فصل: باب: الاختلاف في المهر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الاختلاف في المهر:

إذا اختلف الزوجان في المقدار المسمى في النكاح، فقال الزوج: "نكحتك بألف " فقالت: بل بألفين، أو اختلف في جنس الصداق، أو في صفته، كما صورنا ذلك في اختلاف المتبايعين، فالزوجان يتحالفان، ثم تحالفهما لا يفضي إلى انفساخ النكاح، ولكن التسمية ترتد وتزول، والرجوع إلى مهر المثل؛ فإنه إذا عسر المسمى بسبب جهالةٍ، فلا وجه إلا الرجوع إلى مهر المثل، والجهالة متحققة ثابتة بالتحالف.
ثم الذي ذهب إليه الأصحاب بأجمعهم: أنا لا ننظر إلى المقدار الذي ادعته منسوباً إلى مهر المثل، ولا نفرق بين أن يكون مثلَه أو أقلَّ أو أكثر.
وحكى العراقيون بعد اختيارهم ما ذكرناه وجها بعيداً عن ابن خَيْران، أنه كان يقول: إن كان ما ادعته أقلَّ من مهر المثل، فليس لها إلا ما ادعته، مثل أن يقول الزوج: "نكحتك بخمسمائة"، وتقول الزوجة: "بل نكحتني بألف"، وكان مهر مثلها ألفاً وخمسمائة؛ فالذي ذهب إليه الأصحاب: أنا نوجب لها ألفاً وخمسمائة، وقال ابن خَيْران: ليس لها إلا الألفُ؛ فإنها لم تدّع أكثر منه.
وهذا ضعيف مزيف؛ فإنها ادعت الألف عن جهة التسمية، وقد حكمنا بانقطاع التسمية، ورددناها إلى مهر المثل عن جهة أخرى، لم تدع منها شيئاً، ثم يقال له: إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن، فادعى البائع أكثر مما اعترف به المشتري، ولكن كان ما ادعاه البائع أقل من قيمة المبيع، فماذا تقول؟ فإن قال: يرجع البائع إلى قيمة المبيع التالف في يد المشتري، فكيف يفرق بين هذا وبين ما ذكره في المهر؟ وإن طرد خلافه في مسألة البيع، كان على نهاية البعد.
ثم قال ابن خَيْران: إذا أصدق امرأته ألفاً، ولم يختلفا فيه، ولكن فسد الصداق بشرطٍ، ولزم الرجوعُ إلى مهر المثل، وكان الألف أقلَّ من مهر المثل، فليس لها إلا الألف من جهة رضاها به، كما ذكره في التحالف، وهذا قول فاسد، لم يرتضه أحد من الأصحاب.
ولو فرض الاختلاف بين الزوجين بعد ارتفاع النكاح، فهو كما لو فرض في حالة قيام النكاح إذا كان المتداعي بالمهر قائماً، وبيان ذلك: أنه إذا طلقها بعد المسيس، وما كان أقبضها المهر، فاختلفا بعد البينونة؛ يتحالفان، والرجوعُ إلى مهر المثل.
وإذا كان الطلاق قبل المسيس فيتحالفان، والرجوع إلى نصف مهر المثل.
8485- وذكر الأصحاب صورة في الاختلاف، نحكيها ونذكر ما فيها، فإذا ادعت المرأة أن الزوج أصدقها ألفَ درهم، وقال الزوج: جرى النكاح خالياً عن ذكر المهر، ولم يدّع التفويض، وقد ذكرنا في صورة التفويض، وبيان ما ليس منها أن المرأة إذا لم تصرح بالرضا بترك المهر، واتفق جريان العقد من الولي خالياً عن ذكر المهر؛ فالرجوع إلى مهر المثل.
فإذا تبين هذا، فكأن الزوج ادعى مهر المثل، وادعت المرأة ألفاً من جهة التسمية، وإنما يحسن وقع هذه المسألة إذا كان الألف أكثرَ من مهر المثل. قال القاضي: يتحالفان، وينزل هذا منزلةَ ما لو ادعت المرأة ألفاً، وادعى الزوج ثمانمائة من جهة التسمية.
وهذه المسألة محتملة، تردد فيها المحققون. ووجه الاحتمال فيها يظهر بالتوجيه. أما وجه ما ذكره القاضي، فبيّنٌ؛ فإن الزوج ادعى صيغةً في العقد متضمنها إثباتُ مهر المثل، وهو دون ما ادعت المرأة، هذا وجه. ويجوز أن يقال: هذا اختلافٌ راجع إلى النفي والإثبات، فالمرأة ادعت التسمية، والزوج أباها أصلاً، فيتجه أن نقول: القول قول النافي مع يمينه، فإذا ثبت النفي، ولم تحلف الزوجة، رجعنا إلى مهر المثل. وفائدة هذا ألا يجري التحالف من الجانبين.
8486- ثم قال الشافعي في تحالف الزوجين: "أبدأ في الزوج بالتحليف، وقال في البيع: أبدأ بجانب البائع"، والزوجُ في مقام المشتري؛ فالنصان مختلفان، والتصرف فيهما نقلاً وتخريجاً وفرقاً جرى مستقصى في باب التحالف من كتاب البيع.
8486/م- ولو اختلف الزوجان بعد انفساخ النكاح بسبب يقتضي ارتداد جملة الصداق، فلا يتصور التحالف؛ فإن فائدة التحالف التنازع في مقدارٍ من المهر، وقد ارتد كله، وهذا إذا تفاسخا، وما كان أقبضها الزوج الصداق.
فلو تنازعا في المقدار، فقال الزوج: "أصدقتك ألفين، وسقتهما إليك، فردَدتِ ألفاً لمّا انفسخ النكاح قبل المسيس". وقالت المرأة: "ما أصدقتني إلا ألفاً، فقبضتُه، ورددتُه"، فهذا ليس من الاختلاف الذي نحن فيه؛ فإن الاختلاف بين الزوجين إنما يفضي إلى التحالف إذا كنا نرجع إلى مهر المثل، ونترك التسمية، وهذا المعنى لا يتحقق في هذه المسألة، وقد سبق انفساخ النكاح. وحاصل قول الزوج يرجع إلى إقباضها ألفين، وهي تنكره، فالقول قولها. ولو كان الاختلاف على هذا الوجه مذكوراً في النكاح، لما كان اختلافاً يوجب التحالف، فإن الزوج ادّعى إلزام أكثر مما تدعيه المرأة.
هذا بيان القول في التحالف.
فصل:
قال: "وهكذا الزوج وأبو الصبية البكر... إلى آخره".
8487- ذكر الشافعي اختلاف الزوجين وتحالفهما، ثم عطف عليه اختلاف الزوج مع أبي الصبية، فاقتضى ترتيبُ الكلام تنزيلَ الأب مع الزوج منزلةَ الزوجة مع الزوج في التحالف، وموجبَ ذلك تحليفُ الأب، فنذكر ترتيب المذهب وطريق الأصحاب، ثم نرجع إلى السواد.
8488- فمن أصحابنا من ذكر وجهين في أن الأب هل يحلف عن طفله الموليِّ عليه فيما يتعلق بتصرف الولاية؟
ثم حاصل ما ذكره الأئمة ينحصر في مسلكين:
أحدهما: طرْد الوجهين في كل ما يتعلق بحظ الطفل، ويندرج تحت ولاية الولي، من غير فرق بين أن تكون الخصومة متعلقة بتصرف أنشأه الولي، وبين ألاّ تكون كذلك.
وبيان القسمين: أن من أتلف مالاً من أموال الطفل، ثم أنكر، فللولي أن يحلّفه إن لم يجد بيِّنةً، فإن نكل عن اليمين، ففي رد اليمين على الأب وجهان. وكذلك القول في كل ما يضاهي ذلك.
وسبب طَرْد الخلاف يتبين بالتوجيه، فمن أبى ذلك، احتج بأن الأيْمان لا يتطرق إليها إمكان النيابة، وسبب ذلك أن الحالف متعرض للحِنث والمأثم لو كذب، ولا يليق بمناصب النيابة قيامُ الغير مقام الغير في التعرض للحرج، بل حكمة الشرع في اختصاص صاحب الواقعة بهذا المأثم. وهذا في مسلكه يضاهي العبادات البدنية؛ فإنها امتحان الأبدان بالمشاق، حتى تتهذب وتتعرض لثوابها، ولهذا لم يُحلَّف الوكيل بالخصومة، وإذا انتهت الخصومة إلى توجيه اليمين عليه رُد الأمر إلى تحليف الموكِّل.
ومن جوّز للأب أن يحلف، احتج بأنه في تصرفه مستبدٌّ غيرُ مستناب، فهو في حكم المالك المتصرف في حكم نفسه. وهذا فيه بعد؛ فإن الأب مستناب شرعاً، وإن كانت استنابته لا تتعلق بإذنٍ من آذن، وإذا كان يتصرف لغيره، فقد اتجه الفقه الذي ذكرناه في منع الحلف.
التفريع على الوجهين:
8489- إن حكمنا بأن الأب لا يحلف-وهو القياس- فالوجه: وقف الخصومة إلى أن يبلغ الصبي، فيتعرضَ لليمين حينئذ، وكان شيخي يقول على هذا: لا معنى لعرض اليمين على الخصم؛ فإن منتهى الخصومة قد يفضي إلى نكوله، ثم لا يُقضَى بنكوله. وذهب كثير من أئمتنا إلى أنه يحلّف الخصم؛ فإنه إذا رغب في اليمين، فلا امتناع في القضاء بيمينِ مَنْ خصمُه طفل، وإنما الامتناع في تحليفِ أو في إنابةِ غيره منابه، وهذا هو الذي لا يجوز غيره.
فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، توقفنا حينئذ.
وإن قلنا: يحلف الأب، فإن نكل الخصم، رددنا اليمين على الأب، فإن حلف، ثبت حق الطفل، وإن نكل، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أنا نقف الأمر إلى أن يبلغ الصبي، ولعله يحلف، ثم إن حلف استحق.
ومنهم من قال: تنفصل الخصومة بنكول الأب عن يمين الرد؛ فإنا لم نقمه في مقام الحالفين إلا على تقدير تنزيله منزلةَ من هو صاحب الواقعة، حتى كأنه المالك، وإليه الانتهاء، ولهذا نظير من طريق اللفظ، وهو أن الوارث إذا لم يحلف مع الشاهد الواحد في ادعاء دَيْنٍ أو عينٍ للمتوفى، فلو كان للميت غريم، فأراد أن يحلف إذا نكل الوارث؛ ففيه قولان، وترتيبٌ سيأتي مستقصى في كتاب القسامة، إن شاء الله عز وجل.
ولكن ليس ما نحن فيه مثلَ ما أردناه؛ فإن الوارث مالك التركة على الحقيقة، فلا يمتنع أن يؤثر نكولُه، والغريم له حق التعلّق بالتركة لو ثبتت، وفي مسألتنا الملك على الحقيقة للطفل.
فإن قيل: كيف يجري تحليف الأب لطفله، وشهادته له مردودة؟ قلنا: اليمين لا تؤخذ من مأخذ الشهادة؛ فإن الإنسان لا يشهد لنفسه، ويحلف فيما يتعلق به جلْباً ودفعاً، وهذا كله بيان طريقة واحدة.
8490- ومن أصحابنا من قال: إن كانت الخصومة متعلقةً بشيء ما أنشأه الوليُّ، فلا يحلف فيه الولي أصلاً، وإن تعلق بما أنشاه الولي، ففي تحليفه وجهان.
وهذا بمثابة ما لو باع الولي مال الطفل، أو زوّج الصغيرة، ثم وقع النزاع في صفة العقد، فيجري الخلاف في ذلك؛ فإن العقد وإن كان متعلقاً بحق الطفل، فمتعلق الدعوى من الأب أنه قيل له: "عقدت على الوجه المخصوص " وهذا صادر منه، فترتبط الخصومة به من هذا الوجه، فينفي أو يثبت، ويتجه التحليف في هذا المقام.
وقد ذهب كثير من الأئمة-أئمة العراق- إلى القطع بأنه يحلف، ومجرى التحالف بينه وبين الخصم فيما يتعلق بإنشاء الولي، ولم يذكروا في ذلك خلافاً، ووجه الطريقة: أن الأب لو أقر بعقدٍ عقده في استمرار الولاية قُبِل إقرارُه، وإذا كان مقبول الإقرار، لم يبعد أن يُحلَّف؛ فإن الحلف على الإنكار حريٌّ بالقبول ممن يُقبل منه الإقرار.
ثم هؤلاء طردوا الطريقة في القيّم والوصيّ والوكيلِ بالعقد، فإن كل واحد من هؤلاء لو أقر بأنه أنشأ العقد قُبِل إقراره، إذا كان إقراره في وقتٍ لو أنشأ ما أقرّ به، نفذ. وقد ذكرنا أن الإنكار يعاقب الإقرار.
فإذا كان من أهل الإقرار، وجب أن يكون إقراره ثابتاً، حتى يتعلق به ما يتعلق بالإنكار الصحيح.
والوكيل بالخصومة لا يحلف؛ من جهة أنه لو حلف، لكانت يمينه راجعة إلى حق غيره، وليس يُثبت أو ينفي شيئاً مضافاً إلى إنشائه، ولو تعلقت الدعوى بالوكيل فيما هو مطالب به بالعهدة، فلا شك أنه يحلف؛ من جهة أنه فيما يطالَب به مجيب عما يتعلق بخاصته.
فاعتماد هؤلاء في هذه الطريقة على ما ذكرناه من رجوع النزاع إلى ما ينشئه الولي، واعتماد الأولين في الطريقة الأولى على ما يتعلق بتصرف الولي واستبداده.
والطريقتان متباينتان.
8491- وذكر شيخي أخرى، وهي: أن الأبَ لا يُحلّف في شيء مما يتعلق بحق طفله، ولا فرق بين ما ينشئه الأب وبين ما لا يتعلق بإنشائه.
وإنما تردد الأصحاب في تحليفه في النكاح خاصة، واختلافهم مبنيٌّ على أنه هل يملك إسقاطَ المهر والعفو عنه؟ فإن قلنا: إنه يملك العفوَ، فاليمين معروضة عليه، فإنه على رتبة المالكين، و إن لم ننفّذ عفوه، فلا نحلفه، هذا بيان طرق الأصحاب.
8492- ثم إن قلنا: الأب لا يحلف فيما له الإنشاء فيه، فيقف الأمر حتى تبلغ الصبية، ثم نُدير النزاع بينها وبين الزوج، ونفرض الكلام في التنازع في مقدار المهر، فإذا قال الزوج: "نكحتك بألف " والزوجة تزعم أن أباها زوّجها بألفين، فالتحالف يجري الآية بين الزوج والزوجة، ثم المرأة تحلف يميناً تشتمل على الجزم ونفي العلم، إذا رأينا الاقتصار على يمين واحدة-كما- تقدم تفصيل ذلك في كتاب البيع، فتحلف إذاً: "بالله لا تعلم أن أباها زوّجها بألف، ولقد زوّجها بألفين"، ثم يمين نفي العلم إنما تتوجه إذا ادّعى العلم عليها.
8492/م- ولو مات الزوج والزوجة، ووقع الاختلاف بين ورثة الزوجين بعد موتهما، أو وقع الاختلاف بين ورثة أحدهما مع الآخر، فالتحالف يجري على الصورة التي ذكرناها بين الزوج والزوجة، فوارث الزوج يحلف: "لقد نكحها بألف، ولا أعلم أنه نكحها بألفين"، ووارث المرأة يحلف: "لقد نكحتْه بألفين، ولا أعلمها رضيت بألف "؛ فقد اشتمل حلف كل واحد منهما على إثبات أمر من الغير، ونفي أمر منه.
والقاعدة التي إليها الرجوع في أمثال هذا-وعليها تدور المسائل- أن كل يمين كان مقصودها الإثبات فهي على البتّ، سواء أثبت الحالف من نفسه أو أثبت من غيره، واليمين على النفي تتفرّع فإن تضمنت نفيَ شيء من الحالف، فهي على البت، وإن تضمنت نفيَ أمر من الغير، فهي على العلم.
والسبب الكلي فيه أن الإثبات لا يعسر الاطلاع عليه، سواء كان من الحالف أو من غيره، ولا يعسر الاطلاع على النفي الراجع على الحالف؛ فإن الإنسان يعلم ما ينفي عنه كما يعلم ما يُثبت في حقه، فأما النفي عن الغير، فالاطلاع عليه بعيد، والالتزام من غير ثَبَت لا وجه له.
وإذا حصلت اليمين على نفي العلم، ووقع الاكتفاء بها في قطع الخصومة، فإن هذا غاية الوسع والإمكان. وللخصومات وقفات في بعض الأطراف دون اليقين المطلوب في غيرها، ولكن إذا اضطررنا، اكتفينا باستفراغ الوسع.
وعلى هذا لو ادعى رجل ديناً على الميت، والوارث ابنه، فالقول قول الوارث، يحلف على نفي العلم: "لا يعلم أباه أتلف ما ادعاه، أو استقرضَ " على حسب اتفاق الدعوى في تعيين هذه الجهات، فيكتفى منه بالحلف على نفي العلم. وإن نكل ردت اليمين على المدّعي، يحلف على البت بأنه متلف.
ولست أضمن الآن تفصيل ذلك، وتحصيلَ ما فيه، فإنه من أقطاب الدعاوى، وسننتهي إليها فنشرحها، إن شاء الله عز وجل.
فإن قال قائل: كيف يتحالف ورثة الزوجين وقد انتهى النكاح نهايته؟ قلنا: أثر التحالف يظهر في الصداق وما ينتهي نهايته، فإنه في حكم عقدٍ منقطعٍ عن عقد النكاح، وتتصور فيه الردود بجهاتها بعد الموت.
8493- فإذا نجز بيان المذهب، عدنا بعد ذلك إلى الكلام على النص:
ظاهر ما قاله الشافعي أن أب الصبية يحلف كما تحلف الزوجة إذا استقلّت، والخلافُ مفروض في مقدار الصداق، وذلك أنه-رضي الله عنه- ذكر اختلاف الزوجين وتحالفهما، ثم قال: "وهكذا الزوج وأبو الصبية"، فمن قال: نُحلّف الأبَ؛ استمسك بظاهر النص. ومن قال: لا نحلّف، قال: لم يعطف أبَ الصبية على الزوجة المستقلة لنحلفه، وإنما عطف ليبين أن الاختلاف ممكن، ويتعلق به إقامة البينة كما تُصوِّر ذلك في الزوجين.
فصل:
قال: "فالقول قول المرأة ما قبضت مهرها... إلى آخره".
8494- إذا اختلف الزوجان في أصل القبض، فقال الزوج: "أقبضتكِ " وأنكرت المرأة؛ فالقول قولها. فإن الأصل عدم القبض، ودوام إشغال الذمة بالمهر، فإن اتفقا على القبض، واختلفا في صفته؛ فقالت المرأة: "دفعتَ ما دفعتَ هديةً ومنحةً". وقال الزوج: "بل سلّمتُه مهراً"؛ فالقول قول الزوج مع يمينه.
وهذا الأصل مطّرد في كل موضع يقع الاختلاف فيه في جهة القبض، والرجوع فيه إلى الدافع؛ إذ الغرض في ذلك يختلف بالقصد، ولا اطلاع على القصد إلا من جهة القاصد، وقد ذكرنا هذا وما يتعلق به في المعاملات، وأوضحنا مثل هذا الاختلاف في دَيْنين، وقد اتفق أداء شيء، وثار النزاع في أنه مقبوض من أية جهة؟ وبيّنا القولَ فيه إذا قال الدافع: لم أقصد شيئاً.
8495- ومما يتعلق بما نحن فيه الكلامُ في أن الأب هل يقبض مهر ابنته؟ فنقول: إن كانت صغيرة، قبض الأب مهرها، فإنّ قبضَ المهر تصرّفٌ في مالٍ، وهي مولّىً عليها من جهة أبيها، فعلى هذا لو كانت الصغيرة ثيباً، فالأب يقبض مهرها؛ فإن الثيابة لا تؤثر في ولاية المال، وإنما تؤثر في ولاية النكاح، وقد ذكرنا أن الأب يزوّج ابنته البالغةَ البكرَ إجباراً، فلو كانت سفيهة، قبض مهرها أيضاً، فإن الحجر مطرد مع السفه على المال.
فأما إذا كانت رشيدة، فهل يقبض الأب مهرها؟ فيه طريقان: من أصحابنا من
قال: في المسألة قولان:
أحدهما: أنه يقبض مهرها، كما يجبرها على النكاح؛
فعلى هذا يكون الصداق مستثنًى عن سائر أموالها، لمكان اتصاله له بما هي مجبرة
فيه.
والقول الثاني وهو الأصح- أنه لا يقبض مهرها لما أظهرناه من أن هذا تصرفٌ في المال، والأب لا يلي مال الرشيدة البالغة. وهذان القولان بناهما المحققون على القولين في أن الأب هل يملك الإبراء عن صداق البكر البالغة؟ وفيه اختلاف سيأتي مرتباً في بابٍ، بعد هذا-إن شاء الله عز وجل-، فهذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: لا يملك قبض صداقها وجهاً واحداً من غير إذنها، كما لو كانت ثيّباً، وهذا هو القياس. ثم إن قلنا: لابد من إذنها، فلا يكفي العرْضُ عليها مع سكوتها، ولا اكتفاء بصُماتها، وإن قلنا: قد يكتفى بصمات البكر إذا كان زوّجها من لا يجبرها، كالأخ وغيره.

.فصل: يجمع قواعدَ في تداعي الزوجين، واختلافهما، وعلى الناظر صرفُ الاهتمام إلى دَرْكه:

8496- فنقول: أولاً، إذا أحضرتْ رجلاً مجلس الحكم، وادعت عليه ألف درهم من جهة الصداق، فالقول قوله؛ فيحلف لا يلزمه تسليمه إليها، فإذا لم تعلّق المرأة دعواها قصداً على الزوجية، وإنما تعرضت للصداق، فليس على الزوج التعرض للزوجية، ويقع الاكتفاء منه بنفي ما ادعته من المال. ولا يعرضُ القاضي للسؤال على الزوجية من غير أن تطلب المرأة ذلك، فهذا فضول منه، وللزوج ألا يجيبه.
ولو سألت المرأة القاضيَ، واستدعت منه أن يسأل الرجل عن النكاح، حتى إن اعترف هو به، لزمه حكم النكاح، وإن أنكر تعلَّق بإنكاره حكمُ إنكار النكاح، فيجب على القاضي أن يبحث.
ثم قال قائلون: إن ادّعت الصداق، وسألت القاضي أن يسأله عن النكاح، سأله، ولزمته إجابته. وقال طائفة من المحققين: لا يسأله ولا تلزمه الإجابة-إن سأله- حتى تدعي الزوجةُ الزوجية. فإن ادعتها، فحينئذ يراجع القاضي الزوجَ، وإن لم تدع الزوجية، لم يجب على القاضي أن يتعرض لها، كما لو قال رجل-وقد رفع رجلاً إلى مجلس الحكم- اسأله أيها القاضي، هل لي عليه ألف؟ فهذا ليس بدعوى، ولا مبالاة به، وإنما ذكرنا من وجوب مراجعتها ما ذكرناه لجزمها دعواها في الصداق، ثم إذا جزمت دعوى الزوجية، فقد ذكرنا تفصيل دعوى الزوجية في فروع ابن الحداد في آخر النكاح.
8497- وقد ذكر القاضي أموراً تتعلق بدعوى الزوجية، نذكرها وننظر ما فيها: فإذا ادعت المرأة الزوجية، فاعترف الزوج بها، وأنكر المهر؛ فقد قال: ثبت لها مهر المثل، ولو أراد الزوج أن يحلف، لم يكن له ذلك، والحاكم يقول: لا فائدة لك في الحلف، فإن النكاح العري عن المهر يثبت فيه مهر المثل.
وهذا أمر ملتبسٌ لابد فيه من التفصيل، فنقول: إن قال الزوج جرى النكاح عرياً عن المهر، ولم يدع تفويضاً محققاً على حكم التصريح بإسقاط المهر؛ فموجب ما ذكره ثبوت مهر المثل. وإن نفى المهر، ولم يصف العقد بالعرو عن ذكره، ولكن قال: لا مهر لها؛ فالذي ذكره القاضي: أن قول الزوجة مقبول في دعوى مهر المثل.
وهذا مشكل جداً؛ من قِبل أن النكاح يفرض عقده بأقلّ ما يتمول، وليس شرط انعقاد النكاح أن يكون فيه مهرُ المثل، فكيف الوجه في ذلك؟ وما علة الحكم بثبوت مهر المثل؟ فنقول: وجه ما ذكره: أن النكاح في نفسه-إذا لم يثبت فيه مسمى صحيح- بمثابة الوطء المحرم، فإن الوطء المحرم يتعلق به مهر المثل، فصورة النكاح إذا لم يثبت فيه صداق مسمى، تتضمن مهر المثل، والتسمية وإن كانت ممكنة فإذا لم تثبت؛ فالمرأة مستمسكة بما أصله التزام مهر المثل. هذا تعليل ما ذكره.
وتتمة الكلام فيه أن مهر المثل لا يثبت ما لم تحلف أنها لم ترض بأقل من مهر المثل، ويكفيها أن يغلِّب جانبَها ويحلّفَها، فإنا إذا كنا لا نبعد جريان التسمية، فلا سبيل إلى إثبات مهر المثل بمجرد الاعتراف بالنكاح.
ووراء ما ذكرناه غائلة صعبة سنذكرها بعد نجاز المسائل المترتبة على هذا النسق.
فلو حكمنا مثلاً بمهر المثل، فقال الزوج: ما أصبتها، وطلّقها، فلها نصف مهر المثل، فإن قيل: هلا حملتم الأمر على التفويض، حتى لا يجب لها شيء؟ قلنا: التفويض أمر نادر، فلا يحمل الصداق عليه، وقد بيّنّا أن التفويض لا يثبت ما لم تصرح المرأة بالإسقاط والرضا وبنفي المهر.
8498- ولو ادعت امرأة على وارث الميت أن أباه نكحها، وأقامت بينة على النكاح، قال: يثبت لها مهر المثل إن ادعته، وحلفت بأنها لم ترض بمسمّىً دون مهر المثل، وإن لم تكن لها بينة على النكاح، وكان الوارث صغيراً، فنقف الخصومةَ إلى أن يبلغ، فإن بلغ وأقر بالنكاح، عاد الأمر إلى ما ذكرناه في المسألة الأولى. وإن ادعى الوارث قدراً من الصداق دون مهر المثل، فإن أقام بينة على ذلك المقدار، لم يكن لها أكثرُ منه، هذا ما ذكره.
8499- وقد حان أن ننبّه على الإشكال الذي أشرنا إليه فنقول: إذا ادعت امرأة زوجية على رجل، فاعترف بها، وسكت عن ذكر مقدار المهر، أو قال: لست أدري كم أصدقتها، وزعمت المرأة أنه أصدقها ألفَ درهم، وهو مقدار مهر مثلها؛ فالذي قطع به الأصحاب أولاً: أنها إذا ذكرت مقدار مهر مثلها، وادعت أنه المسمى، وادعى الزوج مسمى دون ذلك، فإنهما يتحالفان، كما قدمناه في صدر الباب.
وقال أبو حنيفة: القول قولها في مهر المثل، فإن ادعت زيادة على مهر المثل، فالقول قول الزوج في نفيها، ولو ادعت المرأة زوجية ومسمًّى مساوياً لمهر مثلها، وأنكر الزوج التسمية أصلاً، وذكر أن النكاح جرى عرياً عن المهر؛ فهو معترِف بما ادعت ثبوتاً، وإن أنكر التسمية؛ فإن موجَبَ إطلاق العقد من غير تفويض ثبوتُ مهر المثل.
وإن ادعت المرأة ما ذكرناه، فلم يعارضها الرجل بدعوى تسميةٍ أخرى، ولكنه قال: لست أدري، أو توقف وصمت؛ فظاهر ما ذكره القاضي: أن القول قولها مع يمينها، لما ذكرناه من أن النكاح مطلقُه يُثبت مهر المثل، وهذا موضع الإشكال، وهو على الحقيقة مصيرٌ إلى مذهب أبي حنيفة في النظر إلى مهر المثل. والذي يقتضيه قياس مذهبنا أن دعواها موجهةٌ بالمقدار الذي ادعته على الزوج، فإن تردد لم تمنع منه بتردده؛ وحلّفناه، فإن نكل عن اليمين المعروضة رددنا اليمين عليها، فتحلف يمين الرد.
وإن كانت المسألة مفروضة في المرأة ووارث الزوج، فالوارث لا يطالَب إلا باليمين على نفي العلم، فإذا ادعت تسميةَ ألف، وهو بمقدار مهر مثلها، فأنكر الوارث العلم به، وحلف على نفي العلم؛ فمذهب القاضي ما ذكرناه، وهو على قياس قولنا مشكلٌ. والذي يقتضيه القياس الحكمُ بانقطاع الخصومة، والقدر الثابت على قطعٍ: هو أقل ما يُتموّل، وفيه من التردد ما أجريناه في مسائلَ جمّةٍ، وهذا منتهى ما أوردناه في ذلك.
8500- ومما ذكره القاضي متصلاً: أن الرجل إذا أشار إلى مولود، وقال: هذا ولدي، ولم يقل هذا ولدي من هذه، فالتي تزعم أنها والدته لا تستحق المهر بهذا المقدار. وإن قال: هذا ولدي منها، قُضي لها بمهر المثل، لأن النسب إنما يلحق في نكاح أو وطء شبهة، وأيُّ ذلك كان وجب مهر المثل.
وهذا بناه على أن النكاح المطلق محمول على اقتضاء مهر المثل، وقد ذكرنا ما فيه؛ فإنَّ التسمية ممكنة دون مهر المثل، وإنما يجري هذا لو كان الزوجان لا يتحالفان إذا ادَّعى الزوج تسمية ما هو أقل من مهر المثل.
ثم قال القاضي: لا يحمل استلحاق النسب على استدخالها ماء الزوج " فإنَّ ذلك نادر، والعلوق منه أندر منه؛ فلا يحمل الأمر عليه. وقد انجلى الفصل مع التنبيه على كل مُشكل.