فصل: باب: استقبال القبلة، وأن لا فرض إلا الخَمس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: استقبال القبلة، وأن لا فرض إلا الخَمس:

711- الأصل في الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الصَّخرة من بيت المقدس مدّة مقامه بمكة، وهي قبلة الأنبياء، وإياها كانت اليهود تستقبل، وكان عليه السلام لا يؤْثر أن يستدبر الكعبة، وكان يقف بين الركنين اليمانيين، ويستقبل صَوْب الصخرة، فلمّا هاجر إلى المدينة، لم يمكنه استقبالُ الصخرة إلا باستدبار الكعبة؛ فشقّ ذلك عليه، وعيّرته اليهود، وقالوا: إنّه على ديننا، ويصلي إلى قبلتنا، فمكث كذلك ستة عشر شهراً. ثم قال يوماً لجبريل عليهما السلام: «أنى يُكتب أن يُوجّهني رَبي إلى الكعبة»؟ فقال: سله؛ فإنّك من الله بمكان، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وصعد جبريل عليه السلام، فلمّا كان وقتُ العصر، وأذّن بلال، خرج النبي عليه السلام ينظر في أطباق السماء، يتوقّع نزولَ جبريل عليه السلام. فنزل عليه السلام بقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]
ثمّ ذكر الشافعي أن استقبال القبلة شرطُ صحة الصلاة. واستثنى الصلاةَ في شدّة الخوف، والتحام الفريقين، ومطاردةِ العدوّ، والنوافلَ على الرواحل.
أمّا صلاة شدة الخوف وما يشبهها. فستأتي في باب مفرد. وفيها نذكر صلاة الغرقى، والمربوطين على الخشب.
712- وأما النوافل على الرواحل، فنستقصي القول فيها هاهنا، وحاصل القول فيها تحويه فصولٌ: أحدها: في طويل السفر وقصيره. والنافلة تقام على الراحلة، وماشياً في السفر الطويل.
والأصل فيه ما رواه ابنُ عمرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته أين توجهت به. وروي أنه عليه السلام كان يوتر على البعير. وروي أن عليّاً رضي الله عنه كان يوتر على الراحلة.
ثم ترك الشافعي مقصودَ الباب، وأخذ يردُّ على من يوجب الوتر. ولا يكاد يخفى أنه لا واجب إلاّ الصلوات الخمس.
ولعل المعنى في تصحيح النوافل على الرواحل أن الناس لابد لهم من الأسفار، والموفَّق ضنين بأوقاته لا يُزجيها هزلاً. ولولا تجويز النافلة على الراحلة، لانقطع الناس عن معاشهم إذا تركوا السفر، أو انقطعوا من النوافل إذا آثروا السفر.
قال الشيخ القفال: كان الشيخ أبو زيد كثيرَ الصلاة، يستوعب الأوقات بوظائف العبادات، وكانَ يَبين ذلك في كلامه؛ فكان يقول: "لولا إقامة النوافل على ظهور الدواب، لانقطع اَلناس عن السفر"، وكان غيره يقول: "لولاه، لانقطع الناس عن النوافل" فكان يميل كلام الشيخ أبي زيد إلى أن النوافل لابدّ منها. وكان يقدّر أنّ الناس يتركون الأسفار لأجلها.
713- فإذاً هذه الرخصة ثابتة في السفر الطويل، وهل تثبت في السفر القصير؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يختص بالسفر الطويل؛ فإنه تغيير ظاهر في الصلاة، وترك شرط استقبال القبلة، فهو حَريّ بأن يُشبَّه بالقصر وغيره من خصائص السفر الطويل.
والقول الثاني أنه يجري في السفر القصير والطويل؛ فإن الأخبار والآثار مطلقة فيه، لا اختصاص لها بالطويل. والمعنى الذي أشرنا إليه يعمّ السفرين أيضاً؛ فإن احتياجَ الناس إلى الأسفار القصيرة يكثر كثرةَ الاحتياج إلى الأسفار الطويلة.
فإن قلنا: إنها تجري فَي الأسفار القصيرة، فهل يجوز لمن يتقلَّب في البلدة-وهو مقيم- أن يتنفَّل راكباً وماشياً؟ ما ذهب إليه الأئمة-وهو النص الباتّ للشافعي- منعُ المقيم من ذلك؛ فإنّ تَرْكَ الاستقبال، وإكثارَ الأفعال في الصلاة من التغييرات الظاهرة، وهي بعيد عن حال المقيم.
وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى تجويز ذلك، وكان يتنفّل على دابّته، ويتردد في حارات بغداد.
وحكى شيخي عن القفّال أنه كان يقول: "إن كان المتنفّل في الإقامة مستقبلَ القبلة في جميع صلاته، جاز، وإن استدبر في بعض صلاته، لم يجز".
714- ولا يَبين الغرض في ذلك إلاّ بأمرٍ سنذكره، فنقول: المتنفل لو صلّى قاعداً-مع القدرة على القيام- جاز مقيما؛ فتركُ القيام ممّا يسُوغ؛ مع الإتيان ببقية الأركان.
ولو تنفّل الرجل مضطجعاً-مع القدرة- وكان يومىء بالركوع والسجود، فظاهر المذهب المنع؛ فإنّ جواز ترك القيام في حكم الرخصة التي لا يُقاس عليها.
ومن أصحابنا من صحّح النفل من المضطجع، ويرى ترك الركوع والسجود، والاقتصارَ على الإيماء فيهما، بمثابة ترك القيام، وهذا ضعيف. وما رآه الإصطخري من النافلة على الراحلة تصريح بجواز الاقتصار على الإيماء بالركوع والسجود.
فإن قيل: لعلّه يُخصص ذلك بالمتقلّب؛ فإنه مضطر، أو محتاج إلى تقلّبه في البلد؟ قلنا: لا وجه لذلك؛ فإن المقيم جُوِّز له أن يمسح على خفّيه يوما وليلة، وقد يتخيَّل ذلك لأجل ما يليق بتقلّب المقيم. ولكن اللابث في مكانٍ واحد يمسح مسح المتردد.
فإذن حاصلُ القول: أن ترك القيام جائز في النفل، ثمّ ظنّ قوم أن ترك الركوع والسجود في معناه؛ إجزاءً لهيئات البدن مجرىً واحداً.
وذكر الصيدلاني أن المقيم لو كان على دابة واقفة، فاستمكن من إتمام الركوع والسجود، وكان مستقبلاً في صلاة النافلة، صحّت نافلتُه؛ وإن كانت الفريضة لا تصحّ منه-كما تقدّم ذكره- فالخلاف المقدّم فيمن لا يتمّ الركوع والسجود، أو يستدبر القبلة، أو كان يُرْخي دابته؛ فإنّ حركتها مضافة إليها.
وأما القراءة، وما يجب عقده في النية، أو التلفظ به في التحريم، فالنفل في أصله كالفرض. وصار الأكثرون إلى تخصيص الرخصة بالقيام.
715- فهذا قولنا في النافلة تقام مع الإيماء، وفي تنفّل المقيم راكباً وماشياً.
ولكن مع أمرين آخرين:
أحدهما: كثرة الأفعال التي ليست من الصلاة: كالمشي، وحركةُ الدابّة بالمصلي في معنى مشي المصلي.
والثاني: تركُ استقبال القبلة. والأصل أن النوافل كالفرائض، فيما يتعلق بالشرائط، فإذا بَعُدَ تجويز التنفل مُومياً-مع الاستقبال، والسكون عن الأفعال التي ليست من الصلاة- كان التنفل على الدابة، وماشياً مع الاستقبال، أبعدَ عن الجواز؛ لمكان الأفعال الكثيرة؛ وكان التنفّل راكباً-مع ترك الاستقبال- على نهاية البُعد؛ لمكان الاستقبال.
ولو رتب مرتِّبٌ هذه المسائل بعضَها على بعض، لأشعر الترتيب بتفاوت المراتب وأقدارها في قضايا الفقه.
فهذا ترتيب القول في الحال الذي يجوز فيه إقامة النافلة على الراحلة.
الفصل الثاني: في بيان الفرائض وما في معانيها في ذلك
716- فالفرائض لا تقام على الرواحل وإن كانت واقفةً، والمصلي مستقبل قادر على إقامة الأركان كلِّها.
ولو كان على ظهر بعير معقول، فلا تصحّ الفريضة أيضاً؛ فإن المفترض مأمور بالتمكن في صلاته على الأرض، أو ما في معناها.
ويصلي على السفينة وإن كانت تتحرّك به، كما تتحرّك البهائم بأصحابها؛ فالماء على الأرض كالأرض، والسفينة صفائحُ مبطوحة على الأرض، والحيوان-وإن كان معقولاً- غيرُ معدودٍ من أجزاء الأرض.
وإقامة الصلاة في السفينة وهي تسير يؤخذ مأخذ الرخص؛ فإن هذه الحركات في حكم الأفعال الكثيرة؛ ولكن لما جاز ركوب البحر، فلا معدل-لمن ركبه- عنه في أوقات الصلوات. والغالب أن السفينة تجري، ولا اختيار في ربطها، فلم يُبال الشرع بتلك الحركات.
والمسافر على البرّ يتصوّر منه أن يسكن ويصلي، وإن كانت الضرورة تحمله على ترك النزول في أوقات الصلاة، فرخصةُ الجمع تأخيراً أو تقديماً في معارضة هذه الضرورة كافية.
وممّا يتعلق بهذا أن المتردّد على الزواريق، وهو مقيم في بغداد أو غيره، إذا كان يتمّم الأركان، ويستديم الاستقبال، فهل يُصلي الفرضَ، والأفعالُ تكثر بجريان الزواريق؟ فيه تردد ظاهر، واحتمال؛ فإنه قادر على دخول الشط، وإقامة الصلاة. فليتدبَّر الناظرُ ذلك.
ولم يمتنع الأئمة من إقامة الفريضة في زورق مشدودٍ، مع الوفاء بإتمام الشرائط والأركان. وتَحرك الزورق تصعُّداً وتسفّلاً-إذا كان لا يُكثر- كتحرك السرير وغيره تحت المصلي.
والصلاة على أرجوحة مشدودة بالحبال ما أراها صحيحة؛ فإن المصلّي مأمور بالتمكن في مكان صلاته، وليست الأرجوحة مكانَ التمكن في العُرف، وليست مبنيةً كالغرفة المعلَّقة، والمتّبع في مثل ذلك العرف. وهذا بمثابة اشتراط الشرع، في صحّة الجمعة، دارَ الإقامة.
ثم قالوا: لو أقام قوم في بادية، واكتفَوْا بالخيام، فلا يُجمعُون؛ فإنهم ليسوا في بنيان يُعد بناءً عرفاً. والخيام للقُلْعة والنُّقْلة، لا للإقامة، فهذا ما أراه في الأرجوحة، وإن كانت لا تتحرك.
ولا يخلو ما ذكرته عن احتمال.
فإن قيل: أليس قال الشافعي في مسألة الزحام: إذا زُحم الرجل عن السجود، فتمكن من السجود على ظهر إنسان، ففعل، صحّ؟ فما الفرق بين ما جَوَّزهُ في ذلك، وبين ما منعتموه من الصلاة على ظهر بعيرٍ معقول؟ قلنا: مسألة المزحوم مفروضة فيه، إذا كانت قدماه قارَّتين، فألقى رأسه على ظهر إنسان. ومسألة البعير فيه إذا كانت قدماه على ظهر البعير.
717- والمعتبر الكلي فيه أن الحيوان ذو اختيارٍ، فاتخاذه مَقرّاً في صلاة يجب القرار فيها ممتنع. وبالجملة، ليس يخلو القلب من احتمالٍ في البعير المعقول، ولكن التعويل في قواعد المذهب على النقل.
ولو حمل رجال سريراً وعليه إنسان، لم يصلِّ عليه الفرضَ؛ فإنه محمول الناس، فكان كمحمول البهائم، فهذا في الفرائض.
718- وأما الصلاة المنذورة، ففي جواز إقامتها على الراحلة-كالنوافل- قولان مشهوران، سيأتي أصلهما في كتاب النذور إن شاء الله عزّ وجلّ.
وأما صلاة الجنازة، ففي إجازتها على الراحلة كلام، والأصح منعها لا لأنها فرض كفاية، ولكن لأن الركن الأظهر منها القيام، وتركُ القيام فيها-وإن قدّرت على مناصب النوافل- كترك الركوع والسجود، والاقتصار على الإيماء في النوافل. ولو أقام صلاة الجنازة على الراحلة قائماً-حيث تجوز إقامة النوافل على الرواحل- فالظاهر عندي جواز ذلك.
الفصل الثالث: في بيان كيفية إقامة النافلة على الدّابة وفي حق الماشي
719- وغرض هذين الفصلين يتعلّق بأمرين:
أحدهما: في استقبال القبلة في الطريق وما يتعلق بذلك.
والثاني: كيفية الصلاة.
وما نريده في الأمرين نذكره في الراكب، ثم نذكره في الماشي.
أمّا الراكب، فنبدأ بذكر الاستقبال في حقه، وقد اضطربت النصوص، واضطرب لأجلها طرق الأصحاب، والذي يتحصّل ما أنقله، ثم أذكر مبنى المذاهب ومنشأها من طريق التعليل.
فمن أصحابنا من قال: يجب استقبال القبلة عند التحريم بالصلاة، وإن تعذَّر ذلك، لم تصح الصلاة أصلاً.
ومن أصحابنا من قال: إن كان الزمام أو العِنان بيد الراكب، فتوجيه الدابّة قِبَل القبلة سهل؛ فلابد منه، وإن كانت الدابّة مقطّرة، وكان في توجيه القبلة عسر، فلا يُشترط استقبال القبلة عند التحرّم أيضاً.
وذكر الشيخ أبو بكر وجهاً ثالثاً، فقال: إن كان وجْهُ الدابة إلى القبلة عند الهم بالتحريم، فيتعيّن ذلك، وإن كان وجْهها إلى صوب الطريق، فلا يجب صرفها إلى القبلة، بل يتحرك كما تُصادَفُ الدابة.
وإن كان وجه الدابة منحرفاً عن القبلة والطريق جميعاًً، فلا يتحرّم. والدابة منحرفة عن الجهتين قطعاً، فإذا أراد صرفَ وجه الدابة ليتحرم، تعين صرفه إلى جهة القبلة، ليتحرم، ثم يستدّ في صوب طريقه.
وذكر بعض المصنفين، وشيخي وجهاً آخر: أنه لا تجب رعايةُ استقبال القبلة قط، كيف فرض الأمر.
فمجموع ما ذكرناه أربعة أوجه نشير إلى توجيهها، ثم نذكر المعتبر السديد منها
720- أما من لم يشترط الاستقبال قط، فنقول: إذا كنّا لا نشترط دوامَ ذلك، والتحريمُ عندنا ركن كسائر الأركان، فلا معنى لتخصيصه باشتراط الاستقبال عنده.
ومن اشترط قال: ينبغي أن يكون العقد على استجماع الشرائط، ثم استمرار الرخصة في الصلاة على حكم التخفيف، وهذا كاشتراط اقتران النيّة بأول التكبير، ثم لا يضرّ بعد ذلك عزوبُها؛ وإن كانت الأركان بعد التحريم عبادات، والعبادات تفتقر إلى النية.
ومن فصل بين أن يكون الزمام بيده، وبين أن يكون مقطَّراً، راعى العسر واليسر في التجويز والمنع.
ومن فصل بين أن يكون وجه الدابّة إلى الطريق أو منحرفاَّ قال: "إن كان الطريق تجاهه، استمر على قصده، وإن كان منحرفاً، فلابد من التصريف. والصرف إلى القبلة أولى، ثم منها إلى الطريق.
721- والذي نذكر في ذلك يستدعي تقديم مسألةٍ مقصودة: وهي أن الرجل إذا كان في مَرقدٍ، وكان يمكنه أن يستقبل القبلة، من أوّل الصلاة إلى آخرها، فيتعيّن ذلك عليه.
وهذا يوضح أن الاستقبال إن حُطّ فسببه تعذُّرُه، وآيةُ ذلك أنه حيث لا يتعذّر، يتعين اعتباره في جميع الصَّلاة. فإن تعذّر الاستقبال في حالة التحرّم، فسَدُّ باب النفل خروجٌ عن حقيقة المطلب في إجازة النافلة على الراحلة، فإن سبب جوازها ألا ينحسم مع استمرار المسافر في مرّه وذهابه، وإن لم يتعذّر الاستقبال عند العقد، فهذا محل الاحتمال. والظاهر أنه لابد منه، فإن صرفَ الدابة مع اليسر في أوّل العقد لا عسرَ فيه، وليس في حكم اللُّبث والنزول لأجل النافلة، والإنسان كثيراً ما يردّد الدابةَ يمنة ويسرة، ثم يعد مارّاً.
ثم افتتاح الصلاة أولى الحالات باعتبار ذلك؛ فإنّه أول الأمر، ثم رعاية دوام ذلك اشتراط لُبثٍ في خلاف صوب السفر، وهذا مبطلٌ لغرض الرخصة، واعتبار ذلك بعد العقد لا وجه له؛ إذ لا ركن أولى من ركن، وليس يحسن التمسك بالنية؛ فإنها مبنيةٌ على قضيةٍ أخرى، وهي أنها قصد أو عزم، واستدامتها عسير، ولا سبيل إلى انعطافها، فقُرنت بأول الفعل، ثم عفا الشرع عن استدامتها.
ويحتمل ألا يشترط الاستقبال أصلاً، بل يستمر المسافر كيف فرض الأمر على صوب قصده. ثم من راعى الاستقبالَ في التحريم، ذكر خلافاً في تعيّنه عند التحلّل، وزعم أن هذا الخلاف خارج على أن نيّة الخروج هل تشرط عند السلام؟ وهذا ركيك، صادرٌ عن غير فكر؛ فإن نيّة التحلل إن شرطت، فليس مأخذ اشتراطها ما ظنّه هذا القائل، من أنه أحد طرفي الصلاة؛ وإنّما سبب اشتراطها أنه خطابٌ للآدمي، مخالف لموضوع الصلاة، فلا بد عنده من نيّةٍ تصرفه إلى مقصود الصلاة، ولا تعلّق لهذا الفنّ بما نحن فيه من أمر الاستقبال.
722- ومما نذكره في ذلك: أن المسافر إذا مضى في صلاته، فينبغي أن يتخذ طريقَه قبلتَه في دوام الصلاة، فلو انحرف عنها إلى غير القبلة قصداً، بطلت صلاته، ثم الطريق قد تستدُّ، وربّما تدور، فيتبعها كيف فُرضت، ولسنا نعني الطريق المعتدة بالإطراق، ولكنّا نريد صوبَها، فلو تعلّى المسافر عن الطريق، ولم ينحرف عن صوبها، وكان يبغي التوقي من زحمةٍ، أو غبار، فلا بأس، ولو كان المسافر راكباً تعاسيف، فقد كان شيخي يقول: إن لم يكن له صوب ومقصد، وكان يستدبر تارةً ويستقبل أخرى-فِعْلَ الهائم- فلا يتنفل أصلاً، إذا لم يكن مستقبلاً في جميع صلاته.
وإن لم يكن على طريق، بل كان ينتحي صوباً معلوماً، فهل يتنفل مستقبلاً صوبه؟ فعلى قولين، وتوجيههما أنّا في قولٍ نقول: له مقصد معلوم، وفي قول نقول: ليس ينتحي طريقاً مضبوطاً، والصوبُ متاهة غير منضبطة.
ويخرج عن مجموع ما ذكرناه: أن الصلاة في حال الاختيار كلّها، لابد وأن تكون منوطة بلزوم جهةٍ، وإنما الكلام في تعيّنها.
وقد انتهى الكلام إلى فروع نرسمها، ونحلّ بتوفيق الله مُعْوِصَها، ونوضِّح مسلكها- إن شاء الله تعالى.
723- فنقول: من صرف بدنه عن قُبالة القبلة قصداً في غير ما نتكلم فيه، بطلت صلاته، ولو أماله إنسانٌ قهراً عن القبلة، وأبقاه مائلاً مدةً، بطلت صلاته.
ولو نسي الرجل أنه في الصلاة، فاستدبر القبلة، ثم تذكر، بنى على صلاته، والشاهد فيه حديث ذي اليدين، كما نرويه في باب سجود السهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استدبر القبلة، وأقبل على الناس بوجهه".
ولو أماله إنسان عن القبلة لحظة، ثمّ تركه حتى استدّ، ففيه خلاف سأذكره في موضعه من صفة الصلاة.
ولو استدبر، وطال الزمانُ مع النسيان، ففيه خلاف، وهو كما لو نسي وأكثر الكلام ناسياً.
والجامع أن القليل مع العَمْد والاختيار مبطلٌ، والقليل مع النسيان لا يبطل، والكثير مع النسيان مختلفٌ فيه، وهو مأخوذ من الكلام الكثير الصادر من الناسي، والقليل الصادر من قاهرٍ مع ذكر المصلِّي مختلف فيه، والكثير على هذه الصورة مبطل.
وليس هذا موضع ضبط هذه القواعد، وإنما نكتفي منها بتراجم، لنذكر غرضَنا في هذا الفصل بناء عليها. وموضِعُ تعليل هذه الأصول الفصلُ الذي نذكر فيه كلامَ الناسي، وفصلُ سبق الحدث في الصلاة.
724- فنعود ونقول: إذا نسي المصلي على الدابة الصلاةَ، وصرف الدابّة عن الطريق، فإنْ تذكَّر على القرب، وردّها إلى سمت الطريق، سجد للسهو، وإن طال الزمان، ففي بطلان الصلاة خلافٌ ذكرناه، فإن بطلت، فلا كلام، وإن قلنا: لا تبطل، فيردَّها ويسجد للسهو.
وإن جمحت الدابّة، وتعدّت بنفسها، والمصلّي ذاكر، فإن طال الزمان، بطلت الصلاة، وإن تمكن من ردّها على القرب، فقد ذكرنا في مثل هذه الصورة خلافاً فيمن يُصرف عن القبلة، والظاهر هاهنا أن الصلاة لا تبطل، فإنّ نفرةَ الدابّة وجماحَها-مع ردّها على قربٍ- ممّا يعم وقوعه، وتظهر البلوى به، ولو قضينا ببطلان الصلاة بقليل ذلك؛ لأثر ذلك في قاعدة الرخصة، مع العلم بأن هذه الرخصة مبنية على نهاية السعة، وغاية التخفيف.
فأمّا صرف الرجلِ الرجلَ عن القبلة، فأمرٌ لا يعهد وقوعه إلا في غاية الندور، فلهذا قطع الأئمة بأن جماح الدابة في زمان قريب لا يبطل الصلاة، ولم أر ما يخالف هذا للأصحاب، ثم إذا سددها، فقد قطع الصيدلاني بأنه لا يسجد؛ فإن سجود السهو لا يثبت إلاّ عند سهو المصلّي بترك شيء، أو فعلِ شيء، ولم يُوجد من المصلي شيء. ولا يجوز غير هذا الذي ذكر.
ولو خرجت الدابة من غير جماح عن السمت، والمصلي غافل عنها، ذاكر لصلاته، فإنْ قَصُر الزمان، لم تبطل الصلاة، وإن طال الزمان، ففيه الكلام المقدم.
فإن لم تبطل، فقد قطع شيخي بسجود السهو في هذه الصورة. وقياس ما ذكره الصيدلاني أنه لا يسجد؛ لأنه لم يصرف الدابة بنفسه ناسياً، فينسب الخروج عن السمت إليه. ويحتمل على طريقةٍ أن يسجد من حيث إنه غفل عن مستن الدابة ومجراها، ولو كان متذاكراً حاضر الذهن، لَمَنَعها من الخروج، فالخلاف في هذه الصورة ظاهر.
فإذاً إن نسي، وأخرج الدابة، فالسجود عليه، حيث لا تبطل صلاته. وإن جمحت الدابة، وقهرت راكبها، فلا يسجد، حيث لا تبطل الصلاة قطعاً. وإن كان خروج الدابة عن السمت، لغفلة الراكب، ففي سجود السهو خلاف ظاهر، فهذا بيان حكم الاستقبال في حق الراكب.
725- فأمّا كيفية الصلاة: فإن كان الراكب في مَرْقد، وتمكّن من إتمام الركوع والسجود، فليتمهما، ولو اقتصر على الإيماء، فالتفصيل فيه كالتفصيل في القاعد المتمكن، يومىء بالركوع والسجود، من غير عجز.
وإن كان لا يتمكن من إتمام الركوع والسجود لكونه على رحل أو سرج، فيأتي بما يقدر عليه، وينبغي أن يزيد انحناؤه للسجود على انحنائه للركوع؛ ليفصل بينهما.
وأنا أرى الفصل بينهَما-عند التمكن- محتوماً متعَيّناً.
وهل يجب أن يبلغ غاية وُسعه في الانحناء؟ هذا فيه تردّد وتصرّف عندي؛ والوجه أنّا نكلّفه أن ينحني بحيث يزيد على انحناء الراكع على الأرض. فأما الانتهاء إلى حد انحناء الساجد على الأرض مع التمكن، فهل يُشترط؟ فيه احتمالٌ. والظاهر عندي ألا يتعين، ويكفي انحناءٌ يظهر مع مراعاة التمييز بين الركوع والسجود؛ فإن الدواب لها نزقات يخشى منها مصادمات محذورة.
فلو قيل: ينحني انحناء لا ينتهي إلى حدّ يتوقع ذلك في أحوال الغفلات، ويكتفى بهذا، لم يبعد والغالب على الظن أن السلف كانوا يقتصرون على هذا المقدار، والعلم عند الله عز وجل.
فهذا تفصيل القول في تنفل الراكب.
726- فأما الماشي، فإنه يتنفل عندنا، وهو يمشي كالراكب، ومنع أبو حنيفة تنفل الماشي. ومعتمد المذهب اعتبار الماشي بالراكب، وكل واحد في تخفيفات السفر ورُخَصه كالثاني، والغرض من تجويز النوافل في السفر ألا تتعطل النوافل، وهذا المعنى يعمّ الراكبَ والماشي.
ثم نذكر في الماشي كيفية الصلاة أولاً، ونذكر بعده حكمَ الاستقبال.
727- فأمّا الكيفية، فقد نقل الأصحاب عن الشافعي، أن الماشي يركع، ويسجد، ويقعد، ويستقر لابثاً في هذه الأركان، ولا يمشي إلاّ إذا انتهى إلى حدّ القيام، فيمشي قارئاً.
وخرّج ابن سريج قولاً: إنه لا يلبث، ولا يضع جبهته على الأرض، بل يومىء راكعاً وساجداً.
وكان الشافعي لا يرى تغيير شيء من هيئات الصلاة في حق الماشي، والمشيُ في القيام لا يُسقط القيام.
ومن يرى الاقتصار على الإيماء، يحتج بأن سبب تنفل المتنفل ألا ينقطع في حركته في صوب سفره عن الصلاة، وإذا كثرت الصلاة، كثر سبب اللبث، وينتهض ذلك سبباً في الانقطاع عن الرفقة.
فهذه كيفية صلاة الماشي.
وظاهر ما نقله الصيدلاني أن الماشي المتنفل يركع ويسجد على الأرض، ويمشي قائماً. وكذلك إذا انتهى إلى القعود، يمشي ولا يقعد.
وهذا متَّجِهٌ؛ فإنّ إقامة القيام لهذه الرخصة مقام القعود، بمثابة إقامة القعود-مطلقاً- مقام القيام في التنفل.
وقد يتوجّه على هذا سؤال: وهو أن المقيم المطمئن، لو قام بدل القعود في التشهد، فالظاهر أن ذلك لا يجزئه. والسبب فيه أن المتنفل جُوّز له القعود، حتى يكون أسهل عليه، والمشيُ قائماً بدلاً عن القعود أليق بتنفل المسافر الماشي، فليتبع الناظر المعنى في ذلك.
728- فأما القول في استقباله، فإن أوجبنا الإتيان بالركوع والسجود على اللُّبث، فيجب الاستقبال فيهما، فإنه في هذه الأركان على هذا المذهب الذي نفرع عليه مطمئنٌ، وأثر السفر فيهما عنه منقطع، واستقبال القبلة ممكن، وهذا واضح.
فأمّا الاستقبال عند التحرّم، فالذي قطع الأصحاب به وجوبُه؛ فإنا إذا أوجبناه عند الركوع والسجود، فنوجبه في العقد، وكذلك يستقبل في قعوده متشهداً؛ لمكان لبثه، ثم يكون مستقبلاً حتى يتحلل عن صلاته، ولا وجه إلاّ هذا.
فأمّا إذا فرعنا على تخريج ابن سريج ولم نوجب اللبث في الركوع والسجود والقعود، فلا نوجب استقبال القبلة عند إقامة هذه الأركان؛ فإنه يأتي بها مارّاً، فليستقبل صوبَ سفره، كما يفعل ذلك في حالة القيام.
ثم إذا انتهى إلى القعود، فلا يومىء إليه إيماء، ولكن يومىء بالسجود، ثم يعتدل قائماً، ويأتي بالتشهد، فيقع القيامُ بدلاً عن القعود في حق الماشي، كما يقع القعودُ بدلاً عن القيام في حق العاجز المفترض.
ثم هذا الفصل سيأتي مشروحاً في أن من عجز عن الحركات في صلاته المفروضة، فهل عليه أن يمثل الأركان في قلبه على صورها؟ وسنذكر ذلك-إن شاء الله- في موضعه.
وإذا كان كذلك، فهل يستقبل عند التحريم؟ التفصيل فيه كالتفصيل في الراكب الذي بيده زمام راحلته، وقد مضى ذلك. ثم إن أوجبنا الاستقبال عند التحرم، فهل نوجبه عند التحلل؟ فيه وجهان ذكرتهما في مالك الزمام.
فهذا تمام الغرض في تنفّل الراكب والماشي.
729- ومما يجري في فكر الناظر، أن الراكب لو أوطأ فرسَه نجاسةً، فلا بأس عليه، فليس المتنفل مؤاخذاً بطهارة الدابة، فكيف يؤاخذ بطهارة موطئها؟ نعم! ينبغي أن يكون ما يلاقي الراكبَ وثوبَهُ طاهراً من السرج وغيره.
فأما الماشي إذا مشى في نجاسة قصداً، وكان له مندوحة عنه، فالذي أراه: الحكمُ ببطلان الصلاة.
ولست أرى عليه أن يتحفّظ، ويتصوّن من ذلك ويرعاه؛ فإن كل رخصة متعلقة بما يليق بها من الحاجة، والطريق تغلب فيها النجاسة، والتصوّنُ منها عسر، ورعاية هذا الأمر يُلهي المسافر عن جميع أغراضه في السفر ليلاً ونهاراً.
وإذا انتهى في ممرّه إلى نجاسة ولا يجد عنها معدلاً، فهذا فيه احتمال، ولا شك أنها إذا كانت رطبة، فالمشي فيها يبطل الصلاة، وإن كان من غير قصدٍ؛ فإن المصلي يصير بالمشي فيها حاملاً للنجاسة.
فهذا نجاز ما أردناه في ذلك.
فصل:
قال الشافعي: "إذا كان يصلي على راحلته في سفره فدخل بلدة... إلى آخره".
730- المتنفل إذا انتهى إلى بلدة أو قرية وهو في أثناء صلاة النافلة على دابته، فإنْ لم يُرد الإقامة بها، وقصد أن ينزل بها ليلةً، أو مدّة لا تزيد على مدّة المسافرين، فله أن يستكمل النافلة على دابته، وإن كان يتردّد لحاجته في النزول، فتردّده لذلك بمثابة استداده في صوب سفره في كيفية الصلاة وترْك الاستقبال.
وإن كان وقف دابته في انتهائه إلى منزله، ولو نزل وتمم الصلاة، لم ينقطع عن شيءْ من مآربه، فلو بقي على الدابة، فما ذكره الصيدلاني أنه يصلي كما يصلي، مستداً في صوب قصده.
وكذلك إذا ابتدر الركوبَ قبل أن ترحل الرفقة، وكان يصلي راكباً واقفاً، منتظراً انتهاض الرفقة، فيصلي مومياً بالركوع والسجود؛ فإن هذه الرخصة لا تراعى فيها الضرورة الحاقّة، وإنما المرعيُّ مشقةُ السفر على الجملة؛ فإنه مظنّة الحاجة، وعن هذا بُني الرخص في السفر على كونه مظنة للمشاقّ، وإنْ كان قد يفْرض مسافر غيرُ مشقوق عليه.
وهذا الذي ذكره في الاقتصار على الإيماء في الركوع والسجود منقدح، فأما استقبال القبلة، فالوجه اشتراطها في ظاهر المذهب في حق الواقف، فإنّا ذكرنا أنه إن كان زمام ناقته بيده، تعيّن عليه استقبال القبلة عند التحرم، وفيه من الخلاف ما قدمناه.
وقد ذكرنا أن من كان في مرقد وتمكّن من الركوع والسجود، لم يقتصر على الإيماء، وتعيّن عليه الاستقبال في جميع الصلاة؛ فإنّه ليس ملابساً حالةً يعتبر فيها الإيماء، وإذا ركب، فهذه الحالة يتعذر فيها الإتمام، ولا ننظر إلى أنه لا ضرورة في الركوب؛ فإن هذا يجرّ إسقاطَ الرخصة في السفر في حق من سفرُهُ مباح، ولا ضرورة عليه في ابتداء السفر، ولا حاجة أيضاً؛ فإن القواعد إذا أسست للحاجة، لم يراع في تفاصيلها الحاجة.
فهذا إذا لم يقصد الإقامة.
731- فأمّا إذا انتهى إلى بلدته، أو إلى موضع آخر، ونوى الإقامة بها، وهو في أثناء الصلاة النافلة، فلا يتمم الصلاة راكباً-إذا فرّعنا على الأصح في أن المقيم لا يتنفل راكباً- ولكنه ينزل ويبني على صلاته مستقبلاً، ويتمم الأركان في بقية الصلاة، وهذه الحركات تفرض خفيفةً، بحيث لا تبلغ مبلغ الفعل الكثير المبطل للصلاة.
وسنذكر تفصيل ذلك في الصلاة المفروضة في حق الخائف إذا كان يقيمها في حالة الخوف راكباً، ثم أمن في أئناء الصلاة، فنزل فبنى. وظاهر نصّ الشافعي في حق الخائف أنه لو افتتح الصلاة آمناً، ثم طرأ الخوف، فركب، لم يصح، وفيه تفصيل طويل.
والظاهر عندي أن المتنفل لو أراد الركوب في أثناء الصلاة، فإنه يبني على صلاته، وفي المسألة احتمال، وسبب ظهور ما اخترته أن النفل لا يلزم بالشروع، وافتتاح الركوب في أثنائه كافتتاح الصلاة النافلة راكباً. والعلم عند الله.
فصل:
قال: "ولا يصلّي في غير هاتين الحالتين إلا إلى القبلة... إلى آخره".
732- حاصل القول في بقية الباب أمران:
أحدهما: تفصيل القول في استقبال عين الكعبة، أْو في استقبال جهتها، عند إمكان اليقين.
والثاني: طلب القبلة بالاجتهاد عند تعذّر اليقين.
فنبدأ بالصور التي يمكن درك اليقين فيها، ونقول:
733- من كان بمكة في المسجد الحرام، فليعاين الكعبة، وليستقبلها، ثم إن اقترب منها استقبلها استقبالاً محسوساً مقطوعاً به، ولو وقف على حرف ركن من أركان البيت، وكان يحاذي ببعض بدنه الركن، وبعضه خارج عن مسامتة الكعبة، ففي صحة الصلاة وجهان، ذكرهما بعض المصنفين وغيره.
أحدهما- أنه لا تصح الصلاة، وهو الذي قطع به الصيدلاني، فإنه لا يسمى مستقبلاً؛ بل يقال: استقبل بعض الكعبة، والأمر بالاستقبال مضافٌ إلى جميع بدن المصلي.
والثاني: يجزئه وتصحّ صلاته؛ فإنه يسمَّى مستقبلاً. وعلى هذا النحو اختلف أئمتنا في أن الطائف-في تردده وتطوافه- لو خرج عن محاذاة الكعبة في الجهة المرعية في محاذاة الطائف ببعض بدنه، وكان محاذياً بالبعض، فهل يصحّ طوافه أم لا؟ على ما سيأتي شرح ذلك.
ولو اقترب صف من البيت واصطفوا، فقد لا يحاذي الكعبةَ منهم من في جهة الاستقبال إلا عشرون أو نيف وعشرون، ويخرج طرف الصف إن زادوا، وكانوا على استطالة واستداد عن المُحاذاة، فلا تصح صلاة الخارجين عن المحاذاة في القرب؛ لخروجهم عن الاستقبال، وهذا بيّنٌ.
ولو بعدوا ووقفوا في أخريات المسجد، فقد يبلغ الصف ألفاً، وهم معاينون للكعبة، وصلاتهم صحيحة. ونحن-على قطعٍ- نعلم أن حقيقة المحاذاة-نفياً وإثباتاً- لا تختلف بالقرب والبعد، ولكن المتبع في ذلك وفي نظائره حكم الإطلاق والتسمية، لا حقيقة المسامتة، وإذا قرب الصف، واستطال، وخرج طرفُه عن المحاذاة، لم يُسمّ الخارجون مستقبلين. وإذا استأخر الصف وبعُد سمّوا مستقبلين.
734- وهذه الأحكام مأخوذة في وضع الشرع من التسميات والإطلاقات.
وعلى ذلك بنى الشافعي تفصيلَ القول في الصلاة على ظهر الكعبة، فقال: إن لم يكن على طرف السطح شيء شاخص من بناء الكعبة، فلا تصح صلاة الواقف على الظَّهر؛ فإن من علا شيئاً لم يسمَّ مستقبلاً، ولو وقف خارجاً من الكعبة-على أبي قبيس مثلاً- فالكعبة مستقبلة عن موقفه، وصلاته صحيحة؛ فإنه يسمى مستقبلاً، ولا يختلف ما يطلق من ذلك بعلوّ الواقف وتسفّله.
ولو وقف على السطح، وكان على طرف السطح شيء شاخص من البناء بقدر مؤخرة الرَّحْل وهو واقف في محاذاته، فصلاته صحيحة؛ فإنه يسمى مستقبلاً لذلك الجزء. ولو وضع شيئاً بين يديه ودفعه ونضَّده بالقدر الذي ذكرناه، واستقبله، لم تصحّ؛ فإن ذلك الشيء لم يعدَّ من الكعبة.
ولو غرز خشبة واستقبلها، فقد اشتهر في استقباله خلافُ الأصحاب، فمنهم من منع صحة الصلاة؛ فإنَّ ذلك المغروز لا يعدّ بناءً، ومنهم من صحح، فإن من يبني بناءً، فقد يغرز خشبات عند منتهى البناء، ويعدّ ذلك من جملته، و الأصحّ الأول.
ثم لو فرض شخوص خشبة من البناء، فمعلوم أنها في حجمها قد لا تكون على قدر بدن الواقف، وقد ذكرنا خلافاً فيمن وقف على طرف ركن من أركان الكعبة، وخرج بعض بدنه عن المسامتة، وهذه الخشبة الشاخصة، وإن اتصلت اتصال البناء فبدن الواقف خارج عن محاذاتها في الطرفين، فهذا فيه تردّد ظاهر عندي، كما ذكرته.
ومما يجب التنبيه له أن الأئمة اكتفَوْا بأن يكون ذلك الشاخص بقدر مؤخرة الرحْل، ولعلهم راعَوْا فيه أنه في سجوده يسامت بمعظم بدنه ذلك الشاخص بهذا القدر، وهذا فيه شيء-من جهة أنه في حال قيامه خارج بمعظم بدنه عن مسامتة ذلك ْالشيء- وقد ذكرنا تردد الأصحاب في الخروج ببعض البدن عن المحاذاة، ولكن الأئمة نزلوا هذا منزلة ما لو استعلى الواقف، والكعبةُ أسفلَ منه، وهذا فيه نظر من طريق المعنى، فإن جميع الكعبة إذا تسفّل، فهو القبلة بلا مزيد، فُنزل عليه اسمُ الاستقبال، وهذا الشاخص-في حق الواقف على ظهر الكعبة- جزء من القبلة، وفيه من تبعّض الأمر في المحاذاة ما ذكرته.
وقد حكى العراقيون وجهاً: أن البناء الشاخص ينبغي أن يكون على قدر قامة المصلي؛ تخريجاً على ما ذكرته من الاحتمال، وهذا الذي ذكروه في الطول يجري في العرض قطعاً، ويخرج منه منع الصلاة إلى العتبة والباب مفتوح.
وهذا الذي ذكروه منقاس حسن.
وممّا حكوه عن ابن سُريج أنه جوّز الوقوف في عرصة الكعبة إذا انهدمت، وإن لم يكن بين يدي الواقف شيء شاخص، وهذا تخريج غريب. ولا شك أنه يجري هذا في ظهر الكعبة أيضاً، وهو مذهب أبي حنيفة.
والاحتمال ما قدمته.
735- ولو وقف المصلي في جوف الكعبة واستقبل جداراً، صحت صلاته وفاقاً؛ وإن كان لا يقال: استقبل الكعبة، بل يقال: استقبل جزءاً منها.
وإن استقبل الباب وهو مردود، فهو كما لو استقبل جداراً.
ولو كان مفتوحاً، والعتبة لاطئة وارتفاعها أقل من مؤخرة الرَّحْل-وهي تداني ثلثي ذراع- فلا تصح الصلاة، ولو بلغ ارتفاعها هذا القدر، فالصلاة صحيحة، كما ذكرنا.
736- ولو انهدمت الكعبة، ووقف الواقف خارجاً من عرصتها، واستقبل العرصة، صحّت الصلاة، ولا يشترط شخوص شيء من الكعبة.
فإن وقف في العرصة نفسها فهو كما لو وقف على السطح في كل تفصيل ذكرناه، من اشتراط شاخص بين يديه كما مضى.
ولو احتفر في العرصة حفرة بالقدر المقدم، فما بين يديه من ارتفاع طرف البئر عن موقفه، بمثابة ارتفاع شيء من البناء شاخص، كما تفصّل قبلُ.
ولو فُرض غرز خشبةٍ في العرصة، فقد ذكر فيه الخلاف المقدم، ولو نبتت حشيشة، فعَلَتْ، فلا حكم لها في الاستقبال قطعاً، ولو نبتت شجرة من العرصة، فهي كبَنِيَّةٍ من جدار الكعبة، أو كسارية من سواريها؛ إذا استقبلها من دخل الكعبة.
فهذا ما أردناه في الاستقبال حالة المعاينة.
737- ومما يتعلق بتمام ذلك أن العراقيين حَكَوْا نصّين ظاهرهما الاختلاف في المكي إذا لم يعاين الكعبة، فنقلوا أنه قال في موضع: "من سهل عليه معاينة الكعبة في صلاته على سهل، أو جبل، تعيّن ذلك عليه".
ونقلوا أنه قال: "من كان في مكة في مكان لا يرى منه البيت، لم يجز له أن يترك الاجتهادَ بكل ما يستدل به على الكعبة" ثم قالوا: والنصّان منزّلان على اختلاف حالين، فمن يكون موقفه بحيث تبدو منه الكعبة على يُسرٍ وسهولة، فتتعين معاينة الكعبة.
وحيث يكون بينه وبين الكعبة حائل من جدار، أو جبل، أو غيرهما، فلا نكلفه المعاينة.
فظاهر كلامهم اشتراط العيان عند الإمكان، حتى قالوا: لو بنى حائلاً حاجزاً بين موقفه وبين الكعبة، حتى عسرت عليه المعاينة-من غير ضرورة وحاجة- فلا تصح صلاته؛ لتفريطه في ذلك.
وهذا كلام فيه إخلال، والذي أراه أن الرجل إذا سوَّى محراباً على العيان، ثم أثبت حاجزاً، فلا بأس، فإنه إذا وقف نقطع بأنه وقف موقفاً يسمى فيه مستقبلاً. وقد ذكرنا أنه لا يعتبر عند الاستئخار من جِرم الكعبة حقيقةُ المحاذاة والمسامتة، وإنما يكتفى بحصول اسم الاستقبال، فالعيان مرعيٌّ ليسوَّى بحسبه محراب عند الإمكان.
فأما إذا وقف في عرصة داره بمكة، فلا بأس، ولكن إن سوى محرابها بناءً على العيان في أول البناء، فهو خارج على ما ذكرناه، وإن بنى المحرابَ في البناء على الأدلة، ولم يعتن بالعيان في ابتداء الأمر، أو وقف واقف في بيتٍ من دارٍ لا محراب فيه، واعتمد فيه الأدلة، فظاهر ما نقله العراقيون جواز ذلك، وأنه لا يكلف الترقي إلى سطح الدار مع إمكان العيان فيه، وأطلقوا جواز الاجتهاد في هذه الصورة، واعتمدوا فيه ما صادفوا عليه أهل مكة وهم يصلون في عرصات الدور، وكذلك استفاض ذلك من الأوّلين.
وهذا فيه نظر عندي؛ فإن اعتماد الاجتهاد بمكة، مع بناء الأمر ابتداءً على عيانٍ، بعيد، فلينظر الناظر في ذلك مستعيناً بالله تعالى. والذي ذكرناه في قسم انتفاء الاجتهاد، والقدرة على درك اليقين.
738- ومما يتصل بهذا القسم أن من كان بالمدينة وكان يعاين محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه، فلا اجتهاد له، فإنَّ استداد موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مقطوع به، ولا اجتهاد مع إمكان درك اليقين، فلو أراد ذو بصيرة أن يتيامن أو يتياسر عن صوب محراب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لم يكن له ذلك، والذي تخيله زلل، فلا اجتهاد إذاً جملةً وتفصيلاً.
ولو دخل بلدةً أو قرية مطروقة فيها محراب متفق عليه، لم يشتهر فيه مطعن، فلا اجتهاد له؛ مع وجدان ذلك؛ فإنه في حكم اليقين، ولو أراد ذو بصيرة أن يتيامن بالاجتهاد قليلاً، أو يتياسر، فظاهر المذهب أنه يسوغ ذلك.
وسمعت شيخي يحكي فيه وجهاً- أنه لا يجوز؛ كما ذكرناه في مبهة والمدينة.
ومن قال: يتيامن أو يتياسر، يلزمه أن يقول: حق على من يرجع إلى بصيرة إذا دخل بلدة أن يجتهد في صوب القبلة، فقد يلوح له أن التيامن وجه الصواب، وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بُعد ظاهر، والعلم عند الله.
وتفصيل القول في التيامن والتياسر-مع اعتقاد اتحاد الجهة- يَبين بأمرٍ نذكره بعد ذلك في فصول الاجتهاد. إن شاء الله تعالى.
وهذا منتهى القول في أحد القسمين.
739- فأما القسم الثاني- وهو إذا عَسُر دَرَكُ اليقين، ففيه تفصيل القول في الاجتهاد: فإذا كان الرجل في سفره، وتعذر عليه مدرَك اليقين، فأول ما خاض فيه الخائضون ذكرُ أدلة القبلة، ولست أخوض فيه؛ فإن استقصاء القول فيه يطول، وقد ألف ذوو البصائر فيه كتباً، وشرْطُ هذا الكتاب إذا فرض فيه أمر، أن ينتهي إلى غايته، فلتُطلب أدلة القبلة من كتبها.
وذكر الصيدلاني منها مهابّ الرياح، وهذا بعيد عندي جدّاً؛ فإن الرياح لا معوّل عليها، والتفافها في مهابّها أكثر من استدادها، ثم لا يتأتى التمييز فيها.
740- ومما نذكره في هذا الفصل أن من يسافر هل يتعين عليه أن يتعلم من أدلة القبلة ما يستقبل به، وهل يلتحق هذا بما يتعين على المكلف تعلمه؟
ذكر بعض المصنفين فيه اختلافاً، وهو لعمري محتمل، فيجوز أن يقال: يجبُ؛ كما يجب تعلم أركان الصلاة وشرائطها، ويجوز أن يقال: لا يجب؛ فإن التباس جهة القبلة مما يندر، وإنما يتعين على كل مكلف تعلم ما يعمّ مسيس الحاجة إليه.
741- ثم إنما يجتهد البصير، فأما الأعمى، فلا شك أنه لا يتأتى منه الاجتهاد، وليس له إلا التقليد.
ومن لا يعرف الأدلة، ولم نوجب عليه التعلم، فإنه يقلّد أيضاً.
742- والعالم بالأدلة لا يقلد عالماً؛ إذا كان متمكناً من الاجتهاد. وإن التبست عليه الأدلة، وعسر عليه الاجتهاد، فقد نقل المزني عن الشافعي أنه قال: "ومن خفيت عليه الدلائل: فهو كالأعمى".
وعلى الجملة: اختلف أئمتنا في أنه إذا تعذر على العالم النظر، ولم يعسر على عالم آخر، فهل يقلّد من خفيت عليه الدلائل من لم يخْفَ عليه؟
فمنهم من قال: يقلّد؛ لأنه في حالته كالأعمى الذي لا يتمكن من النظر.
ومنهم من قال: لا يقلد.
واختيار المزني أنه يقلد، وقد استدل بنص الشافعي؛ حيث قال: "ومن خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى" فقد جعل الشافعي فيما ظنه المزني من خفيت عليه الدلائل كالأعمى، والأعمى يقلد، فليقلد من خفيت عليه الدلائل. فقيل له: لا يمتنع أن يكون المعنى من تشبيهه بالأعمى أن يصلي كيف يتفق، كالأعمى الذي لا يجد من يقلده، فإنه يصلي لحقِّ الوقت كيف يتفق، ثم يقضي إذا وُجد من يسدّده.
ووجه من لا يرى التقليد: أن البصير إذا توقف لحظة، لم يخرج عن كونه عالماً بالأدلة، والفترات قد تطرأ، والقرائح قد تتبلّد، فلو قلّد، لكان عالما مقلداً عالماً.
ثم الاختلاف الذي ذكرناه، في ضيق الوقت، وخشية الفوات، فأما إذا أراد أن يقلد أول الوقت، أو وسطه، فلا سبيل إليه؛ إذ لا حاجة، والتقليد إنما يقام مقام انقطاع النظر عند الحاجة.
فإن قيل: إذا جوّزتم إقامة الصلاة بالتيمم في أول الوقت-مع العلم بأن المسافر قد ينتهي إلى الماء في آخر الوقت- فهلاّ جوّزتم التقليد في أول الوقت؛ لإدراك فضيلة الأولية؟
قلنا: إنما جوزنا التيمم على قولٍ؛ من جهة أن الماء في مكان التيمم مفقود، وأما إذا توقف العالم، فهذا تردُّدٌ من ناظر، فلا نجعل هذا بمثابة عدم العلم والنظر رأساً، وفي المسألة-على الجملة- نوع احتمال.
ثم إذا جوزنا له أن يقلد، فقلَّد وصلى، صحت صلاته، ولا يلزمه القضاء؛ فإنا نزّلناه منزلة الأعمى في تقليده.
وإن قلنا: ليس له أن يقلد، فقد قال شيخي: يصلي على حسب حاله، ثم إذا انجلى الإشكال، يصلي ويقضي.
ويحتمل أن يقال: يقلد ويصلي بالتقليد، ثم يقضي إذا زال الإشكال، ويكون هذا بمثابة ما إذا تيمم في الحضر عند عدم الماء فيه، فقد نقول: يلزمه القضاء، ثم يلزمه أن يتيمم بحق الوقت، فالتيمم بدلٌ عن الوضوء، فنوجب إقامة البدل، وإن أوجبنا القضاء، فكذلك التقليد بدل عن الاجتهاد، فينبغي أن يقلّد، وإن كنّا نوجب القضاء. وهذا القائل يقول: إذا قلنا: يقلّد ويصلي، فهل يقضي؟ فعلى وجهين مبنيين على القولين فيمن تيمم بعذر نادرٍ لا يدوم، ثم زال العذر، فهل يقضي الصلاة؟ فعلى قولين.
743- ومما يليق بتحقيق القول في ذلك أن ما ذكرناه من التفريع والخلاف فيه إذا انحسم مسلك النظر على الناظر، فأما إذا لم ينحسم نظره، ولكن كان ينظر ويستمرّ في نظره، وعلم أن وقت الصلاة ينتهي قبل أن ينقضي نظره، فيقلد ويصلي لحق الوقت، أو يتمادى في نظره إلى أن يتم اجتهاده؟ هذا ينزل منزلة ما لو تناوب على بئر جماعة، وعلم واحد أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد انقضاء الوقت. وهذا أصل قد ذكرناه، ووقع الفراغ منه في باب التيمم.
فهذا تمام ما أردناه.
744- وإذا جوزنا التقليد، فلابد من العلم بصفة المقلِّد والمقلَّد، فأما المقلِّد، فهو الذي لا يتصور منه الاجتهاد كالأعمى.
وإن كان عالماً بصيراً، فركن إلى دَعة التقليد مع القدرة على الاجتهاد، لم يجز أصلاً.
وإن تحيّر وانحسم نظره، ولم يضق الوقت، لم يقلد، وإن ضاق الوقت مع الحَيْرة، ففيه الخلاف الذي ذكرناه. وإن لم ينحسم نظره، ولكن علم أنه لا ينتهي نظره في الوقت، فهو كالتناوب على البئر والثوب الذي يصلّي عليه وفيه.
وإن كان الرجل جاهلاً بأدلة القبلة، فهذا يبنى على أنه هل يتعيّن عليه تعلّم أدلة القبلة؟ وقد ذكرنا الخلاف فيه.
فإن قلنا: لا يتعين، فيقلّد ويصلي ولا يقضي، وإن قلنا: كان يتعين عليه التعلم، فلما لم يتعلم، فقد قصر وفرّط، فيلزمه القضاء، ثم يصلي لحق الوقت من غير تقليد، أو يقلد، ويصلي، ثم يقضي؟ فيه تردد ذكرته.
فهذا تفصيل القول في صفات المقلد.
745- فأما من يُقلَّد، فينبغي أن يكون عالماً بأدلة القبلة، وينبغي أن يكون مسلماً؛ لأنه لا تقبل أدلة المشرك بحال. ولو كان فاسقاً، لا يقبل قوله أيضاً. ولا تقبل دلالة صبي كما لا يقلَّد صبي، وإن بلغ مبلغ المجتهدين.
والقول الضابط في ذلك أنا نرعى في الدالِّ المقلَّد ما نرعاه في المفتي، غير أن العلم المرعي هاهنا ما يتعلق بأدلة القبلة.
746- ومما نذكره أن العالم وإن منعناه من تقليد عالم، فلو أخبره إنسان بطلوع الشمس من جهة مخصوصة، فهذا إخبار عن المشاهدة، فيجوز التعويل على قوله-إذا كان عدلاً ثقة- وهذا بمثابة رواية الأخبار، وليس هو من التقليد في شيء.
ثم يُشترط في المخبر عن المشاهدات في هذه الأشياء ما يشترط في رواية الأخبار، من: الإسلام، وعدم الفسق، وفي اشتراط البلوغ خلافٌ، مذكور في رواية الأخبار، ومختارُ معظم الأصوليين أنه لا يقبل رواية الصبي، ومَنْ قبلها يشترط أن يكون مميزاً، ولا يكون عرِماً كذاباً.
فهذا تفصيل القول في صفات المقلِّدين والمقلَّدين، ومن يجتهد، ومن يُخبر عن المشاهدة، وينزل منزلة الرواة.
747- ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في الإصابة والخطأ بعد الاجتهاد، وسبيل رسم التقسيم فيه أن نتكلّم في الجهتين إذا فرض الخطأ فيهما، ثم نذكر فرض الخطأ في الجهة، الواحدة.
فأما إذا قدّرنا الخطأ في الجهتين، فلا يخلو: إما أن يقع ذلك بعد الفراغ من الصلاة، أو في أثناء الصلاة؟ فإن قُدّر ذلك بعد الفراغ، فنقول:
748- إذا اجتهد وصلى إلى جهةٍ وفرغ، ثم تبين أنه أصاب، أو لم يتبين شيء، لا بيقين، ولا بغلبة ظن، بأن جرى ذلك في موضع، فرحل منه وامتد، فلا يجب القضاء أصلاً.
وإن صلى وفرغ، ثم تغير رأيه في تلك الصلاة، فإن تبيّن قطعاً أنه قد أخطأ من جهة إلى جهة، ففي وجوب القضاء قولان مشهوران:
أحدهما:وهو مذهب أبي حنيفة والمزني- أنه لا يجب القضاء، والثاني: أنه يجب القضاء، وتوجيه القولين مذكور في (الأساليب) فليتأمّله الناظر.
ثم كان شيخي يقول: إن تبين للمجتهد الخطأ في الصلاة التي أقامها، وتعين له الصواب قطعاً، ففي القضاء القولان المشهوران، وإن تبين الخطأ في الصلاة المؤداة، ولم يتبين الصوابَ وجهتَه، ففي القضاء قولان مرتبان على قولين في الصورة الأولى، وهذه الصورة أولى بألا يجب القضاء فيها؛ فإنه لو قضاها لم يأمن أن يقع له في القضاء مثلُ ما وقع له في الأداء، وهذا سببٌ من أسباب سقوط القضاء، بدليل أن الحجيج إذا وقفوا مخطئين يوم العاشر، لم يلزمهم القضاء، إذْ لم يأمنوا في القضاء مثلَ ما وقع لهم في الأداء.
وهذا الترتيب خطأ عندي لا أصل له؛ فإنه إن كان لا يأمن في قضاء الصلاة مثلَ ما وقع له في الأداء، في حالة الالتباس، فيمكنه أن يصبر حتى ينتهي إلى بقعة يتعيّن له فيها يقين الصواب، وهذا يسير لا عسر فيه، وليس كذلك خطأ الحجيج في وقت الوقوف؛ فإنه يطرد فيه زوال الأمن عن وقوع الخطأ في السنين المستقبلة كلها.
فهذا إذا فرغ المجتهد ثم تيقن أنه أخطأ في تلك الصلاة بعينها.
749- فأما إذا تغير اجتهاده، وغلب على ظنه أنه أخطأ في تلك الصلاة، فلا يلزمه قضاؤها؛ إذا كان تغيّر الاجتهاد بعد الفراغ من الصلاة، وهذا يبنى على أصلٍ مقرّر في الشرع- وهو أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
750- ومما نُجريه في ذلك قبل مجاوزة الفصل، أن الفقهاء احتجوا بقول على قول بمسائل، والمذهب فيها مضطرب: فمما استشهد به من نصر وجوبَ القضاء: فرض الخطأ في الوقت؛ فمن اجتهد في وقت الصلاة، وأخطأ وتيقن الخطأ، فتفصيل المذهب فيه، أن هذا إن وقع في التأخير، فالوجه: القطع بإجزاء الصلاة، وإن نوى الأداء فيها، فتقوم نية الأداء مقام نية القضاء في ذلك، وهذا يناظر الخطأ في شهر رمضان في حق المحبوس، الذي التبس عليه عين الشهر، فإذا صام باجتهاده شهراً، فوقع بعد رمضان، أجزأه.
ولو تبين للذي اجتهد في وقت الصلاة أنه أوقع الصلاة قبل الوقت، فإن تبين ذلك ووقت الصلاة باقٍ بعدُ، تجب إعادة الصلاة في الوقت. وإن لم يتبين ذلك حتى انقضى الوقت، فالذي قطع به الأصحاب وجوب القضاء.
وكان شيخي يخرج ذلك على قولين، كالقولين في نظير ذلك في صوم رمضان؛ فإن المحبوس إذا صام بالاجتهاد، ثم تبين له أنه كان صام شعبان مثلاً، وقد انقضى صومُ رمضان، ففي إجزاء ما جاء به قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى، فلا فرق إذن بين الصلاة والصوم، في فرض الخطأ في الوقت.
والذي أراه في ذلك أن الاجتهاد في الوقت إن كان ممن يتأتى منه الوصول إلى اليقين، بأن يَلْبَث ويصبر ساعةً، فإذا فرض الخطأ في التأخير، لم يضر ذلك، وإن فرض من هذا الشخص الخطأ في التقديم، فالوجه القطع بوجوب القضاء، فإن دَرَك اليقين إذا كان ممكناً، فإن سوغنا الاجتهاد، فيظهر فيه أن الاجتهاد يسوغ بشرط الإصابة.
فأما إذا كان المرء محبوساً في موضع، وكان لا يتأتى منه الوصول إلى دَرْك اليقين، فإذا فرض الخطأ في هذه الصورة، فيظهر حينئذ أن يكون التفصيل فيه، كالتفصيل في شهر رمضان، كما تقدّم.
751- ومما أجراه الأصحاب في توجيه القولين، الخطأ في الثوب الطَّاهر والنجس إذا فرض الاجتهاد، وهذا إن سلمه أبو حنيفة، فهو عندنا خارج على القولين في الخطأ في القبلة، وقد ذكرنا نظير ذلك في الخطأ في الأواني في كتاب الطهارة، فليتأمله الناظر ثَمَّ.
752- والقياس المقنع في ذلك، أن ما يتطرق إليه الاجتهاد من شرائط الصلاة، فإذا فرض فيه خطأ بعد الاجتهاد، فالقاعدة تقتضي تخريج القولين؛ فإن حقيقتها تؤول إلى أنّا-في قولٍ- نكلّف إصابة المطلوب، وفي قولٍ نكلَّف بذلَ المجهود في الاجتهاد، وهذا يجري في كل مجتَهد فيه جرياناً ظاهراً، فإن طرأ في بعض المسائل أمر-كما ذكرناه في تفصيل الخطأ في الوقت- فقد يقتضي ذلك مزيد نظر، كما تقدم الآن.
وهذا كله فيما يجري بعد الفراغ من الصلاة.
753- فأما إذا طرأ ما ذكرناه في أثناء الصلاة، فنذكر يقين الخطأ، ثم نذكر تغيّر الاجتهاد.
فأما إذا تعيّن الخطأ في أثناء الصلاة، لم يخل: إما أن يتعين الصواب أيضاً، وإما ألا يتعين الصواب. فإن تعين الصواب والخطأ، فإن قلنا: لو جرى ذلك بعد الفراغ، لزم قضاء الصلاة، فإذا طرأ في أثناء الصلاة، تبين بطلانها، وإن قلنا لا يجب القضاء إذا بان ذلك بعد الفراغ فإذا طرأ على الصلاة ففي المسألة قولان:
أحدهما: لا تبطل الصلاة، ويستدير إلى جهة الصواب، فتقع الصلاة الواحدة إلى جهتين، تشبيهاً له بصلاة أهل مسجد قباء، لما افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس، ثم بلغهم نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن القبلة قد تحولت، فاستداروا إلى الكعبة، وصحت صلاتهم، ولذلك سمي المسجد مسجد القبلتين.
هذا إذا تبين الصواب والخطأ في أثناء الصلاة.
754- فأما إذا بان يقين الخطأ في الصلاة، ولم يتبين الصواب، فإن عسر العثور على الصواب وطلبه، فتبطل الصلاة قطعاً؛ إذ لا سبيل إلى الاستمرار على الخطأ في الصلاة، والتحول إلى الصواب عَسر. فإن احتاج في الوصول إلى اجتهاد-وقد يطول الزمان فيه- ففي بطلان الصلاة على الجملة في هذه الصورة قولان، مرتبان على القولين في الصورة التي قبلَ هذه، وهي إذا تعين الخطأ والصواب معاً. والصورة الأخيرة أولى بالبطلان؛ والسبب فيه أن في الصورة الأولى تمكَن من الانقلاب إلى جهة الصواب، كما تعين له الخطأ، وليس كذلك الصورة الأخيرة؛ فإنه تعين له الخطأ، ولم يتصل بتعين الخطأ إمكان الصواب.
فإن قلنا ببطلان الصلاة، فلا كلام، وإن حكمنا بأن الصلاة لا تبطل، فهذا عندي يستدعي تفصيلاً.
وأقرب الأصول شبهاً بما انتهى التفريع الآن إليه، ما إذا تحرم المرء بالصلاة، ثم شك في أثناء الصلاة، في صحة نيته، فقال الأئمة: إن مضى ركنٌ، وانتقل المصلي إلى آخر، والشك مستمر، بطلت الصلاة.
وإن زال الشك قبل مضى ركن، فلا تبطل الصلاة. وهذا من غوامض أحكام الصلاة، وسأذكره في موضعه.
والقدر الذي يتعلق بما نحن فيه أنّه إن استمر طلب الصواب في أثناء الصلاة زماناً، والتفريع على أن الصلاة لا تبطل، فقد كان شيخي يقول: هذا بمنزلة ما ذكرتُه من الشك في النية.
وهذا مشكل عندي؛ فإنه إلى أن يتعين الصواب يكون وجهه منحرفاً عن القبلة. والوجه عندي: أن يمثَّل هذا بما لو صُرف وجه الرجل عن القبلة؛ فإنه إن دام ذلك زماناً، بطلت الصلاة، وإن لم يمض ركن-وإن قصُر الزمان- ففيه الكلام المستقصى في أول الباب.
ولقد شبهت هذه الصورة بما قدمته؛ لأن الذي صُرف وجهه معذور في نفسه، وكذلك الذي استدبر الكعبة مجتهداً، فهو على القول الذي نفرع عليه معذور، ثم إذا بان الخطأ، فمن وقت بيانه يجعل كالذي يُصرف وجهه عن القبلة، ولا يشك الفقيه أن الأَوْجَه الحكم ببطلان الصلاة؛ لغموض الاستمرار على الخطأ، واستئخار إمكان الصواب.
فهذا كله فيه إذا تيقن الخطأ في جهة استقباله.
755- فأما إذا لم يتيقن، ولكن تغير اجتهادُه، فأدى ظنّه إلى أن القبلةَ ليست في الجهة التي حسبها أولاً، فقد ذكرنا أن ذلك-إن فُرض بعد الفراغ من الصلاة- فلا يجب قضاء الصلاة؛ بناءَ على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد. فإذا طرأ ذلك في أثناء الصلاة، فلا سبيل إلى الدوام على موجب الاجتهاد الأول؛ فإن ذلك الاجتهاد قد زال، وحدث ظن يخالفه، ففي بطلان الصلاة قولان:
أحدهما: البطلان، لتعذر المضي واختلاف بنائه.
والثاني: لا نحكم على الجملة بالبطلان، ويبني على صلاته إن أمكنه البناء، كما سنفصله في التفريع.
فإن حكمنا ببطلان الصلاة، فإنها تنقطع، ويفتتح الصلاة إلى الجهة الثانية التي أدّى اجتهاده الثاني إليها.
وإن قلنا: لا تبطل صلاته، فينظر: فإن غلب على ظنه بطلان الاجتهاد الأول، ولم يلح له اجتهاد الصواب، وطال الأمر، فتبطل صلاته قولاً واحداً.
756- وإن تغير اجتهاده الأول، وغلب على ظنه وجهُ الصواب معاً؛ فإنه يستدير إلى جهة اجتهاده الثاني، ويكون هذا بمثابة ما لو تعيّن له الخطأ والصواب جميعاًً؛ فإنه يستدير إلى جهة الصواب على هذا القول، كذلك القول فيه إذا تبدل الاجتهاد من غير تعين يقين خطأ أو صواب، فأما إذا ظهر له الخطأ في اجتهاده ظنّاً، ولم يغلب على ظنّه وجه الصواب ولم يأيس من الإصابة، لو استتم الاجتهاد، فمصابرة الجهة التي كان عليها محال، والاستمرار على التردد-ولم تَبِن بعدُ جهةٌ يتحول إليها- عَسِر، فالأظهر الحكم بالبطلان، كما تقدم، ومن لم يُبطل، فالقول في الزمان المتطاول الذي لا يحتمل، والقصير المحتمل، وأن الرجوع إلى مضي ركن على حكم اللَّبس أو أقل، أم المعتبر صرف الوجه عن قبالة القبلة؟ كما تقدم حرفاً حرفاً.
757- والذي أجدده في هذا القسم، أنا إذا رأينا تمثيل هذا بما إذا صُرف وجه الإنسان عن القبلة، فلو أخذ يجتهد، وتمادى الزمن في هذه الصورة، وبلغ مبلغاً لا يُرى احتماله على القياس الذي رأيناه، من التشبيه بما إذا صرف وجهُ الإنسان عن القبلة، ثم تبين له في أثناء ذلك أنه كان مصيباً في اجتهاده الأول، فالذي أراه في هذا الآن، أن يلتحق بالقياس الذي ذكره شيخي في مضي ركن في زمان التشكك، في أنه هل نوى أم لا؟ إذا استبان بالأَخَرة أنه كان قد نوى؛ فإنه إذا تبيّن له بعد تغير الاجتهاد أنه كان مصيباً، فهو كما إذا تبين له بعد التشكك في النية أنه كان قد نوى، صحَّ. وهذا واضح فيما أردناه إن شاء الله تعالى.
نجز بهذا الفصلُ الذي رسمناه في طريان اليقين في الصواب والخطأ، أو تغير الاجتهاد بعد الفراغ من الصلاة، وفي أثناء الصلاة.
758- وبقي الآن الكلامُ في الجهة الواحدة إذا تغير الاجتهاد فيها.
فنقول: في مقدمة ذلك:
ظهر اختلاف أئمتنا في أن مطلوب المجتهد عين الكعبة أو جهتها، وهذا فيه إشكال؛ فإن المجتهد إذا كان على مسافة بعيدة، فكيف يتأتى منه إصابةُ مسامتة عين الكعبة؟ وكيف يقدر ذلك مطلوباً لطالب؟ والطلب إنما يتعلّق بما يمكن الوصول إليه.
وكان شيخي يقول: محل هذا الاختلاف يؤول إلى أن المجتهد يربط فكره في طلبه بجهة الكعبة أو عينها.
وليس ذلك واضحاً عندي، ولعل الغرض في ذلك يتضح بمسلكٍ آخر، ذكره العراقيون، وهو أنهم قالوا: هل يتصور دَرْكُ يقين الخطأ في الجهة الواحدة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يتصوّر ذلك، كما يتصور ذلك في الجهتين.
والثاني: لا يتصور درك يقين الخطأ في الجهة الواحدة.
فإن قلنا: يتصور ذلك، فعن هذا عبّر الأولون؛ إذ قالوا: "المطلوب عين الكعبة". وإن قلنا: لا يتصور درك اليقين فيه، ففي هذا عبر المعبرون، إذ قالوا: "المطلوب جهة الكعبة".
وهذا كلام ملتبس، فيه بعد عندي؛ فإن من ظنّ أن جهات الكعبة، أو جهات شخص المصلي في موقفه أربع، فقد بَعُد عن التحصيل بُعداً عظيماً، وكل مَيْلٍ يفرض في موقف الإنسان، فهو انتقال منه من جهة إلى جهة أخرى، فذكر الجهة الواحدة، وفرْضُ الخلاف فيها، وتقدير ردِّ الطلب إلى الجهة، أو عين البيت، كلام مضطرب؛ لا يشفي غليل الناظر الذي يبغي دَرْك الغايات.
759- فالوجه في ذلك عندي أن يقال: من اقترب في المسجد الحرام من الكعبة، فإنه يصير منحرفاً عنها بأدنى ميل وانحراف، بحيث يُقطع بأنه ليس مستقبلها، وإذا وقف في أخريات المسجد، فيختلف اسم الاستقبال اختلافاً بيناً، ولذلك لا يصطف في المطاف ثلاثون إلا ويخرج بعضهم عن مسامتة الكعبة، ويصطف في مؤخر المسجد ألف، ويسمى كل واحد منهم مستقبلاً. وقد تمهد أن التعويل على الاسم، فلا يسوغ تخيل غيره؛ فإن الخلق لو كُلِّفوا مُقابلة لو مَشَوْا على خطوط مستقيمة من مواقفهم، لاتصلت أجسادهم بالكعبة، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق.
ثم إذا تجدّد العهد بهذا، فالذي يقف بعيداً في المسجد، لو انحرف أدنى انحراف لا يخرج عن اسم المستقبل، وإن كان لو انحرف كذلك في المطاف، لكان مائلاً عن المسامتة، فإذا لاح ذلك فيمن يبعد في المسجد بعضَ البعد، فهو فيمن يقطن طرفَ الشرق والغرب أظهر وأبين.
760- فنبتدىء بعد ذلك، ونقول: إذا وقع الفرض في الماهر المتناهي في العلم بأدلة القبلة، فإنه لا يَقطع بسلب اسم الاستقبال عمن يلتفت على البعد بعضَ الالتفات، وإذا ظهر الالتفات والميل، فيقطع إذ ذاك، ولا يتوقف قطعه بأن يُولِّي الواقفُ سمتَ الكعبة، يمينَه أو يسارَه. فالصوب الذي لا يقطع الماهر على المتقلّب فيه بالخروج عن اسم الاستقبال، فهو الذي ينبغي أن يسميه الفقيه جهة الكعبة.
وإذا انتهى الأمر إلى منتهى يقطع البصير على المنحرف إليه بالخروج عن اسم الاستقبال، فهو جهةٌ أخرى، غيرُ جهة القبلة.
ثم حظ الفقيه وراء ذلك أنه يغلب على ظن الماهر أن بعض الوقفات-بين جَرْي الخروج عن اسم الاستقبال- أقرب إلى ابتغاء السداد من بعض، فهل يجب طلب المسلك الأسدّ في الظن؟
فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجب، كما لا يجب على الواقف في أخريات المسجد أن يتناهى في الاستداد.
والثاني: يجب؛ لأن الذي في المسجد على يقين من أنه بالتفاته القريب غيرُ خارج عن اسم الاستقبال، والبعيد على خطر من ذلك، فيجب عليه طلبُ الأصوب، فهذا هو الوجه.
وما قدمناه للأصحاب لا أراه شافياً.
فإن طلب طالب منا أن نَحُدَّ ما يقع من الالتفات مظنوناً، وما يقع مقطوعاً به، دلّ بطلبه على غباوته وعدمِ درايته بمأخذ الكلام، فليس ذلك أمراً يتصوّر أن يصاغ عنه عبارة حادّة ضابطة، وكيف يفرض ذلك؟ والأمر يختلف ويتفاوت بتفاوت المسافات، والقرب والبعد؟ فالأمر محال على معرفة البصير بأدلة القبلة، وقد تناهى وضوح ذلك إن شاء الله تعالى.
فهذه أصول الاجتهاد والتقليد في القبلة.
وأنا أرسم بعدها فروعاً توضح بقايا في نفوس الغوّاصين- إن شاء الله تعالى.
فرع:
761- إذا اجتهد الرجل وصلى صلاة إلى جهة، فلمّا دخل وقت الصلاة الثانية، تغير اجتهاده من غير قطعٍ بإصابة وخطأ، فلا شك أنه يصلي الصلاة الثانية إلى الجهة التي اقتضاها اجتهاده الثاني، وكذلك لو تغير اجتهاده ثالثاً في صلاة أخرى حتى صلى صلواتٍ باجتهادات إلى جهات، فالذي قطع به الأئمة، ودلّ عليه النص، أنه لا يجب قضاء شيءٍ من تلك الصلوات؛ فإن كل صلاة منها مستندة إلى اجتهاد، ولم يتحقق الخطأ في واحدة منها.
762- وذكر صاحب التقريب وجهاً مخرجاً: أنه يجب قضاء هذه الصلوات كلِّها، ولا يخرج هذا الوجه إلا على قولنا: إن من اجتهد وأخطأ يقينا يلزمه القضاء، وهذا وإن كان ينقدح ويتّجه، فهو بعيد في الحكاية، وتوجيهه-على بعده- أنه صلى معظم هذه الصلوات إلى غير القبلة، ونحن نفرِّع على أن من استيقن الخطأ في صلاة معينة، يلزمه قضاؤها، والخطأ هاهنا مستيقن، وإن لم يكن معيناً، فينزل صاحب الواقعة منزلةَ من فسدت عليه صلاة من الصلوات الخمس، وأشكل عليه عينها، فإنه يلزمه قضاء الصلوات كلّها، ولا فرق بين الصورة التي ذكرناها في الاجتهادات، وبين ما استشهدنا به إلاّ أن الصلوات هاهنا استندت إلى اجتهادات، ونحن نفرعّ على أن من اجتهد، وتعيّن له الخطأ يلزمه القضاء. فهذا وجه.
وفي كلام صاحب التقريب وجه آخر تلقيته من أدراج كلامه وأنا أذكره في صورة، ثم أبني عليها ما ينبغي.
فأقول: إذا صلى صلاتين بالاجتهاد إلى جهتين، فالنص أنهما صحيحتان، لا يجب قضاء واحدة منهما، وإن أوجبنا القضاء على المجتهد إذا تعين له الخطأ في الصلاة. والتخريج الذي حكاه صاحب التقريب-أنه يجب قضاء الصلاتين جميعاًً، وذكر وجهاً ثالثاً- أنه يقضي الصلاة الأولى، ولا يقضي ما أقامه باجتهاده الأخير، وهذا بعيد، وهو في الحقيقة نقض الاجتهاد الأول باجتهاده الثاني.
فعلى هذا لو صلى أربع صلوات بأربع اجتهادات إلى أربع جهات، فالنص أنه لا يجب قضاء واحدة منها، والتخريج الظاهر أنه يقضي جميعها، والوجه الغريب أنه يقضي ما سوى الصلاة الأخيرة.
والأصح النص وما عليه الجمهور، ثم يليه التخريج على بُعده، والثالث ضعيف جداً.
فرع:
763- إذا اجتهد، فصلى صلاة الظهر إلى جهة، ثم دخل وقت صلاة العصر، فهل يستمر على اجتهاده الأول؟ أم يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية مرّة أخرى؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون، أحدهما- أنه لا يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية مرّة أخرى؛ فإنه لم يتبذل المكان.
والثاني: يلزمه؛ لأن الصلاة الثانية واقعة جديدة تستدعي اجتهاداً مبتدأ، وقد ذكرت نظيراً لذلك في طلب الماء في التيمم.
وهذا له التفات على مسألة من أحكام الفتاوى، وهي أن المفتي إذا استُفتي، فاجتهد وأجاب، ثم استُفْتي مرة أخرى في تلك الواقعة فهل يستمر على نظره الأول؟ أم يجتهد مرة أخرى؟ فيه كلام مستقصىً في الأصول.
فرع:
764- إذا قلّد الإنسان مجتهداً، وتحرم بالصلاة، فمرَّ به مار، وقال: "قد أخطأ بك فلان، والقبلة في هذه الجهة" وعيّن جهة أخرى، فإن علم المقلِّدُ المتحرِّمُ أن الأول كان أعلم من الثاني، فلا يبالي بقول الثاني، وكذلك إذا رآه مثلَ الأول، وإن رآه أعلمَ، من الأول، فيترجح ظنُّه بهذا، فيتنزّل منزلة ما لو اجتهد الرجل بنفسه وتحرّم، ثم تغيّر اجتهاده في أثناء الصلاة وقد مضى ذلك مفصلاً.
وفيما نذكره دقيقة، وهي: أن المسألة مفروضةٌ فيه إذا قال المارُّ ما قال مجتهداً.
765- ولو كان المتحرم بالصلاة أعمى، فأخبره مار به يعرفه الأعمى: إنّك مستقبل الشمس. وليس يشك الأعمى أن القبلة ليست في صوب مشرق الشمس، فإذا كان المخبر موثوقاً به عند الأعمى، فلا شك أنه يعتمد قوله؛ فإنه في هذه الصورة يُخبر عن أمرٍ محسوس، لا تعلق له بالاجتهاد أصلاً.
ولو أخبره مجتهد بأنك على الخطأ قطعاً، فالذي ذكره الأئمة أنه يأخذ بقوله؛ فإن الأول قال ما قال اجتهاداً، وذكر أنه ظان، فنزل قطْع الثاني منزلة إخباره عن محسوس.
ولو كان قطع الأول بأن الصواب ما ذكره، ثم قطَعَ الثاني، ولم يكن أعلم من الأول، فلا يبالي بقول الثاني حينئذٍ، وإنّما قدّم قول الثاني هناك؛ لأنّه وإن لم يكن أعلم من الأوّل، فقطْعه أرجح من ظنّ الأول، وهذا بيّن لا شكَّ فيه.
766- ولو تحرّم المجتهد البصير باجتهاده بالصلاة، ثم عمي في الصلاة، فأخبره مجتهد أنه مخطىء فلا يبالي به، وإن عَلِمَه أعلمَ من نفسه؛ فإنه عقد صلاته باجتهاد، والمجتهد يعمل باجتهاد نفسه، وإن خالفه من هو أعلم منه.
ولو كان أعمى، فقلّد وتحرّم، ثم أبصر في أثناء صلاته، وكان عالماً قبل أن عمي، فلا يستمر على تقليده، فإن احتاج إلى الاجتهاد في أثناء الصلاة، فهذا يلحق بما إذا تغيّر اجتهاد البصير في أثناء صلاته وقد ذكرت ذلك موضحاً فيما تقدم.
وقد نجز ما أردناه في هذه الفنون تأصيلاً وتفريعاً، والله أعلم.
767- وممّا نذكره في ذلك أنه إذا اجتهد رجلان، واختلفا في الاجتهاد، فرأى كل واحدِ منهما صوبا وجهةً مخالفة لجهة الثاني، فلا يقتدي أحدهما بالثاني، كما ذكرته في مسائل الأواني حرفاً حرفاً. ولو كان الاختلاف بينهما في تيامن قريب وتياسُر، فإن قلنا: يجب على المجتهد مراعاة ذلك، فالخلاف فيه يمنع القدوة، وإن قلنا: لا يجب مراعاة ذلك، فلا يمنع الخلافُ فيه صحّة الاقتداء.
فصل:
قال الشافعي: "ولو دخل غلام في صلاة، فلم يكملها... إلى آخره"
768- إذا شرع الصبي في صلاة مفروضة، فبلغ باستكمال السن في أثناء الصلاة، فالذي قطع به الفقهاء القفاليّون أنه يلزمه إتمامُ تلك الصلاة، ولا إعادة عليه، وكذلك لو فرغ من الصلاة في أول الوقت، ثم بلغ، لم تلزمه الإعادة، خلافاً لأبي حنيفة والمزني.
ونحن نذكر طريقتهم طرداً، ثم نذكر طريقة العراقيين.
ولو أصبح الصبي صائماً في يوم من رمضان، فبلغ في أثنائه، فقد وافق أبو حنيفة والمزني أصحابنا في أنه لا يجب قضاء ذلك اليوم.
واعتلَّ أبو حنيفة بأن الصوم لا يجب في هذا اليوم بسبب طريان البلوغ؛ فإن بقية اليوم لا يسع صوم يوم، ولا يتصور إيقاع بعض اليوم في الليل.
وأئمتنا قالوا: لا يلزم القضاء، واختلفوا في العلّة، فمنهم من علل بما ذكرته، ومنهم من قال: سبب سقوط القضاء وقوعُ صوم هذا اليوم عن الفرض؛ قياساً على ما لو بلغ الصبي في أثناء صلاة الظهر، ويظهر أثر هذا التردّد فيه إذا بلغ الصبي مفطراً في يومه، فمن أصحابنا من قال: لا يجب قضاء هذا اليوم؛ فإن البلوغ طرأ عليه، ومنهم من قال: يجب القضاء؛ فإنه لم يقع فيه صوم، وقد صار مكلفاً فيه.
وقرّبوا هذا الخلاف من القولين فيه إذا قال: لله عليَّ أن أصوم يوم يقدم فلان فيه، فقدِم نصفَ النهار، فهل يجب على الناذر قضاءُ يوم؟ فيه القولان المشهوران، على ما سيأتي ذكرهما.
ثم ذكر ابن الحداد: أن الصبي إذا صلى يوم الجمعة صلاة الظهر، ثم بلغ-والجمعة لم تفت بعدُ- فعليه أن يقيم صلاة الجمعة، وليس كما لو صلى العبد الظهر، ثم عَتَق، والجمعة بعدُ غير فائتة، فإنه لا يلزمه الجمعة، وكذلك المسافر إذا صلى الظهر، ثم نوى الإقامة والجمعة غير فائتة، وفرق بأن الصبي لم يكن من أهل الفرض، والعبد والمسافر كانا من أهل الفرض، لما صلّيا الظهر.
وقد صار معظم الأئمة إلى تغليطه، ونسبته إلى الوقوع في مذهب أبي حنيفة؛ فإن مذهب الشافعي أن الصبي إذا صلى صلاة الظهر في أول الوقت في غير يوم الجمعة، ثم بلغ في الوقت، فلا إعادة عليه، وإن لم يكن الصبي مكلفاً لما صلى الظهر، فهذا منتهى كلام القفال وأصحابه.
769- وأما العراقيون فإنهم ذكروا ثلاث طرق: إحداها- ما ذكرناه.
والثاني: وهو اختيار ابن سريج، وتخريجُه: أن الصبيَّ إذا بلغ في أثناء الصلاة وبعدها في الوقت، يلزمه إعادة الصلاة، ولم يفرق بين أن يبقى من الوقت ما يسع القضاء، وبين أن يبقى ما يضيق عن إعادة الصلاة، فأوجب الإعادة مهما حصل البلوغ في الوقت.
وذكروا طريقة ثالثة عن الإصطخري، فقالوا: إنه قال: إذا بقي من الوقت ما يسع الإعادة، لزمه. وإن كان الباقي من الوقت يضيق عن الصلاة، فلا يجب القضاء، ثم خرّجوا عليه ما إذا بلغ الصبي في أثناء يومٍ من رمضان وكان قد أصبح صائماً فيه.
فأما على النص الظاهر، لا يجب القضاء، وكذا مذهب الإصطخريّ، فإنه يعتبر أن يبقى ما يسع العبادة، وبقية اليوم لا يسع صوماً، وحكوا عن ابن سريج أنه أوجب قضاء هذا اليوم؛ فإنه لا ينظر في إيجاب القضاء إلى ضيق الوقت وسعته.
وهذا الذي ذكروه في الصوم بعيد جداً.
ثم حكَوْا لفظ الشافعي في الصلاة، قالوا: قال الشافعي: "إذا بلغ الصبي في أثناء الصلإة أحببت أن يتمها" قال ابن سريج: "هذا يوافق مذهبي" فإنه أحب أن يتم تلك الصلاة، وأوجب الإعادة: أتَمها أو قطعها. وقال أبو إسحاق: معناه أُحِبُّ الإتمام والإعادة، فرجع الاستحباب إليهما، فأما الإتمام، فواجب، ولا تجب الإعادة.
فأما الذي يجب في ذلك على النص، أن القول في إتمام ما تحرم به ينزل منزلة ما لو تحرم المتيمّم بالصلاة، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة، فلا تبطل الصلاة على النص، ثم قد مضى القول في أن الأوْلى أن يتمّها، أو الأوْلى تقليبها نفلاً، ويبتدىء الصلاة بوضوء، وذكرنا وجهاً- أنه يجب الإتمام بلا خِيَرَةٍ، وهذا على الجملة كذلك، وتفصيل المذهب ذكرناه.