فصل: باب: اختلاف الحكام والشهادات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: في التحكيم:

12016- إذا حكّم رجلان رجلاً، فهل ينفذ حكمُه بينهما في الأموال؟ فيه قولان، والنكاح مرتب عليه؛ وهو أولى بألا يجوز، والعقوبات مرتبة على النكاح؛ ولا يخفى وجه ترتيبه.
واختلف الأصحاب في محل القولين: فمنهم من قال: إذا كان في البلد قاض، لم يجز التحكيم قولاً واحداً، وإن لم يكن، ففي المسألة قولان. وقال آخرون: إن لم يكن في البلد قاض، جاز التحكيم قولاً واحداً، وإن كان في البلد قاض، ففي المسألة قولان. ومن أصحابنا من طرد القولين في الموضعين.
والكلام في حقيقة هذا الفصل قد يتصل طرف منه بما لا يسوغ الخوض فيه، وهو إذا شغر الزمان عن إمام، فكيف الوجه في الأحكام المتعلقة بالولاة؟ ولا يليق ذكر ذلك بفن الفقه. وقد استقصينا ما فيه مَقْنع في الكتاب المترجم (بالغياثي).
12017- ثم يُشترط أن يكون المحكَّم ممن تقبل فتواه، ويضم إلى ذلك اشتراط حريته وذكورته، والقول الوجيز فيه أنا نشنرط أن يكون بحيث يسوغ من صاحب الأمر أن ينصبه قاضياً.
ثم لابد في تحكيمه من رضا الخصمين، ونزولهما جميعاً على حكمه، فلو تعلّق الحكم بثالث لم يصدر منه الرضا والتحكيم، فحكم المحكّم لا ينفذ عليه، ثم إذا رضي الخصماًن بحكمه ابتداء، فأنشأه، فهل نشترط استفتاح رضىً بعد الحكم؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه لابد من ذلك، وبه يحصل الالتزام التام، ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن يتم حكمه، لم ينفذ حكمه وفاقاً، وإنما الخلاف فيه إذا استمرا على الرضا حتى حكم، ولم يجددا رضاً. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا رضيا أولاً، ثم لما خاض، رجع أحدهما، لم يؤثِّر رجوعُه، ونفذ الحكم، وهذا بعيد. ولو رضيا، ثم رجع أحدهما قبل أن ينشىء الخوضَ، فلا وجه إلا إبطالُ الحكم، وفيه شيء، ولا تخفى المراتب الثلاث التي أشرنا إليها، فليرتب الناظر البعض منها على البعض.
12018- ولو تحاكم رجلان في دعوى قتل خطأ، فأقام المدعي بينة على دعواه، وحكم المحكّم، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في أن الدية هل تضرب على عاقلة المدعى عليه، والوجه عندي ألا تُضربَ عليهم؛ فإنه لم يوجد منهم الرضا بحكم المحكّم. ولو أقر المدعى عليه، لم تتحمل العاقلة ما أقرّ به، ما لم يصدّقوه، ثم المحكّم لا يهيء-على المذهب الظاهر- حَبْساً؛ فإنه إن فعل ذلك، فقد ضاهى القاضي؛ وليس إليه إلا إثبات الحكم فحسب. وأبعد بعض الأصحاب، فجوّز ما منعناه. وكان شيخي يقول: ليس إليه استيفاء العقوبات، وإنما إليه إثباتها؛ فإن إقامتها استقلالٌ عظيم وخرمٌ لأبهة الولاية. والصحيح عندنا ما ذكره، والعلم عند الله تعالى.
فصل:
قال: "وأحب للإمام إذا ولّى القضاء رجلاً... إلى آخره".
12019- الإمام إذا كان يولّي رجلاً القضاء، فينبغي أن يتخير من يصلح له، ويستجمع الشرائط المرعية، وهي: أن يكون مفتياً حراً ذكراً، ولم نذكر المجتهد؛ فإن الفاسق مجتهد، واجتهاده نافذ عليه فيما عليه وله، ولكن لا تقبل فتواه، والكلام في صفات الاجتهاد يطلب في الأصول، والذي أراه أن يضم إلى ما ذكرناه الكفايةُ اللائقة بالقضاء، وهي عبارة عن التشمير والاستقلال بالأمر، ومواتاةِ النفس على الجد فيما إليه، وهذا يضاهي من صفات الإمام النجدةَ.
وهل يجوز أن يكون القاضي أمياً؟ فيه اختلاف ذكره العراقيون وقد أشرت إليه فيما تقدم.
12020- ثم قال الشافعي: "إذا ولّى الإمام رجلاً القضاء، فالأولى أن يوليَه الاستخلاف، فإن الحاجة تمَسّ إليه في عوائقَ تطرأ ومرضاةٍ تعرض". فإن نهاه عن الاستخلاف، لم يستخلف، ولم يخالف، ولو أطلق توليته، ولم يتعرض للاستخلاف إذناً فيه، ولا نهياً عنه، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يستخلف؛ فإنه لم يفوض إليه الاستخلاف.
والثاني: أنه يستخلف؛ فإنه والٍ، وليس مستناباً، وهذا متجه لولا الوفاق على أنه إذا نُهي لم يستخلف.
والوجه الثالث:ذكره الإصطخري- وهو أن خِطة الولاية لو اتسعت بحيث لا يتأتى منه الاستقلالُ فيها بنفسه، فله الاستخلاف؛ فإن مطلقَ توليتِه في مثل هذه الخِطة يُشعر بذلك، وإن كان مستقلاً بما فُوِّض إليه لم يستخلف، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في توكيل الوكيل.
ثم حيث يَستخلِف، إن أقام غيره مقام نفسه من التصدي لأركان القضاء، فيُشترط في خليفته من الاجتهاد وغيره ما يُشترط فيه، وإن كان يستخلف في آحاد الأركان، فقد لا يُشترط الاجتهاد، بل يكتفى بالاستقلال بذلك الركن المفوض إليه، وهذا كاستخلافه من يحضر موضعاً لتعيين الشهود بذلك الموضع، أو كنصبه حاكماً في التزكية، أو ما جرى هذا المجرى، والاجتهاد إنما يشترط فيمن يستقل بالحكم والإمضاء، وكان شيخي يجوّز قصور حكام النواحي عن الاجتهاد إذا لم يفوض إليهم إمضاءَ الحكم، وإنما فوّض إليهم سماعَ البيّنات، وهذا يُحْوِج إلى حظ صالح من الفقه.

.فصل: في العزل وما يوجب الانعزال:

12021- إذا أراد الإمام أن يعزل قاضياً-مع صلاحه للقضاء- فإن رابه منه أمر، نفذ العزل-وإن لم يتحققه- إذا حصل الظن الغالب.
وإن لم يظن به إلا الخير، فقد قال الأصحاب: إن عزله بمن هو فوقه، نفذ العزل، وإن عزله بمن هو دونه في الصلاح للأمر، لم ينفذ العزل في ظاهر المذهب، وإن عزله بمن هو في مستواه، فعلى وجهين، هكذا رتبه القاضي.
وإطلاق هذا الكلام على هذا النسق غفلة عما يُرعى في هذا الباب.
فنقول أولاً: حقٌّ على الإمام ألا يُصدر شيئاً من أمور المسلمين إلا عن رأي ثاقب، ونظر في المصالح، وتأكُّدُ هذا المعنى على قدر الخطر فيما يأتي ويذر، فينبغي أن يوفي كلَّ شيء حظَّه من النظر، وهذا يطَّرد في العزل والتولية، فإن عزل شخصاً بمن هو دونه لمصلحةٍ، وهي أن يرى الأصلح أولى لشغلٍ أهمَّ مما هو فيه، فهذا ينفذ، ويجب القطع به، ولا يسوغ تقدير خلافٍ فيه. وإن فُرض منه عزلٌ مطلق، فلا اعتراض عليه، إذا كان يتطرق إليه إمكان النظر، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف.
وإن رددنا الكلام إليه في نفسه، وقلنا: يصدر عزلُه والياً عن نظرٍ، فهل ينفذ ذلك؟ فهذا مما تردد فيه بعض الناس المنتمين إلى الأصول. والذي أقطع به أنه ينفذ. ولكن يتعرض صاحب الأمر بترك الأصلح لخطر المأثم، ولو لم نقل هذا، لرددنا حكم من ولاّه ثانياً، وهذا يجر خبلاً عظيماً، ولست ألتزم الخوض فيه؛ فإنه من غمرات أحكام الإمامة.
ولو عزل القاضي نفسه، انعزل، وهذا يتعلق أيضاً بطرفٍ عظيم من الإمامة، وخلعِ الإمام نفسَه، فلا نتعرض له، ونكتفي بالقدر الذي ذكرناه.
12022- فأما القول فيما ينعزل به القاضي، فأجمعُ كلامٍ فيه أن نقول: كل طارىء عليه يمنع من ابتداء التولية فإنه يوجب انقطاع التصرف بالولاية، كنسيانٍ يطرأ، ويُخل بالاجتهاد، أو الجنون، وهذا لو فرض في الإمام لم نخض فيه أيضاً، وفي فسق الإمام كلام مُخْطِر. فأما فسق القاضي، فيوجب صرفَه، وهل ينعزل بنفسه؟ قطع فقهاؤنا المعتبرون بانعزاله من غير حاجة إلى إنشاء عزل، وقال بعض الأصوليين من علمائنا: لا ينعزل، بل يُعزل، وينفذ من أحكامه ما يوافق الشرع.
ثم إذا جُنّ القاضي، ثم استبلّ، فهل هو على القضاء؟ فيه اختلاف مشهور بين الفقهاء: منهم من قال: قد انعزل بالجنون، كالوكيل يجن، ومنهم من قال: إذا استبلّ، فهو على ما كان عليه؛ فإنه متصدٍّ للولاية؛ فلا يقاس بالاستنابة الضعيفة.
والوجه الحكم بالانعزال؛ لأن تلك الولاية جائزة من جهة أنه يملك عزل نفسه.
والإمام-على الرأي الظاهر- يعزله أيضاً.
12023- ولو عزل الإمامُ القاضي؛ ففي انعزاله قبل بلوغ الخبر طريقان للأصحاب: منهم من قال: فيه قولان كالقولين في انعزال الوكيل قبل بلوغه خبر العزل. ومنهم من قال: لا ينعزل القاضي قبل بلوغ الخبر، قولاً واحداً؛ فإن الأمر في ذلك مُخطر، وتتبّع الأحكام التي أمضاها عسر، والأولى بالإمام أن يعلّق انعزاله ببلوغ الخبر، فيقول في كتابه: "إذا وقفتَ على كتابي، فأنت معزول". ولو قال: "إذا قرأت كتابي، فأنت معزول " فلم يقرأه بنفسه، وقرىء عليه، قال الصيدلاني: ينعزل، وجهاً واحداً.
وقد ذكرنا في مسائل الطلاق تفصيلاً في ذلك، فرامَ الفرق بينهما؛ صائراً إلى أن تفاصيلَ الصفات مرعيةٌ في تعليق الطلاق، فإن ذكرنا خلافاً في صورةٍ، فسببه هذا، وأمر العزل يُرعى فيه الإعلامُ، ولا يردّد على دقائق الصفات، فإنّ قَصْدَ الإمام هذا، والقصد أغلب من صيغة اللفظ. ولو راعى الإمام غير الإعلام في ذلك، لكان في مقام العابث. هذا كلامُه، وهو حسن، ولكن اتفق الأصحاب على التسوية بين هذا وبين الطلاق في الخلاف والوفاق.
12024- ومما يتصل بهذا الفن أن القاضي إذا عُزل، أو انعزل، أو مات، وله مستخلفون، فكل من كان في أمرٍ جزئي لا يستقل، كمن يُصغي إلى شهادةٍ في خصومة معينة، فإنه ينعزل، ومن كان في أمر مستقل كمستخلَف بحكمٍ، أو قيّم في مال طفل، فحاصل ما ذكره الأصحاب في انعزال هؤلاء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنهم ينعزلون؛ فإنهم فروع من ولاّهم.
والثاني: لا ينعزلون، فإنهم ولاة بأنفسهم.
والثالث: أن القاضي لو استخلفهم بالإذن، لم ينعزلوا، وكأنهم منصوبون من جهة الإمام، والقاضي واسطة في توليتهم.
وإن ملّكنا القاضيَ الاستخلافَ من غير إذنٍ صريح فيه، فإذا انعزل، انعزل مستخلَفوه؛ فصلنهم تفرعوا عليه حقاً في هذه الصورة.
وهذا التفصيل تخييل؛ فإنّا إذا ملّكناه الاستخلاف فصَدَرُه عن الإمام أيضاً.
ولو مات الإمام، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب القطع بأنه لا ينعزل ولاتُه، بخلاف خلفاء القاضي، فإنا لو حكمنا بانعزالهم، لتفاقم الأمر وعظُم الخطب، وشغَرَت الخِطة عن أحكام الحكام إلى أن يظهر إمامٌ، وتوليةٌ من جهته.
ومن الفقهاء من طرد الخلاف في ولاة الإمام، وهذا بعيد.
12025- ومما يليق بهذا المنتهى أن القاضي إذا عُزل، فلو قال: قد كنت قضيت لفلان، لم يُقبل قوله، كالوكيل إذا انعزل، ثم أقر بتصرفٍ قَبْل الانعزال، فقوله مردود، ولو قال القاضي في زمان الولاية: قد قضيت لفلانٍ مُخبراً، فقوله مقبول، كالوكيل يقر في زمان الوكالة، ولا يُحوَج القاضي إلى إثبات ما أخبر عنه ببيّنة-وإن منعنا القضاء بالعلم- وهذا متفق عليه؛ ولو أُحْوج إلى البينة، فعند من يقيمها؟!
ولو شهد عدلان على قضاء القاضي بعد العزل: ثبت قضاؤه بالبينة، ولو شهد شاهد واحد، وانتصب القاضي المعزول شاهداً ثانياً على قضاء نفسه؛ فالذي ذهب إليه الأصحاب أن قوله مردود، وقال الأصطخري- فيما حكاه العراقيون: شهاته على قضاء نفسه مقبولة كشهادة المرضعة، فإنها تشهد على إرضاع نفسها، فتقبل شهاتها.
فإن جرينا على ما هو المذهب، ورددنا شهاته مع شاهدٍ، فقال: أشهد أنه قضى لفلان قاضٍ عدل ولم يسمّه، ففي قبول الشهادة على هذا الوجه وجهان- ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أن ذلك ممتنع؛ فإن الظاهر أنه يعني نفسه ويشبّب بها والثاني- يقبل؛ كما لو شهد عدلان-لم يقضيا قط- على قضاء قاضٍ، من غيرتسمية وتعيين، فظاهر المذهب قبول ذلك.
فرع:
12026- إذا ولّى الإمام رجلاً القضاءَ، وعزل من كان قبله، فجاء إلى مجلس القاضي رجل وادعى أنه ارتشى منه، فالجديدُ يُعدي على المعزول، ويفصل الخصومةَ بينهما. فأما إذا ادّعى أنه ترك الصواب في خصومة، وقضى بشهادة عبدين، أو مُعْلِنين بالفسق، فهل يقبل القاضي الجديد هذه الدعوى؟ ذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه لا يقبل، ولا يستحضر المعزول لذلك.
وهذا ليس بشيء، والوجه القطع باستحضاره، والبحثُ عن حقيقة الحال، ثم إذا أحضره، ولم يُقِم المدعي بيّنةً، فقال: حلّف لي هذا القاضي، فهل يحلّفه؟ ذكروا فيه وجهين أيضاً؛ فإن أقصى درجات المعزول أن يكون مؤتمناً، والمؤتمن يحلّف.
والثاني: لا يحلَّف، فإنه ليس يدعي عليه مالاً، وقد ذكر صاحب التقربب هذا الخلاف، وزاد، فقال: من أصحابنا من قال: الدعوى مسموعة على الإطلاق، ثم فرّع المذهب كما مضى. ومنهم من قال: لا تسمع الدعوى حتى يقول: أخذ مني المال ظلماً. والقول في ذلك تمهد.
ثم قد ذكرنا الرجوعَ عن الشهادة، وأنهم يُغرّمون إذا رجعوا، والقاضي إذا رجع هل يُغرّم؟ وسيأتي هذا في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
فصل:
قال: "وكل ما حكم به لنفسه... إلى آخره".
12027- سيأتي أن شهادة الإنسان لولده مردودة، فقال الأصحاب: قضاؤه له بمثابة شهاته له.
والأصح تفصيل ذلك، فنقول: قضاؤه له بعلمه مردود-وإن جوّزنا القضاء بالعلم- قياساً على الشهادة، فأما إذا قضى له ببيّنة، ففيه وجهان، وقضاء القاضي على عدوه كشهادته على عدوه، فالوجه عندنا الفصل بين القضاء بالعلم والقضاء بالبيّنة، على الترتيب الذي ذكرناه.
ولو منعنا قضاء القاضي لولده، فلو سمع البيّنة له، وفوّض القضاء إلى غيره، ففي
المسألة وجهان. هكذا رتّبه الأصحاب.
والوجه عندي أن يقال: لا ينفذ تعديلُه البيّنةَ فيما يتعلق بولده، وكذلك إذا كان هو الناقل، فلا مساغ له وإن نقل الشهادة شاهدان عدلان عن الشاهدين الأصليين.
فرع:
12028- ذكر صاحب التقريب في أثناء كلامه أن القاضي الصارف إذا كان يحاسب الأمناء والأوصياء، فذكر بعضهم أن القاضي المصروف فرض له أجراً من المال، فإن أقام على ذلك بيّنة، وكان ذلك قدرَ أجر مثله، وفّاه القاضي الصارف ذلك. وإن صدّقه القاضي المعزول، فلا حكم لتصديقه، كما تقدم ذلك.
ولو ادعى أجراً كما وصفناه، ولم يُقِم بينةً، وكان الذي ادعاه أجر مثله، فهل يقبل قوله في ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب:
أحدهما: يُقبل، فيحلّفه ويوفّيه، ووجهه أن عمله متقوَّم، فلا ينبغي أن يُبْنَى الأمرُ على تضييعه، وهذا يلتفت على أن من استعمل غيره، ولم يذكر له أجراً، فهل يستحق إذا عمل الأجر؟ فيه خلاف مذكور. والوجه الثاني- أنه لا يقبل قوله حتى يقيم البيّنة.
فرع:
12029- إذا ادعى قوم حقوقاً على رجل، فذكر كل واحد ديناً، ووكلوا بحقوقهم وكيلاً واحداً ليخاصم عنهم، فإن لم يرضَوْا بأن يحلّفه يميناًً واحدة، فلابد وأن يحلف في حق كل واحد منهم يميناً، وإن رضُوا بأن يحلّفه القاضي يميناً واحدة في حق جميعهم مشتملاً على نفي دعاويهم، فهل يقتصر القاضي على يمين واحدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه يقتصر على يمين واحدة؛ فإن الأيمان حقوقُهم، فإذا رضوا، وجب القضاء على حكمهم.
والوجه الثاني- أن ذلك لا يجوز؛ فإن الخصومات متعددة، واليمين جارية في كل خصومة، فالاكتفاء بيمين واحدة يُغيّر نَظْم الخصومات، وهذا بمثابة الاكتفاء بشاهد واحد، فالمدعَى عليه لو اكتفى ولم يُقر، فليس للقاضي أن يقضي بشهادة الواحد، وكذلك القول في جملة أركان الخصومة واليمين منها، والله أعلم بالصواب.

.باب: اختلاف الحكام والشهادات:

قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]... إلى آخره".
12030- الإشهاد في البيوع وغيرها من العقود محثوث عليه، لقَطْع توقّع الجحود، وليس حتماً، فلا يجب الإشهاد إلا على عقد النكاح، وفي الرجعة قولان.
وأوجب داود الإشهاد، واستدل عليه بأن قال: "أثبت الله الإشهادَ، وأثبت الرُّهنَ المقبوضة، إذا تعذر الإشهاد بدلاً في الاحتياط عن الإشهاد " ثم الرَّهنُ لا يجب وإن تعذّر الإشهاد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى بعضٌ دماءَ بعض وأموالَهم، ولكن البيّنة على المدير واليمين على من أنكر»، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع أعرابياً فرساً، فجحد الأعرابي الثمن، بقول بعض المنافقين، وجعل يقول: ائت بشاهدك يا محمد إن كان لك شاهد، فشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خُزيمةُ بن ثابت الأنصاري فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لِم تشهد لي، ولم تحضر بيعنا؟ قال: إني أصدقك في أخبار السماء، أفلا أصدقك على هذا الأعرابي؟ فقال له: أنت ذو الشهادتين» فكان خزيمةُ بعد ذلك يشهد عند الخلفاء، فيقضون بشهاته وحده.
وأصل الشهادة مُجمع عليه.

.باب: عدّة الشهود وحيث لا يجوز النساء:

قال الشافعي رضي الله عنه: "دلّ الله على أن لا يجوز في الزنا أقلُّ من أربعة... إلى آخره".
12031- قال الأئمة: القضايا على خمسة أضرب:
المرتبة العليا منها يشترط فيها البيّنة الكاملة، وهي أربعةٌ من الشهود الذكور، وهي الزنا، واللواطُ في معناه؛ إذا أوجبنا الحد فيه، وإن لم نوجب-على قول بعيد- فهل يشترط في ثبوته الأربعة؟ على قولين، قدمنا ذكرهما.
قال الله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] وقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور: 13]، وقصة أبي بكرةَ مشهورة. ومقدار حاجتنا منها أن أبا بكرة كان في غرفةٍ له مع جماعةٍ منهم: نافع، ونُفَيع، وزياد، وكان المغيرة بن شعبة في غرفةٍ له بحذاء القوم، وكان أسبل ستراً، فهبّت ريحٌ، ورفعت الستر، فوقع بصر القوم عليه وهو جالس على بطن امرأةٍ يخالطها، فجاء أبو بكرة والقوم معه إلى عمر، وشهد أبو بكرة ونافع ونفيع وجزموا شهاداتهم، فبقي زياد، واختلفت الرواية: فروي أن عمر قال له: "أرى وجه رجل أَرْيَحيّ لا يفضح الله على لسانه واحداً من أصحاب نبيّه عليه السلام، وفي بعض الروايات أنه أغلظ له القول، فقال: يا سَلْحَ الغراب بم تشهد؟ فقال: رأيتُ نَفَساً يعلو، واستاً ينبو، ورأيتهما يضطربان في لحاف، ورجلاها على عاتقه كأنهما أذنا حمار وما رأيت أكثر من ذلك، فقال: الله أكبر، ودرأ الحد".
وللإمام أن يفعل مثلَ ذلك في حدود الله، فيسعى في الدرء جهده قبل ثبوته، ويشهد لذلك قصة ماعز، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، وقال لمن حُمل إلى مجلسه بتهمة السرقة: "ما إخالك سرقت، الحديث".
والإقرار بالزنا لا يشترط فيه العدد، كما تقدم في موضعه، وهل يثبت بشهادة رجلين، أم لابد من أربعة؟ فعلى قولين مشهورين تقدما.
وليس للإنسان أن يشهد على الزنا بمخايل الأحوال وقرائنها، وإن غلبت على الظن، أو قربت من اليقين، بل يشهد إذا رأى ذلك منه في ذلك منها كالمِرْود في المُكْحُلَة، ثم لابد من التصريح في لفظ الشهادة. كما سيأتي إن شاء الله هذا الفن في أثناء الكلام. وما ذكرناه كناياتٌ لا يكتفى بها من الشاهد على الزنا.
12032- وهل يجوز للشهود تعمُّدُ النظر إلى سوءة الرجل والمرأة، ليشهدوا على الزنا، أم يحرم ذلك عليهم؟ وإنما يشهدون إذا وقع بصرهم على ذلك وفاقاً؟ ذكر العراقيون وجهين في ذلك:
أحدهما: أنه يجوز تعمد النظر لإقامة الشهادة.
والثاني: لا يجوز؛ فإنا مأمورون بالستر جهدنا، منهيون عن التجسس.
وكل ما يقبل فيه شهادة النسوة على التجرد، وهو مما لا يطّلع عليه الرجال منهن غالباً، فهل للرجال تعمد النظر إلى تلك المواضع لتحمل الشهادة إذا مست الحاجة إليها؟ ذكروا في ذلك وجهين، ثم جمعوا تحمل الشهادة على الزنا إلى تحمل الشهادة على بواطن النساء، وطردوا فيهما طريقين: قالوا: من أصحابنا من قال: لا يحل تعمد النظر لتحمل شهادة الزنا وجهاً واحداً، وفي جواز تعمد النظر إلى بواطن المرأة للشهادة وجهان؛ فإن الحدود على الدرء. ومنهم من قلب الترتيب.
ثم المعللون سلكوا مسلكين: فقال بعضهم: يجوز تعمد النظر إلى البواطن لتحمل الشهادة على النساء وجهاً واحداً، وفي التحمل لأجل الشهادة على الزنا وجهان. وقال قائلون: لا يجوز التعمد في البواطن لأجل الشهادة في غير الزنا مذهباً واحداً؛ لأن في النساء مَقْنعاً، فلا حاجة إلى الرجال، وفي النظر لأجل تحمل شهادة الزنا وجهان، هذا ما ذكروه.
وقد نجزت مرتبةٌ على قدر الغرض، ولسنا نضمن استقصاءَ كل أصل. وإنما نبغي توطئة الأصول وتمهيدها.
12033- المرتبة الثانية- لا يشترط فيها العدد الكامل-وهو الأربعة- بل يكفي عدلان، ولكن لا مدخل للنساء فيه.
والقول في هذه المرتبة ينقسم، فمنه متفَق عليه بين العلماء، ومنه مختلف فيه.
أما المتفق عليه، فما يتعلق بالعقوبات، فلا تثبت عقوبةٌ إلا بشهادة رجلين عدلين، كما سنصف الشهود بعد ذلك إن شاء الله، ولا فرق بين ما يثبت حقاً لله كحد الشرب، وقطع السرقة وحد القطّاع، وبين ما يثبت حقا للآدمي كالقصاص في النفس، واليد، وحد القذف.
وأما المختلف فيه، فمذهب الشافعي أن كلَّ ما ليس بمال، وليس المقصود من إثباته المال، وهو مما يطلع عليه الرجال، فلا يَثْبُت إلا بعدلين ذكرين كالنكاح، يثبته الرجل عليها، والرجعة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، واللعان، فلا يثبت شيء منها إلا بما ذكرنا عندنا. وألحق الأئمة بذلك الوصاية، نعني نَصْبَ الوصيّ، وألحقوا به الوكالة، وإن كانت في مال، لأنهما ليسا بمال، بل يفيدان حقَّ التصرف، والمالُ لغير المتصرف، والإقرارُ بالاستيلاد من هذا القسم، إذا كانت تُثبت والسيدُ منكر، والإقرار بانقضاء العدة من ذلك.
وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: ما سوى العقوبات يثبت بشهادة رجل وامرأتين.
وسلك الشافعي مسلكاً حسناً يليق بمنصبه، فقال: مراتب الشهادات لا يتطرق إليها قياس، والغالب عليها التعبد والاتباع، وبينة الزنا ثابتة في نص القرآن، فاتبعناها، وليس للشهادة على القصاص ذكر في الكتاب والسنة، وإجازة شهادة النسوة ثابتة بالنص في الأموال في آية المداينات، والشهادة على الرجعة في كتاب الله مقيدة بذوي عدل، فكان القصاص عندنا ملتحقاً بالرجعة لا بالأموال.
ثم قال: لا دليل في القصاص إلا اتجاهُ إلحاقه بالرجعة، فكيف يثبت بشهادة رجل وامرأتين، في كلام له رضي الله عنه ذكرناه في (الأساليب).
12034- المرتبة الثالثة- فيما يثبت برجل وامرأتين، وهو المال، وكل ما يُعنى به المال وحقوقه. أما الأموال، فبيّنة، وما يؤول إلى المال، كالبيع، والشراء، فإن هذه العقود لا تَعْني إلا المالَ، والمعنيّ بها أحكامٌ تنتظم في الأموال، فيثبت بالشاهد والمرأتين البيعُ، والشراء، والإجارة، والعُروض، وإتلاف الأموال، والقتل خطأ، والجوائف، والسِّمْحاق دون المُوضِحة إذا لم يجر القصاص فيها، وفسوخ عقود الأموال، وحقوق الأموال كالخيار واشتراط الرهن، والرهنُ نفسه، والضمان، والإقرار بالمال، والإبراءُ عن الأموال، والحقوقُ وقبضُها.
ومن جمللها قبضُ نجوم الكتابة إلا النجم الأخير؛ فإن المكاتَب إذا أراد إثبات إقباضه برجل وامرأتين، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يثبت، لأنه إقباضُ مال.
والثاني: لا يثبت، لأن قصد العتق ظاهر فيه، ووطء الشبهة يثبت إذا كان المقصود من إثباته مهر المثل، وتثبت طاعة المرأة لتستحق النفقة، ويثبت القتلُ لاستحقاق السَّلَب، وما في معنى ما ذكرنا لا يخفى مُدركه إذا فَهِم الإنسانُ المقاصدَ، والمرأة إذا أثبتت النكاحَ للمهر، ثبت المهر وإن لم يثبت النكاح، والوصية تثبت وإن لم تثبت الوصاية، والبيع يثبت، وإن لم يثبت التوكيل به.
وخرج شهود المال، وتعديلهم، فلا يثبت إلا بذَكَرين؛ فإن هذا ليس من موجِبات الأموال، بل هي إثبات صفات الشهود، ولا تختص فائدتها بواقعة؛ فإن من ثبتت عدالته في واقعة، تثبت في غيرها.
والأصح أن الأجل من حقوق الأموال؛ فإن مقصوده سقوطُ المطالبة في مدة، وإذا كان الإبراء يثبت بالرجل والمرأتين، فلأن يثبت سقوط المطالبة أولى.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في إلحاق الأجل بالوكالة، وهذا أشاعه الخلافيون، ورمز إليه أئمة المذهب، ولا يصير إليه إلا ضعيف، لا يهتدي إلى مآخذ المذهب، وستأتي المسائل، والغرض الآن الإيناس بالأصول.
12035- المرتبة الرابعة- ما يثبت بشهادة النسوة المتجردات، وهو كل ما لا يطلع عليه الرجال من النساء غالباً، إلا عن وفاق، كالولادة وعيوب البدن، ومن جملة ذلك الرضاع، فهذه الأشياء تثبت بشهادة أربع نسوة على شرائط الشهادة.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: "الولادة-من جملتها- تثبت بشهادة القابلة وحدها-على تفصيلٍ له معروف- وما عداها لا يثبت إلا بشهادة رجل وامرأتين، أو رجلين".
وما يثبت بشهادة النسوة المتجردات يثبت بشهادة رجل وامرأتين ويثبت بشهادة رجلين.
12036- المرتبة الخامسة-ما يثبت بشهادة ويمين- وفي هذا باب مقصود سيأتي من بعدُ، إن شاء الله- ولا تثبت الولادة وعيوب النساء بشاهد ويمين.
فنقول: ما يثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين، إلا ما يتعلق ببواطن النساء، والسر فيه أن المتبع في الشاهد واليمين السُّنَّةُ، وإلا فالقضاء بشاهد واحد ويمين الطالب خارج عن القياس، وقد ورد في المال، فخصصناه به، والاكتفاء بالنسوة فيما يتعلق بالنساء ليس لانحطاط خطر هذا الأمر، وإنما هو لتعذُّر اطلاع الرجال.
ولو شهد على المال امرأتان، وأراد الطالب أن يحلف معهما، لم يَجُز عندنا، خلافاً لمالك رحمة الله عليه. وسيأتي ذلك، إن شاء الله.
وحيث جوزنا شهادة الرجل والمرأتين لم يتوقف ذلك على العجز عن إشهاد رجلين، هذا مما اتفق عليه أصحابنا والمفتون في الأمصار.
وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] محمول على أن الأولى ألا يكلفن التبرج إلا عند مسيس الحاجة.
فصل:
قال: "ولا يحيل حكمُ الحاكم الأمورَ عما هي عليه... إلى آخره".
12037- أراد الرد على أبي حنيفة رضي الله عنه؛ فإنه صار إلى أن القضاء إذا استند إلى شهادة الزور في العقود والحلول التي قد ينشئها القاضي بحكم الولاية، فإنه يتضمن تغيّر حكم الله في الباطن، ولا يخفى مذهبه في ذلك.
ومذهبنا أن أحكام الله لا تحول بقضاء القضاة، فإن وافقتها لشهادة الصدق، فليس ثبوتها بالقضاء، وإنما يتعلق القضاء بالظاهر، وإن جرى القضاء على خلاف حكم الله، لم يزُل حكم الله، وإن كان ظاهرُ القضاء متبَعاً إلى التبيّن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر».
وقيل: سئل أبو عاصم عن هذه المسألة وكان محمدياً في الفتوى والنظر، فالتُمس منه نُصْرةُ مذهب أبي حنيفة، فقال: لا أدري، قال محمد: القضاء لا يكوّن ما لم يكن.
ومما يتعلق بأطراف المسألة، أن المسألة إذا كانت مجتهداً فيها، فقضى القاضي بمذهبٍ يسوغ القضاء به ولا يتجه تفريع أحكام الفقه، إلا على أن المصيب واحد غير متعين-فالذي ذهب إليه جماهير الفقهاء أن حكم الله باطناً يثبت في المجتهدات على اتحادٍ إذا نفذ القضاء، ويصير المقضي به حكم الله ظاهراً وباطناًً، واستدلوا عليه بامتناع جواز نقض القضاء في المجتهدات.
وذهب الأصوليون من الفقهاء إلى أن القاضي لا يغيّر حكمَ الله في الباطن، والأمر في المُصيب مبهم، كما كان، وهذا اختيار الأستاذ أبي إسحاق، وكان من الغلاة في الرد على من قال بتصويب المجتهدين، ولا يتجه عندنا إلا هذا، واتباعُ القاضي بحق الولاية؛ إذ لولا وجوب الاتباع، لانفرد كلٌّ بمذهبه، ولتقطّعت الآراء على الشتات، بين النفي والإثبات، وعدمُ نقض القضاء محمول على الاستمرار على حكم الولاية ومرتبتها، ولولا ذلك، لما حصلت الثقة بالقضاء في مسألة.
12038- وتمام البيان في هذا ما نذكره. فنقول: المقضي عليه في المجتَهَد فيه لا يجد محيصاً، وإن خالف القضاء مذهبَه، وهذا كقضاء الحنفي بشفعة الجوار على الشافعي، فأما إذا ادعى الشفعة بالجوار شافعي، أو ادعى التوريث بالرحم، فإذا فرض القضاء له فمذهب الأستاذ وموافقيه لا يُحِل للشافعي ما قُضِيَ له به، بل لا يُحل له الإقدامَ على الطلب.
ومن أصحابنا من قال: يَحِلّ، وهؤلاء هم الذين يزعمون أن حكم الحاكم يغيّر أحكام الباطن في المجتهدات، ويعيِّن المصيبَ، فإن قلنا بمذهب الفقهاء، فالإقدام على الدعوى مشكل استحلالاً؛ فإن الحقَّ إن كان يثبت عند القضاء، فما الذي يسوّغ الإقدام على الدعوى، وهذا فيه تردد غائص: يجوز أن يقال: لا يحل الإقدام على الدعوى، وإن اتفق وأفضى القضاء إلى تحصيل المقصود، فيثبت الملك، ويجوز أن يقال: الشافعي إنما ينفي التوريث بالرحم إذا لم يكن قضاء، فإذا علم المدعي علماً ظاهراً أن القاضي يورث بالرحم، فالدعوى تسوغ؛ فإنها تشوفٌ إلى سبب التملك. والأستاذ كما لم يملِّك الشافعيَّ ما لا يعتقده والقاضي على مذهبه، هل يمنع المدعي عن الدعوى إذا كان دعواه تخالف مذهب القاضي، هذا محتمل متردد، والظاهر المأثور من سِيَر القضاة أنهم لا يتعرّضون لمذاهب الخصوم، والعلم عند الله.
ثم عقد الشافعي باباً في شهادة النساء، وغرضه الرد على أبي حنيفة رضي الله عنه في مسألة القابلة. وقد مضى في ذلك ما أردناه.