فصل: باب: التحفظ في الشهادة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: شهادة القاذف:

قال الشافعي رضي الله عنه: "أمر الله تعالى أن يُضرَب القاذف ثمانين جلدة... إلى آخره".
12039- القذف من موجبات الحدود، وكل ما يوجب الحدَّ كبيرةٌ، وكل كبيرة لا ترجع إلى العقد موجِبةٌ لرد الشهادة، فإذا قذف القاذف رُدت شهاتهُ قبل أن يُحَدَّ خلافاً لأبي حنيفة رضوان الله عليه. وإذا حُدّ، فشهاته مردودة، ولكنه إذا تاب-على ما سنصف توبته واستبراءَ حاله- قبلنا شهاته.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: المحدود مردودُ الشهادة أبداً، والمسألة مشهورة معه.
ثم الكلام يتعلق وراء هذا بتوبة القاذف:
قال الشافعي: "توبة القاذف بإكذابه نفسَه"، وهذا اللفظ في ظاهره إشكال، وفي بيان المذهب تحصيل الغرض.
فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن القاذف لا يكلّف أن يُكْذِبَ نفسه، إذ ربما يكون صادقاً في نسبة المقذوف إلى الزنا، فلو كلفناه أن يُكْذِبَ نفسه، لكان ذلك تكليفاً منا إياه أن يَكذب، وهذا محال. فالوجه أن يقولَ: أسأتُ فيما قلتُ، وما كنتُ محقاً، وقد تُبت عن الرجوع إلى مثله أبداً، ولا يصرح بتكذيب نفسه إلا أن يعلم أنه كان كاذباً. وهذا يَبْعُد علمه.
وهؤلاء حملوا قول الشافعي على ما سنصفه، وقالوا: القاذف في الغالب يقذف ويرى من نفسه أنه قال حقاً، وأظهر ماله إظهارَه، فيرجع ما أطلقه الشافعي من الإكذاب إلى هذا. فيقول: قد كنت قلتُ، ما قلتُه، وقد كذبت وأبطلت فيما قدَّمت.
وقال الإصطخري: لابد وأن يُكذب نفسَه، وإن كان صادقاً. إنه عزّ من قائل قال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، فهذا لقب أثبته الشرع، فيُكْذِبُ القاذف على هذا التأويل نفسَه؛ فإن الشرع سماه كاذباً.
وهذا بعيد لا أصل له، وهذه الآية مع آيٍ أُخَر وردت في قصة الإفك وتبرئة عائشة، وكانت مبرأة عما قذفها به المنافقون.
هذا قولنا في توبة القاذف.
12040- فأما القول في استبراء حاله بعد التوبة، فنقول أولاً: من قارف كبيرةً، وتاب لم نبتدر قبولَ شهاته وإن أظهر التوبة؛ فإنا لا نأمن-وهو فاسق- أن يكون ما أظهره هزءاً وعبثاً، أو إظهارَ توبة لغرض له، وهو مضمرٌ الإصرارَ على الغيّ، فلابد من اختبار حاله بعد التوبة، وهذا هو الذي يسمى الاستبراء، فنتركه ونلقي إليه الأمر، ونراقبه في السر، حتى تظهر مخايلُ صدقه في التوبة؛ فإذ ذاك نحكم بعدالته.
واختلف أصحابنا في مدة الاستبراء، فقال بعضهم: سنة؛ فإن لتكرار الفصول وجريانها مع الاستمرار على التوبة أثراً بيناً في إظهار نقاء السريرة مع حسن السيرة.
وقال قائلون: يعتبر ستة أشهر، حكاه القاضي.
وذهب المحققون إلى الرد على من يُقدِّر، ولفظ الشافعي: استبرأناه أشهراً، والأصح أن ذلك لا يتقدر بزمن، فكيف المطمع فيه، والتقدير لا يثبت إلا توقيفاً، فالوجه أن نقول: نوكل به من يراقبه في سرِّه وعلنه مدة، حتى تحصل غلبة الظن، وهذا يختلف-فيما أظن- باختلاف الرجال والأشخاص، فالرجل المكاتِم الذي لا يعتاد إعلان ضميره، وكان خُبْثه فيما يتعاطاه دفيناً، فالاحتياط في مثل هذا الشخص يطولُ أمده، فإن لم يكن للرجل غائلة، بل كان يعلن ما رآه، فهذا الرجل يسهُل استبراؤه، وتقرب مدته. فهذا ما أردنا بيانه في الاستبراء عن سائر الكبائر.
12041- فأما إذا قذف وتاب على ما وصفنا توبته، فهل تقبل شهاته في الحال من غير استبراء، أم لابد من استبراء فيه؟ اختلف نص الشافعي، واختلف أصحابنا على طرق:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أنه يستبرأ قياساً على سائر الكبائر.
والثاني: أنه لا يستبرأ؛ فإنا نجوّز أن يكون صادقاً، ولا محمل لسائر الكبائر، هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: النصان منزلان على حالين، فحيث قال: لا يستبرأ، أراد إذا جاء مجيءَ الشهود، فلم يوافقه الأصحاب في إتمام الشهادة، وقلنا: إنه محدود، فإذا تاب-وحالته ما وصفناها- فلا استبراء؛ فإنه ما جاء مجيء القَذَفةِ، وإنما جاء شاهداً، وحيث قال: يستبرأ، أراد إذا جاء قاذفاً.
ومن أصحابنا من نزل النصين على حالين من وجه آخر، فقالوا: إن كذّب نفسه صريحاً، فلابد من استبرائه، فإن الكذب في عظائم الأمور من عظائم الذنوب، وإن لم يصرح بتكذيب نفسه، فلا حاجة إلى الاستبراء، هذا كلام الأصحاب.
والوجه عندنا أن نقول: إذا صرح بتكذيب نفسه، فهذا يخرُج على التفاصيل، وترديد الأقوال، بل يُقطع فيه بالاستبراء، وإذا جاء قاذفاً، ففي الاستبراء قولان، وإن جاء مجيء الشهود، ورأينا أن نُحِدَّه عند نقص العدد، فإذا تاب، ففي الاستبراء قولان مبنيان على ما إذا جاء قاذفاً، وهذه الصورة أولى بأن لا يشترط الاستبراء منها، وقد نجز الغرض في توبة القاذف واستبرائه بعد التوبة.
فرع:
12042- إذا قذف وأقام بينة على الزنا، فلا شك أن الحد يندفع عنه، ولكن هل نرد شهاته حتى يتوب، أم نقول: صدّق نفسه بالبينة، فخرج عن كونه قاذفاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا نردُّ شهاته، ولا نُحْوِجه إلى التوبة، ومنهم من قال: قذفُه يوجب رد الشهادة، وما كان له أن يقدم عليه، وإن صدّقه الشهود، والمسألة محتملة.

.باب: التحفظ في الشهادة:

قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
12043- قاعدة الباب أن الشهادات شرطها أن تُتَحمل عن علم ويقين، لا يعارضه مخامرةُ رَيْب، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف: 86]، قال ابن عباس: "إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أشهد، فقال عليه السلام: «أرأيت الشمس طالعة» فقال نعم، فقال: «على مثل هذا فاشهد، أو فاسكت».
ثم حقائق الأشياء والعلومُ بها تتلقى من حاسة السمع والبصر في تحمل الشهادات، والعقل المِلاك.
أما الأفعال، فالأصل في تحمل الشهادة عليها البصر، ولسنا نعيد ذكر العقل؛ فإنه لا شك فيه، وهذا كالعلم بالجنايات، والاستهلاكات، ونحوها من الأفعال، فلا سبيل إلى تحمل الشهادة عليها إلا بالعِيان المتعلّق بها، وبفاعليها؛ فإن الشهادة لا تنفع فيها دون أن تُربَطَ بمن صدرت منه، ولابد من البصر فيهما جميعاً.
وأما إثبات الأقوال في مفاصل القضاء، فلابد من السمع والبصر، أما السمع، فهو الأصل بالعلم بالمسموع، واختصاصها بالقائلين لا يدرك إلا بالبصر.
وأما ما يعتمد السمع المجرد، وعبارة الأئمة فيه أنه يثبت بالتسامع، فقد ذكروا في هذا القسم ما يتفق عليه ويختلف فيه، فقالوا: النسب، والموت، والملك المطلق، تجوز الشهادة عليها بتسامع الأخبار، واختلف الأصحاب في الوقف، والنكاح، والولاء، وألحق العراقيون بالقسم المختلف فيه العتقَ اعتباراً بَالوقف، ففي هذه الأشياء وجهان: أظهرهما- أنه لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع، وتظاهر الأخبار؛ لأن مشاهدة أسباب هذه الأشياء ممكنة، بخلاف النسب، والملك المطلق، والموت قد يقع في التقطعات والأسفار كذلك، وهذا غالب غير نادر.
والوجه الثاني- أنه تجوز الشهادة عليها بالتسامع؛ لأنها إذا ثبتت، بقيت ودامت، وشهود المشاهدة قد يزولون، فالوجه أن يقال: سبيل الشهادة عليها بالتسامع، وهذا ينضم إلى أن هذه الأشياء تُشهد غالباً، وليس كالبيع والشراء والهبات، وما في معناها. هذا هو الأصل.
وحكى القاضي أن من أصحابنا من ألحق الموت بالمختلف فيه، فإنه على الجملة مما يمكن فرض العِيان فيه، وهذا وإن كان منقاساً، فلا تعويل عليه؛ فإن موت الإنسان مما يشتهر، ويقع في الأفواه كالنسب، وعماد تحمل الشهادة هذا.
12044- والمقدار الدي ذكرناه نقلُ مراسم المذهب، ولابد من وراء ذلك من تمهيد أصل، حتى إذا نجز، خضنا في استقصاء الجوانب، حتى لا نُبقي مشكلاً فيما نظن.
فنقول: عماد تحمل الشهادة: العلمُ، واليقينُ، وثلَجُ الصدر، كما ذكرناه في أول الباب. ولكن اعترض في مجاري الأحوال ما لا سبيل إلى درك اليقين فيه، والنزاع في مثله جائزٌ دائمُ الوقوع، ولا سبيل إلى تركه ناشباً بين الناس؛ فأثبت الشرع فيما لا يتصور فبه دركُ اليقين الشهادةَ بالتسامع، وسوّغ بناءها على ظنٍّ غالب، ولولا ذلك، لدامت الخصومات.
ومن جملة ما ذكرناه الملك، وهو مطلوبُ الخلق ومقصودُ الدنيا، ولا مستند له إلى يقين، وإن تناهى المصوّر في التصوير، فلا انتهاء إلى العلم والمعرفة، ووضوح هذا يغني عن كشفه؛ فإن الأسباب التي تُحَسّ وتُعلم عن حسٍّ، كالشراء، والاتهاب لا تفيد العلم بالملك، فإن ملك المشتري مبني على ثبوت ملك البائع، ثم القول فيه كالقول في المشتري منه، وهكذا الكلام فيما يستفاد بالوراثة. ومن اصطاد صيداً، لم يأمن أنه كان مملوكاً، فأفلت من مالكه.
وكما يُفرض هذا في الملك، فالانتساب إلى الآباء بهذه المثابة؛ فإنه لا مطمع في درك عِيانٍ فيه، ولا يتحقق العلم فيما لا يتصور فيه-عند تحمل الشهادة عليه- عيانٌ.
ومما يتصل بذلك الإعسار؛ فإنه لا مُطَّلَع عليه، ولو لم يكن إلى إثباته طريق، لَتَحكَّم الحبسُ على المعسر من غير دَرْك منتهى.
12045- فإذا وضح هذا، تعيّن تقديم الكلام في الملك المطلق، فننقل قولَ الأصحاب فيه أولاً:
قال القاضي: لا تجوز الشهادة لإنسان بالملك بناء على مجرد يده، وإن دامت له؛ فإن الأيدي تنقسم، وتقع على أنحاءٍ وجهاتٍ مختلفة، فإن انضم إلى اليد تصرفُ ذي اليد، والمعنيُّ به تصرفُ الملاك، كالنقض والبناء، والرهن، والبيع، والفسخ بعده، فهذا هو المعنيُّ بتصرفات الملاك، حتى تردد بعض الأصحاب في أنه لو كان لا يعهد منه إلا الإجارة، فهل يقع الاكتفاء بهذا؟ فمنهم من قال: لا يقع الاكتفاء بها؛ فإن المكتري يُكري، فقد يكون مكترياً، وكذلك القول في الموصَى له بالمنفعة.
وقال قائلون: إذا جرت منه الإجارة مرة واحدة، فالأمر كذلك، وأما إذا تكرر منه، وبان من مخايله تصرفُ الملاك فيه، فهذا كافٍ في الفن الذي نعنيه، فإذا انضم تصرفُ الملاك-على ما وصفناه- إلى اليد، فقد قال القاضي: لا تجوز الشهادة على الملك، وإن اجتمعا حتى ينضمَّ إليهما تفاوض الناس بنسبة ذلك الشيء إلى ملك ذي اليد المتصرف؛ إذ ذاك تسوغ الشهادة على الملك له. هذا كلامه، وقال بحسبه: اعتماد الشهادة في الملك المطلق على التسامع مجازٌ ممن أطلقه، فإنما المعني به أن ينضم إليه اليد، والتصرف، واليدُ والتصرف لا يفيدان تحمل الشهادة، حتى ينضم إليهما التسامع بالملك.
والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن اليد إذا دامت، وانضم إليها تصرفُ الملاك، فيجوز اعتمادهما في تحمل الشهادة على الملك، وهذا-إلى أن نفصّله، ونذكر غوائلَه- مذهبٌ مشهور لا ينكره محصل.
ووجهه أن الظن يغلِب باليد والتصرفِ، وقد يكون الرجل خاملَ الذكر لا يُشهر ما ينسب إليه، ويكون ما تحت يده مما يقلّ قدره، فيقع الاكتفاء باليد والتصرف، وحقُّ هذا أن يُلحق بقرينهِ ممّا لا يمكن الوصولُ إلى اليقين فيه. وأقرب ما يضاهيه الإعسار، ثم لمن يحيط بباطن حال الإنسان أن يشهد بإعساره، وإن لم يستَفِض في الناس ذلك، تعويلاً على مخايلَ وأمورٍ لا يَخفى دَرْكُها، وإن كنا نجوّز مع ظهورها أن يكون الرجل مُكاتماً مُظهراً من نفسه ما يعلم الله منه خلافَه، ولكن تحمل الشهادة يعتمد مع ذلك ما أشرنا إليه.
وكان شيخي يقول: اليد والتصرف يدلان على الملك مذهباً واحداً، واليد الدائمة بمجردها هل تدل على الملك؟ فعلى قولين، وأجرى هذا وغيرُه من الأصحاب في مسائلَ، ولست آمن صَدَرَ هذا من غير تثبت؛ فإني لم أر أحداً من الأصحاب غيرَ الإمام يذكر هذين القولين في اليد المجردة في كتاب الدعاوي والبينات، وإن أطلقوا القولين في اليد المجردة في سائر الكتب، فهو في الكلام المعترض الذي لا يقصد تفصيله، وقد بحثت عن كلام الأئمة وُسْعةَ جهدي، فلم أر أحداً منهم يعوّل على اليد المجردة، وإنما ذكروا اليدَ والتصرفَ معها لما أرادوا تفصيل الكلام في ذلك قصداً إليه. نعم، اليد المجردة تُقَوِّي في المخاصمة، جَنْبة صاحب اليد، حتى يكون القول قوله مع يمينه إذا خلت الخصومة عن البينة.
وإنما صار إلى دلالة اليد على الملك أبو حنيفة، وبنى على ذلك ردَّ بينة صاحب اليد مصيراً منه إلى أن شهوده يعتمدون في ثبوت الملك له ظاهر يده، وهذا معلوم لنا، فلا تكون الشهادة مثبتة زيادة لا تدل اليد عليها، ونحن نقبل بيّنة صاحب اليد على ما سيأتي ذلك، وهو أصول الدعاوى إن شاء الله.
فقد انتظم مما ذكرناه أن اليد بمجردها لا يجوز اعتمادها-وإن دامت- في الشهادة على الملك لصاحبها، والذي كان يحكيه شيخي مما لا أعتدّ به، ولا أعده من المذهب.
وإذا انضم إلى اليد التصرف، وانضمّ إليهما التسامع، فلا خلاف في جواز اعتماد هذه الأشياء للشهادة على الملك.
وإذا وجدت اليد والتصرف من غير تسامع في الملك، فالذي ذهب إليه الجمهور جواز الشهادة على الملك، وذكر القاضي وطائفةٌ من المحققين أنه لا يجوز اعتمادُ ظاهر اليد والتصرف في الشهادة على الملك.
ولو فرض التسامع بنسبة شيء ملكاً إلى شخص من غير يد وتصرف، فالذي قطع به القاضي، وهو قياس المراوزة أنه لا يجوز اعتماده في الشهادة على الملك. وفي كلام العراقيين ما يدل على جواز اعتماد التسامع في الملك المطلق-من غير يدٍ وتصرف- وهذا بعيد. وإن فرض له ثبوت، فهو نيه إذا لم يعارض هذا التسامعَ يدٌ وتصرفٌ من الغير.
وهذا الذي ذكرناه مجامعُ المذهب، مع امتزاج النقل بمسلك البحث.
12046- وتمام البيان فيه أن ما لا يكون مستيقناً، ومعتمده الظن، فنعلم علماً كلياً أنه لا يجوز الاجتزاء فيه بمبادىء الظنون، بل يجب بناء الأمر على بحثٍ يقرب من استفراغ الوسع في مثله، من غير سرفٍ وتكلفِ أمرٍ يعد عسيراً في العُرف. هذا لابد منه، ومن ضرورته اليد الدائمة، والتصرفُ المشعرُ بالاستقلال.
ثم شَرَطَ القاضي التسامعَ بالملك، واكتفى غيره بعدم الاعتراض، ومن يتصرف فيما يعرف لغيره يُشهر عنه العدوان والاستقلالُ من غير استحقاق؛ فإن النفوس مجبولة على البحث عن أمثال ذلك، والأملاكُ مضنون بها، فإذا اطّرد التصرف فيها بغير حق أُشيع ذلك، وشُهِر ونُبّه المستحِق ليثور في طلب حقه، فإذا لم يحصل، غلب على الظن المِلكُ.
ثم من أسرار هذا الفصل أن من يكتفي باليد والتصرف على الحد الذي ذكرناه، فالغالب-في العادة- أن يتفاوض الناس بنسبة الملك إذا كانت الحالة هذه، وإن كان لا يتفوه به أماثل الناس، أشاعه الجيران، ثم أهل المَحِلّة، وهذا العدد كاف في التسامع؛ فإذاً يندر اجتماع اليد والتصرف على الاطراد، مع انتفاء النكير، وعدم ظهور المعترض والطالِب، من غير تسامع بالملك وتفوهٍ به على حد ظهور اليد والتصرف، فكأن الخلاف يؤول إلى أن المعتمد في ذلك اليد والتصرف، أم هما مع التسامع معتبره؟ وإلا فحكم الاعتياد ما ذكرناه.
فمن يعتمد الملكَ والتصرفَ يقول: تفاوض الناس بالملك منها، ومن يقول: التسامع معتبر، قال: إذا شاع التفاوض، فهذا إذا انتشر يثير المستحِق-لو كان- فيؤول اعتباره إلى عدم الإنكار والاعتراض، وبالجملة لابد من المبالغة حتى تسوغ الشهادةُ على الملك، غير أن الأمارات التي تدل على الإعسار يختص بدركها أهلُ الباطن، والعلامةُ الدالة على الملك لا يختص بدركها من يخالط الرجلَ؛ فإنها على الظهور مبناها، وكل ما نبغي ظهورَه يستوي فيه المخالط وغيرُه، والمعتمد في الإعسار الأمور الخفية التي يختص بدركها المخالطون، كالصبر على المضض سرّاً، والاستمرار على الإضاقة. والغالب أن القادر لا يصابرها سرّاً، وإن أبدى على العلن مصابرتها، فيجب تنزيل كل شيء على حسب ما يليق به.
هذا بيان القول في التسامع بالملك المطلق.
12047- وقد حان أن نتكلم بعد هذا في حقيقة التسامع ومعناه؛ فإن الحاجة ماسة إليه في الأنساب؛ إذ لا مُدركَ لها إلا التسامع: فالذي ذكره القاضي وشيخي وغيرُهما أن التسامع هو الاستفاضة، والتلقي من مُسمِعين لا يتأتى حصرهم. وذكر العراقيون أنه يكفي في التسامع السماع من عدلين، فلو سمع رجل عدلين يقولان: فلان بنُ
فلان، فيجوز التلقي منهما، وبتُّ الشهادة على النسب، ثم قالوا: ليس هذا شهادة على شهادة العدلين، بل هو بناء الشهادة على التسامع، حتى لو لم يُذكر لفظ الشهادة، ولم يشهد السامع عنها، فللسامع أن يشهد النسب، وإذا شهد، لم يأت بشهاته على صيغة الشهادة على الشهادة، بل يأتي بها مبتوتة.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين:
أحدهما: اشتراط الاستفاضة، وقال: معناها أن يقول ذلك قوم لا يجوز منهم التواطؤ على الكذب في العادة، والوجه الثاني- أنه يكفي السماع من عدلين.
وهذا الوجه- وهو الاكتفاء بالسماع من عدلين- وإن كان بعيداً عن قياسنا، فهو متجه عندي؛ من جهة أن التواتر إنما يفيد العلم إذا كان مستنداً إلى معاينة المخبرين، هذا لابد منه، ويعرِفُ ذلك مَنْ تلقَّى أصول الفقه من مجموعاتنا. وهذا غير ممكن في الأنساب، فإنه لا مستند لها من عِيان.
ثم الذي أراه أن من اشترط الاستفاضة، فربما يكتفي بالإشاعة من غير نكير؛ فإن التواتر إذا كان لا يوجب العلم الباطن-وهو العلم حقاً- فالعماد أمر يرجع إلى العادة في إثارة غلبات الظنون، وهذا يُكتفى فيه بالإشاعة، وعدم النكير.
ثم إن العراقيين جاوزوا الحدَّ، وقالوا: لسنا نشترط السماعَ من شاهدين أيضاً، بل نكتفي بدون ذلك، فنقول: إذا رأى الرجل رجلاً، وفي يده صبي صغير، وهو يصرح باستلحاقه، فتجوز الشهادة على نسبه بمجرد ذلك، وكذلك لو قال لكبير: هذا ابني، وذلك الشخص ساكت لا يرد عليه، فتجوز الشهادة على النسب بذلك، وكذلك لو قال بالغٌ هذا أبي، وسكت ذلك الشخص، فتجوز الشهادة على النسب بينهما.
وهذا في قياس الفقه خطاً صريح؛ فإن قول الشخص الواحد-من غير إشاعة- في حكم الدعوى، حيث ذكروه، ونحن وإن كنا نثبت نسب المنبوذ بالدِّعوة، فيستحيل أن نجوّز اعتمادها للشهادة على النسب مطلقاً. نعم، يشهد الشاهد على الدِّعوة، ثم يقع الحكم بموجبها. فهذا ما أردنا ذكره في معنى التسامع.
12048- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من أصحابنا من يُلحق الانتماء إلى الأم بالانتساب إلى الأب في جواز اعتماد التسامع. ومنهم من قال: الانتماء إلى الأم بطريق الولادة لا يثبت بتسامعٍ؛ فإن العِيان في الولادة ممكن، بخلاف الانتساب إلى الأب.
وهذا الخلاف قريب المأخذ من تردد الأئمة في أن المرأة إذا ادعت مولوداً مجهولاً، فهل تثبت الأمومة بالدِّعوة المجردة، كما تثبت الأبوة بها، وسيأتي ذكر هذا في باب القائف، إن شاء الله عز وجل.
ثم قال الأئمة: الشهادة اعتماداً على التسامع إنما تفيد إذا كان صَدَرُها من بصير، فيقول: هذا ابن هذا، وقد يطلق المطلِق أن ما يُعتمد السماعُ، فالأعمى فيه كالبصير، وهذا ليس يصدر عن تثبت؛ فإن الأعمى لو قال: زيد هو ابن عمرو، فالزيود فيهم كثرة؛ فلا استقلال لشهادة العميان في ذلك، وإن كان معتمد الشهادة السماع.
وقد ألطف الشيخ أبو علي في تصوير الشهادة من الأعمى فيما يثبت بالتسامع، فقال: لو أراد أن ينسب شخصاً إلى شخص، لم يجد إليه سبيلاً. نعم، لو قال: زيدٌ بنُ بكر بنُ عمرو قرشيٌّ، أو هو من بني فلان، فيثبت بشهادة الأعمى؛ فإنه نسبٌ لا يحتاج فيه إلى الإشارة. والمسألة فيه إذا كان المذكور مشهور النسب بآبائه وأجداده المعيّنين، وإنما المطلوب انتهاؤه إلى قبيلة عظيمة. هذا ما ذكره.
12049- ثم ذكر الأصحاب مذهب مالك في مصيره إلى أن للأعمى أن يعتمد في تحمل الشهادة الصوتَ، إذا حصل له العلم المبتوت فيه، لأنه يميز الصوت تمييزاً لا شك فيه، واحتَجَّ عليه باعتماد الزوج في وطء زوجته، وتمييزها من الأجنبيات.
وقال أصحابنا: وطء الزوجة من باب المعاملات، وهذا شهادة على الغير، وهو في حكم الولاية، وإن لم يكن ولاية، فلا يجوز التصدي لإثبات الأحكام على البتات مع التردد، وما يتعلق بالمعاملات قد يُتَسامح فيه لمسيس الحاجات والضرورات، ولا حاجة في الشهادة؛ فإن في البصراء مُتّسعاً، والصوت يشبه الصوت.
واختلف أصحابنا في شهادة الأعمى على المضبوط حيث يَستيقن منه قولاً، وذلك مثل أن يتمسك الأعمى بإنسان فيضع ذلك الإنسان فَلْق فيه على صماخ أذنه ويقرّ، فإذا تعلق الأعمى به، وشهد عليه في مجلس القاضي، ففي سماع شهاته- والحالة هذه- وجهان مشهوران: قال القاضي: الأصح أنها تقبل، لما ذكرناه في حصول العلم واليقين، وهو المطلوب. ومنهم من قال: لا تقبل، فإن تصوير الضبط على التدقيق الذي ذكرناه عسر؛ فلا يجوز فتح هذا الباب.
وقد تردد أئمتنا في رواية الأعمى، والأظهر منعُها إذا كان السماع في حال العمى، وقال قائلون: يجوز إذا حصلت الثقة الظاهرة، واستدل هؤلاء بأن عائشة كانت تروي وراء الستر، ومعظم الروايات عنها كذلك، والبصراء في هذا المقام كالعميان، وما ذكرناه فيه إذا كان يفرض التحمل في حال العمى.
فأما إذا تحمل الشهادة بصيراً، وأداها ضريراً على نسب مشهور، مثل أن يسمع إقراراً، ويرى المقر، ونسبُه مشهور لا نزاع فيه، فإذا عمي قال: أشهد أن فلانَ بنَ فلانٍ أقر، فشهادته مقبولة، خلافاً لأبي حنيفة رضوان الله عليه.
والأعمى لا يجوز أن يكون قاضياً، لأنه لا يميّز بين الشهود، والمدعي والمدعى عليه، فإن سمع الشهادة على واحد، ولم يبق إلا القضاء، فعمي، فقال: قضيت على فلان، فهل ينفذ حكمه في هذه القضية الخاصة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يثبت، وهو الذي صححه القاضي ولم ينقل غيرَه. ومنهم من قال: ينعزل بالعمى، ويمتنع عليه القضاء عموماً.
ومن جملة ما يمتنع عليه تنفيذ تلك القضية.
12050- ومن تمام الكلام في هذا الفصل أنا ذكرنا اختلاف الأصحاب بأن الشهادة على الوقف هل يجوز أن تعتمد التسامعَ، ثم الذي ذكره الصيدلاني والمحققون في الطرق أن الوجهين يجريان في الوقف على معيّن جريانَهما في الوقف على جهة عامة، كجهة الفقراء والمساكين وغيرهما، وكان شيخي يقول: الوجهان في الوقف على الجهات العامة، فأما الوقف على معيّن، فلا يجوز إسناد الشهادة فيه على التسامع.
وهذا لا أعتدّ به؛ من جهة جريان الخلاف في النكاح، مع اختصاصها بشخصين معينين، فالتعويل إذا على ما وجهنا به الوجهَ من دوام الوقف، وجريان العرف بإشاعته، وكذلك القول في النكاح وما يلتحق بالقسم المختلف فيه.
12051- وذكر صاحب التقريب وجهين في المترجم الأعمى إذا كان القاضي يكلف أهل المجلس السكوتَ، حتى لا يتكلم إلا المدعي والمدعى عليه:
أحدهما: أن ذلك لا يجوز؛ لأن الأعمى ليس من أهل نقل الأقوال، فلا نظر إلى تفاصيل الأحوال، وهذا قريب مما ذكرناه من مضبوط الأعمى، والوجه الثاني- أن ذلك مقبول؛ فإن الغرض نقل القول إلى القاضي بحيث لا يستريب في قصد نقل المترجم، وقد ذكرنا في كتاب النكاح وجهين بانعقاد النكاح بحضور أعميين، وذلك أن قلنا: تحملٌ لا يترتب عليه الأداء، وفي تجويزه خرمُ قاعدة المذهب، وإبطال مُعَوّله في أن الغرض من تحمل الشهادة على النكاح، إقامتُها عند مسيس الحاجة إليها.