على الوجه الذي نقله المزني في شيء من كتب الشافعي. وقال بعض أصحابنا: لفظ الشافعي أن الزوج بالخيار إن شاء أخذ نصف العبد، ونصفُه مهر المثل، فحذف المزني الهاء، وقال: إن شاء أخذ نصف العبد، ونصفٌ مهر مثلها، فنوَّن النصفَ، وحذف المزني التنوين.
ومن أصحابنا من حمل ما نقله المزني على ما إذا أصدقها عبداً يساوي مائة درهم، ثم خالعها عليه قبل الدخول، فعاد النصف إليه بحكم الطلاق قبل الدخول، فله الخيار بين أن يأخذ النصف الباقي مع نصف مهر المثل، لأجل النصف المستحَق له بالطلاق، وبين أن يرده ويرجع بمهر المثل. وهذا منتظم، ولكن لا فائدة في قوله: ومهر مثلها خمسون. فهذا منتهى القول في ذلك والله أعلم.

.باب: خلع المشركين:

حكم خلع المشركين حكمُ أنكحتهم وما يبذلون من الأبدال، كما يبذلون منها في الصداق وقد مضى القول مفصلاً فيما يقبض في الشرك، وفيما يقبض في الإسلام، فلا معنى لإعادة ما مضى مقرّراً، ثم يذكر الأصحاب مسائل خالف أبو حنيفة فيها، ونحن نذكرها ونبين مذهبنا فيها.
فرع:
8915- إذا اختلعت قبل قبض المهر على عين أو دين، لم يسقط مهرها عن ذمة الزوج عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه قال: المخالعة توجب براءة ذمة الزوج عن مهر المرأة قبل المسيس وبعده، وإن لم يجر للمهر ذكر، وهذا أخذه من لفظ الخلع والاختلاع، وهو وسوسة لا حاصل وراءها.
فرع:
8916- إذا خالع امرأته على خمرٍ أو خنزير، فالخلع فاسد، وعليها مهر المثل، على الرأي الظاهر؛ فإن الخمر والخنزير يعسر تقويمها. وقال أبو حنيفة: يقع الطلاق، ولا شيء عليها، وإن كان العوض يثبت لو كان صحيحاً وهذا بناه على أصله في أن البضع لا يتقوّم في الخروج من النكاح، والرجوع إلى مهر المثل تقويم للبضع.
فرع:
8917- إذا خالع على مالٍ مؤجل على الحصاد والدياس، فسد العوض، والرجوع إلى مهر المثل، وعند أبي حنيفة يصح، ويتعجل المال ويفسد الأجل.
فرع:
8918- إذا خالعها على ما في كفها، فسد العوض، والرجوع إلى مهر المثل، وقال أبو حنيفة: إذا أصاب في كفها شيئاً، فهو العوض، فإن لم يصب، فله ثلاثة دراهم. وما ذكرناه تفريع على الرأي الظاهر في أن بيع الغائب لا يصح على هذه الصفة.
فرع:
8919- إذا قالت: أبرأتك عن مهري بشرط أن تطلّقني، فقال الزوج: أنت طالق، فالبراءة لا تصح؛ فإنها معلّقة والتعليق يفسدها، ثم طلاق الزوج جرى مطلقاًً من غير تعليق، ولو قال الزوج: إن أبرأتني، فأنت طالق، فقالت: أبرأتك، فالطلاق بائن، فإن التعليق من جهته غير ممتنع، وهو بمثابة ما لو قال: أنت طالق إن ضمنت لي ألفاًً، ولو قال الزوج: طلقتك فأبرئيني، وقع الطلاق، ولا يلزمها الإبراء؛ لأنه نجّز الطلاق، واستدعى الإبراء.
وفي كتاب الخلع فروع ممتزجة بقواعد الطلاق، رأينا تأخيرها إلى آخر الطلاق والله المعين.

.كتاب الطلاق:

قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}... إلى آخره".
8920- الأصل في الطلاق آيات في الكتاب معروفة، وسننٌ ستأتي في مواضعها على حسب مسيس الحاجة إليها، إن شاء الله عز وجل، وأجمع المسلمون على أصل الطلاق.
وهو في اللسان من الإطلاق يقال: أطلقتُ البعير إذا أرسلته وحللت عقاله، وأطلقتُ الأسيرَ إذا خلّيته، وهو لفظ جاهلي ورد الشرع باستعماله وتقريره، وقيل: كان الطلاق الجاهلية على أنحاءٍ: الطلاق، والفراق، والسَّراح، والظهار، والإيلاء، وأنتِ عليّ حرام. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء الشرع بنسخ البعض وتقريرِ البعض.
ثم الشافعي صدّر الكتاب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. قيل: التقدير: يأيها النبي قل لأمتك: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن. وقيل: المذكور النبي في صدر الآية وهو وأمته معنيّون، والشاهد فيه رجوعُ الخطاب إلى الجمع في قوله إذا طلقتم النساء، والكلام في ذلك يطول، وما ذكرناه كافٍ، ثم قوله: "طلقوهن لعدتهن" معناه طلقوهن لوقت يشرعن عقيبه في العدة، وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ: "فطلقوهن لقُبل عدتهن" والظاهر أن هذا كان يذكره تفسيراً.
ثم الكتاب مبدوءٌ بالكلام في الطلاق البدعي والسني، وهما لفظان أطلقهما أئمة السلف، وتداولهما فقهاء الأعصار، ونحن نذكر فقه الفصل موضحاً، ثم نأتي بالعبارات، ونستعين بالله تعالى، وهو خير معين.
8921- فنقول: يحرم على الرجل أن يطلق زوجته المدخول بها في زمان الحيض من غير عوض ولا رضاً من جهتها، هذا متفق عليه.
وكذلك إذا جامع امرأته في طهر، ولم يتبين أنها حامل أو حائل، فيحرم عليه تطليقها في الطهر الذي جامعها فيه من غير عوض.
هذان أصلان ثابتان بالوفاق، ومستند الإجماع فيهما الحديث، وهو: ما روي أن ابنَ عمرَ طلق امرأته في الحيض، فسأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "مُره فليراجعها حتى تطهرَ، ثم تحيضَ، ثم تطهرَ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" هذا رواية مالك عن نافع عن ابن عمر. وروى سالم ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين عن ابن عمر، وفيه: "مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر"، وسنتكلم على هاتين الروايتين بعد تمهيد القاعدة في السُّنّة والبدعة، فنقول:
يحرم إنشاء الطلاق بعد الدخول عرياً عن العوض في زمان الحيض، والذي نضبط المذهب به أن هذا يؤدي إلى تطويل عدتها؛ فإن بقية الحيض لا يعتد بها، وإلى ذلك أشار الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تُطلق لها النساء" فعلل تحريم الطلاق بإفضائه إلى تطويل العدة، ولا مزيد على علة صاحب الشرع صلوات الله عليه.
ولو خالعها، فلا حظر ولا تحريم.
ولو طلقها برضاها من غير ذكر عوض، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن ذلك سائغ؛ لمكان رضاها، فصار كما لو اختلعت نفسها.
والثاني: لا يجوز؛ فإن حدود الشرع ومواقف التعبدات لا تختلف بالرضا والسخط.
8922- فإن قيل: على ماذا بنيتم أولاً تحريم الطلاق في الحيض؟ قلنا: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: «مره فليراجعها» ارتفع عبد الله إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيت لو طلقتُها ثلاثاً"؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إذن عصيت، وبانت امرأتك» وما قال عبد الله ما قال معانداً، وقدرُه أعلى من هذا، وإنما قال مستفهماً؛ لأنه ما كان بلغه أمرُ البدعة والسنة في الطلاق، وبنى الأمر على ظاهر الشرع في أن من ملك تصرفاً، لم يُحْجر عليه فيه، وأشعر بذلك قوله: "أرأيت لو طلقتها ثلاثاً" فأبان له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التطليق في الحيض عصيان.
فإن قيل: من أين أخذتم نفي التعصية في المخالعة؟ قلنا: أخذناه من حديث زوجة ثابت في أصل الخلع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالافتداء وأمره بالقبول، ولم يستفصل، وهو يجري افتداء مخلِّصاً ولا يليق بروْم التخليص والتخلّص تخير الأوقات، والنظر في تفاصيل الحالات. هذا أصل المذهب.
ثم اتفق حملة الشريعة على أن الطلاق-وإن كان محرَّماً- نافذٌ، ولا اكتراث بمخالفة الشيعة في ذلك. فهذا ركن.
8923- والركن الثاني في المنع من الطلاق في الطهر الذي وقع الوقاع فيه، والطلاق عريٌّ عن البدل. وذكر القاضي خلافاً في أن الخلع في الطهر الذي جرى الوقاع فيه هل يحرم؟ والسبب فيه أن تحريم الطلاق في عقد المذهب يرتبط بما يفرض من التندّم إن ظهر ولد؛ فإن الإنسان قد يُؤثر طلاق زوجته، وإن كانت أم ولده، لم يطلقها، فيلحقه الندمُ لو طلق ثم تبين الحَبَل، وفي حالة الحيض يرتبط بتطويل العدة، فإذا كان المستند هذا فقد نقول: اختلاعها في الحيض يشعر بكمال رضاها؛ فإنها لا تبذل المال إلا على طمأنينة، فيؤثِّر هذا في رضاها بطول العدة، وأما الطلاق في الطهر الذي جرى الوقاع فيه، فمستندٌ إلى أمر الولد، ولا يؤثر رضاها في أمر الولد.
وهذا الذي ذكره القاضي غيرُ مرضي؛ فإن التعويل على الندم لأجل الولد ليس بالقوي، وقد أوضحنا فساد ذلك في (الأساليب)، ولولا أن الشرع تعرض للعدة والنهي عن تطويلها، لما عللنا بذلك أيضاً، فالوجه تنزيل الخلع على الخروج عن السنة والبدعة؛ تعويلاً على الحديث، والمعنى الكلي الذي أشرنا إليه.
وكان شيخي أبو محمد يحكي عن شيخه القفال أن الأجنبي إذا اختلع المرأة من غير رضاها في زمان الحيض فالخلع محظور؛ فإنه لم يصدر عن رضاها. وهذا الذي ذكره متجه حسن.
ويجوز أن يقال: الخلع كيف فرض لا يكون بدعياً. وهذا الذي يليق بمذهب الاقتداء، والظاهر ما ذكره القفال؛ فإن المعتمد في إخراج الخلع عن البدعة الحديث، وهو وارد في المرأة التي رامت الاختلاع بنفسها.
8924- ثم قال الأصحاب: المذهب ينضبط في السنة والبدعة ونفيهما من جهتين، فإن أحببنا أخرجنا اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة وقلنا: هن خَمْسٌ: المختلعةُ؛ للمعنى الذي ذكرنا، وغيرُ المدخول بها؛ فإنه لا عدة عليها، ولا دخول، فيتوقع منه الولد، والحاملُ ليس في طلاقها بدعة؛ فإن عدتها لا تطول، وإذا كان حملها بيّناً، فالظاهر أن الطلاق يصدر على وجه لا يستعقب ندماً، ولا بدعة في عدة الصغيرة؛ فإنها تعتد بالأشهر، وهي لا تطول ولا تقصر، وكذلك الآيسة لا بدعة في طلاقها.
فإن قيل: إن كانت الصغيرة لا يتوقع حبلها، فالآيسة قد يتوقع ذلك منها، وقد ينفتق رحمها ويعود حيضها، فتَعْلَق. قلنا: البناء على ظواهر الظنون، ولو راجع الرجل امرأته الآيسة، وكان قد واقعها، فليس فيها مرد متوقع حتى يطلّق عنده.
فهذا ضبط اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة، والطلاق فيهن لا ينعت بحظر ولا بسنة.
وإن أردنا الضبط من جانب الإثبات قلنا: البدعة إنما تلحق الحائض الممسوسة في الطلاق العريّ عن البدل والرضا، وتلحق التي جومعت في طهرها، وهي من ذوات الأقراء.
ثم الطلاق المحظور البدعي ما يصادِف-على الشرائط المقدَّمة- حيضاً، أو طهراً وقع فيه وقاع، والطلاق السني هو الذي يصادف طهراً عرياً عن الوقاع. هذا هو الأصل المعتبر في الباب.
8925-وقد قال الشيخ أبو علي: إذا استدخلت المرأة ماء الزوج، كان ذلك في إثارة البدعة كالجماع؛ فإنه يتعلق به خشية ندامة الولد.
ولو أتاها في غير المأتى، وعلم أن الماء لم يسبق إلى الرحم، فهل يثير هذا الوطءُ بدعة؟ فيه تردد، وميل الشيخ إلى أنه لا يثيرها.
والظاهر عندنا أخْذُ ذلك من العدّة، وقد ذكرنا أن هذا الوطء هل يتضمن العدة؟ ولو وطىء امرأته في زمان الحيض، ثم مضت بقية الحيض، قال: البدعة قائمة حتى تحيض حيضة أخرى بعد الطهر.
وهذا فيه احتمال؛ فإن بقية الحيض يدل على عدم العلوق.
وقال: المرأة إذا طلبت الفيئة من الزوج المولي بعد المدّة، فلم يفىء، وطلبت الطلاق وهي في زمان الحيض، طلقها الزوج أو القاضي ولا بدعة، وهذا متفق عليه. وإن ذكرنا خلافاً في سؤال الطلاق؛ لأن هذا طلب حق، فكان مخالفاً لسؤالٍ من غير استحقاق.
فصل:
قال: "وأحب أن يطلقها واحدة لتكون له الرجعة... إلى آخره".
8926- قال الأئمة: إيقاع الطلاق في الأصل مكروه من غير حاجة، واحتجوا عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وأحبها إليه العتاق» والفقهاء قد يتساهلون في إطلاق الكراهية، وأرباب الأصول لا يطلقون هذا اللفظ إلا على تثبت، فإن ظهر غرض يستحثّ على الطلاق كمخيلة ريبةٍ واستشعار نشوز، فالكراهية لا تتحقق، وإذا كان لا يهواها وربما لا تسمح نفسه بالتزام مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فلا كراهية في الطلاق والحالةُ هذه.
فالكراهية لا يتجه إطلاقها إلا عند زوال الحاجات والأغراضِ التي يُطلِّقُ العقلاء لأجلها، وإن لم يكن غرضٌ ولا حاجة، فلا بأس بإطلاق الكراهية. ثم حيث تُطلق الكراهية، لا نفرق بين الواحدة والعدد. وإن ظهر غرضٌ ترتفع الكراهية لأجله، فقد نقول: لا يستحب جمع الطلقات، ويستحب أن يفرقها، ولسنا ننكر أن وضعها في الكتاب والسنة يشعر بالاستحثاث على تفريقها؛ حتى لا يلقى الإنسانُ ندماً، ولا ينتهي الأمر إلى إطلاق لفظ الكراهية، حيث لا كراهية، في أصل التطليق.
8927- ومذهب الشافعي أن الجمع بين الطلقتين والثلاث، لا سنة فيه ولا بدعة، وإنما تتعلق السنة والبدعة بالزمانين المذكورين على التفاصيل المقدمة:
أحدهما: زمان الحيض.
والثاني: الطهر الذي وقع الوقاع فيه. وأبو حنيفة يحرم الجمع، كما يحرم التطليق في الحيض وفي الطهر الذي جرى الوقاع فيه، والمسالة مشهورة معه في الخلاف.
وقد قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: جمع الطلقات لا معصية فيه. ولكن هل يقال: السنة تفريقها؟ فعلى وجهين، واحتمل كلامه معنيين:
أحدهما: التردد في استحباب التفريق حكماً. وأحد الوجهين أن ذلك لا يوصف بالاستحباب، والأمر فيه إلى مالك الطلاق، وفي كلامه ما يدل على أن اسم السنة هل يتناول التفريق؟ فعلى وجهين، ولا شك أن البدعة لا تتناول الجمع عندنا، ومقتضى هذا أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وزعم أنه نوى التفريق على الأقراء يُصدَّق ظاهراً، وهذا بعيدٌ مخالفٌ للنص والمذهبِ، والسنةُ والبدعةُ يتعاقبان، أما التردد في الاستحباب، فللاحتمال إليه تطرُّقٌ، والظاهر الاستحباب، ومنع لفظ السنة.
8928- ثم قال الشافعي: "لو طلقها طاهراً بعد جماع، أحببت أن يرتجعها... إلى آخره". والمراد بذلك أنه إذا طلقها بدعياً في زمان الحيض، فإنا نستحب ونؤثر له أن يرتجعها، والأصل في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة ابن عمر؛ حيث قال: "مُره فليراجعها". وتعليل ذلك أنه إذا طلقها في الحيض، فقد طوّل العدة عليها، وإذا طلقها في طهر جرى الجماع فيه، تعرّض لندامة الولد، فإذا تمادى، ولم يرتجع، كان في حكم من يُديم المعصيةَ مع القدرة على قطعها، وإذا ارتجع، زال ما كنا نحرّم الطلاق لأجله، من تطويل العدة، والتعرض للندامة.
وقد ينشأ من هذا الموضع سؤال: بأن يقول قائل: هل توجبون الارتجاع؛ فإن في الارتجاع قطعُ الضرار عنها بتطويل العدة، وكذلك القول في الارتجاع في الطهر الذي جرى الجماع فيه؟ وقد يشهد لوجوب الارتجاع لو صِير إليه ظاهرُ قوله صلى الله عليه وسلم: «مره فليراجعها».
قلنا: أجمع الأصحاب على أن الارتجاع لا يجب، ثم أجمعوا على أن ترك الارتجاع لا يلتحق بما يُقضى بكونه مكروهاً، وأكثر ما أطلقوه في ذلك أنا نستحب أن يرتجعها.
فالجواب إذاً عن السؤال أن الارتجاع مقصوده الظاهر تداركُ حقٍّ وجلبُ منفعةٍ، ويبعد المصير إلى وجوبه؛ لينبني عليه انتفاء تطويل العدة، وأصل التطليق محرّم للخبر وللمعنى، فإذا جرى، فلا يبلغ المحذور من الطلاق المحظور مبلغاً يوجب لأجله رجعةً مقصودها في الشرع جلبٌ أو استدراكٌ.
8929- فإذا ثبت أن الرجعة لا تجب، ولكنها تُستَحَب، فقد قدمنا في صدر الكتاب روايتين وهذا أوان الكلام عليهما: روي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء». وروى سالم بنُ عبد الله ويونس بنُ جبير ومحمد بن سيرين: "مره فليراجعها، فإذا طهرت، فإن شاء فليطلقها" وفي ظاهر الروايتين تفاوت، وموجب الرواية الأولى أنه يراجعها إذا طلقها في الحيض، ثم يمسكها، حتى تنقضي بقية الحيض ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر. وظاهر الرواية الثانية فيه تردد؛ فأنه قال: «مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض» ثم تطهر، فظن بعض الناس أن المراد بقوله: «حتى تحيض» حتى تنقضي بقية الحيض، فإذا طهرت، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها.
وكان شيخي أبو محمد يذكر في ذلك وجهين من متن المذهب:
أحدهما: أن المستحب ألا يطلقها كما طهرت من بقية الحيض، وهذا هو الذي ذهب إليه الجمهور، والسبب فيه أنه لو طلقها كما طهرت، لكانت الرجعة مقصودة لأجل الطلاق، حتى كأنه ارتجعها ليطلقها، وهذا لا يليق بمحاسن الشرع في آداب العشرة بين الزوجين في الدوام والفراق. نعم، إذا تركها على حكم النكاح طهراً كاملاً، ثم حاضت، ثم طهرت، فنحمل مضي الطهر الأول على إمساكها في زمان الاستمتاع.
8930- ومن أصحابنا من قال: لا بأس لو طلقها في الطهر الأول؛ فإن الرجعة قطعت أثر الطلاق البدعي، وأزالت تطويل العدة، فإذا طلقها كما طهرت، فهذا الطهر محسوبٌ، وليس فيه ندامةُ ولدٍ.
ثم على هذين الوجهين يُخَرَّج تنزيل رواية ابن عمر، فإن قلنا: لا بأس لو طلقها كما طهرت، فقوله: حتى تحيض ثم تطهر محمول على انقضاءِ الحيض واستفتاح الطهر. وإن جرينا على الوجه الأصح، فقوله حتى تحيض محمول على حيضة مستأنفة بعد طهر، وهذا ظاهر اللفظ؛ فإنَّ حَمْل الأفعال والأحوال مع صيغة الشرط على استفتاح الأمور في الاستقبال أظهر من حملها على انقضاء ما به الملابسة.
فإن فرعنا على الوجه الظاهر، فقد ذكر الأئمة وجهين في أنا هل نؤثر وهل نستحب للزوج أن يجامعها في الطهر الأول؟ فقال قائلون: لا يُطْلَقُ في هذا الاستحبابُ، والأمر إلى الزوج. وقال آخرون: يستحب ما ذكرناه إذا لم يكن عذر؛ فإنه إذا لم يواقعها، كان تربّصه في الطهر والحيضة بعده محمولاً على أن يطلقها في الطهر الثاني، وقد بنينا الأمر بالرجعة على خلاف هذا.
ولو طلقها في الحيض، وراجعها في الحيض، وأصابها في زمان الحيض، ثم طهرت، والتفريع على أنا نؤثر للزوج أن يطلّق في الطهر الثاني، فذلك الأمر مستدام، ولا حكم للوطء الذي جرى في زمان الحيض؛ فإنه وطء محظور منهي عنه، فلا يتعلق به غرض مطلوب في الشريعة فوجودُه كعدمه، وإنما ذكرنا هذا حتى لا يظن ظان أنه إذا راجعها ووطئها في الحيض، فقد أخرج الرجعة عن أن تكون لأجل الطلاق.
ولو طلق امرأته في طهرٍ جامعها فيه، ثم راجعها، كما ذكرناه، فلا شك أنه لا يطلقها، ولو طلقها، لكان الطلاق بدعياً؛ لأنه وقع في طهر جرى فيه وقاع، فإذا حاضت، ثم طهرت، فله أن يطلقها الآن، ولا يشترط في إقامة الأَوْلى والمستحبِّ أكثرُ من ذلك.
ولو طلق امرأته في طهر جامعها فيه، ثم راجعها في الحيض، والتفريع على الأصح؛ فإنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي هذا؛ لأن الرجعة تكون لأجل الطلاق.
ولو طلقها في طهر لم يجامعها فيه، ولم يكن الطلاق بدعياً، غير أنه راجعها في الحيض، حكى القاضي عن الأصحاب أنهم قالوا: لا نستحب له أن يطلقها إذا طهرت؛ فإنه لو طلقها كما طهرت-وقد راجعها في الحيض- لكانت الرجعة لأجل الطلاق، ثم قال: والذي عندي أنه لا بأس عليه لو طلقها كما طهرت؛ لأن الطلاق الأول لم يكن بدعياً في الأصل، ونحن إنما نأمر بالرجعة، ثم بالإمساك على التفصيل المذكور إذا كان الطلاق الواقع بدعياً، وهذا الذي اختاره القاضي هو المذهب الذي لا يُعْرَف غيره، ولم أر حكاية غيره لغير القاضي.
فهذا تفصيل القول في استحباب الرجعة والإمساك بعدها، وما يتعلق به من خلاف ووفاق.
فرع:
8931- إذا قال الرجل لامرأته التي هي بمحل السنة والبدعة: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فمعلوم أن الطلاق ينطبق على الجزء الأخير، وذلك الجزء لا يكون من العدة، وهي تستفتح طهراً معتداً به؛ فليس في هذا التطليق تطويل العدة عليها؛ فاختلف أصحابنا فيه: فذهب القياسون إلى أن الطلاق لا يكون بدعياً؛ لأنه ليس فيه تطويل عدة، ولا ندامة ولد، وذهب آخرون إلى أن الطلاق بدعي؛ لمصادفته الحيض، وهذا القائل يعتضد بالرجوع إلى التوقيف والتعبد، ويهون عليه تضعيفُ طريقِ الرأي والتعويلِ على المعنى؛ لما نبهنا عليه قبلُ وقررناه في المسائل.
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فللشافعي قول: إن الانتقال من الطهر إلى الحيض قرءٌ معتد به. فإن فرعنا على هذا، فالطلاق سنّي لمصادفته الطهر، وإفضائه إلى تقصير العدة. وإن قلنا: لا يعتد بذلك قرءاً، فللأصحاب وجهان: أقيسهما- أن الطلاق بدعي؛ لأنها تستقبل حيضة كاملة لا يعتد بها، وإذا كنا نجعل الطلاق في أثناء الحيض بدعياً؛ لأن بقية الحيض غيرُ معتد بها، فلأن نقول: الطلاق بدعي إذا استقبلت حيضة لا اعتداد بها أولى.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق سني؛ لمصادفته الطهر الذي لم يجرِ فيه جماع، وهذا القائل يلتفت على التعبد واتباع التوقيف، كما تقدم شرحه.
فصل:
قال: "وإن كانت في طهر بعد جماعٍ... إلى آخره".
8932- هذا الفصل مُصدَّر بقُطبٍ يتعلق بمقتضى الألفاظ، فنقول: الطلاق يُنجَّز ويُعلّق، ثم تعليقه تارة يكون على صيغة الشرط، وتارة يكون على صيغة التأقيت، وهما جميعاً معدودان من التعليق. فأما الشرط، فهو الذي يتعلّق بما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون، مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فهذا شرط محقق، وأما التأقيت، فمثل قول الزوج: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، فهذا تأقيتٌ وليس شرطاً؛ فإن الشرط هو الذي لا يُقطع بوقوعه، والتأقيت مبني على القطع في المتعلَّق، وعن هذا قال سيبويه: "إذا قال القائل: إذا قامت القيامة كان كذا وكذا: فهذا إيمان بالقيامة، وإذا قال: إن قامت، فهذا تردد في التصديق بها". وعن هذا قال أئمة اللسان: قول القائل: إن طلع الفجر، فأنت طالق، كلامٌ معدول عن الوجه المستحسن، فإن الفجر يطلع لا محالة، وإذا قال: إذا طلع الفجر، فأنت طالق، فهذا هو النظم الجاري في كلام الفصحاء.
وقد يجري الطلاق معللاً بعلة، فحكم الطلاق أن يتنجّز، ثبتت تلك العلة أو انتفت، وبيانه أنه لو قال: أنت طالق لرضا فلانٍ، وزعم أنه أراد تعليل إيقاع الطلاق بالرضا، فالطلاق ناجزٌ رضي ذلك الشخص أو سخط، وذلك أن المعلِّل ليس يعلِّل الطلاق بالعلة، وإنما يُنجِّز الطلاق ثم يبتدىء، فيعلل تنجيزَه بسبب، فالتعليل كلام مبتدأ لا ينشأ ليرتبط الطلاق به وجوداَّ وعدماً. وسنذكر مسائل هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل.
8933- ثم نقول بعد هذا: استعمال اللام في الأوقات محمول على التأقيت بالاتفاق، وبيانه أنه إذا قال: أنت طالق لهلال رمضان، فهو بمثابة قوله: إذا استهل هلال رمضان، فأنت طالق؛ والسبب فيه أن اللام مستعملة مع الأوقات للتأقيت بها، وهذا شائع في لغة الفصحاء، وهي أظهر من قول القائل: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، وينضم إلى ذلك أن تخيّل التعليل بالأوقات بعيد عن الوهم؛ فإن التعليل إنما يقع بمثل السخط والرضا، و ما في معناهما، فأنتج مجموع ما ذكرناه أن اللام مع الوقت تأقيت.
8934- وإذا قال الرجل لامرأته التي تعتورها حالةُ السنة والبدعة: أنت طالق للسُّنة، نُظر: فإن كانت في زمان سُنَّة، وهو طهر لم يجامعها فيه، انتجز الطلاق في الحال، وهو بمثابة ما لو قال عند الاستهلال: أنت طالق لهلال رمضان، فيقع الطلاق مع الهلال.
وإذا قال لامرأته في زمان الحيض: أنت طالق للسُّنة، لم تطلق في الحال حتى تطهر، ثم تُطلَّق، فتحمل اللام على التأقيت بوقت السنة، كما قدمنا ذلك في إضافة اللام إلى الأوقات؛ والسبب فيه أن اعتوار زماني السنة والبدعة على المرأة يُظهر قصدَ التأقيت من اللام.
وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، وكانت في زمان الحيض، أو كانت في طهر جامعها الزوج فيه، فالطلاق ينتجز، ولو قال لها وهي في طهرٍ لم يجامعها فيه: أنت طالق للبدعة، لم ينتجز الطلاق، حتى تصير إلى زمان البدعة، فإن لم يجامعها، فحاضت، طُلِّقت، وإن جامعها في ذلك الطهر، فقد انتهت إلى زمان البدعة، فتطلق أيضاً، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
والغرض الآن أن نبين أن قول الزوج: أنت طالق للسنة وللبدعة محمول على التأقيت، لا على التعليل.
8934/م- ولو قال لامرأة لا يتصور فيها سنة ولا بدعة: من النسوة الخمس اللواتي قدمنا ذكرهن: أنت طالق للسنة، انتجزت الطلقة في الحال. وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، انتجزت الطلقة، ولم نرتقب فيها المصير إلى حالة السنة والبدعة، وبيان ذلك بالتصوير أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة أو للبدعة، فلا يحمل الأمر على تقدير دخول ومصيرٍ بعده إلى التعرض لطوارىء السنة والبدعة، وإن لم يكن هذا بعيداً عن التوقّع والانتظار.
وقد نص العراقيون على أنه إذا قال لها: إذا صرت من أهل السنة، فأنت طالق، ولم يكن مدخولاً بها، فالطلاق لا ينتجز، بل يرقب الدخولَ، والمصيرَ إلى حالة السنة.
فإن قيل: إذا كان هذا غيرَ بعيد عن التوقع، فهلا حملتم قولَ الزوج عليه؟ قلنا: حمل السنة والبدعة على الوقت إنما يظهر في التي تتصدّى لهما، وتتعرض لاعتوارهما عليها، فيصيران في حقها كاعتقاب الجديدين، وتوالي الليل والنهار، فيستبق إلى الفهم والحالة هذه إرادة الوقت، واللامُ في وضعها للتعليل، وإنما تستعمل في الوقت إذا قُرنت بذكر الوقت أو قرنت بما يمرّ ويجري جريان الوقت، وإلا فالسنة والبدعة لفظتان مستعملتان في الشرع، لا جريان لهما في اللغة، وإنما استعملتا شرعاً على الخصوص، فلا يُعدَّى بهما موضعهما، ولا تحمل اللام في حق من يعتورها السنة والبدعة على التأقيت، وصرح الأئمة لفظاً وفحوى بما يدل على أن من قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً، بل يديّن باطناً، كما سنذكره في باب أصل التديين؛ وإنما لم نقبل ما ذكره باطناً لظهور اللام في التعليل، وانعدام القرينة في اقتضاءِ التأقيت.
8935- ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق لوقت السُّنّة، فهذا فيه تردد عندي؛ من حيث صرح بالوقت: يجوز أن يقال: قوله لوقت السنة، كقوله للسنة، ويجوز أن يقال: إن فسر لفظه بمصيرها إلى حالة السنة يقبل ذلك منه، ويجوز أن يقال: إن فسره بالطهر، وفسر وقت البدعة بالحيض، وإن لم يكن دخول قبل ذلك منه، ولو أطلق اللفظ، وزعم أنه لم يكن له نية، فالظاهر وقوع الطلاق.
فليتأمل الناظر المسالة؛ فإنها محتملة.
8936- ولو قال لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، فإن زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً، سواء رضي فلان أم سخط، على ما قررناه في أصل التعليل.
ولو أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد تعليلاً، ولا تأقيتاً، انتجز الطلاق؛ فإن صيغة اللفظ تقتضي تنجيزها، ولم يظهر ما يدفع التنجيز.
ولو زعم أنه أراد التعليق بوقت رضا زيد، فهذا مقبول باطناً إن صُدِّق، فهل يقبل ذلك منه ظاهراً؟ فعلى وجهين، ذكرهما الصيدلاني:
أحدهما: أنه لا يقبل منه؛ فإن الرضا ليس مما يؤقت به، وهو مما يعلل به، فكان التعليلُ أظهرَ، وإذا غلب التعليل، كان موجبه انتجاز الطلاق.
والوجه الثاني- أن ما قاله مقبول ظاهراً؛ فإنه مُحْتَمَل غيرُ بعيد، فإذا لم يَبْعُد ما قال، صُدِّق، وسيأتي ضبط هذه الأبواب-إن شاء الله عز وجل- على ما ينبغي.
ثم قال الصيدلاني: إذا قال: أنت طالق لقدوم فلان، فمطلق هذا محمول على التأقيت؛ فإنه يَظهر التأقيت بالقدوم، ويبعد التعليل به، بخلاف الرضا.
ثم ينتظم من هذه الجملة أن اللام مع الوقت تأقيت، وهو مع الرضا وما في معناه مما يُتخيل التعليل به تعليلٌ في الإطلاق.
وإن أريد به التأقيت صُدق المرء باطناً، وهل يصدق ظاهراً، فعلى وجهين.
وما يظهر التأقيت به ينقسم إلى ما يتكرر بتكرر الزمان كالسُّنّة والبدعة، وإلى ما لا يتكرر تكرر الأزمان، كقدوم زيد.
فأما ما يتكرر تكرر الأزمان وَيَكُرّ كُرورَها، فمطلق اللام فيه للتأقيت، كقول الرجل للمرأة التي هي بصدد السُّنة والبدعة: أنت طالق للسُّنّة أو للبدعة هذا للتأقيت كما ذكرناه.
وأما ما يظهر فيه قصد التأقيت ولا يكرّ كرورَ الزمان، كقول القائل: أنت طالق لقدوم زيد، وزيدٌ غير قادم، وإنما يُنتظر قدومُه، فالذي قطع به الصيدلاني أن مطلق ذلك تأقيت، ولم أر في الطرق ما يخالف هذا، وهو متجِهٌ، فلا مزيد عليه.
ولو قال لامرأته: أنت طالق لدخول الدار، فالظاهر أن مطلق هذا محمول على التعليل، وإن زعم أنه أراد بذلك تأقيتاً، فهو قريب من قوله: أنت طالق لرضا فلان مع زعمه أنه أراد بذلك تأقيتاً وتعليقاً بوقت الرضا، ومعنى التعليق في الرضا قد يغلب وإن أمكن أن يُتخيل في دخول الدار؛ فالوجه ألا يُفرّق بين البابين.
هذا هو الضبط في استعمال اللام فيما نحن فيه من السنة والبدعة، وفيما في معناه.
8937- وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أنه إذا قال للتي لا سنة فيها ولا بدعة: أنت طالق للسنة، انتجز الطلاق للسنة، كما ذكره الأصحاب.
ولو قال: أنت طالق للبدعة، فالمذهب أن الطلاق ينتجز، كما ذكرناه عن الأصحاب، وحكى عن الأصحاب وجهاً: أنا ننتظر مصيرها إلى حالة البدعة؛ فإن طلاق السُّنَّة يمكن حمله على ما يسوغ، وأما طلاق البدعة، فلا مساغ له إذا لم تكن المرأة من أهل البدعة.
قال الشيخ: والصحيح وما عليه الأئمة أنه يقع الطلاق في الموضعين سواء وصف الطلاق بالسنة أو البدعة.
8938- ثم نعود إلى تفصيل الطلاق السني والبدعي في حق التي يُتصور في حقها السنة والبدعة: فإذا قال لامرأته وهي في طهر لم يجامعها فيه: أنت طالق للسنة، وقع الطلاق، فانطبق انتجازه على وقت السنة، وإن كانت في حالة الحيض، لم تطلق حتى ينقضي حيضها وتشرع في الطهر، فإذا شرعت فيه، وقع الطلاق مع أول جزء من الطهر، ولا يتوقف وقوعه على أن تغتسل، خلافاً لأبي حنيفة، ولا فرق عندنا بين أن يكون حيضتها منقطعة على أكثر الحيض أو على أقله أو أغلبه.
ولو قال لها: أنت طالق للبدعة. فإن كانت في حالة البدعة، وقع في الحال، وإلا فحتى تصير إلى حالة البدعة: فلو كانت في طهر لم يجامعها فيه، وقد قال لها: أنت طالق للبدعة، فإن كان خلاّها ولم يجامعها حتى حاضت، طلقت مع أول جزءٍ من الحيض.
وإن كان قال لها ذلك وهي في طهر لم يجامعها فيه، فلو جامعها في هذا الطهر قبل أن تحيض، وقع الطلاق كما غيب الحشفة؛ فإنها انتهت إلى وقت البدعة.
8939- ثم الكلام مفروض فيه إذا كان الطلاق المعلَّق رجعياً، فينظر: فإن أَخْرجَ ثم أولج، فالحد لا يجب؛ لأنها رجعية، والمهر سيأتي مفصلاً في كتاب الرجعة. وعقد المذهب فيه أنه إذا وطىء الرجعية وتركها حتى انسرحت، التزم مهر مثلها. وإن راجعها، ففي المسالة وجهان.
هذا ظاهر المذهب وأصله، وسيأتي ذلك مشروحاً في كتاب الرجعة، إن شاء الله عز وجل. كذلك إذا غيب الحشفة ووقع الطلاق، ثم نزع وأعاد فأولج، فهذا جماع مستحدث صادف رجعية.
ولو أولج الحشفة أول مرة، وحكمنا بوقوع الطلاق، فمكث أو تمم الإيلاج، فلا شك أن الحد لا يجب؛ لأنه مخالطٌ رجعية، فأما المهر، فقد سكت الشافعي عن ذكر وجوب المهر هاهنا، ونص على أنه إذا أصبح المكلف مجامعاً في نهار رمضان ولم ينزع، تلزمه الكفارة، والنصان في ظاهر الأمر مختلفان: قول الشافعي هاهنا يدل على أن المكث والاستدامة لا يكون بمثابة النزع والإعادة، ونص الشافعي في الصيام مصرح بأن الاستدامة بمثابة ابتداء الجماع.
وقد ذكر القاضي هاهنا طريقين للأصحاب: قال: منهم من قال: في المهر والكفارة قولان:
أحدهما: أنهما يجبان تنزيلاً للاستدامة منزلة الابتداء.
والثاني: لا تجب الكفارة ولا المهر.
توجيه القولين: من لم يوجبهما قال: الجماع واحد، فلا ينقسم حكمه، ولم يتعلق بأوله كفارة، ولا مهر، فلا يتعلق بالدوام ما لم يتعلق بالابتداء
ومن قال بالقول الثاني قال: صورة الجماع موجودة بعد وقوع الطلاق وطلوع الفجر. قال القاضي: ومن أصحابنا من لم يوجب المهر هاهنا وأوجب الكفارة وأقر النصين على ظواهرهما، وفرق بأن قال: الزوج إذا وطىء زوجته وقع الطلاق بأول وطءٍ، وهذا الوطء قد تعلق به المهر؛ من جهة أن مهر النكاح يشمل على الوطآت كلها، فوقع الاكتفاء باشتمال ذلك المهر على هذه الوطأة والوطأة الواحدة لا يتعلق بها مهران. والوطء في حكم الكفارة ليس في هذا المعنى؛ فإنه لم يتعلق بأوّله كفارة، وقد وجدت صورته في وقت العبادة ومن أصلنا أن الجماع المانع من الصيام كالجماع القاطع للصيام، فهذا وجه الفرق.
وما ذكره القاضي من تخريج نفي الكفارة غريب في النقل، وإن كان متجهاً.
وما ذكرناه في المهر فيه إذا استدام الوطء، ووقع التصوير فيه إذا كنا نوجب المهر عند النزع والإعادة، ثم نتردد في أن الاستدامة هل تكون بمثابة النزع والإعادة.
ولو أصبح وهو مخالط أهله، ثم قرن بأول الإصباح النزعَ، فلا كفارة، ولا فطر كما قدمناه في كتاب الصيام.
ولو وقع الطلاق في الصورة التي نحن فيها، وكما وقع، نزع ولم يعرّج، فالأصحاب متفقون على أن المهر لا يجب؛ لأن النزع انكفاف عن العمل، ولا يتعلق بالانكفاف عن العمل ما يتعلق بالإقدام عليه.
8940- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو قال لامرأته في الطهر الذي لم يجامعها فيه: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، ثم جامعها، فكما غابت الحشفة طلقت ثلاثاً، ثم ننظر: فإن أخرج ثم أولج، فهذا إيلاج بعد وقوع الثلاث، وهو موجب للحد مع العلم بحقيقة الحال، وإن مكث أو تمم الإيلاج مع العلم بوقوع الطلاق، فظاهر المذهب أنه لا حد عليهما؛ فإن الوطأة لا يتبعض حكمها، والحد لم يتعلق بأول هذه الوطأة، فلا يتعلق بدوامها.
وذهب بعض أصحابنا إلى إيجاب الحد؛ فإن صورة الوطء ثابتة مع القطع بالتحريم. ولو غيّب الحشفة واستدام، وتمم الإيلاج كما صورنا، فإن أوجبنا الحد، لم يجب المهر، وإن لم نوجب الحد، فالمهر على الخلاف الذي تقدم.
ولو وقع الثلاث بالتغييب، كما صورنا، ونزع كما وقع، فلا حد ولا مهر، لما ذكرناه من أن الانكفاف عن الفعل لا يحل محل الإقدام عليه.
ولو قال لامرأته وهي في زمان البدعة: أنت طالق للسُّنّة في هذا الوقت، وأشار إلى وقت البدعة وقع الطلاق، ولغا التقييد بالسنة؛ لأن الإشارة أغلب في هذا المقام من العبارة.
فهذا تفصيل القول وترتيبه في ذكر السُّنة والبدعة.
فصل:
قال: "ولو كان قال في كل قرءٍ واحدة... إلى آخره".
8941- قد ذكرنا من أصل الشافعي رضي الله عنه أنه ليس في جمع الطلقات وتفريقها سُنَّة ولا بدعة، ونقول على موجب هذا: إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وكانت في زمان السُّنّة ولفظُه مطلق، فالطلاق الثلاث ينتجز في الحال، وكذلك لو كانت في زمان البدعة، فقال: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، فلا أثر لذكر البدعة في الثلاث، كما لا أثر لذكر السنة، واللفظ مطلق.
ولو زعم أنه أراد بقوله: أنت طالق ثلاثاً للسنّة تفريقَ ثلاث طلقات على ثلاثة أقراء فهل يقبل ذلك منه ظاهراً أم باطناً؟ وكيف التفصيل فيه؟ هذا سنذكره في آخر الفصل مع إمكان البيان في التديين، إن شاء الله تعالى.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً في كل قُرء طلقة، فالقرء في قاعدة المذهب عند الشافعي طهر بين حيضتين، هذا هو الأصل. فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء واحدة، فلا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها أو تكون غير مدخول بها.
فإن لم تكن مدخولاً بها، وكانت من ذوات الحيض، نظر: فإن كانت في حال الطهر، وقعت عليها طلقة، وبانت.
وإن كانت في حالة الحيض، لم يقع في الحال شيء؛ فإن اسم القرء لا ينطلق على الحيض عند الشافعي، فإذا انقطع دمُها، وشرعت في الطهر، وقعت الطلقة وبانت، وإن تركها، لم يَلْحَقْها إلا تلك الطلقة.
وإن نكحها وشرعت في الطهر الثاني، ففي لحوق الطلاق في النكاح الثاني بعد تخلل البينونة قولا حِنث اليمين، وقد استقصينا ذكرهما.
ولو لم يجدد النكاح حتى مضت الأقراء المتوالية، ثم نكحها، لم تطلّق؛ لأن السبب المحنِّث قد جرى في حالة البينونة، ولم يتعلق الحنث به، فانحلّت اليمين، وقد استقصينا هذا الطرف فيما تقدم متصلاً بالكلام في عَوْد الحِنث.
هذا إذا لم تكن مدخولاً بها.
8942- فأما إذا كانت مدخولاً بها، فلا يخلو: إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، فإن كانت حائلاً وهي من ذوات الأقراء، وقال الزوج ما قال وهي في حالة الطهر، فتلحقها طلقة رجعية، ثم إذا طهرت ثانياً، لحقتها طلقة أخرى، فإذا طهرت ثالثاً، وقعت الطلقة الثالثة.
ثم الطلقةُ الثانية والثالثة لحقتا وهي في حالة الرجعة، ووقوع الطلاق على الرجعية هل يقتضي عدة مستأنفة؟ هذا مما قدمنا اختلاف القول فيه، وأحلنا استقصاءه على كتاب العدة، فلا معنى للخوض فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت حائلاً.
8943- فأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو: إما إن كانت ترى الدم، أو كانت لا ترى الدم: إن كانت لا ترى الدم: وقد قال الزوج: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فتلحقها طلقة في حالة الحمل لا محالة، وهذا مما يجب التثبت فيه. وقد ذكرنا أن القرء عبارة عن حال احتباس الدم بين حيضتين، والحامل تكون كذلك؛ فإن الحيضة تحتبس في زمان الحمل، وحكم الحامل كحكم الحائل في طهر يتطاول زمانه، ثم إذا وضعت الحملَ، انقضت العدة، وبانت، فإذا طهرت من النفاس، لم يلحقها الطلاق الثاني؛ لأنها بائنة؛ فإن نكحها في مدة النفاس، ثم طهرت من النفاس في النكاح الثاني، فيعود اختلاف القول جديداً وقديماً في عَوْد الحِنْث.
ولا معنى لتكرير الصورة بعد وضوح المقصود.
ولو راجعها في زمان الحمل قبل الوضع، فإذا طهرت من النفاس، لحقها طلقة أخرى؛ فإن النكاح لم يتعدد، وإذا لحقها هذه الطلقة، استأنفت العدة قولاً واحداً؛ لأن انقضاء العدة يتعلق بوضع الحمل، وهو إن ارتجعها قبل الوضع، فقد مضى بعد الرجعة ما يتعلق به انقضاء العدة لولا الرجعة، فلا وجه لتخيّل بناء القرء على وضع الحمل، وهذا موضع رمزٍ وعقد جُمل في العِدد، واستقصاءُ الكلام فيها محالٌ على كتاب العدة.
8944- وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الحامل لا ترى دماً، فأما إذا كانت ترى دماً على ترتيب الأدوار ونظمها، فقد اختلف قول الشافعي في أن دم الحامل على الترتيب المنتظم هل يكون حيضاًً أم لا؟ فإن قلنا: إنه دم فسادٍ، فلا حكم له، وهو كما لو قال: لو لم تَرَ دماً، وقد تقدم التفصيل.
فإن حكمنا بأن ما تراه دمُ حيض فإذا كان قال: "أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة"، وكانت الحامل في حالة الحيض، لم يقع الطلاق؛ لأن القرء عبارة عن طهر محصور بين حيضتين، وهذه الحامل لها حيض وطهر. وإن قال لها ذلك وهي في زمان الطهر، فيقع لتحقق اسم القرء، وهل يتكرر الطلقات الثلاث بتكرر الأقراء عليها وهي حامل؟ فعلى وجهين: أقيسهما- أنه يتكرر؛ لأنا إذا أثبتنا الحيض والطهر، وحققنا اسم القرء، فيجب على موجب ذلك أن يتكرر الطلاق بتكرر الأقراء.
الوجه الثاني- أنه لا يتكرر؛ لأن الطلاق إنما يتكرر إذا كان الطهر محتوشاً بدمين دالّين على براءة الرحم، وهذا المعنى لا يتحقق في هذه الأطهار، وأما الطلقة الأولى، فإنا حكمنا بوقوعها كما نحكم بوقوع الطلاق إذا كانت لا ترى دماً، ولكنا توقفنا في وقوع الطلاق، ولم نوقعه وهي حائض.
ثم قال الأصحاب: من حيث إنه يوجد طهر محتوش بدمين يختص وقوع الطلاق به، ومن حيث إن الدمين لا يدلاّن على براءة الرحم قلنا: لا يتكرر وقوع الطلاق بتكرره، وهذا وإن كان ظاهراً في الحكاية، فالقياس ما تقدم؛ فإن الطلاق إنما يتحقق بتحقق الاسم، واسم الأقراء يتكرر، والزوج لم يعلّق الطلاق بأقراء دالة على براءة الرحم، فلا معنى لاعتبار البراءة في هذا المقام. وكل ما ذكرناه إذا قال لامرأته وهي من ذوات الأقراء: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة.
8945- فإذا قال لامرأته- ولم تحض قط: أنت طالق ثلاثاً في كل قرءٍ واحدة، فالذي عليه الأصحاب أنا لا نحكم بوقوع الطلاق في الحال، ولكن إذا حاضت هل نتبين أن الطلاق وقع عليها باللفظ السابق؟ فعلى وجهين مبنيين على أنها إذا رأت الدم في خلال العدة بالشهور، فهل نحتسب ما مضى قرءاً؟ فيه قولان مبنيان على أن القرء عبارة عن ماذا؟ وفيه قولان:
أحدهما: أنه عبارة عن طهرٍ يحتوشه دمان، فعلى هذا لا نحتسب ما مضى لها قرءاً؛ لأنه لم يكن بين دمين.
والقول الثاني- أن القرء عبارة عن الانقلاب من الطهر إلى الحيض أو من الحيض إلى الطهر، فعلى هذا نحسب ما مضى لها قرءاً من العدة، ونحكم بوقوع الطلاق تبيّناً.
وإذا قال للآيسة القاعدة عن الحيض: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فإن عاودها الدم بعد ذلك، فلا خلاف في وقوع الطلاق، وإن استمرت على التقاعد واليأس، فهل يلحقها الطلاق أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي:
أحدهما: أنه يلحقها الطلاق؛ لأنها انتقلت من الحيض إلى هذه الحالة.
والثاني: أن الطلاق لا يلحقها؛ فإن القرء طهر بين دمين، وهذا نقاء تقدمه دمٌ، ولم يستأخر عنه دم، والقرء بمعنى الطهر محمول على قول القائل: قرأت الماء في الحوض، والطعام في الشدق، وهذا إنما يتحقق إذا كان يجتمع في زمان النقاء دمٌ في الرحم، ثم يزجيه الرحم.
هذا تصرف الأصحاب في تعليق الطلقات بالأقراء.
8946- وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً أن الرجل إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة: أن الأقراء في حقها هي الأشهر، فتلحقها ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر؛ فإن الأشهر في حقها مُقامة مقام الأطهار المحتوشة بالدماء.
وهذا ضعيف جداً؛ لأنه مائل عن مأخذ الباب، والتعليقاتُ تؤخذ من قضية اللسان، وقد يُلتفت فيها على العادات، فأما النظر إلى تنزيلات الشرع أشياء مقام أشياء، فليس من حكم هذا الكتاب وموجبه أصلاً. ولا شك أن العرب لا تسمِّي الأشهر أقراء أصلاً، لا في الصغيرة، ولا في حق الآيسة، فليكن التعويل على موجب اللفظ.
فهذا إذاً وجهٌ غير معتد به.
وقد انتهى تفصيل القول في تعليق أعداد الطلاق على الأقراء.
8947-ونحن الآن نستفتح مسألة متصلة بهذا النوع، ونبتدىء بسببها القولَ في التديين، فنقول: إذا قال الرجل: أنت طالق ثلاثاً للسُّنة ونوى تفريقها على ثلاثة أقراء، فقد ذكرنا أن السُّنة والبدعة لا تتعلقان بالجمع والتفريق، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً للسّنة، وزعم أنه أراد تفريقها، لم يقبل ذلك منه في ظاهر الحكم، وإن علم الله تعالى منه الصدق فيما ادّعاه، فلا تقع الطلقات الثلاث معاً بَيْنه وبين الله تعالى، وعبّر الفقهاء عن هذا فقالوا: لا يُقبل منه في الظاهر، ولكن يُدَيّن بينه وبين الله.
8948- ونحن نذكر الآن قاعدة التديين، ونستعين بالله تعالى، فنقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فالذي جاء به لفظ صريح، فلو قصد به الطلاق أو أطلقه ولم يقصد به شيئاً، ولم يَهْذِ بلفظه، ولم يحكه، وقع الطلاق ظاهراً وباطناً.
ولو نوى بقوله طالقٌ التطليق عن وثاق، أو حل أسير وحَجْر، فإذا أبدى هذا، لم يقبل منه في ظاهر الحكم، ولكن إذا لم يثبت لفظه في مجلس القضاء، وكان صادقاً بينه وبين الله تعالى، لم يقع الطلاق في حكم الله وعلمه.
ولو قال: أنت طالق وأضمر ألا يقع، وأجرى على ضميره: أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك، فهذا يقع ظاهراً وباطناًً.
8949- وطريق الضبط في هذا الطرف أنه إذا ذكر لفظاً صريحاً، وزعم أنه أضمر معنىً محتملاً، وفي صيغة اللفظ احتماله، فلا سبيل إلى مخالفة الصريح في ظاهر الحكم، ولكن إن صدق وفي اللفظ احتمال، فلا يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، وسنقرر ذلك عند ذكرنا الصرائح وأحكامها، إن شاء الله تعالى.
ولو أضمر مع صريح الطلاق شيئاً لا ينبىء اللفظ عنه في صيغته ووضْعِه، ولو جرى ذكرُ المعنى الجاري في الضمير متصلاً بالكلام الظاهر، لما كان الكلام منتظماً، ويُعدّ ما جاء به متهافتاً، لا يجرّد العاقلُ القصدَ إلى نظم مثله، فهذا مردود ولا حكم له.
ومثال هذا القسم ما لو قال: أنت طالق، ونوى طلاقاً لا يقع، فهذا لو صرح به، لكان لغواً مُطَّرحاً، لا مبالاة بمثله، والطلاق واقع، فقد خرج الضمير عن صيغة اللفظ، وعن معنىً ينتظم مع اللفظ لو فرض وَصْلُه به فلا طريق إلا الإلغاء ظاهراً وباطناً.
ولو أضمر ما لا يُشعر اللفظ به في صيغته، ولكن لو وُصل بالكلام وأظهر، لكان ينتظم الكلام معه، وذلك مثل أن يقول: أنت طالق، ثم يقول: نويت وأضمرت إن دخلتِ الدار، وأضمرت إلى شهرٍ، أو ما جرى هذا المجرى من تأقيتٍ أو تعليقٍ، فإذا أضمر شيئاً مما ذكرناه، وذكرنا ضبطه، فلا شك أنا لا نقبل منه في الظاهر ما زعم أنه أضمره، ولكن هل يُديّن بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين: أقيسهما أنه لا يديّن؛ فإن التديين يجري إذا كان ما يضمره لائقاً بمعاني اللفظ على بُعدٍ، فأما إذا لم يكن اللفظ مشعراً به على قرب ولا بعد، فالإضمار فيه نيّةٌ مجردة، ولا تعلق لها بلفظٍ، والنية المجردة لا أثر لها عند الشافعي؛ ولهذا نقول: إذا أجرى معنى الطلاق جزماً على قلبه، لم يقع الطلاق ظاهراً وباطناًً، وخالف مالك في هذا.
والوجه الثاني- وهو ظاهر قول الأصحاب أنه إذا علَّق بضميره، تعلّق بينه وبين الله، والتحق بقواعد التديين.
8950- وعلى هذا الخلاف يُخرّج ما إذا قال: أنت طالق، ثم زعم أنه أضمر (إن شاء الله تعالى) وقد نص الشافعي في عيون المسائل: أنه لو قال لامرأته: إن كلمت زيداً، فأنت طالق، ثم قال: أردت بذلك إن كلمتِه شهراً، فالحكم بعد انقضاء الشهر يرتفع، فلو كلّمتْه بعد الشهر، لم يقع الطلاق باطناًً.
وللفقيه في هذا أدنى نظر؛ فإن قول القائل: إن كلمتِ زيداً يتعلق بالأزمان على العموم، وحملُ اللفظ الصالح للعموم على الخصوص من تأويل اللفظ على بعض مقتضياته، وانتهى الأمر في تردد الألفاظ بين العموم والخصوص إلى نفي طائفة من العلماء صيغةً مجردة ظاهرةً في العموم، وهذا لاعتقادهم تردّدَ الألفاظ في هذين المعنيين. وليس هذا كما لو قال: أنت طالق، وزعم أنه أضمر: إن دخلت الدار، فإن هذه الصيغة وما في معناها لا التفات للفظ عليها بوجهٍ من الوجوه.
فما نقل عن الشافعي ملحق بقوله: أنت طالق مع دعواه أنه نوى الطلاق عن الوثاق.
فهذا تصرّف الأصحاب في أصول التديين.
ويلتحق بالأصل الذي مهدناه ما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً وزعم أنه أراد التفريق على الأقراء، فهذا لا يُقبل ظاهراً، وهل يُدَيَّن؟ يلتحق هذا بما لو زعم أنه أضمر تأقيتاً أو تعليقاً؛ فإنه ليس في قوله: أنت طالق ثلاثاً ما يشعر بما ذَكر. ولكن لو ذكره، لانتظم الكلام معه.
وإن قال: أنت طالق ثلاثاًً للسُنة، ثم زعم أنه نوى التفريق على الأقراء، فالظاهر إلحاق هذا بما لو أضمر تأقيتاً أو تعليقاً، كما ذكرناه، ولا يتغيّر الحكم بتقييد الثلاث بالسُّنة، فإن هذا اللفظ في إشعار اللغة لا يقتضي تفريقاً، وإذا رددنا لفظ السنة إلى موجب الشريعة، فقد قدمنا من مذهب الشافعي أن السُّنة والبدعة لا تعلق لهما بالجمع والتفريق.
فهذا بيان الحكم في هذه المسألة وتنزيلها على مرتبتها في التديين.
8951-وللألفاظ في الطلاق مسالك كنت أوثر جمعها، فبدا لي أن أؤخرها حتى يحصل الإلف بمجاري الكلام في الألفاظ. ومعظم مسائل هذا الكتاب مُدارةٌ على مقتضى الألفاظ، وهي معتبر الكتب المتعلّقة بقضايا الألفاظ، فالوجه أن نُجري في كل فصل ما يليق به، ثم نختتم الكلام بضوابط تُنزَّل الألفاظ على مراتبها، ونبيّن مقاصد الشرع فيها، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة... إلى آخره".
8952- إذا قال لامرأته المتعرضة للسُّنة والبدعة: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسُّنة وبعضهن للبدعة، راجعناه فإن أراد تنجيز طلقة واحدة في الحال توافق السُّنة أو البدعة وتأخير اثنتين إلى الحالة الثانية، فيقع على هذا الترتيب، فإن تفسيره البعض بواحدة في الحال ليس بعيداً عن مقتضى الظاهر.
وإن أراد فيما زعم تعجيل طلقتين على حسب موافقة الوقت في السُّنة والبدعة وتأخير طلقة إلى ارتقاب الحالة الأخرى، فهذا ممكن محتمل، وتفسيره فيه مقبول ظاهراً، وذلك أن البعض لا يختص في حكم اللسان، ولا في موجب العرف بمبلغ، وهو لفظ مبهم يتناول الواحد والزائد على الواحد، فإذا فسره كان بمثابة من يفسر مجملاً، فيحمله على بعض جهات الاحتمال، فلم يمتنع قبول حمل البعض على الواحدة و على الثنتين.
وإن زعم أنه أراد بالبعض نصف الثلاث وقعت ثنتان في الحال، لأن نصف الثلاثة واحدة ونصف، وكأنه نجّز طلقة ونصفاً، ولو فعل ذلك، لوقعت طلقتان، وهذا بيّن في جهات الاحتمال.
ولو طلق وزعم أنه ما نوى شيئاً، ولكن أجرى هذا اللفظ، فالذي نقله المزني عن الشافعي أنه يقع في الحال ثنتان، ثم قال من تلقاء نفسه: "أشبه بمذهبه عندي أن قوله بعضهن يحتمل واحدةً، فلا يقع غيرها"، فأوضح من قياس الشافعي أنه لا يقع عند الإطلاق إلا واحدة، وأورد هذا على صيغة التصرف على مذهب الشافعي وقياسه، ولم يورده مختاراً لنفسه، وأنا أوثر أن ننظر في كل كلام له إلى ما أشرنا إليه، فإنْ تصرف على المذهب وأجرى قياسه، فهو تخريج على مذهب الشافعي وتخريجه أولى بالقبول من تخريج غيره، وإن لم يتصرف على قياس المذهب، واستحدث من تلقاء نفسه أصلاً، فيعدّ ذلك مذهبَه، ولا يلحق بمتن المذهب، فليكن ما قاله في هذه المسألة تخريجاً، والمنصوص وقوع طلقتين، ومذهب المزني وتخريجه على مذهب الشافعي أنه لا يقع إلا طلقة.
8953- التوجيه: وجه النص أن الثلاث موزعة على بَعْضَين مضافة إليهما، فاقتضى إطلاق الإضافة التقسيط، على التنصيف وموجب هذا إثبات طلقةٍ ونصف على حسب الحالة الناجزة، والطلقة والنصف طلقتان، فينتجز طلقتان، ويتأخر طلقة. وهذا القائل يوجّه النص بمسألة: وهي أن صاحب اليد في الدار لو قال: بعضها لفلان وبعضها لفلان، فمقتضى هذا اللفظ الاعتراف لكل واحد منهما بشطر الدار.
وأما وجه مذهب المزني، فهو أن البعض لفظ مجمل، كما قدمنا تقريره؛ فإن ذكر صاحب اللفظ تفسيراً، قبلناه وإن أطلقه، تردد بين القليل والكثير، فوجب تنزيله على الأقل؛ فإنا لا نوقع من الطلاق إلا المستيقن، وما تقدم ذكره من التسوية خيال لا يقع بمثله الطلاق.
فإذا نصرنا مذهب المزني وعددناه قولاً مخرجاً، لم نسلم مسألة الإقرار بالدار.
ومن عجيب الأمر أن الأصحاب نقلوا مسألة الدار نقل من يرى أن الدار مشطرة بموجب اللفظ، حتى لا يراجَع فيها المقِر. وهذا خارج عن الضبط، فالوجه القطع بأنا إذا فرعنا على تخريج مذهب المزني، فما ذكره المقر لفظٌ مبهم لا استقلال له، ولابد فيه من مراجعة المقِر، وإن عسرت مراجعته، كان إقراراً مبهما لا يُطَّلَع على معناه ومقدارِ المقَرّ به. ونظائر ذلك كثير في الأقارير.
وإذا فرعنا على النص، فيجب القطع بالرجوع إلى قول المقر، كما ذكرناه في الطلاق، فإن عسر الرجوع عليه، فقد يجوز حمل اللفظ على التنصيف والتشطير.
وهذا كلام ملتبس، ولا وجه في مسألة الإقرار إلا الرجوع إلى قول المقر، وكل ما كان مُجملاً يُرجع فيه إلى تفسير مُطلِقه، فإذا عسر درْك تفسيره، استحال أن يُتََلَقَّى من اللفظ ما يُلحقه بالظواهر، ويخرجه عن المجملات، فإن مخالفة الظاهر غيرُ مقبولة في المعاملات، وإن عُدّ التفسير بياناً للمجمل، وجب القضاء بالإجمال عند عدم التفسير.
8954- وقد يخطر في ذلك للفطن شيء، وهو أن المعظم لا يسمى بعضَ الشيء، واسم البعض ينطلق على النصف فما دونه، وإذا تقابل البعضان، أشعر ذلك بأن كل بعض ليس المعظم، فيجب القضاء بتنزيل البعضين على الشطرين.
وهذا الآن يُظهر استفادة التنصيف من اللفظ، ومساق هذا يقتضي ألا يقبل منه حمل البعض على الطلقة الواحدة، وقد ذكرنا أنه لو حمل البعض على طلقة منجزة وطلقتين مؤخرتين، قُبل ذلك منه، وهذا يلتحق بفن من الفنون في الطلاق، وهو أنا قد نحمل لفظاً في الإطلاق على محمل، فإذا قال صاحب اللفظ أردت غيره يُقبل منه ذلك ظاهراً، وهذا فوق درجة التديين، وسيأتي نظائر لهذا، إن شاء الله تعالى. فإذاً المطلق محمول على التنصيف لما ذكرناه، وإذا حمل البعض على الواحدة، ففي قبول ذلك منه احتمال.
وقد ذكر صاحب التقريب أوالعراقيون، فيه وجهين:
أحدهما: أنه يقبل، وهو الصحيح، إذ لفظ البعض يحتمل الواحدة احتمالاً بيناً.
والثاني-وهذا اختيار ابن أبي هريرة- أنه لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ ينجز الطلقتين على النص، وإذا لاح هذا، انتظم منه أن مقتضى النص أن اللفظ ظاهر في التنصيف مستقلٌّ بإفادته وفي حمله على خلافه احتمال ظاهر النص، وهل يقبل الحمل على خلاف الظاهر؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، ومقتضى مذهب المزني أن اللفظ مجمل لا ظاهر له، وموجب هذا قبول تفسيره، فإن عدمنا التفسير، نزلناه على الأقل.
ولو قال صاحب المقالة: أردت تعجيلَ بعضٍ من كل طلقة في الحال، فهذا مقبول وينتجز الطلقات الثلاث؛ فإن أبعاض الطلاق مكمّلةٌ على ما سيأتي شرح ذلك، على ترتيب مسائل الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال: "ولو قال: أنت طالق أعدل أو أحسن... إلى آخره".
8955- إذا قال لامرأته: أنت طالق أعدل الطلاق، أو أكمل، أو أحسن، أو أفضل، أو أجمل الطلاق، فإنْ أجمل هذه الألفاظ، انصرفت إلى ما ينصرف إليه لفظ السُّنة، فكأنه قال لها: أنت طالق للسنة، فإن كانت حالها موافقة للسنة، تنجزت الطلقة، وإلا انتظرنا حالة السنة.
وما ذكرناه فيه إذا كانت المرأة بصدد السنة والبدعة؛ فإن أراد بهذه الألفاظ السُّنة، فقد طابق قصدُه ظاهرَ ألفاظه.
وإن قال: عنيت بما أطلقته من هذه الألفاظ تنجيز الطلاق في الحال، فرأيت أحسن أنواع الطلاق أعجلَها، فيتعجل الطلاق؛ فإن ما ذكره محتمل، ومهما ذكر احتمالاً مقتضاه إيقاع الطلاق، فهو مقبول، وإن كنا قد لا نقبل في نفي الطلاق مثل ذلك المعنى ظاهراً، وإنما نحيل قوله على التديين.
فإن قال: أردت بما أطلقت من الألفاظ تأخير الطلاق، وإن كان في زمن السّنة؛ فإني رأيت المَهَل أجملَ من مفاجأة الطلاق، فهذا لا يقبل، إذا كان حالها موافقاً للسُّنة؛ والسبب فيه أنه يبغي نفيَ الطلاق في الحال، ثم ليس لمنتهى وقوع الطلاق ضبط لفظي ولا شرعي، فإنه إن أراد التأخير من حال السُّنة إلى حال البدعة، فهذا يخالف الشرع، والألفاظَ الشرعية، وإن أراد التأخير إلى طهرٍ آخر، فلا ضبط له، فليس انتظار طهر ثانٍ أولى من انتظار طهر ثالث، والمرأة في الحال في طهر لم يجر فيه جماع، فخرج من مجموع ما ذكرناه أن هذه الألفاظ عند إطلاقها محمولة على السنة، حتى إذا كانت المرأة في حالة بدعةٍ، تأخر الطلاق إلى وقت السنة، وإن نوى تعجيلاً على خلاف السنة، فقوله عليه مقبول. وإن كانت في حال السنة، ونوى تأخيراً عن احتمالٍ يُبديه، فذلك غير مقبول منه ظاهراً. ولا شك أنه يُديّن على ما مهدنا أصل التديين.
8956- ولو قال لامرأته: أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وأوحشه، أو أفضحه أو أفظعه؛ فإن أطلق هذه الألفاظ، ولم ينو بها شيئاً، فهو كما قال: أنت طالق للبدعة، ولا يخفى حكم هذه اللفظة، فإن كانت في زمان بدعة، تنجز الطلاق. وإن كانت في زمان سُنة، تأخر وقوع الطلاق إلى مصيرها إلى حالة البدعة. ولو كانت في حالة سُنّة، فقال: أردت بأقبح الطلاق أعجله، قُبل ذلك منه وانتجز الطلاق، وإن كان في حالة بدعةٍ، فقال: أردت بالأقبح ما يتأخر ويُنتظر، لم يقبل ذلك منه؛ لأنه لا ضبط ولا توقف ينتهي إليه، كما ذكرناه في الأحسن واكمل.
والذي يختلج في الصدر من هذه المسألة أنه إذا قال: أنت طالق للسنة، وكان وقت السنة منتظراً، فالكلام محمول على التأقيت، وكذلك القول فيه إذا قال: أنت طالق للبدعة.
فأما إذا قال: أنت طالق أجمل الطلاق أو أقبح الطلاق، فهذا في ظاهره تنجيزٌ مع وصفٍ، وليس في صيغة اللفظ ما يقتضي تعليقاً، أو تأقيتاً. ولو قال قائل: مُطلَقُ هذا اللفظ التنجيز، ثم ينظر في مُفسده على التفاصيل المقدمة، لكان هذا كلاماً جارياً على صيغ الألفاظ ومعناها.
وليس ما ذكرناه مذهباً لذي مذهب؛ فإن الأصحاب مجمعون في الطرق على أن الأحسن وما في معناه مطلقُه محمول على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للسُّنة، والأقبح محمول عند الإطلاق على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للبدعة
فهذا بيان الفصل نقلاً واحتمالاً.
8957- ثم ذكر الشافعي أنه لو قال: أنت طالق طلقةً حسنة، كان كما لو قال: أنت طالق للسنة، وكذلك ما في معنى هذا اللفظ.
وإذا قال: أنت طالق طلقة قبيحة، فهو كما لو قال: أنت طالق للبدعة.
ومنتهى التقريب في هذا الفصل أن الأحسن صفةُ مدح، وهذا مفهوم من هذا اللفظ، فلا محمل له أولى من السُّني، والأقبح صفة ذم، فلا محمل له أولى من المحظور المحرّم.
ولو قال: أنت طالق طلقة حسنةً قبيحةً، فقد جمع بين النقيضين، وتنتفي الصفتان لتناقضهما، ويبقى الطلاق المطلق، وهو محمول على التنجيز، وكذلك لو قال: أنت طالق طلقة لا سُنيّة ولا بدعية، وكانت متعرضة لهما جميعاً، فتتعارض الصفتان وتسقطان في النفي، كما سقطتا في الإثبات، ويبقى الطلاق المطلق.
ولو قال للتي لا تتعرض للسنة والبدعة: أنت طالق للسنة والبدعة، فالصفة ساقطة والطلاق مُطلق، وحكم الانتجاز كما ذكرناه.
8958- ثم قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق إذا قدم فلان للسُّنة... إلى آخره". إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسُّنة، فالقول الوجيز في هذا الفصل أنا ننظر إلى قدوم فلان، وإلى حالة المرأة عند قدومه، ونقول: كأنه قال لها عند قدومه: أنت طالق للسنة، ثم لا يخفى حكم ذلك.
وكذلك لو قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهو كما لو قال: عند قدومه أنت طالق للبدعة.
ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو قال هذا القول والمرأة حالة قوله لم تكن من أهل السنة، ولا من أهل البدعة، ثم صارت من أهلها، فقدم زيد، فالحكم بحالها عند قدوم زيد، ولو كانت من أهل السنة والبدعة، ثم خرجت عن أن تكون من أهل السنة والبدعة باليأس والتقاعد، فالاعتبار بحالها عند قدوم زيد.
وكل ما ذكرناه يندرج تحت قولنا: نجعل ما ذكره بمثابة ما لو قال لامرأته عند قدوم زيد: أنت طالق للسنة أو البدعة.
ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهذا التعليق في نفسه بدعة؛ لأن الطلاق لا يقع به إلا موجب البدعة، وإذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسنة، فتعليقه هذا ليس محظوراً، ولو قال لامرأته: إذا قدم زيد، فأنت طالق، ولم يتعرض لوصف الطلاق عند القدوم بالسُّنّة والبدعة، فإذا قدم زيد، طلّقت، وإذا كان في زمان بدعة، وقع الطلاق بدعيّاً، وإن كانت في زمان سنة، وقع الطلاق سنياً.
هذا قولنا في صفة الطلاق الواقع.
8959- فأما التعليق نفسه، فليس فيه تعرض لسنة وبدعة، وإنما هو تعليق طلاق بصفة، فظاهر كلام الشافعي على أن التعليق لا يتصف بالبدعة؛ فإن الأمر متردد، ولم يقصد المعلّق اعتماد إيقاع الطلاق في وقت البدعة.
وحكى من يوثق به من أصحاب القفال أنه كان يقول: التعليق على الإطلاق بدعة، إذا كان لا يمتنع وقوع الطلاق في وقت البدعة؛ لأنه متردد بين أن يقع الطلاق بدعيّاً، وبين أن يقع سنياً وغيرَ بدعي، والتردد بين المعصية وغيرها في نفسه معصية.
وهذا الذي ذكره القفال وإن كان معتضداً بمسلك من المعنى فهو بعيد من وجهين:
أحدهما: أنه في حكم الهجوم على ما اتفق عليه الأولون؛ فإن تعليق الطلاق على الصفات لم يحظره أحد، والآخر- أن تحريم الطلاق بسبب تطويل العدة أو بسبب ندامة الولد ليس جارياً على قياس جلي؛ فإنما التعويل الأظهر فيه التعبّد، فلا ينتهي الأمر إلى مصير التعليق بدعيّاً لجواز إفضائه إليه، إذا لم يوجد من المطلّق تجريد قصد إلى مصادفة البدعة.
فصل:
قال: "ولو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق... إلى آخره".
8960- مضمون هذا الفصل الكلامُ في مسألتين: إحداهما- أن يقول الرجل لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، والأخرى أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فنبدأ بما إذا قال لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق بوجود الحمل في بطنها حالة التعليق، فلا نحكم بوقوع الطلاق في الحال للشك القائم والتردد، والأصل بقاء النكاح، ولكن إن أتت بولد لستة أشهر، فقد استيقنّا وجود الحمل حالة التعليق، فنقضي بوقوع الطلاق تبيّناً، واستناداً، ثم تقضي العدة بوضع الحمل، ولو أتت بولد لأكثر من أربع سنين، فكما مضت أربع سنين تبيّنا حيالها حالة التعليق، فلا يقع الطلاق.
وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وأقلَّ من أربع سنين، فإن لم يطأها بعد عقد اليمين، وقع الطلاق، لأنا وإن كنا نجوّز أن يكون علوقها بعد العقد، فالأمر محمول على أن العلوق من الزوج والوطء المتقدّم على اليمين، وإذا كان كذلك، فيقدر الحمل موجوداً حالة التعليق، ونقضي بوقوع الطلاق.
وذكر الأئمة قولاً آخر: أن الطلاق لا يقع، لجواز أن يكون العلوق بعد اليمين، والأصل بقاء النكاح، وهذا القائل يقول: لا نحكم بوقوع الطلاق ما لم نتيقن وجود الحمل حالة اليمين.
وإذا كان الزوج يطؤها بعد اليمين، وأمكن إحالة العلوق على الوطء المتجدد بعد اليمين، فلا خلاف أنا لا نحكم بوقوع الطلاق، ولو وطئها بعد اليمين فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من ذلك الوطء الجاري بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء، فإن إمكان العلوق لا يسند إليه.
فتحصل من مجموع ما ذكرناه أنه إذا جرى بعد اليمين وطء يمكن إحالة العلوق عليه، لم يقع الطلاق، وإن استيقنا وجود الولد حالة التعليق، بأن أتت به لدون ستة أشهر، حكمنا بوقوع الطلاق، وإن لم يجر وطء بعد اليمين، أو جرى وطء لا يمكن إحالة العلوق عليه، ولكن كان يمكن إحالة العلوق على وطء من غير الزوج، فالشرع في إلحاق النسب يقدر استناد العلوق إلى الوطء المتقدم على اليمين غير أن سبيل الاحتمال غير منحسم بأن يفرض العلوق بعد اليمين من غير الزوج، فظاهر المذهب الحكم بوقوع الطلاق.
وفي المسألة قول آخر أنّا لا نحكم بالوقوع للتردد الثابت والأصل بقاء النكاح.
8961- ثم إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فإلى أن نتبين من العواقب ما ذكرناه، هل يحل للزوج وطؤها أم كيف الطريق؟ قال الأصحاب: لا يطؤها حتى يستبرئها، فإنه ذكر لفظة الطلاق، ووقوعه غير بعيد، وأمر الأبضاع على التشديد. ونقل العراقيون قولاً آخر أن الوطء لا يحرم، بل يكره، فحصل قولان في تحريم الوطء:
أحدهما: أنه محرم، لما قدمناه.
والثاني: أنه مكروه غير محظور، لأنا لم نستبن وقوعَ المحرم، ثم إذا حرمنا الوطء، وقلنا: يستبرئها، فلا يطؤها حتى تنقضي مدّة الاستبراء. وبكم يستبرئها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، والقول في حرةٍ خوطبت بما ذكرناه. فأحد الوجهين أنه يستبرئها بثلاثة أقراء؛ فإن الاستبراء في حق الحرة لا ينقص عن ذلك.
والثاني أنه يستبرئها بقرء واحد، كما تستبرأ الأمة المملوكة؛ لأن هذا ليس بعدّة، واعتبار العَدد في الأقراء يتعلق بالعِدد، وإنما الغرض بهذا الاستبراء استظهارٌ وتعلق بعلامة. ثم قالوا: إن قلنا: يستبرئها بثلاثة أقراء، فهي أطهار على ما سيأتي في العِدد، إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: يستبرئها بقرء واحد، فسبيله كسبيل استبراء المملوكة، ثم المذهب الصحيح أنه حيضة، وفيه وجه أنه طهر، وسيأتي ذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ثم إذا مضى الاستبراء على ما ذكرناه، فيحل للزوج وطؤها. ومما ذكره العراقيون أنه لو استبرأها أولاً-إما بقرء أو أقراء، وظهر عنده براءتها في ظاهر الحال- ثم قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق. فهل يحل وطؤها بناءً على الاستبراء المتقدم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يحل لحصول علامة براءة الرحم، وليست في اعتداد على التحقيق؛ حتى نعتبر فيه الترتيب، ونقضي بأن العدة إنما يعتد بها إذا ترتبت على الطلاق.
والوجه الثاني- أنه لا حكم للاستبراء المتقدم، كما لا حكم للعدة قبل الطلاق، والاستبراء قبل الشراء.
8962- ومما يتعلق بذلك أنا إذا أمرناه بالاستبراء، فمرّت بها صورة الأقراء، ثم أتت بولدٍ لزمانٍ يُعلم وجوده حالة اليمين، فنتبين بالأَخَرة أن الوطء صادف مطلَّقة، وأن ما كنا نحكم به أمرٌ ظاهر، وقد بان أن الحكم بخلافه، ثم لا يخفى تفصيل القول في المهر، وتجدّد العدة، وغيرهما من الأحكام. وإذا أمرناه بالاستبراء، فمضى شهر أو شهران وأكثر، فلم ير قرءاً وهي من أهل الأقراء؛ فإنه يجتنبها، فإن انقطاع الحيض عنها من مخايل الحمل، وهذا يؤكد التحريم، ثم الأمر يبين بوضعها الحمل وعدم وضعها، كما تقدم.
ولو كانت في سن الحيض، ووقت إمكان الحيض، فقال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، وما كانت حاضت من قبل، فالعدة في حق مثل هذه-لو طلقت- بالأشهر؛ فإذا اعتدت بالأشهر، نكحت، وجعلنا مضيّ الأشهر علامة على براءة الرحم؛ حتى يجوز لها أن تنكح، وإذ ذاك توطأ، ثم في الحكم بانقضاء العدة حكمٌ بانبتات النكاح، فإن الرجعية زوجة ما دامت في العدة.
فخرج مما ذكرناه أن الأشهر في حق هذه في مسألتنا إذا لم تكن حاضت قبلُ بمثابة الأقراء، فإذا مضت الأشهر، حلّ له وطؤها إلا أن تظهر بعد الأشهر علامة الحمل، فإذ ذاك يمتنع. وذاتُ الأشهر إذا رأت علامة الحمل بعد الاعتداد بالأشهر لم تنكح، وإذا استرابت، ففيها كلام، سيأتي في كتاب العدد، إن شاء الله تعالى.
هذا تمام البيان فيه إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق.
8963- وقد يتعلق بهذا أنه لو قال للمتقاعدة الآيسة: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فهل يحل له الإقدام على وطئها؟ حق هذه المسألة أن تبنى على أن الاستبراء المتقدم هل يؤثر في إباحة الوطء أم لا؟ فإن جعلناه مؤثراً وقد تحقق اليأس، فالظاهر أنه يحل له وطؤها. وإن لم نعتبر ما تقدم على عقد اليمين، فاستبراؤها بالأشهر محتملٌ.
وكل ذلك كلام في مسألة واحدة من المسألتين الموعودتين.
8964- فأما المسألة الثانية، وهي أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ومعناه إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق في هذه المسألة بعدم الحمل، وكان معلقاً في المسألة الأولى بوجود الحمل، فنقول أولاً: لو أتت بولد لأقل من ستة أشهر، فلا يقع الطلاق؛ لأنا تحققنا وجود الحمل عند عقد اليمين، والطلاق معلق على عدم الولد، وإن أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، أو لم تأت بولدٍ في أربع سنين ولا بعدها، نحكم بوقوع الطلاق، لعلمنا بأنها لم تكن حاملاً حالة عقد اليمين.
وإن أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، ولأقلَّ من أربع سنين، واحتمل أن يكون الحمل موجوداً يوم الحلف، واحتمل ألا يكون، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين، فالأظهر أنها حبلت بما سبق من الوطء قبل اليمين، وأنها كانت حاملاً قبل اليمين، ونحكم في هذه الصورة بأن الطلاق لا يقع وجهاً واحداً؛ إذا الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، والظاهر استناد العلوق إلى ما تقدم، فاجتمع الظاهرُ والأصلُ في نفي الطلاق.
ولو حلف كما صورنا، ثم وطىء بعد اليمين، فأتت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من وقت اليمين، نظر: فإن أتت به لأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء؛ فإن إمكان العلوق لا يستند إليه، فوجوده في غرضنا كعدمه. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت اليمين ومن وقت الوطء بعد اليمين، ففي وقوع الطلاق وجهان في هذه الصورة:
أحدهما: يقع؛ لأن الظاهر أنه محمول على الوطء بعد اليمين، وأنها كانت حائلاً قبله.
والوجه الثاني- أنه لا يقع؛ لجواز أن تكون حاملاً وقت اليمين، وأن الزوج وطئها، وهي حامل، ولا يقع الطلاق بالشك، وإنما يقع باليقين، وقد يقع بالظاهر، وليس في الوطء المتجدد ما يظهر الحيال وعدم الحبل قبله وهذا ما اختاره صاحب التقريب، وهو لعمري مختار.
8965- ثم نتكلم وراء هذا في حل الوطء وتحريمه، ووجوب الاستبراء، فإذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فلم نتبين بعدُ حِيالَها وحَملَها، فهل يحرم الإقدام على وطئها قبل أن نتبين الأمرَ؟ قد ذكرنا تعليق الطلاق بالحمل قبلُ، وهذا تعليق الطلاق بعدم الحمل، وذكرنا فيه إذا علق الطلاق بالحمل قولين في تحريم الوطء، والأصل عدم الحمل، فإذا علق الطلاق بالحيال، فالتحريم أغلب هاهنا؛ من جهة أن الأصل عدم الحمل، والطلاق يقع بعدم الحمل.
8966- والذي تحصّل من مسلك الأصحاب في المسألتين طريقان:
أحدهما: أنه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، يحرم الوطء في الحال قولاً واحداً. وإذا قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق؟ فهل يحرم الوطء في الحال؟ فعلى قولين.
والطريقة الأخرى عكس هذه، فإذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، فمن أصحابنا من قال: لا يحرم الوطء، بل نكرهه قولاً واحداً؛ فإن الأصل عدم الحمل.
وإذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فهل يحرم الوطء أم يكره؟ فعلى قولين.
فإذا جمع الجامع الطريقين، فحاصل القول في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها: التحريم فيهما.
والثاني: الكراهية فيهما، مع رفع التحريم.
والثالث: أن الوطء يحرم إذا كان الطلاق معلقاً بعدم الحمل، ولا يحرم إذا كان معلقاً بالحمل.
ثم إذا بان الكلام في التحريم، وجرينا على أن الوطء يحرم فيه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا انكف عنها، فمضى بها قرء أو قرءان على انتظام الأقراء، ولم يظهر بها حمل، قال صاحب التقريب والقاضي: نحكم بوقوع الطلاق وتبيّنا حِيالَها حالة عقد اليمين، ثم تكون الأقراء بعد عقد اليمين عدتَها، فلها أن تنكح.
وإذا جعلنا الاستبراء في هذه المحال بقرء واحد، حكمنا بوقوع الطلاق إذا مضى قرء، واحتسبنا هذا القرء من عدتها، وأمرناها باستقبال قرأين آخرين بَعْده، ويتم انقضاء العدة، فالذي ذكره المحققون أنا نحكم بوقوع الطلاق عند مضي ثلاثة أقراء تبيّناً وإسناداً إلى وقت اليمين. وإذا مضى قرء واحد، فهل نحكم بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين.
8967- وفي هذا المقام وقفة على الناظر؛ فإنا إن ذكرنا تردّداً في المسألة الأولى: وهي إذا قال: "إن كنت حاملاً، فأنت طالق"- في أن وطأها هل يحل بقرء واحد، فسببه أن الأصل الحِل، ونحن نبغي علامةً على البراءة، فأما الحكم بوقوع الطلاق بقرء واحد، فبعيد، وليست النفس خالية عن التردد في الحكم بوقوع الطلاق بعد ثلاثة أقراء، فما الظن بالقرء الواحد؛ فإن الرجل إذا طلق امرأته، فأصل الطلاق البتُّ، ولذلك حرمت الرجعية، فإن نحن أحللنا الرجعية بعد ثلاثة أقراء للأزواج، فسببه مضي علامات البراءة بعد الطلاق، وهاهنا الطلاق واقع بالعلامات عند الأصحاب.
ولكن هذا الذي ذكرناه توسّع في الكلام؛ فإن الذي رأيناه للأصحاب أنه إذا مضت ثلاثة أقراء، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن الأقراء علامة على براءة الرحم، وعلى هذا بنينا انقطاعَ الرجعة وبينونةَ الرجعية وحِلَّ نكاحها لغير المطلّق، وكان من الممكن أن نأمرها بالتربص إلى انقضاء أكثر مدة الحمل، فإذا قضى الشرع بإحلالها بناء على علامة البراءة، فيقع القضاء بوقوع الطلاق بناء على علامة البراءة، وقد عَلَّق الطلاقَ على عروّ رحمها عن الولد، إذ قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا قامت علامة الاستبراء بقرء أو أقراء قَبْل اليمين، فهل نحكم بوقوع الطلاق كما علقه بالحيال؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما.
ومما يجب ترتيبه على ذلك أنه إذا قال لامرأته: إذا برىء رحمك فأنت طالق، يجب تخريج هذا على ما ذكرناه من مضي القرء والأقراء، ويجب القطع بأنه إذا مضت ثلاثة أقراء والزوج مجتنبها، فيقع الطلاق، وفي القرء الواحد الخلاف.
8968- ولو قال: إن استيقنت براءة الرحم، لم نقض بوقوع الطلاق ما لم يمض أكثر مدة الحمل، ونعود إلى التنبيه مرة أخرى، ونقول: بنى الأصحاب وقوع الطلاق على حكم الشرع بأن الأقراء دالة على براءة الرحم، وذلك حكم مقتفىً، وتعبد متبع بعد وقوع الطلاق، وكنت أود لو طلبنا في تعليق الطلاق يقين الصفة؛ فإن الأيمان مبنية على معاني الألفاظ، ولا فرق بين أن يقول القائل: إن قدم زيد، فأنت طالق، وبين أن يقول: إن استيقنت قدوم زيد، فأنت طالق، فتحقيق القدوم مطلوب، وإذا قال: إذا استيقنت حيالك، فأنت طالق، فوقوع الطلاق بثلاثة أقراء محال، فإذا قال: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فالحكم بوقوع الطلاق من غير استيقان الحيال بعيد عن موجب الأيمان، وقضايا الألفاظ. وقد وجدت لشيخنا ما يدل على هذا، فلذلك عدت إليه، والعلم عند الله تعالى.
8969- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا قال لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ثم مرّ بها ثلاثة أشهر، ولم تر دماً، فإن كانت من ذوات الأقراء، لم نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا لا نحكم بأن عدتها تنقضي بالأشهر لو كانت مطلَّقة، ولو كانت على سن الحيض ولكن لم تحض، وقد قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، ومضت بها ثلاثة. أشهر، فالأشهر في حق هذه عدةٌ بعد الطلاق، مسلِّطةٌ على التزويج، فإذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً أو كنت حائلاً، فأنت طالق، فقياس قول الأصحاب وقوع الطلاق. وهذا على نهاية البعد؛ فإن مضي الأشهر الثلاثة أو مضي شهرٍ واحدٍِ على طريقةٍ أخرى يُفضي إلى الحكم بوقوع الطلاق، مع أن الأصل بقاء النكاح، والطلاقُ لا يقع بالشك.
ثم قال الأصحاب: إذا حكمنا بوقوع الطلاق بعد مضي ثلاثة أقراء في ذوات الأقراء، فأتت بولد بعد ذلك لأقل من ستة أشهر من وقت اليمين، بان أن الطلاق الذي حكمنا بوقوعه لم يقع؛ فإنا استيقنا أنها حامل حالة عقد اليمين، والطلاق معلّق بالحيال. وإذا أتت بالولد لأكثر من ستة أشهر، فإن لم يطأها بعد اليمين، قالوا نتبين أن الطلاق لم يقع أيضاً، وإن وطئها بعد اليمين وطأً يمكن إحالة العلوق عليه، ففي نقض ما حكمنا به من الطلاق وجهان.
هذا كلام الأصحاب، وقد أتينا فيه بأكمل البيان، نقلاً وتنبيهاً على محالٌ الاحتمال. والله المستعان.
فصل:
قال: "ولو قالت له: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته... إلى آخره".
8975- صورة المسألة أن الزوجة جاءت إلى زوجها مشاجِرةً، وهي تزعم: أنك نكحت امرأة وهو يترضّاها ويأبى، ويزعم أنه لم ينكح، وهي مصرّة في خصامها، فقال: كل امرأة لي فهي طالق، وهو يبغي تصديق نفسه، فلو استثنى باللسان السائلة المشاجرة، وقال: كل امرأة لي غيرُك فهي طالق، فلا تطلق السائلة، وطُلِّقت سائرُ زوجاته سواها، وإن لم يستثنها باللسان، ولا عزلها بالقلب، فظاهر كلام الشافعي أن الطلاق لا يقع ظاهراً، فإنه قال: طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته.
فاختلف أصحابنا فذهب بعضهم إلى أن الطلاق يقع على السائلة؛ فإن قوله: كل امرأة لي، لفظٌ يعم السائلَة وغيرَها، فيجب إجراؤه على عمومه، فإذا زعم أنه خصصه، لم يقبل ذلك منه في الظاهر؛ فإنه خلاف الظاهر، وهذا القائل سلك مسلكين في نص الشافعي:
أحدهما: أنه حمله على التديين والباطن، ولا يخفى على من أحاط بأصل التديين أنه إذا كان صادقاً في استثناء السائلة بنيته، لم يقع الطلاق عليها باطناً. هذا مسلك. وربما قال هذا القائل: النقل مختلٌّ، والخلل من المزني.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق لا يقع على السائلة ظاهراً، والزوج مصدَّق، وإذا اتهم حلّف، وقد مال القاضي إلى هذا، واحتج عليه بأن قرينة الحال تصدقه فيما يدّعيه، والكلام يظهر بقرينة الحال ظهورَه بقيود المقال، وسنذكر في ذلك أصلاً ممهداً في الفروع، ومن صوره أن الرجل إذا حلّ القيد عن زوجته، ثم قال: أنت طالق، وزعم أنه أراد تطليقها عن قيدها، وإنشاطها عن عقالها، وقد جرى ذلك ظاهراً، فهل يصدَّق في حمل لفظ الطلاق على حل الوثاق والحالةُ هذه؟ فعلى اختلاف بين الأصحاب، وهذا يجري مهما اقترن باللفظ ما يُظهر قصد التديين، وسيأتي ذلك مفصلاً، إن شاء الله عز وجل.
8971- ثم ذكر القاضي كلاماً آخر بدعاً، فقال: "إذا قال: نسائي طوالق، وله أربع نسوة، ثم زعم أنه عزل واحدة منهن بقلبه، فهل نقبل ذلك منه في ظاهر الحكم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يُقبل؛ لأن اللفظ العام قابل للتخصيص، وإذا وجدنا جريان ذلك في الكتاب والسنة، لم نُبعِد قبولَه ظاهراً، ويُصدَّق الزوج فيه".
وهذا غريب، لم أره لغيره، ويلزم على مقتضاه أنه إذا قال: عبيدي أحرار، ثم زعم أنه لم يرد بالعبيد إلا ثلاثة منهم واستثنى الباقين، فيجب خروج تصديقه ظاهراً على هذا الخلاف، ولم يفرض هذه المسألة في قرينةِ حالٍ؛ حتى يستمر تخريجها على رفع القيد مقترناً بقوله: أنت طالق عن وثاق، ثم قال القاضي لو قال: نسائي طوالق، وزعم أنه عزل ثلاثاًً وبقّى واحدة، فلا يقبل ذلك منه؛ فإن الواحدة لا ينطلق عليها لفظ النساء، ولا توصف بالطوالق، ولم يذكر التفصيل فيه إذا زعم أنه استثنى ثنتين وأراد بالطلاق ثنتين. ولعلّنا نذكر هذا الجنس في مسائل الاستثناء.
وبالجملة قبول الخصوص مع صدور اللفظ عاماً من الزوج في هذا الحكم غلطٌ عندنا صريح، وإنما صار إلى هذا من صار؛ من ظنه أن تخصيص العموم سائغ مطلقاً، وليس كذلك؛ فمن قال: نسائي لم يحمل هذا إلا على جميعهن، ولا يجوز تقدير التخصيص في هذا المقام، ومن أحاط بمسالك كلامنا في الأصول، لم يخف عليه دَرْكُ هذا، ولا مطمع في دركه هاهنا. ثم من أخذ من ظاهر كلام الأصوليين أن العموم يخصص، وجب معه مطالبة المخَصِّص بالدليل، فكان يجب أن يحمل هذا على طلب قرينة مُصدِّقة.
فهذا منتهى القول في الفصل.
8972- وقد ضَرِي أئمةُ المذهب بحكاية شيء عن بعض المعتبرين في هذه المسألة: قيل: إن رجلاً من أئمة المذهب ب (طَبَسَ) كان يستقرىء إلا أن يكون عزلها (بثُنْيته)، والثُّنية هي الاستثناء، وكان يرى أن السائلة تُطلّق إلا أن تُستثنى لفظاً.
وهذا الذي ذكره كلام منعكس عليه؛ فإنه نسب الأصحاب إلى التصحيف، والتصحيف مع اعتدال الحروف قد يقع سيّما إدْا قرب المعنى، فأما الغلط في الهجاء فممّا يوبّخ به صبيان المكاتب، وقول القائل: (بثنيته) خمسة أحرف سوى الضمير، وقوله بنيّته أربعة أحرف، فلا حاصل لما جاء به، وليس كلُّ ما يهجِس في النفس يُذكر.
8973- وقد جرى في هذا الفصل ما ينتظم أصلاً، وشرطنا أن نذكر في كل فصل ما يليق به، ثم نذكر-إن شاء الله عز وجل- في آخر الكتاب فصلاً ضابطاً، يقع جمعاً للجوامع وربطاً للأصول اللفظية.
فمما انتظم في هذه المسألة أن تخصيص العموم إذا جرى في الضمير، امتنع معه وقوع الطلاق باطناً، وهل يقبل ذلك ظاهراً إذا اقترن باللفظ قرينة كسؤال السائلة في لفظ الكتاب، ففيه التردد الذي ذكرناه للأصحاب، وإن لم تكن قرينة، فادّعى اللافظ باللفظ العام التخصيص، فقد ذكر القاضي في قبول ذلك وجهين، وأسلوب كلامه أن الطلاق صريح في حكم النص، فلا يقبل في الظاهر ما يخالفه، والعام ظاهرٌ في وضع الشرع ليس بنص، فهل يُقبل من اللافظ به تخصيصُه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه.
وإذا أطلق الزوج كناية ولم ينو شيئاً، لم يقع شيء، فالألفاظ إذاً في طريقه: نصٌّ: لا يُقبل في الظاهر ما يخالفه.
وظاهر: لو أطلق، نفذ كاللفظ العام، وإذا ادّعى مُطلِقه تخصيصَه، ففي قبوله وجهان.
وكناية لا يسمَّى لفظاً ظاهراً في اقتضاء الطلاق، فلا يُعْمَلُ مطلقُه.
وهذا ترتيب حسن، ولكن العموم في المقام الذي ذكره في حكم النص عند المحققين، كما نبهنا عليه.
وسنعود إليه في مسائل الطلاق، إن شاء الله تعالى.