فصل: باب: التبكير إلى الجمعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: التبكير إلى الجمعة:

1505- والغرض من هذا الباب الكلام على خبر مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما روي أنه قال في مساق حديث: "من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرّب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرّب بيضة، والملائكة على الطرق يكتبون الأول فالأول، فإذا أخذ الخطيب يخطب طَوَوْا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر".
1506- وقد اختلف أئمتنا في معنى الساعات المذكورة في الحديث، فذهب بعضهم إلى حمل الساعات على الساعات التي قسم عليها الليل والنهار، وحمل الساعة الأولى على الساعة الأولى من النهار، وهكذا إلى استيعاب خمس ساعات، وهذا غلط؛ فإن الماضين ما كانوا يبتكرون إلى الجامع في الساعة الأولى، ثم الساعة الخامسة في النهار الصائف تقع قبل الزوال، وفي اليوم الشَّاتي تقع قريبة من العصر؛ فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم ما يذكره أصحاب التقاويم، وإنما أراد عليه السلام الاستحثاثَ على السبق والتقديم، وترتيبَ منازل السابقين واللاحقين اللاحقين.
فهذا معنى الحديث.
وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من غسَّل واغتسل، وبكَّر وابتكر، وجلس قريباً، ولم يرفث، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، قوله غسّل معناه:
توضأ، فإن الوضوء تكرير الغسل على الأعضاء، وهو كقولهم: قطّعته آراباً.
وقوله: بكر وابتكر معناه: بكّر إلى صلاة الصبح، وابتكر إلى الجمعة.
1507- ثم يؤثر للرجل أن يأخذ زينتَه على ما سنذكر في صلاة الخوف: ملابسَ الرجال. والثيابُ البيض أحب إلى الله، ويمسّ طيباً إن كان عنده، ويمشي على سجيّته وهِينته، قال عليه السلام: «إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، ما أدركتم، فصلوا، وما فاتكم، فاقضوا»، والترجل فيه أولى، وروي «أن رسول الله عليه السلام ما ركب في عيد ولا جنازة» وليس في الحديث ذكر الجمعة، ولكن كان عليه السلام يقيم الجمعة في مسجده، وكانت حجرته لافظةً في المسجد.
والعُجُز إن حَضَرْن، فلا ينبغي أن يلبسن شهرةً من الثياب، ولا ينبغي أن يمسسن طيباً يشهرهن، وروي أن امرأة مرت بأبي هريرة يشم منها رائحة المسك، فقال: أتريدين المسجد، فقالت: نعم، فقال: تطيبت قالت: نعم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما امرأة تطيبت للجمعة لم يقبل الله صلاتها حتى ترجع إلى بيتها وتغتسل اغتسالها من الجنابة".

.باب: صلاة الخوف:

1508- القول في صلاة الخوف ينقسم: في التقسيم الأول إلى ما يجري في حال شدة الخوف، ومطاردة العدو والتحام الفئتين، وذاك نذكره في آخر الباب، وإلى ما يجري ولم ينته الأمر إلى شدة الخوف، وهذا القسم ينقسم أقساماً، والجملة المتبعة أن الصلاة لا سبيل إلى إخراجها عن وقتها بسبب الخوف وقيام القتال، فأما الجَمْعُ فمتعلّق بعذر السفر، أو المطر في الحضر. وقيام الحرب لو فرض في غير سَفْرة، فلا يتعلق به جواز الجمع، كما لا يتعلق رخص السفر بالمرض من غير نصٍّ عليها، فإذا كان كذلك، فإن احتمل الأمرُ أن يصلي الإمام والقومُ على نظام الأركان، من غير ركوب وتردّد، فعليهم ذلك. ثم نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةُ الخوف قبل الانتهاء إلى التحام الفريقين على وجوه، وكل وجهٍ يليق بالحال الذي نقل ذلك الوجه فيها، ونحن نأتي عليها إن شاء الله مفصلة.
1509- وقد بدأ الشافعي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في غزوة ذات الرقاع، وكان المسلمون وقوفاً في وجاه العدو والحرب قائمة، فدخل وقت الصلاة، فأول ما نذكره الرواية في كيفية صلاته، روى الشافعي بإسناده عن مالك عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوَّات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدَع أصحابه صَدْعَيْن في غزوة ذات الرقاع، وفرقهم فرقتين، وانحاز بطائفة فصلى بهم ركعةً، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركعة الثانية، انفرد القوم بالركعة الثانية وأقاموها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم في الركعة الثانية، فلما تحللوا عن صلاتهم، مشَوْا بعد التحلل إلى الصف، وأخذوا أماكن إخوانهم في القتال، وانحازت تلك الفئة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في القيام ينتظرهم، فاقتَدَوْا به، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتظرهم حتى أقاموا الركعة الثانية، ثم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد، وتشهدوا، فسلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه رواية خَوَّات وهي صحيحة متفق على صحتها، ورواها طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، منهم سهل بن أبي حثمة.
وروى الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع المقاتلين صدعين، وتنحى بطائفة، فصلى بهم ركعة، فلما قام إلى الركعة الثانية، مشى المصلون إلى الصف، وأخذوا مواقف إخوانهم، وانحاز أولئك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلوا معه الركعة الثانية، وتحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فمشى هؤلاء إلى الصف في الصلاة، وانحاز الأولون إلى أماكنهم من الصلاة، فأتموا الركعة الثانية، ثم مشَوْا إلى الصف، وقد تحللوا عن الصلاة، ورجع الذين كانوا في الصلاة، وانحازوا إلى أماكنهم في الصلاة، وتمموا الركعة الثانية وتحللوا، وعادوا إلى الصف" وهذه الرواية أيضاً صحيحة، لم يختلف الأئمة في صحتها، وفيها تردد ومشيٌ في الصلاة، فهذا ما يتعلق بالرواية.
1510- ونحن نبتدىء فنتكلم على تفصيل المذهب إن شاء الله.
فأما رواية خوَّات، فقد رأى الشافعي العمل بها، ولكن رواية ابن عمر صحيحة لا مراء فيها، وقد تردد الأئمة في وجه الكلام عليها، فقال قائلون: تجوز إقامة الصلاة على مقتضى رواية ابن عمر، ولكن الأولى روايةُ خوات؛ إذ ليس فيها أعمال في الصلاة، وإنما منتهى الأمر فيها انفراد عن القدوة في ركعة، وفي رواية ابن عمر ترددات في الصلاة ومشي وعَوْدٌ، وفيها الانفراد عن الإمام أيضاً، وفيها انتظار الإمام للطائفة الثانية، كما في رواية ابن عمر، فصحة الروايتين تقتضي تصحيحَ الصلاة على الوجهين جميعاًً. واختصاص رواية خوات بحسن الهيئة في الصلاة، والخلوّ عن الأفعال الكثيرة مع رواية طائفة على حسب روايته، اقتضى تقديمَ روايته من طريق الأَوْلى، فهذه طريقة.
1511- ومن الأئمة من قال: لا تصح الصلاة للطائفتين على مثل ما رواه ابن عمر؛ لأن الأمر ما كان انتهى إلى شدة الخوف، وكان التردد مستغنىً عنه، ولكن الرواية صحيحة، وقد أشار الشافعي إلى ادعاء النسخ فيها، فقال: "غزوة ذات الرقاع من آخر الغزوات، وحديث خوات مقيد بتلك الغزاة، وحديث ابن عمر غير مقيد بها، فهي محمولة على غزاة متقدمة، وما جرى فيها من كيفية الصلاة في حكم الناسخ لما تقدم".
فهذا مسلك. وفيه إشكال، فإن الشافعي لا يرى النسخ بالاحتمال، وما لم يتحقق تقدم المنسوخ بالتاريخ على الناسخ، فادعاء النسخ يبعد وينأى عن أصله.
1512- وإن جرينا على الطريقة الأولى، وجوزنا الصلاة على موجب الروايتين جميعاًً، ورددنا الأمر بعد ذلك إلى الأوْلى، فقد قرب الأمر في الكلام على الحديث.
1513- وإن لم نر العمل في غزاة ذات الرقاع إلا برواية خوات، ولم يثبت عندنا ناسخ على تحقيق، فوجه الكلام أن يقال: إن كانت الحالة مما تحتمل ما رواه خوات، فبعيد جداً تصحيح الصلاة مع الترددات وكثرة الأعمال، والمصير إلى التخيير-والحالة هذه- بعيدٌ عن القاعدة.
وإن انتهى الأمر إلى حالة كان لا يتأتى فيها احتمال بقاء كل طائفة على مصابرة العدو في مقدار ركعتين من الصلاة، وكان الذي يليق بالحال أن تبادر كل طائفة إلى أماكنها إذا فرغت من ركعة، فهذا عسر في التصوير جداً؛ فإنَ انتهاء الأمر إلى حالة لا تحتمل مقدار ركعة خفيفة في تفريق الفريقين بعيد عن إمكان الإدراك. على أن هذا كيف يُتخيّل، وما كان يقف إلى تمام الركعتين الطائفتان جميعاًً في وجاه العدو، وقد يتوقع من الزوال وتبدل الواقفين خلل عظيم في القتال، ولم ينقل الناقلون في غزوة ذات الرقاع إلا صلاة واحدةً، فالوجه ترجيح رواية خوات بكثرة الرواة وموافقته ما تمهد في قاعدة الصلاة، من ترك الأعمال من غير حاجة، والترجيح من المسالك المقبولة في تقديم رواية على رواية.
1514- فإذا تمهد الكلام على الروايتين، فليقع التفريع على ألا تصح الصلاة إلا كما رواه خوات، وليعلم الناظر أن النبي عليه السلام إنما فعل ما رواه خوات لمسيس الحاجة إليه، وكان أصحابه يؤثرون الاقتداء به، وألاّ تفوتَهم الجماعة معه، فرأى أقربَ الطرق في التسوية بين الطائفتين، وألْيَقها بالحال ما ذكرناه.
وقد قال الأئمة: كان العدو منحرفاً عن جهة القبلة، وكان الحال في القتال يوجب تفريق الجند، في مثل ذلك الزمان، فتنحى بطائفة إلى مسافةٍ لا ينالهم سهامُ الأعداء، هكذا الأمر في غزوة ذات الرقاع، فإن اتفقت حالةٌ تدانيها، أقمنا مثل تلك الصلاة فيها.
فإن تكلف متكلف في التصوير، وقال: لو كان الأمر بحيث لا تقوى طائفةٌ على المصابرة إلا في زمان ركعة، فإذا انحازت وصلت ركعة، وأجمتْ نفسها، فقد تقدر على المطاردة بما استروحت إليه من ترك القتال، ولا تقدر على المصابرة في القلّة والانفراد في مقدار ركعتين، فهذا تكلف بعيد، سبق الكلام عليه، ووضح أن هذا التفاوت في مقدار ركعة لا يضبطه الحس والإدراك، ثم التردد والمشي والعود إلى الصف أشق وأعظم خطراً؛ فإن الاضطراب والمجيء والذهاب قد يكون سببَ الانفلال في القتال، ثم تغيير هيئة الصلاة لا يجوز بشيء يحتاج في تصويره إلى كل هذا التدقيق، بل إنما يجوز لأمر ظاهر يبلغ مبلغ الحاجة الشديدة والضرورة، فلا مطمع في العمل إلا برواية خوات في صورة يتضح فيها ما رواه ابن عمر.
1515- وكل ما قدمناه من التطويل تحويم على البوح بذلك؛ إذ لو كان يسهل تصوير صورة لائقة بتلك الروايات، لابتدرنا القول بتنزيل كل رواية على حالة تقتضيها؛ فإنه لا يبعد تجويز تغاير في الصلاة بسبب اختلاف الأحوال في القتال، فإنا سنجوز صلاة عُسفان كما سيأتي لحَالة اقتضتها، وسنذكر احتمال تغايير ظاهرة في الصلاة عند شدة الخوف، فإذن لا مستند لتصحيح ما رواه ابن عمر إلا الرواية المحضة، وقد قدمنا أن رواية خوات مقدمة من طريق الترجيح.
ونحن الآن نعود إلى صحة تفصيل القول في رواية خوات بن جبير، فنقول أولاً: الرواية ما قدمناها في كيفية الصلاة، وفيها أنه لما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشهد، قام القوم إلى الركعة الثانية، ورسول الله عليه السلام لم يسلم، حتى لحقه القوم ثم سلم. وقد وافق مذهبُ مالك روايةَ خوات، غير أنه رأى أن يتشهد القوم، ويسلم الإمام، ثم يقومون، ويصلون ركعة كما يفعله المسبوق بركعةِ.
هذا مذهب مالك، وقيل: إنه قول قديم للشافعي، ولست أدري أن مالكاً روى ما رآه أم هو اختياره من طريق المعنى، ولم يسنده إلى رواية؟ أما الشافعي، فقد روى عن مالك كيفيةَ الصلاة كما سردناها.
والذي يتعين ذكره الآن أن ما ذكره مالك-هو القول القديم- لا شك في صحته؛ فإن ذاك لو فرض مع الاختيار لصح، وإنما الكلام في تصحيح ما رواه خوات وصححه الشافعي في الجديد، وكشفُ القول في هذا يأتي عند فرضنا الكلام في حالة الاختيار، فليكن على ذُكر الناظر إلى الانتهاء إليه.
1516- فالكلام إذن يتعلق بفصول: أحدها: في كيفية هذه الصلاة على الجديد عند الحاجة في القتال.
والثاني: في تصوير هذه الصلاة على هذه الصورة عند الاختيار.
والثالث: في تصوير تصديع الجند أكثر من صَدْعين، عند احتمال الحال في صلاة ثلاثية، أو رباعية.
والرابع- في تصوير سهو الإمام والقوم وما يتعلق به.
الفصل الأول
1517- فأما الأول، فقد بان أن القوم ينفردون عن الإمام في الركعة الثانية ويسلمون، والإمام في قيام الركعة الثانية ينتظر الطائفة الثانية، ثم الذي نقله المزني أن الطائفة الثانيةَ إذا لحقت وتحرمت، فالإمام يقرأ بهم فاتحة الكتاب وسورة، وهذا يتضمن أنه في قيامه وانتظاره لا يقرأ الفاتحة؛ فإنه لو قرأها، لما كررها.
والذي نقله الربيع أنه في انتظاره يقرأ الفاتحة، ثم إذا لحق القومُ قرأ من القرآن ما يتمكنون في زمان قراءته من الفاتحة.
وقد اختلف الأئمة في التصرف في النصين، فمنهم من غلّط المزني، وهو اختيار الصيدلاني، وقال: بقاء الإمام ساكتاً في زمان انتظاره-وهو زمان طويل- بعيدٌ، مخالف لهيئة الصلاة، ولا تمس إليه حاجة؛ فإن الطائفة الثانية يدركون الركعة من غير أن يتكلف الإمام هذا، وتغيير الهيئة لا يُحتمل إلا لحاجة ظاهرة، فالتعويل على ما نقله الربيع.
ومن أئمتنا من جعل المسألة على قولين، وهذه طريقة مشهورة، فأحد القولين ما نقله الربيع، ووجهه ما ذكرناه، والثاني: أنه لا يقرأ في زمان الانتظار؛ فإنه لو قرأ الفاتحة، لم يكررها، ثم لا يكون مساوياً بين الطائفة الأولى والثانية؛ فإنه قد قرأ الفاتحة والسورة بالطائفة الأولى، فكان حكم التسوية يقتضي أن يقرأهما بالثانية أيضاً، ولو كان يجري في الركعة الثانية على ترتيب صلاة نفسه، لتمادى فيها وركع، ثم انتظرهم في ركوعه حتى يدركوه، ويدركوا الركعة بإدراكه مسبوقين.
1518- ومما يتعلق بهذا الفصل أنا ذكرنا أن المنصوص عليه في الجديد أن الطائفة الثانية يقومون إلى الركعة الثانية والإمام ينتظرهم ساكتاً، ثم يتشهد إذا عادوا إليه، وذكر العراقيون فيه طريقين: إحداهما- أن ذلك بمثابة القول في قراءته وسكوته في القيام وهو ينتظر، فيخرج على ما تقدم.
والثانية- أنه يتشهد كما جلس ولا يسكت حتى يلحقوه. والفرق أنا إنما أمرناه بأن يسكت في قيامه على أحد القولين ليسوّي بين الطائفتين؛ فإنه قد قرأ بالطائفة الأولى الفاتحة والسورة، وهذا لا يتحقق في التشهد؛ فإنه ما تشهد مع الطائفة الأولى أصلاً، وليس في الصلاة الثنائية إلا هذا التشهد. فهذا تمام البيان في هذا الفصل.
الفصل الثاني
في تصوير إقامة هذه الصلاة على هذه الصورة في حالة الاختيار
1519- وسبيل استفتاح القول فيه أن نتأمل ما فيها من التغايير، ثم نعرضها على الأصول حالة الاختيار.
أما الطائفة الأولى، فلم يجر في صلاتها شيء إلا الانفراد عن الإمام بركعة. وأما الإمام، فالذي يوجد منه الانتظار إما في موضع واحد، وإما في موضعين.
وأما الطائفة الثانية، فإنهم يقومون إلى الركعة الثانية على صورة الانفراد، ثم يعودون-على الجديد- ويقتدون. فإن فرضنا هذه الصلاة في حالة الأمن والاختيار، فنقول: إذا انفردت الطائفة الأولى من غير عذر، ففي صحة صلاتهم قولان مشهوران تقدم ذكرهما، وأما الإمام، فإنه ينتظر، وقد ذكرنا في الانتظار في حالة الاختيار قولين، ثم قلنا: إذا لم نأمر به، فهل تبطل به صلاة الإمام أم لا؟ فعلى قولين، فإذا فرضنا الصلاة في حالة الاختيار، وقلنا تبطل صلاة الإمام، فالطائفة الثانية تلحق وقد بطلت صلاة الإمام، ولا يكاد يخفى تفريع ذلك في العلم والجهل.
وإن لم تبطل صلاة الإمام بسبب الانتظار، فالطائفة الثانية إن جرت على ما ذكره مالك-وهو القول القديم- فصلاتهم صحيحة؛ فإنهم جروا على الترتيب الشرعي في صلاة المسبوق، وإن جروا على قياس القول الجديد، فقد انفردوا، ثم عادوا فعلَّقُوا صلاتهم بالقدوة، فيجتمع فيهم أصلان:
أحدهما: الانفراد من غير عذر.
والثاني: أن المنفرد إذا نوى الاقتداء بعد الانفراد، فهل يصح ذلك منه؟ ففي فساد صلاتهم حالة الاختيار عند طريان ما ذكره قولان مأخوذان من هذين الأصلين، فهذا بيان ما أردناه في هذا.
فرع:
1520- إذا أراد الإمام أن يصلي بالطائفتين صلاة المغرب؛ فإنه يصلي بطائفة ركعتين، وبطائفة ركعة، وهذا التفصيل لابد منه؛ فإن تشطير الثلاث عسر، ثم اختيار الشافعي فيما نقله الأئمة أن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة. وإنما اختار ذلك؛ لأنه لو صلى بالطائفة الثانية ركعتين، لاحتاجوا إلى الجلوس معه في التشهد الأول، ولا يكون محسوباً لهم، وحالة الخوف لا تحتمل هذا.
ثم نص الأصحابُ قاطبة على أنه لو صلّى بالطائفة الأولى ركعةَ، وبالثانية ركعتين، جاز.
وفي بعض التصانيف عن الإملاء أن الأولى أن يصلي بالطائفة الثانية ركعتين، وهذا مزيف لا أعده من المذهب، نعم قد ذكر الصيدلاني "أن علياً رضي الله عنه صلى بأصحابه صلاة المغرب ليلة الهرير، فصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين"، ولكن الشافعي لم يَرَ اتباعَه لما ذكرناه.
ثم إذا صلى بالطائفة الأولى ركعتين فمتى ينتظر الطائفة الثانية؟ قال الشافعي: إن انتظرهم في التشهد الأول، فجائز، وإن انتظرهم في قيام الركعة الثالثة، فحسن، فجوّز الانتظارَ في التشهد، واستحب إيقاعَ الانتظار في القيام، والسبب فيه أنه لو انتظر، لم يخل إذا جاءت الطائفة الثانية إما أن يبقى جالساً حتى يجلسوا، ولو فعل ذلك، لكان كلّفهم بما لا يحسب لهم، وإن قام عند لحوقهم، لكان خارجاً عن محل انتظاره، والقياس اللائق بحال المنتظر أن يبقى في محل انتظاره، حتى يلحقه من ينتظره، وأيضاً؛ فإنه لو طال انتظاره في التشهد، وهو قريب محصور، لطال سكوته، والقراءة في قيام الركعة الثالثة ليست بِدْعاً، وقد قال الشافعي في قول ظاهرٍ في الجديد: يستحب قراءة السورة في الركعات كلها.
وذكر بعض المصنفين عن الإملاء ما يدل على أن الأولى أن ينتظر في التشهد الأول، وهذا لا أصل له، ولم أره في غير هذا الكتاب، ولا أعتد به.

.الفصل الثالث:

فيه إذا صلى الإمام بالقوم صلاة إقامة أربع ركعات، وأراد أن يفرقهم أربع فرق ويصلي بكل فريق ركعة، ثم هم ينفردون بثلاث ركعات.
1521- وتمام التصوير فيه أن يَقِرَّ ثلاثةُ أرباع الجند في الصف، ويصلي هو بطائفةٍ الركعةَ الأولى، ثم ينفردون بثلاث ركعات ويرجعون إلى أماكنهم، وهو ينتظر الطائفة الثانية في الركعة الثانية، فإذا لحقوه صلاها بهم، فإذا جلس للتشهد الأول، قاموا-على الجديد- ولم يتابعوه في التشهد، أو تابعوه-على القديم- ثم قاموا إلى ثلاث ركعات، فإذا نجزت صلاتُهم، قاموا إلى أماكنهم، ثم الأحسن على النص أن ينتظر الطائفةَ الثالثةَ في الركعة الثالثة، فلو انتظرهم في التشهد، جاز. ثم إذا صلى بهم ركعةً انفردوا بثلاث، ثم ينتظر الطائفةَ الرابعةَ في الركعة الرابعة، فيصليها بهم، ثم يجلس للتشهد، والنص في الجديد أنهم يقومون إلى ثلاث على ترتيب صلاتهم، والإمام ينتظرهم في التشهد حتى يلحقوه، ويتشهدوا، ثم يسلم.
فهذا هو التصوير.
1522- وفي جواز ذلك قولان للشافعي:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن الرخص لا مجال للقياس فيها، ومعتمدها اتباعُ النصوص، وإنما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفريق الجند فرقتين، فلا مزيد على ما نقل.
والقول الثاني- أنه يجوز؛ فإن انتظار الطائفة الثالثة في معنى انتظار الطائفة الثانية، وقد تمهد أن ما لا يجول القياس فيه يجوز أن يلحق فيه بالمنصوص ما في معناه.
التفريع على القولين:
1523- إن قلنا: يجوز ذلك، فشرطه أن يظهر مسيس الحاجة إلى ذلك، واقتضاء الرأي له، فأما إذا لم يظهر فيه وجه الرأي، فالزيادة على الحاجة تجري في الترتيب مجرى ما لو جرى ما ذكرناه في حالة الاختيار، وقد بان ترتيب المذهب فيه ثم إذا مست الحاجة، جرى في انتظار الطائفة الثالثة ما ذكرناه، قال الشافعي: إن انتظرهم في التشهد الأول، فجائز، وإن انتظرهم في قيام الركعة الثالثة، فحسن، ويصلي بالطائفة الرابعة الركعة الرابعة.
ثم المنصوص عليه في الجديد أنهم يفارقونه وهو ينتظرهم حتى يلحقوه، والقديم أنهم يتشهدون معه كما يفعله المسبوق ويسلم الإمام، ثم إنهم يقومون إلى الركعات الثلاث على قياس المسبوق.
وإن قلنا: لا يسوغ المزيد على ما نقل عن رسول الله عليه السلام، فلو فعل الإمام، فأحسنُ ترتيب في التفريع على هذا القول أن نقول: أما الطائفة الأولى، فصلاتهم صحيحة؛ فإن انفرادهم ببقية الصلاة موافقة لترتيب الصلاة المنقولة عن الطائفة الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الطائفة الثانية. ولا نظر إلى أدنى تفاوت في زيادة الركعات، وأن الانتظار وقع في وسط الصلاة، بخلاف ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا القدرَ محتمل، وهو على القطع ملحق بالمنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلحاق الأمةِ بالعبد في قوله: "من أعتق شركاً له من عبدٍ قُوّم عليه".
ثم إذا انتظر الطائفة الثالثة في الركعة الثالثة، فالمنصوص عليه في هذا القول أن هذا غير جائز، والإمام من هذا الوقت مجاوز موقع النص.
وخرج ابنُ سريج على هذا القول قولاً آخر أن هذا الانتظار محتمَل، وعلل بأن قال: هذا هو الانتظار الثاني؛ فإنه على التصوير الذي قدمناه ينتظر الطائفة الثالثة، فيقع انتظارُه ثانياً لا محالة، وأن الطائفة الأولى لا انتظار معها، قال ابن سُريج: وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظاران:
أحدهما: أنه انتظر الطائفة الثانية في قيام الركعة الثانية، فكان هذا انتظاره الأول، ثم لما فارقوه انتظرهم في التشهد، فكان ذلك انتظاراً ثانياً، فالانتظار الثاني للطائفة الثانية يقع وفقاً لما نقل عن رسول الله عليه السلام.
ومن نصر النص قال: انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد كان للطائفة الثانية أيضاً، فهو مخالف لما يجري من انتظار طائفة أخرى.
وابن سُرَيْج يقول: إذا توافق الانتظاران وقوعاً، فالتفاوت فيمن الانتظار له ولأجله قريب؛ فإن الممنوع مزيدُ انتظارِ في عينه، لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا متجه.
التفريع:
1524- إن جرينا على التخريج، فتصح صلاة الطائفة الثالثة أيضاً.
وإن جرينا على النص، فالإمام كان ممنوعاً من الانتظار، ولكن انتظاره الممنوع هل يبطل صلاته أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يُبطل صلاتَه؛ فإنه طول ركناً قابلاً للتطويل، وإضمارهُ أن يُلحَقَ غيرُ ضائر.
والثاني: يُبطلُ صلاته؛ فإنه في انتظاره صرف جزءاً من صلاته إلى غرض مخلوقٍ؛ فكان ذلك منافياً لما أُمر به المصلِّي من تجريد القصد إلى عبادة الله تعالى. وقد ذكرنا هذا في انتظار الإمام للمسبوقين من غير خوف وحاجة.
فإن قلنا: لا تبطل صلاةُ الإمام بانتظاره، فتصح صلاة الطائفة الثالثة أيضاً، وتعود فائدة القول إلى نهي الإمام عن هذا الانتظار، وتصح صلاة الطائفة الثالثة؛ فإنهم لم يأتهم فسادٌ من جهة الإمام، ولم يطرأ على صلاتهم إلا الانفراد، وقد تقدم أن انفراد المقتدي بعذر عن الإمام جائز، وإن لم يكن العذر خوفاً في حرب. والذي اتصف به هؤلاء لا ينحط عن عذرٍ في غير حالة الخوف.
وإن قلنا: تبطل صلاةُ الإمام بانتظاره في الركعة الثالثة، فأول ما نُفرِّعه أنه إذا قرأ الفاتحة، وأدى المقدارَ الذي لا يظهر أثر الانتظار فيه، ثم أخذ يطوّل قصداً إلى الانتظار، فإذ ذاك أتى بالانتظار المفسد على هذا الوجه، فأما مادام في قراءة الفاتحة والسورة، ولم يجاوز حدّ صلاته لو لم ينتظر، فإذا عزم قبل ظهور التطويل فعلاً على الانتظار، فهذا رجل علق نيته وقصده بما لو نَجَزَه أفسد صلاتَه.
وقد ذكرت ذلك مفصلاً في فصول النية، وأبلغت في البيان والكشف.
وعلى الجملة التعويل في ذلك على القصد؛ فإن الرجل لو طول صلاتَه قصداً، ولم يخطر له انتظار، وكان التطويل في ركن طويل لم يضر ذلك.
فإذا فسدت صلاةُ الإمام بسبب الانتظار المنوي، فإن علمت الطائفةُ الثالثةُ بطلانَ صلاته واقتدَوْا به، فصلاتهم باطلة، وإن لم يعلموا بطلان صلاته، فاقتداؤهم صحيح، وهو بمثابة الاقتداء بالجنب مع الجهل بجنابته وحدثه، ثم يطرأ على صلاتهم الانفراد بعد عقد القدوة.
1525- ويعترض في ذلك أمران:
أحدهما: أنهم انفردوا عن صلاةٍ باطلة في علم الله، وهذا فيه نظر.
وكذلك من اقتدى بجنب على جهل، ثم نوى الانفراد عنه، ثم تبين أخيراً حقيقة الحال.
وهذا التردد ينبني على أن حكم القدوة هل يثبت إذا كان الأمر هكذا؟ وفيه خلاف ذكرته في الجمعة إذا كان إمامها جنباً، وأدرك المسبوقُ الإمامَ في ركوع ركعة، وكان الإمام محدثاً.
ويجوز أن يقال: إذا منعنا المقتدي من الانفراد، فانفراده ببقية صلاته، والإمام جنب غير سائغ من قصد المقتدي، وإضماره مخالفة من يعتقده إماماً.
ثم كان شيخي يقول: إذا منعنا الإمام من انتظار الطائفة الثالثة، فلا نقيم لما يجري من العذر وزناً في جواز انفراد، القوم؛ فإن هذا على خلاف وضع الشرع، وفي هذا احتمال؛ فإنهم على الجملة معذورون، فلا يبعد أن يرتب أمره على معذورٍ في غير حالة الخوف، كما مضى ذلك مفصلاً في موضعه. وإن حكمنا بأن صلاة الطائفة الثالثة تصح أيضاً على التخريج، فنرد التفريع في المنع من الانتظار إلى الركعة الرابعة، ثم يتفرع على ذلك ما تقدم على النص في الركعة الثالثة.
الفصل الرابع
في حكم سجود السهو
1526- فنذكر حكمَ الطائفة الأولى: فكل سهو وقع للإمام في الركعة الأولى؛ فإنه يَلْحق الطائفةَ الأولى و ما يصدر منهم في تلك الركعة، فالإمام يحمله عنهم، وما وقع في الركعة الثانية بعد مفارقة الطائفة، فلا يتعدى الحكمُ الساهيَ؛ فإنّ سهوَ الإمام لم يلحقهم، وإن سهَوْا، لم يتحمل الإمام عنهم، ثم حكم الركعة الأولى يمتد ماداموا في السجدة الأخيرة.
فإذا رفع الإمامُ رأسه ورفع القومُ رؤوسهم، فلو فرض سهوٌ قبل الانتهاء إلى حد الاعتدال، فهل يكون ذلك على حكم القدوة؟ فعلى وجهين ذكرهما الإمام رضي الله عنه:
أحدهما: أن حكم القدوة باق إلى الاعتدال؛ فإن القوم والإمام مصطحبون.
والثاني: حكم القدوة ينقطع برفع الرأس من السجود؛ فإن الركعة تنتهي بمفارقة السجدة الأخيرة.
ثم كان يقول: إذا قلنا رفْعُ الرأس يقطع القدوة، فلو رفع الإمامُ رأسه، وهم بعدُ في السجود، فقد انقطعت القدوة، فلو فرض سهوٌ في هذه الحالة منه أو منهم، فلا يكون على حكم القدوة؛ فإن القوم وإن كانوا في السجود، فقد فارقهم الإمام، وإذا خرج الإمام عن حكم الإمامة، فقد انقطعت القدوة، والأمر على ما قال.
ولم يختلف العلماء في أن الإمام في صلاة الرفاهية إذا سلّم، فسها المأموم قبل أن يسلّم، لم يحمل الإمام ذلك السهوَ؛ فإنه سها ولا إمام له.
1527- ومما يتعلق بهذه المسألة إذا قلنا: لا تنقطع القدوة قبل الاعتدال، فلا يبعدُ على هذا القول أن يقال: إنما ينفرد القوم إذا ركعوا وتركوا الإمام قائماً؛ فإنهم إنما يفارقونه حساً إذ ذاك، وهذا احتمالٌ، والذي نقلته ما تقدم.
فهذا تفصيل القول في الطائفة الأولى.
1528- فأما الطائفة الثانية، فلا يخفى تفصيل السهو في الركعة الأولى من صلاة الطائفة الثانية.
فأما إذا قام القوم إلى ركعتهم الثانية والإمام في التشهد ينتظرهم، فلو فرض سهوٌ من القوم في الركعة الثانية، أو من الإمام في التشهد، فهل يثبت حكم القدوة في ذلك السهو؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت؛ فإنهم ليسوا مقتدين فيها، بل هم منفردون في الحقيقة.
والثاني: يثبت لهم حكم القدوة؛ فإنهم ما فارقوا الإمام مفارقة تامة، بل هو ينتظر القوم في التشهد، وهم صائرون إليه، فحكم القدوة شامل.
وهذان الوجهان يجريان في المزحوم إذا تخلف، وأمرناه بأن يقتفي الإمامَ، فلو سها، أو سها الإمام، فهل يثبت حكم القدوة في ذلك السهو؟ فعلى ما ذكرناه.
وذكر بعض المصنفين أن من كان منفرداً في ابتداء صلاته، ثم وجد جماعةً، فاقتدى في أثناء الصلاة بإمامهم، وجوزنا ذلك على أحد القولين، فالسهو الذي جرى في حالة الانفراد هل يرتفع بالقدوة؟ فعلى وجهين.
وهذا بعيد جداً، والوجه القطع بأن حكم السهو لا يرتفع بالقدوة اللاحقة؛ فإنه لما سها كان منفرداً، لا يخطر له أمر القدوة، وإنما جرت القدوة من بعدُ متجدِّدةً، ولا انعطاف لها على الانفراد المتقدم.
1529- ومما يتعلق عندي بهذا الفصل أنا إذا جعلنا الطائفةَ الثانية في الركعة الثانية في حكم المنفردين في السهو، فإذا عادوا إلى التشهد وكان الإمام ينتظرهم، فهل يحتاجون إلى نية القدوة؟ أم هل يعودون إلى القدوة أم لا؟
يستحيل أن يقال: لا يعودون إلى القدوة؛ إذ لو كانوا كذلك لما كان في انتظار الإمام إياهم فائدة ومعنى، وإذا كانوا يعودون، وقد انفردوا على الوجه الذي نفرع عليه في حكم السهو، ففي عود حكم القدوة من غير نية القدوة بعد الانفراد بُعد، ولم أر أحداً من أصحابنا اشترط نية القدوة في العود إلى التشهد.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأصح أن حكم القدوة لا يرتفع بانفرادهم من حيث الصورة. والله أعلم.
فهذا تمام القول في صلاة ذات الرقاع.
1530- وقد اختلفوا في اشتقاق ذات الرقاع، فمنهم من قال: كان القتال في سفح جبل فيه جُدَدٌ بيضٌ وحمر كأنها رقاع. ومنهم من قال: كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاةٌ قد لفّوا على أرجلهم الرقاعَ.
فرع:
1531- إذا كان الإمام والقوم في دار إقامة، فمست الحاجةُ يوم الجمعة إلى إقامة صلاة الجمعة على هيئة صلاة ذات الرقاع: من تفريق القوم فرقتين، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من أجراها لمكان الخوف مجرى صلاةٍ ثنائية مقصورة، أو غير مقصورة، كصلاة الصبح، والإمام يكون في انتظار الطائفة الثانية في صورة منفرد، إلى أن تلحقه الطائفة المنتظرة، وهذا على صورة الانفضاض، والطائفة الأولى انفردوا بركعة والإمام في الصلاة، وهذا غيرُ سائغ مع زوال المعاذير، ولكن احتملنا ذلك لمكان الخوف.
1532- ومنهم من لم يصحح صلاة الجمعة بسبب الخوف إلا على قياس تصحيحها في حالة الاختيار؛ فإنها صلاة اختُصَّت بشرائطَ في رعاية الجماعة والعدد المخصوص، وكمال الصفات؛ فوجود الخوف وعدمه فيها بمثابة واحدة، وقياس الانفضاض وما فيه قد مضى، فلنجر ذلك القياس بعينه، وإذا أجريناه، فينبغي ألاّ تصحَّ جمعةُ الطائفة الأولى؛ فإنهم وإن صلوا ركعةً في جماعة، فقد انفردوا في الركعة الثانية، ولو فرض انفراد قومٍ بركعة حالة الاختيار قصداً، فلا مساغ لهذا.
1533- وفي كلام أئمة العراق ما يشير إلى ترددٍ في ذلك في حق المختارين إذا صلوا ركعة مع الإمامِ، تخريجاً على الانفضاض، وهذا بعيدٌ جداً، فأما الخلاف في أن الخوف هل يُسوِّغ هذا، فمحتمل، وأما تجويز ذلك في حالة الاختيار وتخريجه على الانفضاض، فلا وجه له؛ فإن قاعدة الانفضاض على التردد في صحة صلاة الإمام ومن بقي معه، إن نقصوا عن العدد المشروط؛ من حيث إنهم ما انتسبوا إلى أمر فيما جرى. أما تسويغ انفراد طائفةٍ بركعة قصداً، تخريجاً على الانفضاض، فبعيدٌ، لا أصل له.
فصل:
1534- ذكر الشافعي صلاةَ شدة الخوف، ثم ذكر بعدها صلاةَ عُسفان، وينبغي أن يكون فرض الصورة حيث يكون العدوّ في وِجاه القبلة، ولم ينته الأمر إلى الالتحام وشدة القتال والخوف، وقد رُوي أن النبي عليه السلام صلى بعُسفان في مثل الحال التي وصفناها، وصلى معه جميعُ الأصحاب دفعة واحدة، ووقفوا صفين، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى، بقي الصف الأول قائمين ينتظرون ما يكون من العدوّ، وتخلّفوا في السجدتين، وسجدَ وراءهم أهلُ الصف الثاني، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وانتصب الصف الثاني، سجد الحارسون، ولحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما انتهى عليه السلام إلى السجود في الركعة الثانية سجد من في الصف الأول، وحرس من في الصف الثاني، فلما قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتشهد، سجد الحارسون من الصف الثاني، وتناوب الصفان في الحراسة كما رويناه.
فهذه صفة صلاته عليه السلام، وتمام النقل فيه أن خالد بن الوليد كان بعدُ مع الكفار، لم يسلم، وكانوا في قُبالة القبلة، فلما دخل وقت العصر تناجَوْا وقالوا: قد دخل عليهم وقت صلاة هي أعز عليهم من أبدانهم وأرواحهم، فإذا شرعوا فيها، حملنا عليهم حملة رجل، فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أضمروه، فصلى مع أصحابه كما وصفناه.
ثم المنقول تناوب القوم في الحراسة، فلو قام بالحراسة في الركعتين جميعاًً طائفة واحدة، وتخلفت فيهما، ثم لحقت، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: المنع؛ فإن المتبع في تغايير وضع الصلاة النصوص، وما يصح النقل فيه، وقد صحت الحراسةُ على التناوب، وفي ذلك معنى معقول؛ فإن في الحراسة تخلفاً عن الإمام بأركانٍ، فإذا تناوب فيها القوم، قلّ التخلفُ من كل فريق، وإذا تولاها قوم في الركعتين جميعاًً، كثر تخلفهم، وكانوا خارجين عن اتباع الشارع.
1535- ومن أئمتنا من جوز ذلك من طائفة واحدة وقال: تصوير ذلك في ركعة واحدةٍ تخلف لا يجوز مثله في حالة الاختيار، وفيه زيادة على الأمر الذي يحتمله، ولو ساغت الزيادة، لم ينضبط منتهاها، وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ على التناوب؛ لأن الصحابة كانوا لا يحتملون الإخلال برعاية الكمال في الصلاة، وإقامة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رعى التَّسوية والنَّصفة فيهم، فإذا رضي قومٌ فينا باحتمال النقيصة، وإيثار الذب عن الآخرين في جميع الصلاة، لم يمتنع.
ولم يختلف أئمتنا في أن قوماً في الصف الأول لو حرسوا في الركعة الأولى، ثم لحقوا، ثم حرس في الركعة الثانية آخرون في الصف الأول أيضاً، ولم يحرس في الصف الثاني أحد، فاختص بالتناوب مخصوصون، جاز. وقد لا يصلح لذلك إلا مخصوصون في الجند. فهذا المقدار لا خلاف في احتماله وجوازه.
1536- ولو حرس في الركعة الأولى مَنْ في الصف الثاني، ثم حرس في الثانية من في الصف الأول، وكانت الحراسةُ واقعة على وجه يُفيد ويحصِّل الغرض، فقد كان شيخي يقطع بجواز هذا، وإن كان الأحزم حراسة الصف الأول. قال الشافعي: لو تقدم مَنْ في الصف الثاني إلى الصف الأول في الركعة الثانية، وتأخر مَنْ في الصف الأول، وقلّت أفعالُهم، جاز، وكان حسناً؛ فإنه كلما تقدم الحارسون كان الإمام أَصْون، وكانوا جُنةً لمن وراءهم، فهذا تمام المراد في ذلك.
وكنا فرضنا في صلاة ذات الرقاع إقامةَ الصلاة على تلك الهيئة حالة الاختيار، وأجرينا فيه تفصيل المذهب.
ولو فرض فارض صلاةَ عُسفان في الاختيار، ففيها تخلّف عن الإمام بأركان من غير ضرورة، وهذا لا مساغ له مع استدامة نيّة القدوة قولاً واحداً، كما تمهد فيما سبق.
1537- ثم ذكر الشافعي صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن النخل: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين وتحلّل، وتحللوا، ثم صلى بطائفةٍ أخرى ركعتين، كانتا له نافلة، ولهم فريضة. ولا اختصاص لجواز ذلك بحالة الخوف أصلاً؛ فإنه لو فرض في حالة الاختيار، جاز؛ إذ منتهاه اقتداء مفترض بمتنفل، وهو جائز عندنا.
فصل:
1538- تردد نص الشافعي في وجوب رفع السلاح في الصلاة المقامة في حالة الخوف، وهذا يجري في صلاة عُسفان جرياناً ظاهراً، وفي صلاة ذات الرقاع؛ فإن الطائفة المصلّية وإن كانت متنحية، فهي في معرض الخوف من حيث يُفرض جولان الفرسان، وانتهاء الأمر إلى المطاردة في أثناء الصلاة. ثم تردد أئمة المذهب: فقال قائلون: في المسألة قولان:
أحدهما: أن ذلك يجب إقامةً للحَزْم، ويشهد له نص القرآن؛ فإنه تعالى قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ثم أكد الأمر بالتكرير.
والثاني: يستحب ويتأكد ولا يجب.
ومن الأئمة من قطع القول بوجوب حمل السلاح في الصلاة، ومنهم من قطع بالاستحباب ونَفْي الإيجاب.
والذي لابد من التنبه له أنهم لو بعّدوا الأسلحة عن أنفسهم، وظهر بهذا السبب مخالفةُ الحزم، والتعرضُ للهلاك، فيجب منعُ هذا قطعاً؛ فإنه في صورة الاستسلام للكفار.
وإن وضع الواضع سيفَه بين يديه، إذا لم يكن في حال مطاردةٍ، ولم يكن مخالفاً للحزم-ومَدُّ اليد إلى السيف الموضوع على الأرض في اليُسر كمدّ اليد إليه، وهو محمول متقلّد- فلست أرى-لذلك- احتمالَ التردد في الجواز؛ بل الوجه القطع به، وإذا كان يُقطع به في غير الصلاة، فلأن يُقطعَ بجوازه في الصلاة أولى، وأحرى.
وإن لم يظهر بتنحية السلاح إمكانُ خلل، ولكن لا يؤمن أيضاً إفضاءُ مثل تلك التنحية إلى خلل، فلعل التردّدَ واختلافَ النص في هذا.
ولكن الأصحاب ذكروا حملَ السلاح في عينه في الصلاة، وأنا أرى الوضع بين اليدين في حكم رفع السلاح وحملِه. والله أعلم.
ثم قال الأئمة: من كان واقفاً وسط الصف، فلا ينبغي أن يحمل ما يتأذى به من يجاوره كالقوس والجَعْبة المتجافية، فإن كان معه شيء من هذا، فليقف حاشية الصف.
1539- ثم لو وضع السلاحَ، ورأينا رفعَه واجباً، لم يؤثِّر ذلك في بطلان الصلاة عندي؛ فإنه أمر يحرم على الجملة في الصلاة، وفي غير الصلاة، فلا اختصاص له بالصلاة، وهو على ما أشرنا إليه قريب الشبه بإقامة الصلاة في الدار المغصوبة.
ويحتمل أن يقال: إذا ترك الحزمَ وإنما أُثبت تغييرُ الصلاة حَزْماً على وجه لا ينخرم عليه النظر في مكيدة الحرب، وإذا خالف الرجل الحزم، كان كما لو صلى صلاتَه وهو مختار، وتفصيل المختار واضح، وقد ذكرناه قبلُ.
فصل:
1540- كل ما ذكرناه في غير شدة الخوف، وفي كل حالة يُعتبر ما يليق بها، ويوافقها في التغايير، مع اتباع التصوير كما تقدم. فلو صلى الإمام صلاة عُسفان، حيث لا يوافق الحال، فهو كما لو أقامها في حالة الاختيار.
1541- فأما إذا اشتد الخوف والتحم الفريقان، وكان لا يتأتى التفريق، ولا صلاة عسفان، ولابس الجند كلُّهم القتالَ والمطاردة، فمذهب الشافعي أنهم لا يُخرجون الصلاة عن الوقت بسبب الخوف أصلاً، بل يقيمون الصلاة مُشاةً وركبانا مطارِدين، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
والأصل في الباب قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال ابن عمر في تفسير الآية: "مستقبلي القبلة وغير مستقبليها".
والأصل الذي لا خلاف فيه أن الصلاة تقام راكباً وماشياً، ويسوغ تركُ الاستقبال في ضرورة القتال وفاقاً، وكذلك يجوز الاقتصار على الإيماء في الركوع والسجود، كما ذكرناه في إقامة النافلة على الراحلة، ومن ضرورة إقامة الصلاة راكباً الإيماء، والماشي المقاتل لو تمم السجودَ في المعترك، كان متهدِّفاً لأسلحة الكفار معرِّضاً نفسه للهلاك.
ونحن نذكر على الاتصال بذلك أمرين:
أحدهما: كثرة الأفعال في الصلاة.
والثاني: تلطخ الأسلحة بالدم.
فأما القول في الأفعال، فلا شك أن الفعل إذا كثر من غير حاجة إليه، فهو مبطلٌ للصلاة، وفي معناه الزَّعقةُ والصيحة، فلا حاجة إليها، والكمِيُّ المقنع السَّكُوت أَهْيبُ في نفوس الأقران. ولو كثرت أفعالُه في قتاله، وكان يوالي بين الضربات في أقران وأشخاص، فالذي كان يقطع به شيخي أن ذلك لا يقدح في الصلاة، وقياسه بيّن، وليس احتمال ذلك لأجل شدة الخوف بأشد من احتمال الاستدبار، والاكتفاء بالإيماء، وكثرة الضربات في الأقران معتادة، ليست نادرة عند التحام الفئتين.
1542- وذكر صاحب التقريب نصوصاً للشافعي دالة على أن كثرة الأفعال تبطل، وتوجب قضاء الصلاة، ونقل من النص توجيهَ ذلك، وذاك أنه قال: إقامةُ الفريضة راكباً وماشياً ومستدبراً من الرّخص الظاهرة، والقدْر الذي أشعر به نصُّ القرآن الركوب والمشي، قال الله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وانضم إلى ذلك تفسير ابن عمر حيث قال: "مستقبلي القبلة وغير مستقبليها"، فالزيادة على هذا مجاوزةٌ للنص في محل لا مجال للقياس فيه.
وذكر العراقيون هذا قولاً للشافعي، كما ذكره صاحب التقريب، وذكره الشيخ أبو علي في الشرح.
1543- وسأذكر في ذلك قولاً الآن قاله الأئمة في التفريع على ظاهر المذهب، وهو أن كثرة الأفعال في الأشخاص والأقران المتعددين لا يضر، ولو ردد ذلك الضربَ في قِرن واحد ثلاث مرات، فقد بلغ الفعل في محل واحد حدَّ الكثرة وِلاءً، وهذا مبطل للصلاة؛ فإنَّ ذلك في المحل الواحد نادر، فلا يعد مما يظهر مسيس الحاجة إليه.
وأنا أقول: قد ذكر صاحب التقريب في كتاب الطهارة تقاسيم حسنة في الأعذار التي تُسقط قضاء الصلاة، والتي لا تُسقط، والتي يختلف القول فيها، وقد سقتها أحسن سياقة، وغرضي الآن منها أني أجريتُ في التقاسيم قواعدَ هي المرعية، وهي النظر إلى انقسام الأعذار إلى ما يعم، وإلى ما يندر فيدوم، وإلى ما يندر ولا يدوم، ثم العذر العام، والنادر الدائم، يتضمنان إسقاطَ القضاء، والعذر النادر الذي لا يدوم ينقسم القول فيه إلى اختلال لا بدل فيه، وإلى خلل فيه بدل.
ثم قال صاحب التقريب: صلاة شدة الخوف سببها عذر نادر؛ فإن انتهاء الأمر إلى الحالة المحوجة إلى إقامة الصلاة راكباً متردداً مستدبراً نادرٌ، ثم هذا لا يدوم، بل ينتجز الأمر على القرب، ولكن مع ندور ذلك تعلقت به رخصةٌ ظاهرة، وهي صحة الصلاة من غير قضاء. هذا كلامه.
وأنا أقول: لمن كان يعد القتالَ من الأعذار النادرة، فليس كذلك؛ فإن القتال في حق المقاتلة ليس نادراً، وإن كان يعدّ حالةَ التفاف الصفوف والتحام الفريقين نادرةً في القتال، فليس كذلك؛ فإن هذا كثير الوقوع، وهو عقبى كل قتال في الغالب.
فالترتيب المرضيّ في ذلك أن يُعتمدَ النص، ثم يتلقى من فحواه ما ينبغي أولاً، فالركوب والمشي منصوصٌ عليه، ومما يفهم من فحوى النص ترك الاستقبال؛ فإن الراكب المقاتل المتردّد على حسب ما يقتضيه القتال، لا يتصور أن يلزم الاستداد في جهة واحدة، وهذا يعضده قولُ ابن عمر رضي الله عنه.
والاقتصار على الإيماء مستفاد من النص أيضاً؛ فإن هيئة الركوب تقتضيه، وكثرة الضربات في مقتولين وأقرانٍ في الطراد، أو كثرة الأفعال الدافعة لائقةٌ بالقتال، قريبةُ المأخذ من الإيماء المستفاد من الركوب؛ فإن الاختيار إنما يفرض والصفوف قارّةٌ، وإذا التفَّت، فلابد من توالي الضرب، أو الاتِّقاء بالحَجَفة والتُّرس.
فهذا ينبغي أن يكون محتملاً، وهو الذي قطع به شيخي.
وقد نقل صاحب التقريب، والعراقيون، وأبو علي النصَّ، وهو بعيد؛ فإنه من مُتَضمن القتال في غالب الحال عند شدة الخوف.
فأما ترديد الضرب في قِرْن واحد، فقد عُد من النادر. وفيه نظر؛ فإنه قد يعم من جهة أن القِرْنَ قد يتقي، فتخطئه الضربة، وتمَسُّ الحاجة إلى أخرى، وقد لا تؤثر الضربات لمكان الدروع وغيرها من الملابس الواقية، فالحكم بأن الغالب أن تُريح الضربة والضربات غير ظاهر، وكلام الصيدلاني مصرّح في فحواه، بأن الحاجة إذا مست إلى ترديد الضربة في مضروب واحد، لم تبطل الصلاة؛ فإنه قال لما ذكر هذه المسألة: المعتبر في ذلك كله الحاجة.
ولا وجه عندي إلا هذا.
1544- والقول القريب فيه أنا حكينا قولاً في كتاب الطهارة: أن من صلى كما أمرناه وإن كانت صلاته مُختلّة بسبب عُذر نادر لا يدوم، فلا قضاء عليه، وهذا مذهب المزني، فينبغي أن يُتَّخذ هذا أصلاً، ويُرتّب عليه جريان الضربات في مضروب واحد، وهو أولى بإسقاط القضاء؛ لما أشرت إليه.
فأما الأفعال التي لا حاجة إليها، فلا شك أنها إذا كثرت أبطلت.
ومما يليق بتحقيق القول في ذلك أن المصلي لو لم يمر به قِرْن، ولكن كان يقتضي ترتيبُ القتال أن يُقصِد وإن لم يُقصَد، فهذا أراه من الأفعال الضرورية؛ فإن من لا يُقْصِد في القتال يُهْتَضم ويُتعسّى في التفاف الصفوف، وهذا واضح إن شاء الله.
فهذا ترتيب القول في الأفعال إذا كثرت أو قلت.
1545- فأما القول في تلطخ السلاح بالدم أو تضمخ المصلي نفسِه، فالذي ذكره الأئمة أنه إذا تلطخ السيفُ بالدم، فإن نحاه على القرب بأن يلقيه، أو يردّه في قرب من زمان الإلقاء إلى قرابه تحت ركابه، فهذا لا يضر، وإن أمسكه ولم يفارقْه، بطلت صلاته.
وهذا عندي فيه نظر؛ فإنَّ تلطخ السلاح بالدم والطعن على الوِلاء في شدة الخوف من الأمور العامة في القتال، وقد ثبت أن ما يقتضيه القتال محتمل، فليلحق هذا به، ولنقلْ: نجاسةُ المستحاضة إذا لم تُبطل الصلاة للبلوى، فنجاسة السلاح أولى؛ فإنها في حق من يلقَى قتالاً ضرورية، وتكليفُ المقاتل تنحيةَ السلاح بعيد، والوجه أن نقول فيمن صلى في حُشٍّ وموضعٍ نجس، وكان محبوساً فيه: إن القضاء لا يجب، وهو مذهب المزني، والقول الظاهر فيه القضاءُ. وفي تنجيس سلاح المقاتل قولان مبنيان، وهذه الصورة أولى بنفي القضاء، لإلحاق الشرع القتالَ بالأعذار المسقطة لقضاء الصلاة، وتنزيله إياه منزلة عذر المستحاضة.
والذي يحقق هذا أن الريح إذا طيرت نجاسةً وأوقعتها على ثوب المصلي، وتمكن المصلي من نفضها-وهي يابسة- على القُرب، ففعل، لم تبطل صلاته أصلاً، ولو تعاطى نجاسةً بيده قصداً ورماها، بطلت صلاته.
فلو كان قياس الاختيار مرعياً في حق الغازي، للزم أن يقال: إذا تعاطى ضرباً، ونحَّى سيفَه على القرب، بطلت صلاته؛ لأنه اختار ذلك.
فإن قيل: لابد من ذلك في القتال. قلنا: ولابد من استصحاب السيف في شدة الخوف، نعم: لست أنكر أن الحاجة إذا لم تَمَس، لزم تنحيةُ السيف بردِّها إلى القراب تحت الركاب، ولو كان متقلداً سيفاً، فردَّه إلى الغِمد، فهو حامل للنجاسة لا محالة. فهذا بيان ما أردناه في ذلك.
فصل:
1546- نقل المزني عن الشافعي نصين في صورتين فنذكرهما، ثم نذكر تفصيل القول فيهما إن شاء الله، قال الشافعي: "إذا كان يصلي الرجل مطمئناً على الأرض، فطرأ الخوف، ومست الحاجة إلى الركوب، فركب، لم تصح الصلاة، ولزمت الإعادة"، وقال: "لو كان يصلي في شدة الخوف راكباً فأمن، ونزل وأدى بقية الصلاة آمناً، صحت هذه الصلاة".
فحسب المزني أن سبب الفرق بين المسألتين أن فعل الراكب يكثر، وفعل النازل يقل، ثم أخذ يعترض ويقول: "ربَّ فارس ماهر يقلُّ فعله في ركوبه، وربَّ أخرقَ يكثر فعله في نزوله".
1547- ونحن نبدأ بالمسألة الأولى. وهي أن يطرأ الخوف، فيركب.
فالنص ما حكيناه، وقد اختلف طرقُ الأئمة فيه: فقال بعضهم: إن كثر العمل في الركوب، بطلت الصلاة، ونصُّ الشافعي محمول على هذه الصورة، وإن قل العمل، لم تبطل الصلاة.
وهذا ليس بشيء؛ فإن كثرةَ العمل بسبب الخوف محتملة على قاعدة المذهب، نعم، إن كثُر العمل من غير حاجة، فتبطل الصلاة.
وقال بعض الأصحاب: سبب بطلان الصلاة أنه لما شرع في الصلاة، التزم تمامَ الصلاة على شرائطها، فإذا ركب، فهذا خلاف ما التزمه، فبطلت صلاتُه، ولا فرق بين أن يكثر عمله وبين أن يقل، فإن الركوب وإن قلّ العملُ فيه مخالف لوضع الصلاة المفروضة وقد التزمها تامة، وهذا ليس بشيء أيضاً؛ فإن من تحرم بالصلاة قائماً، ثم طرأت ضرورة أحوجته إلى القعود والإيماء؛ فإنه يبني على صلاته، فطَرَيَانُ الخوف بهذه المثابة. والله أعلم.
والسر في هذا أن الالتزام إنما يؤثر فيما يتعلق بالرخص التي تجرى تخفيفاً مع الاختيار والتمكن، كرخصة القصر، فلا جرم لو نوى الإتمام، لم يقصر. فأما ما يتعلق بالضروريات، فتقدُّم الالتزام عند عقد الصلاة لا يؤثر فيه، كما ضربناه مثلاً من طريان القعود بسبب المرض.
5148- فالطريقةُ المرضية ما ذكره الصيدلاني، فقال: "إذا طرأ الخوف، ولم يكن من الركوب، بدّ، ركب، وبنى على صلاته، ولا إعادة قطعاً، والنص محمول على ما إذا ركب قبل تحقق الضرورة والحاجة".
ولا شك أن المذهب ما ذكره الصيدلاني، ولكن ما ذكر في تأويل النص فيه بُعد.
فهذا تفصيل القول فيه إذا طرأ الخوف فركب.
1549- فأما إذا أمن وكان راكباً في صلاته، فنزل، فالنص أنّه يبني على صلاته، وهذا منقاس ظاهر، ووجه النظر فيه أنه إن قل فعله في نزوله؛ فإنه يبني ولا إشكال، وإن أكثر الفعلَ من غير حاجة، فلا شك في بطلان الصلاة، وإن لم يُحسن النزول إلا بإكثار الأفعال، ففي بطلان صلاته وجهان في بعض التصانيف:
أحدهما: أنها تبطل؛ فان هذه الأفعال الكثيرة جرت في حالة الأمن، فأبطلت.
والثاني: لا تبطل؛ لأن هذه الأفعال من آثار ركوبه؛ إذ لولاه، لما احتاج إلى النزول، فهي ملحقة بما جرى في حالة الضرورة، وإن وقعت في حالة الأمن.
والمسألة محتملة جداً.
فرع:
1550- ذكر بعض أئمتنا أن طائفةً لو كانوا جلسوا في مكمن، فدخل وقتُ الصلاة، وكانت الحال تقتضي أن يصلوا قعوداً، ولو قاموا لبَدَوْا للعدو وفسد التدبير؛ فإنهم يصلون قعوداً وتصح صلاتهم؛ فإن ذلك ليس مما يندر الافتقار إليه في مكائد الحرب. وهو دون إيماء الراكب والماشي.