فصل: باب: التفويض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: التفويض:

8455- نصدّر الباب بذكر التفويض الصحيح المتضمن تعريةَ النكاح عن المهر، وعلى الطالب أن يتأنّق في صدر الباب أولاً، فنقول: المالكة لأمر نفسها-وهي الحرة العاقلة البالغة الرشيدة- إذا أذنت لوليها في أن يزوّجها بلا مهر، وقالت: "زوّجني بلا صداق"، فزوّجها وليها، وصرّح بنفي المهر على حسب إذنها، فهذا النكاح هو الذي يسمى نكاح التفويض. والمرأةُ تسمى مفوِّضة ومفوَّضة، ومأخذ اللفظين بيّن، وتسمية تعرية النكاح عن المهر تفويضاً ليس على حقيقة اللسان؛ فإن التفويض معناه التخيير، والإحالة على رأى الغير في النفي والإثبات، فالذي ينطبق على هذا اللفظ أن تقول لوليها: "إن شئت زوّجني بلا مهر، وإن شئت زوِّجني بالمهر"، ولو صرحت بنفي المهر، فزوّجها الولي، ولم يتعرض لذكر المهر؛ فهذا بمثابة ما لو نفى المهر، اتفق الأصحاب عليه.
ولو زوّج السيد أمته من أجنبي، ولم يذكر مهراً، كان هذا تفويضاً منه. ولو أذنت المرأة في التزويج، وأطلقت إذنها، ولم تذكر المهر نافية ولا مثبتة، فإذنها المطلق محمول على طلب المهر، وفاقاً، وهو بمثابة إذن مالك المتاع في بيع متاعه.
ثم إذا أذنت في النكاح مطلقاً، أو طلبت المهر، فزوّجها الولي، فإنا نقدم على هذا فصولاً في الوكيل والولي المجبر، ثم نرجع إلى الولي المزوِّج بالإذن.
8456- فإن سمّى الوكيل مقداراً من المهر، فخالف، نُظِر؛ فإن زاد، فقد زاد خيراً، وكان كما لو قال الوكيل لوكيله: "بع عبدي هذا بألف"، فباعه بألفين، فالبيع لازم، والعوض المسمى ثابت، وإن خالف الوكيل في النكاح فنقص عن المقدار الذي سُمي له؛ لم ينعقد العقد؛ لأن تزويج الوكيل مبناه على الإذن، فإذا خالف الإذن مزوِّجاً بغير إذنٍ، فالتزويج بغير الإذن مردود. وهو كما لو قالت: "زوّجني من زيد " فزوّجها من عمرو.
ولو نَصب الوكيلَ في التزويج، ولم يَذكر له مقداراً من المهر، فلو زوّج بدون مهر المثل، أو زوّج مع نفي المهر؛ فقد ذكر بعض الأصحاب قولين في انعقاد النكاح، وهذا بعيد، والوجه: القطع بأن النكاح لا يصح؛ فإن تصرّف الوكيل مما يتقيد بموجب الاذن، فكذلك يتقيد بالعرف المقترن بالإذن، ومقتضى العرف رعاية الغبطة، ولهذا قلنا: الوكيل بالبيع مطلقاً إذا باع بغبن، لم يصح بيعه.
ومما يتصل بهذا المقام: أنا إذا كنا لا نصحح من الوكيل المطلق التزويجَ بأقلَّ من مهر المثل، فلو زوج مطلقاً؛ فعلى ماذا يُحمل الإطلاق؟ هذا فيه تردد ظاهر، يجوز أن يقال: هو محمول على تعرية النكاح، حتى لا يصح من الوكيل العقد، ويظهر جداً أن يُحمل على ثبوت مهر المثل؛ فإن الشرع يقتضي إثبات المهر إذا لم يجرِ تصريح بالنفي، فيكون إطلاق النكاح بمثابة ذكر مهر المثل.
ويخرّج على هذا التردد أن الوكيل المطلق لو زوج بخمر، فالرجوع إلى مهر المثل في مثل ذلك، فكيف السبيل؟ والأظهر في هذه الصورة الفساد؛ فإنه أتى بصورة المخالفة، فهذا ما أردنا ذكره في الوكيل.
8457- فأما الولي إذا زوّج وليته، فلا يخلو؛ إما أن يكون مجبِراً، فزوج بمهر المثل: صح. وإن زوج الصغيرة أو البالغةَ البكرَ بدون مهر المثل، أو نكاحَ تفويضٍ؛ ففي انعقاد النكاح قولان، قدمنا تحقيقهما. فإن قلنا: إنه ينعقد، فيثبت مهر المثل، أجمع الأصحاب عليه. ولم يَصر أحدٌ إلى انعقاد النكاح بالمقدار الذي سمّاه.
وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاح بذلك المقدار.
فأما إذا كان الولي مزوِّجاً بالإذن، فإن سمّت المرأة مقداراً، فزوّج الوليّ بدونه، فهو كالوكيل؛ فإن تزويجه؛ موقوف على الإذن، فإذا ظهرت المخالَفَةُ، كان كما لو زوّجها بغير إذن.
وإن لم تسم مقداراً من المهر، فزوّجها الولي، بمهر المثل صح، وإن زوّجها بأقلَّ من مهر المثل، فللأصحاب طريقان: أقيسهما- القطع بأن النكاح لا يصح؛ فإنّ إذنها المطلق محمول على موجب العرف، فكأنها قيّدت إذنها بما يليق بالعرف من المهر، ولو كان كذلك، فخالفها، لم ينعقد النكاح، ومن أصحابنا من قال: في تزويج الولي بدون مهر المثل، أو على حكم التفويض-وإذنها مطلق- قولان:
أحدهما: إن النكاح يبطل.
والثاني: إنه يصح، وينعقد بمهر المثل، كما ذكرناه في الوليّ المجبِر. وهذا القائل يزعم أن الإذن المطلق يُلحِق الولي بمرتبة المجبِر، ويُخرجه عن مرتبة الوكلاء، الذين لا معتمد لهم إلا الإذن.
فهذا بيان تصوير التفويض.
8458- فيعود بنا الكلام بعده إلى القول في حكم التفويض المحقَّق المتضمِّن تعريةَ النكاح عن المهر، فإذا جرى هذا، فالنكاح ينعقد، والمهر يجب عند الدخول، وهل يجب بنفس العقد المهرُ؟
ما قطع به العراقيون: أنه لا يجب المهر بالعقد، ولم يعرفوا غيرَ هذا، وإنما ذكروا القولين في محلٍّ سينتهي البيان إليه، إن شاء الله تعالى.
وقال المراوزة: في المسألة قولان: أظهرهما- أنه لا يجب بنفس العقد شيء من المهر، ويجب بالدخول. وقالوا: هذا هو المنصوص. والقول الثاني- إنه يجب لها المهر بنفس العقد، وكان شيخي يحكيه حكايةَ من يعتقده منصوصاً، وقال القاضي: هو مخرّج، والصحيح ما قاله.
ثم إن حكمنا بأن المهر لا يجب بالعقد، فأول ما نفرّعه على هذا القول: أنها إذا وُطئت، فالمهر يجب عند الدخولِ والوطءِ لا محالة؛ فإن وجوب المهر في هذا المقام ليس خالياً عن تعبد الشرع، ولا يبعد إضافته إلى حق الله تعالى؛ حتى يمتاز النكاح عن السفاح وبدل البضع، وقيل: يجب أن يمتاز نكاحنا عن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل جعل خلو النكاح عن المهر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]
ولا يتصور أن يخلُوَ عن المهر وطء-في غير ملك اليمين، مع كونه محترماً- إذا أمكن تقدير المهر.
والذمية إذا نكحت في الشرك على التفويض، وكانوا يرَوْن سقوط المهر عند المسيس أيضاً، فقد ينزل النكاح على موجب عقدهم إذا اتصل الإسلام، كما سبق تقريره.
والسيد إذا زوّج أمته من عبده، فلا يثبت المهر أصلاً؛ فإن إثباته غير ممكن، وما حكيناه من مذهب بعض الأصحاب في أن المهر يثبت بأصل النكاح، ويسقط، لا تحصيل فيه ولا تحقيق وراءه.
فأما في غير هاتين المسألتين، فلا يتصوّر خلو مسيسٍ في نكاحٍ من مهر، هذا ما اتفق عليه الأصحاب قاطبة في طرقهم.
8459- وقال القاضي إذا قالت له زوجته، وهي مفوضة: "طأني ولا مهر عليك"، فلا يمتنع أن نقول: إذا وطئها في نكاح التفويض على الوجه الذي صورناه، إن المهر لا يجب؛ فإنها صاحبة الحق، وقد سلّطته مع الرضا بانتفاء المهر، وخرّج عن هذا قولَ الشافعي في كتاب الرهون: إذا قال الراهن للمرتهن: أذنت لك في جماع هذه الجارية المرهونة، فإذا واقعها ظانّاً أن الوطء يحلّ له بإذن الراهن، ففي وجوب المهر قولان للشافعي، ذكرناهما. في الرهون، قال: ووجه قوله " لا يجب المهر " أن مالك البضع، ومن يثبت له المهر-لو ثبت- رَضيَ بالوطء، فكان ذلك إسقاطَ حقه منه.
ومن الأقيسة الجلية الكليّة في قاعدة الشرع أن من يملك إسقاط العوض بعد ثبوته له، إذا سلّطه على إتلاف العوض، كان تسليطُه عليه متضمناً إسقاط العوض. ولذلك نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: "اقتله"، فقتله، لم يلتزم القاتل بالإذن للمالك الآذن عوضاً، وكذلك إذا قال للجاني: اقطع يدي، فإذا قطعها، لم يلتزم عوضاً، هذا وجه التخريج.
وما ذكره لَستُ أُعدّه من المذهب، وأظن أنه لم يذكره ليلحقه بأصل المذهب، وإنما ذكره ليوضح جهة الاحتمال وتطرقه إليه؛ فإن ما قاله مسبوق بالإجماع من نقلة المذهب في الطرق المختلفة.
ثم إنما كان ينتفع المناظِر بما خرّجه لو صحّ أنه كان يطلقه فيه إذا جرى التفويض في النكاح مطلقاً، وقضينا بعروّ العقد عن المهر، فكان يجب أن يقال: إذا وطىء الزوج-وقد صَحّ التفويض في أصل العقد- لا يجب المهر، بناء على ما تقدم؛ فإن الزوج بعد صحة التفويض، يتصرف في ملك نفسه، ومن انتفع بملك نفسه، وقد ثبت ملكه خلياً عن العوض، فيبعد أن يستوجب العوض بسبب تصرفه الجائز في ملكه الثابت العريّ عن العوض، و القاضي لا يسمح بتخريجه في هذه الصورة، بل نَقَل عنه من يُعْتَمَد أن سقوط المهر مع جريان المسيس إنما يُقدّر إذا جدّدت تسليطاً على الوطء من غير مهر، وصرّحت بنفي المهر.
والمهر في ذلك متردد عندي؛ فإني رأيت في بعض مجموعاته ما يدلّ على طرده التخريج فيه، إذا جرى تفويض تام على الصحة، من غير احتياج إلى تجديد إذن في الوطء، فإن لم يكن من هذا التخريج بد، فلابد من طرده على هذا الوجه الذي ذكرناه؛ وذلك أن إذنها المتجدد لا يصادف حقها؛ من جهة أن الزوج هو المستحق للبضع، وقد ثبت استحقاقه الأول عرِيّاً عن العوض، فلا معنى لاشتراط تسليط من المرأة، فيما استقر فيه حق الزوج.
وقد يتجه مع هذا فرق ظاهر بين مسألة التفويض ومسألة إذن الراهن، وذلك أن إذن الراهن متعلقٌ بوطءٍ في غير نكاح، ولايبعد أن يخلو وطءٌ في غير نكاح عن المهر، والدليل على الفرق: أن مجرد إذن الراهن-على أحد القولين- يتضمن سقوط المهر من غير تعرض لإسقاط المهر، ولو عقد النكاح خالياً عن المهر ذاكراً، لثبت المهر إذا لم يتعرض لنفي المهر، كما قدمنا ذلك في تصوير التفويض، فقد اجتمع-مما حُكي عنه ومما رأيته- كلامٌ مختلط، وأنا أحصّله وآتي به مضبوطاً.
فأقول:
8460- إذا جرى التفويض على الصحة-والتفريع على أنها لا تستحق بنفس العقد
مهراً- فالمذهب المشهور: أنها إذا وطئها زوجها، ثبت مهر مثلها بالمسيس، سواء
سَلَّطت بعد التفويض على الوطء من غير مهر، أو تمادت على ما سبق، ولم تُجدِّد تسليطاً، وذكر القاضي تخريجاً، وفيه وجهان:
أحدهما: أن المهر لا يجب بالوطء وإن لم تجدد تسليطاً، بناء على ما تقدم من التفويض.
والوجه الثاني- أنها إن لم تجدد تسليطاً حتى مسّها الزوج، وجب لها مهر المثل، ولا تخريج. وإن جدّدت تسليطاً وقيّدته بنفي المهر، فإذ ذاك يخرّج وجهٌ في سقوط المهر.
ووجه الأول في تنزيل التخريج بيّن، لا حاجة فيه إلى تكلف إيضاح. ووجه الوجه الثاني- أن النكاح له تميزٌ عن المسيس، ويتعلق بالمسيس تقرير المهر، فلا يبعد أن يحمل التفويض حالة العقد على الرضا بسقوط حق العقد، حتى لو طُلِّقت قبل المسيس، لم تستحق نصف مهر في مقابلة العقد، فكان اشتراط تجديد التسليط مع نفي المهر كما ذكرناه.
ثم إن جرينا على الوجه الثاني في تنزيل تخريجه، فلا شك أنها تملك المطالبة بالفرض قبل الدخول، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى.
وإن جرينا في التخريج على أن المهر لا يجب وإن لم تجدد تسليطاً، ففي ملكها المطالبةَ بالفرض قبل المسيس احتمال ظاهر، يجوز أن يقال: إنها تملكه، ويجوز أن يقال: إذا لزم النكاح عارياً عن العوض، فلسنا نتوقع ثبوت المهر عند المسيس على هذا الوجه، فلا تملك المطالبة بالفرض. وهذا هو القياس لو أمكن طرده.
فهذا منتهى ما أردناه في ثبوت المهر وسقوطه عند جريان المسيس، تخريجاً على أن عقد التفويض خالٍ عن استحقاق المهر.
وإن فرعنا على القول الثاني-وهو أنها تستحق المهر بالعقد- فالذي قطع به الأئمة: أنه إذا طلقها زوجها قبل المسيس، سقط المهر، ولم تستحق شطره، وليس لها إلا المتعة.
8461- وكان شيخي أبو محمد يكرر في دروسه أن الطلاق قبل المسيس يشطر مهر المثل-على قولنا: تستحق المفوضة المهر بالنكاح- وكان يشبه هذا بما لو ذُكر في النكاح مهر وجُحد، ووقع الحكم بالرجوع إلى مهر المثل، فإذا وقع الطلاق قبل المسيس في مثل هذا النكاح، فمذهب الشافعي أن مهر المثل يتشطر تشطّر الصداق المسمى على الصحة.
وهذا الذي ذكره قياسٌ جلي لا ندفعه، ولكنه خالف ما عليه كافة الأصحاب؛ فإنهم لم يختلفوا في سقوط جميع المهر إذا جرى التفويضُ والطلاقُ قبل المسيس، فكان ما ذكره غيرَ معتد به، ولا يلتحق بالوجوه الضعيفة المعدودة من المذهب، وإنما ذكرته لأنبّه على أنه كذلك، فإنه يُلفَى في كثير من التعاليق عن ذلك الشيخ، فليعلم الناظر ما ذكرناه فيه.
ومما ذكره: أنا إذا فرّعنا على أن المفوضة تستحق بالعقد المهر، فلا يثبت لها حق المطالبة بالفرض على هذا القول، كما لو جرى في النكاح تسميةُ خمرٍ أو خنزير أو مهرٍ مجهول؟ فإنا إذا قضينا بثبوت مهر المثل في هذه المسائل، فلا تملك المرأة المطالبةَ بالفرض، وإن طلبته وطالبت به قيل لها: حقك مهر مثلك، فاطلبيه، ولا تطلبي فرضه وهو ثابت مستحَق.
وقد أجمع الأصحاب على أنها تملك المطالبة بالفرض.
وإن فرّعنا على أنها تستحق بالعقد المهرَ فيما ذكره شيخي؛ بناءً على أن مهر المفوضة يتشطر بالطلاق، وما ذكره الأصحاب مبني على أنها لو طُلقت، سقط جميع مهرها، فملّكوها طلبَ الفرض لتتوصّل به إلى تقرُّر شطر المهر.
8462- فإن قيل: ما ذكرتموه في التفريع لا يثمر إلا الخبطَ والاضطراب، فعلى ماذا تقررون المهر؟
قلنا: سنذكر الغرض في ذلك بعد تقديم أصل آخر، وهو: أنه إذا جرى تفويضٌ صحيح، ولم يجر مسيس ولا طلاق، حتى مات أحد الزوجين، ففي ثبوت مهر المثل قولان للشافعي وتردّدٌ بيّنٌ، وذِكْره يستدعي تقديمَ خبر، وهو ما روي «أن عبد الله بن مسعود سئل عن المفوِّضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول؟ فكان يردد السائل ويعدُ حتى تردد شهراً، ثم قال: إن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمني ومن الشيطان، أرى لها مهر نسائها والميراثَ، فقام مَعْقِل بن سِنان وقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بِرْوع بنت واشق الأشجعية بمثل قضائك هذا؛ فَسُرّ ابنُ مسعود سروراً لم يُسَرّ مثله، وحمد الله عز وجل على ذلك».
فهذا الحديث يقع أيضاً في تصوير موت أحد الزوجين، ولكن تردَّدَ الشافعيُّ في الحديث وحكم باضطرابه، إذ قد قيل: قال معقل بن يسار، وقيل: معقل بن سنان، وقيل ناسٌ من أشجع، وقد بلغ الحديثُ على الوجه الذي رويناه عليَّ بن أبي طالب، فلم ير قبول رواية معقل، وقال: لا نقبل في ديننا قول أعرابي بوال على عقبيه، فردد الشافعيُّ المسألة؛ لأن الحديث لم يقع على شرطه في الصحة، فيبقى مجرد مذهب ابن مسعود، ويعارضه مذهب علي؛ فإنه كان لا يرى للمفوضة عند موت أحد الزوجين مهراً، وقد خلا النكاح عن المسيس.
8463- وقد حان أن نذكر الترتيب في المذهب، فنقول: أما العراقيون فقد استدُّوا، وجَرَوْا على المسلك المرتضى، وقَضَوْا بأن المفوضة لا تستحق بالعقد مهراً؛ إذا لم يعرفوا قولاً آخر، وقطعوا بأنها تستحق المهر إذا مسها الزوج، وذكروا قولين فيه إذا مات أحد الزوجين، مع قطعهم بأنها لا تستحق بأصل العقد مهراً، ووجّهوا القولين، فقالوا: من أوجب المهر في موت أحد الزوجين، احتج بأن الموت نازل منزلة الوطء في تقرير المهر؛ بدليل أنه يتقرر المهر المسمى بالموت قبل المسيس، كما يتقرر بالمسيس نفسه، ومن قال: لا يثبت المهر بالموت، احتج بأنها ما استحقت بالعقد مهراً، ولا جرى مسيس؛ حتى يقال: لو لم يثبت المهر، لكان الوطء في حكم المبذول، عرياً عن العوض.
وسرّ هذا القول أن النكاح إذا اشتمل على مسمى صحيح، ثم فرض طلاق قبل المسيس، يسقط نصف المسمى، ويبقى نصفه في مقابلة العقد، وإن جرى مسيس، تقرر المهر. وإن فرض موت من غير مسيس، تقرر المسمى بانتهاء النكاح نهايته.
وإذا عُقِد النكاحُ على التفويض، ثم فُرض الطلاق قبل المسيس؛ فلا يثبت من المهر شيء فتمثل القول من هذا المنتهى، فرأى الشافعي-بعد التردد في حديث معقل- في قول حكمَ المهر عند الموت ولا مسيس، كحكم نصف المهر عند الطلاق قبل الدخول؛ فإن نصف المسمى كان ثبت عند الطلاق. والآية لم يثبت منه شيء، فكان تشبيه ما يقتضيه الموت من التقرير بما يتقرر من المسمى عند الطلاق قبل المسيس، أولى من تشبيهه بما إذا جرى المسيس. فهذا أحد القولين، وهو فقه حسن.
والقول الثاني- أن الموت في اقتضائه التقريرَ، نازل منزلة الوطء؛ فإنه إذا انقضى العمر على النكاح، وبلغ بانقضائه النكاحُ غايتَه، فقد اتصل بالمقصود-وهو الدوام إلى آخر العمر- فيجب ألا يكون عريّاً عن المهر.
والقول الأول أفقه، والثاني معتضد بقصة ابن مسعود؛ فإن حديث معقل إن رده عليٌّ، عمل به ابن مسعود، ومن قواعد الأصول الترجيح بالحديث الذي لا يقطع بسقوطه؛ فإنه لا ينحط عن أقوى مسلك في الترجيحات، هذا كله بيان طريقة واحدة، وهي ما اختاره العراقيون.
8464- طريقة أخرى للمراوزة، وهي: طرد القولين في أن المفوِّضة هل تستحق بأصل العقد مهراً؟ وفيه على ما ذكروه قولان:
أحدهما:وهو الأصح عندهم- أنها لا تستحق بأصل العقد مهراً، وهذا الذي قطع به العراقيون ولم يعرفوا غيره.
والقول الثاني- أنها تستحق بأصل العقد المهرَ، ورأْيُ المراوزة في ذلك مختلف، قال معظمهم: هذا قول مخرج. وقال قائلون: هو مأخوذ من نص الشافعي في أن المفوِّضة إذا ماتت، أو مات زوجها قبل المسيس، فلها المهر كاملاً، هذا منصوص. وهو دالّ على أنها استحقت بأصل العقد المهر؛ فإنه لا يتقرر بالموت مهر ما لم يثبت بالنكاح.
توجيه القولين في الأصل: من قال: لا يثبت المهر بالعقد، احتج بأن المهر حقها، وحق المولى من أمته، فإذا وقع الرضا بإسقاطه لم يثبت، وآية ذلك أنه لا يتشطر بالطلاق قبل المسيس. ومن قال: إنها تستحق بالعقد، احتج بثبوت المهر حالة المسيس، مع العلم بأن تصرف المالك على الوجه المستباح في ملكه لا يلزمه عوض ملكه، فإذا لزم، دلّ على أن اللزوم كان بالعقد، هذا وضع القولين تأصيلاً وتوجيهاً.
8465- فإن حكمنا بأنها لا تستحق بالعقد شيئاً، فوراء ذلك تخريج القاضي في المسيس كما قدمته، وليس هو من المذهب، وإذا أنكرناه بشيء من هذا المنتهى، فإنه يتحقق هذا القول، فنبديه في معرض سؤال وجواب عنه.
8466- فإن قيل: ما وجه إيجاب المهر حالة الوطء، مع عروّ العقد عن المهر؟ قلنا: الجواب عن ذلك يستدعي تقديم أصلٍ في المذهب-هو مقصود في نفسه- وبه يبين غرضُنا في المنتهى الذي انتهينا إليه، وذلك أن المفوضة إذا وطئها الزوج، ووقع الحكم بوجوب المهر، فقد اختلف أئمتنا في أن الاعتبار في مهر المثل بحالة الوطء أم بحالة العقد؟ وفيه وجهان مشهوران، ينبني عليهما أنا إذا اعتبرنا حالة المسيس فكأنا افتتحنا إيجاب المهر بالمسيس، نخرّجه على أنا وإن احتملنا إسقاط المهر حالة العقد، فلا نحتمل إسقاطه في مقابلة المسيس.
وفي تقرير ذلك إشكال بيّن؛ فإن المهر ليس ركناً في النكاح، وإنما يتميز النكاح عن السفاح بصحته وإفضائه إلى استحقاق المنفعة على موجب الشرع، وذلك لا يستدعي عوضاً، ولذلك لم يبعد في الشرع نكاح يصح من غير مهر، كتزويج السيد أمته من عبده.
ونهاية الإمكان في ذلك أن نقول: النكاح في وضعه يقتضي كالبيع الصحيح- عوضاً، والذي ذُكر من أن المهر ليس ركناً في النكاح، فالمراد به: أنه ليس يثبت على حقيقة العوضية ركناً، كما يكون الثمن أحد ركني البيع، فأما المصير إلى أنه لا يثبت شرعاً إقامةٌ لمنصب النكاح وما يقتضيه الشرع، فلا، فهو ركنٌ شرعاً، وليس ركناً عوضاً، وهو بمثابة عوض الخلع؛ فإن البينونة من غير عوض ولا استيفاءِ عدد الطلقات في الممسوسة غيرُ ممكن، ولكن يفسد العوض، ويثبت الرجوع إلى مهر المثل، أو قيمةِ العوض، كما تقدم في الصداق.
ثم إنما يعظم الأمر في تعرية الوطء عن العوض الشرعي، ولا يبعد عروّ النكاح، وهذا القائل يقول في تزويج الرجل أمتَه من عبده: إنا نحكم بثبوت المهر وسقوطه، وهو محمول على مذهب الضرورة؛ فإن العبد لا يملك ولا يستبيح الوطء بطريق التسري، فأُثبت في حقه النكاح، كما ذكرناه.
وقد ينقدح فيه أن يقال: كان يجب بطلان تزويج الأمة من العبد إذا كان مولاهما واحداً، إذ لا يتصور أنه نكاح مشتمل على المهر. فهذا منتهى الإشكال.
ومن قال: الاعتبار في مهر المثل بصفتها حالة النكاح، احتمل ذلك مسلكين:
أحدهما: أنا نتبين إذا جرى المسيس أن المهر وجب بنفس العقد، فيخرج من ذلك أن الأمر موقوف، فإن انقضى النكاح من غير مسيس، تبينا آخراً أن المهر لم يجب بأصل العقد. وإن جرى في النكاح مسيس، تبيّنّا أن المهر وجب بأصل العقد، هذا مسلك.
والثاني: أن المهر يجب بالمسيس، وإن اعتبرنا صفة المرأة حالة النكاح، فعلى هذا نقطع القول بعرو العقد عن المهر، ويكون الاختلاف في أن الاعتبار في صفتها- إذا أوجبنا مهر المثل-حالةَ النكاح- مأخوذاً من أصل اختلف فيه الأصحاب، وهو أن الرجل لو جنى على أمة حاملٍ بولد رقيق، ثم أَجْهضت، وأوجبنا على الجاني عُشر قيمة الأم، فنعتبر قيمتها يوم الانفصال أم نعتبر قيمتها يوم الجناية؟ المنصوص عليه للشافعي أن الاعتبار بقيمتها يوم الجناية. وقال المزني وأبو الطيب بنُ سلمة: نعتبر قيمتها يوم الإلقاء. وفي هذا التشبيه نظر ولكنه على حالٍ تقريبٌ في سرّ مسألة الجناية، يأتي في كتاب الجنايات، إن شاء الله عز وجل.
والأوجه في المعنى: أنّا إن اعتبرنا حالة العقد، فنتبين استناد الوجوب إلى تلك الحالة، ونبني الأمر على الوقف الذي ذكرناه؛ إذ لا وجه لاعتبار صفة في حالةٍ لا يجب المهر فيها- ثم إذا قلنا: لا يجب المهر بالنكاح، فلا شك أن الطلاق إذا جرى قبل المسيس، فلا يجب شيء إلا المتعة.
وقد ربط المحققون ذلك بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ثم قال عزّ من قائل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقد اتفق المفسرون أن الآيات مسوقة في المفوِّضة، وأنها إذا طلقت قبل المسيس، فلها المتعة، كما سيأتي شرحها في بابها، إن شاء الله تعالى.
ثم قالوا: لو فرض لها شيء قبل المسيس، فطُلقت، فلها نصف المفروض، ولا متعة.
8467- ثم يبقى-بعد ما ذكرناه- القولُ في طلب الفرض- تفريعاً على أنها لا تستحق بالعقد المهرَ-فنقول: إذا جرينا على ما قطع به الأئمة- من وجوب المهر عند المسيس، فهؤلاء أجمعوا على أنها تملك المطالبة بالفرض، حتى لا يقع الإقدام على الوطء إلا على مفروض ثابت.
وإن فرعنا على أن المهر لا يثبت بالمسيس أيضاً، وقلنا: لو مسها، فلا مهر، وإن لم يجر تسليط على الوطء، فيتجه جداً أن نقول: لا تملك المطالبةَ بالفرض أصلاً، وقد لزم النكاح عريّاً عن المهر، كيف تَصَرَّفَ الحال، وقد يلزم على هذا القياس أن يقال: لا يثبت المهر، وإن قُدّر فرضٌ؛ لأن الانعقاد ولزومه على حكم العقد ينافي في ثبوت المهر، جرياً على امتناع إلحاق الزوائد بالعقود وبُعْد لزومها، وهذا مشهور من مذهب الشافعي.
وما ذكرناه أقيسةٌ واحتمالات، والرأي: القطع بما قطع به الأصحاب.
8468- ثم في مصير الأئمة إلى أن المهر يجب عند المسيس إشكالٌ في الفرض والمطالبة؛ من جهة أنه كان يجوز أن يقال: هي على ثقة من ثبوت المهر إذا جرى المسيس، فلا معنى لطلبها الفرض، ولكن المرأة تقول: إذا كان الزوج يتسلّط على الوطء ولي المهر، ثم الشرع أثبت لي حق الامتناع عن الوطء في النكاح المشتمل على المسمى الصحيح، فطلبي الفرض في مقابلة طلبي المهر المسمى في النكاح المشتمل عليه.
فهذا منتهى القول في هذا، وهو غاية البيان.
ومن طمع أن يلحق ما وَضْعُه على الإشكال وتقابلِ الاحتمال بما هو بيّنٌ في وضعه، فإنما يطلب مستحيلاً مُعْوِزاً. والمطلع على الحقائق-فيعرف كل شيء على ما هو عليه- هو الله عز وجل.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً.
8469- فإن قلنا: إنها تستحق المهر بالعقد، ففي التفريع على هذا القول بقية البيان.
قال الأئمة: إذا طُلِّقت قبل المسيس؛ لم تستحق من المهر شيئاً، وإن قضينا بأنه وجب بأصل العقد، فهذا هو المذهب، وعليه التعويل. والشاهد له من القرآن قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]، فخصص استحقاق نصف المهر بأن نفرض، فدلّ مفهومُ الخطاب دلالة ظاهرة على أنها لا تستحق شيئاً من المهر إذا لم يجر فرضٌ.
وكان شيخي يقطع-إذا فرعّ على هذا القول- بأن المرأة تستحق نصف مهر المثل إذا طلقت قبل المسيس، قياساً على ما إذا أصدقها زوجها خمراً أو خنزيراً أو مجهولاً. وهذا غير معتد به.
وسرّ مذهب الأصحاب يتبين بذكر مرتبتين: فنقول: إن اشتمل النكاح على مهر مسمَّى، ثم فُرض الطلاق قبل الدخول، فالشرع قابَل العقدَ بنصف المهر، وليست هذه المقابلة على نهاية التأكد، والدليل عليه: أنه قد يفرض سقوط جميع المسمى بجريان فسخ قبل المسيس. والمختار: أنه لا يسقط المسمى بجريان الفسوخ بعد المسيس؛ لما كان المهر على نهاية التقرر، فهذه مرتبة.
فإذا رضيت المرأة بتعرية النكاح عن المهر، فالمهر ضعيف، وإن حكمنا بأنه يثبت بالعقد، فتكون جملة المهر في هذه المنزلة بمثابة شطر المسمى إذا جرت تسمية. فإن حكمنا بسقوط جميع المهر في حقِّ المفوضة، فليس حكمنا منافياً للقضاء بوجوب المهر بأصل العقد.
فهذا بيان مسلك الأصحاب، وهو الحق الذي لا مراء فيه.
ثم ينبني على ذلك أمر الفرض والمطالبة، أما على طريق الإمام والدي فليس لها طلب الفرض؛ فإن مهر المثل عنده ثبت ثبوت المهر المسمى، فيتشطّر بالطلاق، ويتقرر بالمسيس، فلا معنى لطلب الفرض؛ فإن الفرض لا يفيد مزيداً، وسبيل طلبه في هذا المقام كسبيل طلبه إذا جرى في النكاح مسمّىً فاسدٌ، وكسبيل طلبه إذا جرى المسيس واستقر به مهر المثل. ولا خلاف أنه لا معنى لطلب الفرض بعد المسيس. ولكن هذا المذهب-وهو المصير إلى أن المهر يتشطر بالطلاق قبل المسيس والفرضِ- ليس معتداً به، ولا معدوداً من المذهب.
فالمرأة إذاً تملك طلب الفرض، وغرضها أن تتوصَّلَ إلى تقرير نصف المهر، لو فرض طلاق قبل المسيس.
وحقيقةُ القول في الفرض نذكره على الاتصال بنجاز هذا الكلام في فصل معقود.