فصل: باب: أي الوالدين أحق بالولد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: أي الوالدين أحق بالولد:

روى الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه.
10221- الحضانة من الأحكام التي يجب صرف الاهتمام إليها، ويقلّ في العلماء من يستقلّ به، فإنه جمع إلى غموض الأطراف انتشار المسائل، والتفاف الكلام عند فرض الازدحام، واضطراب العلماء فيما يعتبر في التقديم والتأخير، ونحن بعون الله وحسن توفيقه تقدّم قواعدَ في الحضانة ونذكرها أرسالاً، ومتواصلة، ثم نخوض في بيان الازدحام، وهو غمرة الباب.
فنقول: الحضانة حفظُ الولد، والقيامُ عليه بما يحفظه، ويقيه، ويستصلحه، وأول ما نبتدىء به أن الولد الرضيع والفطيم إلى أن يبلغ سنَّ التمييز إذا دار بين الأب والأم وهي بائنة عن الزوج، منعزلةٌ عنه، فالأم أولى بحق الحضانة إذا هي طَلبتْها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ثم إنما تكون مستحِقة للحضانة إذا استجمعت أوصافاً: أحدها: الحرية. والثاني- الاستقلال بالعقل. والثالث: الأمانة. والرابع- الفراغ. والخامس- الإسلام إذا كان الولد مسلماً.
أما الحرية إنما شرطناها لتتفرغ إلى الحضانة؛ فإن الرقيقة مستوعَبَةُ المنافع، والحضانةُ ضرب من الولاية، وإن كانت المرأة تستحقها، والرقُّ يباين الولايات، وأما الاستقلال، فهو الأصل، وكذلك الأمانة.
10222- وأما الفراغ، فالمعنيّ به أن لا تتزوج زوجاً غيرَ أب المولود، فإذا نكحت، بطل حقها من الحضانة وفاقاً، ولو رضي الزوج بأن تحتضنه، فلا يعود حقها لرضا الزوج باحتضانها، كما لا يثبت حق الحضانة للرقيقة وإن رضي مولاها، فلو طلقها الزوج، نظر: فإن أبانها، عاد حقُّها في الحضانة، خلافاً لمالك رضي الله عنه، فإنه قال: إذا بطل حقها من الحضانة بالنكاح، لم يعد بالإبانة، ولا خلاف أنها لو جُنت، ثم أفاقت، فحقها يعود بالإفاقة.
هذا إذا طلقها الزوج طلاقاً مبيناً، وأما إذا طلقها طلاقاً رجعياً، فالمنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه أن حقها يعود بالطلاق الرجعي؛ فإن الرجعية تنعزل عن زوجها، وتتربص للاعتداد، فإذا انقطع عنها شغل مستمتع الزوج، كانت في الغرض المطلوب بمثابة البائنة.
وذهب المزني إلى أن حقها لا يعود؛ فإن سلطان الزوّج مطرد عليها: يرتجعها متى شاء، وهي في حكم الزوجات، فيبعد أن يعود حقها من الحضانة، وهي بعدُ على حكم الزوجية، وقد خرج ابن سريج وغيره قولاً موافقاًً لمذهب المزني، وهو منقاس حسن، ووجهه ما ذكرناه.
ثم مما يجب التنبّه له أن البائنة لو كانت في مسكن الزوج، وكانت تعتد فيه، فللزوج أن يمنعها من إدخال ذلك المسكن الولدَ، وكذلك لو كانت رجعية، ولو كان اتفق النكاح في مسكن المرأة، وكانت تعتد فيه، فحينئذ حكم عود الحضانة على ما ذكرناه، ولو كان المسكن للزوج ورضي بإدخال الولد المسكنَ، فحق الولد ثابت في الحضانة، وليس كما لو رضي بأن تحتضن الولد مع قيام الزوجية، فإن حقها لا يقوم فإن الزوجية رقٌ، وإذن الزوج كإذن المولى للرقيقة، وأما ما يتعلق بالمسكن والرضا بإدخال الولد إياه، فهذا محتمل، وهذا كما لو كانت المرأة استعارت مسكناًً، وكانت خليّة، فأخذت تحتضن الولد في الدار المستعارة، فلها حق الحضانة، وإن كان من الممكن أن يسترد المعير العارية، وإذ ذاك لا تتمكن من الحضانة، فلا نظر إلى أمثال هذا، والعلم عند الله تعالى.
10223- ومما يتعلق الكلام به أن الرجعية مستحقةٌ للنفقة، فلو أخذت تحتضن من غير استرضاء المطلِّق، وكان المسكن لها، كما تقدم التصوير، فالمذهب أن نفقتها لا تسقط؛ فإنها باشتغالها بالاحتضان ليست ناشزة على زوجها؛ فإن الناشزة هي المانعة حقاً لزوجها.
قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: الظاهر عندنا أن نفقتها تسقط، كما لو كانت في صلب النكاح، فإن الرجعية تستحق نفقة الزوجية، فتسقط نفقتها بما يسقط به نفقة الزوجات.
وهذا عندي هفوة؛ فإن الزوجة في غيبة الزوج لو احتضنت الولد أو أخذت تحترف على وجهٍ لو اشتغلت بمثله في حضور الزوج وزاحمت حقه، لكانت ناشزة، فلست أراها ناشزة في الغيبة. نعم، إن خرجت من مسكن النكاح في الغيبة، فقد انسلت عن الخدر، وفارقت رباط الزوج على خلاف ما يبغيه الرجل في الغيبة والحضور، فذاك يؤثِّر.
هذا منتهى الكلام في تزوج المرأة، وما يفرض من طريان الطلاق المبين وغيرِ المبين.
10224- وأما اشتراط إسلامها فبيّنُ التعليل إذا كان الولد مسلماً تبعاً لإسلام الأب، فإن تسليمه إليها يجرّ خبلاً على دينه، وليس يخفى أثر المربية والمربي في حق الطفل فيما يتعلق بدينه، وبحقٍّ قيل: التلقُّف في الصغر كالنقش في الحجر.
ؤقال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا: لا يشترط إسلام الأم، واحتج على ذلك بما روي أن أباً مسلماً وأماً كافرة تنازعاً مولوداً بينهما، ولم يكن المولود مميزاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضاره، وقال للأبوين: ادعواه، وقال عليه السلام في نفسه لما دعواه: «اللهم اهده»، فانسل الصبي إلى أبيه ولو لم يكن للكافرة حظ، لبتَّ عليه السلام قوله في الإلحاق بالأب.
ومذهب الأصطخري لا ينطبق على مضمون الحديث، وقد يقول: إنما نخاف على دين الطفل إذا كان مميزاً، ولست أرى ما يقول إذا ميّز الصبي بين أمه الكافرة وأبيه المسلم، فإن قال: "يخير"، فقد ظهر تعريض دينه للفتنة، وإن قال: لا يضم إلى الأم إذا ميز، اضطرب أصله وتخبط مذهبه، والجملة أن ما قاله ليس معتداً به، والمذهب ما ذكرناه.
وكل ما أشرنا إليه فيه إذا لم يبلغ الولد مبلغ التمييز.
10225- فإن بلغ سنَّ التمييز مميِّزاً وهو سبعٌ أو ثمان ولا ضبط في هذا السن، وقد يتقدم التمييز على السبع، وقد يستأخر عن الثمان، والغرض حصول التمييز، فإذا صار الصبي مميزاً، خيّرناه بين الأب والأم ونضمه إلى من يختار من الأبوين إذا كان كل واحد منهما أهلاً للحضانة، ولا فرق بين أن يكون غلاماً أو جارية، وأبو حنيفة يضم الجارية إلى الأم على سن التمييز، والغلام إلى الأب، ونحن لا نفصل بينهما.
واعتمد الشافعي الخبر والأثر، فروَى في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر غلاماً بين أبيه وأمه" وروى عن عمر رضي الله عنه " أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه " ونحن إذا أطلقنا القول بتقديم الأم في الحضانة، أو تقديم غيرها من الإناث، أردنا بذلك القيام بالحضانة قبل بلوغ الصبي سنَّ التمييز، وليس هذا مما يتطرق إليه القياس؛ فإن عبارة الصبيّ مستلبة، وإنما يظهر في مسلك المعنى اعتمادُ عبارته فيما يتعلق بإعرابه عن حاجات نفسه؛ إذ لا اطلاع عليها إلا من جهته، فلا رجوع إلا إليه، فأما الاختيار بين الأبوين، فليس من هذا الفن، والقياس يقتضي إدامة حق الحضانة للأم، ولكن لا مبالاة بطرق القياس المظنون مع صحة الخبر.
ثم ليس هذا اختياراً من الصبي لازماً أو ملزماً، فلو اختار أحد الأبوين، ثم بدا له واختار الثاني، رددناه إلى الثاني، ولو عاد إلى الأول، لتبعنا اختياره، وليس هذا كاعتراف خنثى بكونه ذكراً أو أنثى، فإنه مؤاخذ بموجب اعترافه، لا يقبل رجوعه عنه.
وإذا تعذرت القيافة والإلحاق بها، فانتسب الولد إلى أحد المدعيَيْن، فذلك لازم، لا سبيل إلى الرجوع عنه.
قال الأصحاب لو تردد الصبيّ المخيَّر بين الأبوين تردداً كثيراً دالاً على خبلٍ به فنتبين أنه ليس مميزاً.
ولو كان بالصبي خبل، فهو مُقَرٌّ في حضانة الأم كحالته قبل التمييز.
وهذا فيه نظر، فإنه لا ينكر في جبلّة الصبي وإن كان على كيْس تامٍ وتمييزٍ أن يقيم عند أحد الأبوين زماناً، ويتشوق إلى الثاني، وتكرُّر ذلك ما أراه شاهداً على الخبل والكلام عندي في أنه إذا كان يفعل ذلك، فلا وجه إلا اتباعه على شرط أن لا يتعطل أركان الحضانة بالتردد.
ولو خيرنا المميز، فسكت، ولم يُحِرْ جواباً، ولم يختر واحداً من الأبوين، فهذا أيضاًً غير مستنكر من الكيِّس المميز. والظاهر عندنا أن يبقى في حضانة الأم؛ فإن أصل الحضانة لها، ما لم يقطعها اختيار من المولود للأب في حالة التمييز.
ولو كان الصبي مخبَّلاً أو بلغ مخبلاً، فحضانة الأم دائمة، فلو كانت الأم لا تستقل بحفظ المجنون الكبير، فالأب حينئذ؛ فإن الكلام فيمن يكون أولى بالحضانة مشروط بأن تُتصوّر الحضانة منه.
10226- ولو بلغ الطفل عاقلاً رشيداً، فقد استقل بنفسه، ولم يبق عليه مراقبة إذا كان غلاماً.
وأما الجارية إن كانت بكراً، فظاهر المذهب أنها وإن كانت عاقلةً ظاهرةَ الرشد، فللأب أن يُسكنها حيث يستصوب، وليس لها أن تقوم بنفسها، وتكون حيث تشاء؛ وذلك أنها وإن استقلت لبلوغها ورشدها بسائر أحكامها، فالأب يجبرها على النكاح، فلتكن لهذا الوجه في ضبط الأب، وينقطع عنها سلطان الأم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً أن البكر إذا كانت مأمونة ظاهرة الرشد، فلا معترض للأب عليها، ولها أن تسكن حيث تشاء، وهذا الوجه وإن كان غريباً متجهٌ في القياس؛ من جهة أنها مستقلة بجميع أحكامها إلا النكاح؛ فإن الأب يجبرها على النكاح بحكم الجبر، وليس المسكن من النكاح في شيء.
ثم من قال: يسكنها الأب حيث يشاء يخصّص ذلك بالأب، والجدُّ في معنى الأب؛ فإنه يجبر على النكاح إجبار الأب.
فأما من عدا الأب والجد، فلا يملكون الاحتكام على البكر البالغة الرشيدة، فإن نوبة الحضانة قد انتهت، وليس لهم إجبارُها على النكاح، فهي بمثابة الثيب في حقوقهم.
ولا خلاف أن الثيب إذا كانت مأمونة، فلا اعتراض للأب ولا لغيره من العصبات عليها.
وإن كانت المرأة بحيث تُزَنّ بريبةٍ، فللأب والجد، ومن سواهما من عصبات النسب أن يحضنوها في مسكنٍ يسهل عليهم مراقبتها فيه، وإنما أثبتنا لهم ذلك، حتى لا يلحقهم العار، وقد جوزنا لهؤلاء الاعتراض على نكاحها، إذا زوجها بعضُ الأولياء ممّن لا يكافئها.
ولو ادّعى الولي ريبة، فإن أظهرها، فله الاحتكام، وإن عجز عن إظهارها، فهذا فيه بعض النظر، فإن الرِّيب قد تخفى حتى لا يدركها إلا من تبطّن من أهل القرابة، ولا يمتنع ألاّ يكلفَ من له حق الاعتراض أن يُظهر الريبة، وقد يكون وجه الرأي في الإخفاء؛ حتى لا تشاع فاحشة على المرأة.
هذا وجهٌ من الرأي، في الثيب والبكرِ في حق غير الأب والجد. ويعترض على هذا أنه يُفضي إلى تمليك الولي الاحتكام على المرأة المستقلّة من غير حجة وإظهارِ موجِبٍ ومقتضٍ، والعلم عند الله تعالى.
فرع:
10227- ذكرنا أن المرأة إذا تزوجت، بطل حقها من حضانة المولود، وقد استثنى الأئمة من هذا الفصل أن تنكح الأم عمَّ الطفل، وقد يسهل تصوير ذلك، وقد تنكح جد الطفل، فقال الأصحاب: الأم إذا نكحت من له حقٌّ في الحضانة، لم يسقط حقها من الحضانة، وإن كان زوجها مؤخراً في استحقاق الحضانة عن الأب على ما سيأتي ترتيب ذلك من بعد، إن شاء الله.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن حق الحضانة للأب.
توجيه الوجهين:
من قال: الحق للأب، قال: لأنها اشتغلت بالنكاح، فبطل حقها، وبقي الجد والأب، أو العم والأب، والأبُ مقدّمٌ على من هو زوجها.
ووجهُ الوجه الثاني، وهو الذي صار إليه معظم الأصحاب أن حقها لا يسقط من الحضانة؛ لأنها انضمّت بالزوجية إلى من له حق الحضانة، فلا تصير مشغولة بهذا التزوج، وهي بمثابتها لو كانت خليةً عن الزوجية.
والذي لابد منه في إتمام ذلك أن المسألة مفروضة فيه إذا كان زوجها طالباً للحضانة، فيتحقق ما ذكرناه، وتصير المرأة معتضدة في معنى الحضانة ويزيدها النكاح إعانة.
وأما إذا كان زوجها لا يطلب الحضانة ويبغي منها التفرغَ له، والتهيؤ لحقوقه، فهي مشغولة والحالة هذه بالزوجية، فيستحيل أن يثبت لها حق الحضانة والحالة هذه.
فصل:
10228- قد ذكرنا أن الأم أولى بالحضانة قبل بلوغ الطفل مبلغ التمييز، واستثنى الأئمة من هذا الفصل ما إذا أراد الأب أن يسافر سفر النُّقلة، ونحن نقول فيه:
إذا أراد الأب المسافرة والانتقال إلى بلدة أخرى، فيبطل اختصاصُ الأم بالحضانة إذا كانت تؤثر الإقامةَ، والسبب فيه أن الأب إذا انتقل إلى ناحية أخرى، وترك الولد في حضانة الأم فقد يُفضي هذا إلى أن يندرس وينمحق نسبه، وهذا يظهر أثره ووقعه في الحال والمآل؛ فإن اشتهار الأنساب بالرجال، والنسوة لازماتٌ خدورَهن، لا يظهر من تفاوضهن أنساب المولودين.
ثم الظاهر الذي مال إليه ذوو التحقيق أن هذا فيه إذا كان بين مكان الأم وبين الموضع الذي ينتقل الأب إليه مسافة إلى حد الطول، وأقل مراتب السفر الطويل مرحلتان، فإن كان الموضع الذي ينتقل إليه الأب دون هذه المسافة، فليس له أن ينتزع الولد من الأم؛ فإن النسب لا يخفى مع قرب الأب، ووقوعه من الولد على مسافة قصيرة؛ فإن طروق الوافدين والواردين من إحدى الناحيتين على الأخرى يُديم إشاعة النسب، وإنما يفرض الخفاء عند طول المسافة، ثم لا مرجع يُنتهى إليه ويتمسك به في الطول والقصر إلا ما ذكرناه.
وفي طرق بعض الأصحاب ما يدل على أن الانتقال يُثبت للأب حق انتزاع المولود وإن لم تبلغ المسافة حدَّ الطول، وهذا قد يمكن توجيهه بانقطاع نظر الأب عن رعاية المولود؛ فإنه إذا كان حاضراً، وكان الولد بمرأىً منه ومسمع، فالأم كالمستنابة في الحضانة ولحاظُ الأب دائم، وهو قائم عليه بالتأديب والذّبّ عند الحاجة، وكأن الاستقلال في تربية الولد دون رجل في حكم التعطيل، وإذا كان الرجل حاضراً، فكأنه الأصل والأم معتضدة به، وهي قائمةٌ بطرفٍ واحد من مصلحة المولود، كغسله وتنقيته ووقايته من المخاوف.
وهذا كله إذا كان السفر سفر نُقلة، فلو هم الأب بالانتقال، وأرادت المرأة أن تستديم الحضانة، فانتقلت معه، فحقها يدوم، فإن الغرض عدم انقطاع المولود عن الوالد.
ولو كان السفر سفر تجارة أو نزهة، فإن كان ظاهرُ الأمر على أنه يعود على القرب، فلا ينتزع في هذه السفرة الولد من الأم، ونبني الأمر على إسراع الكرة، والأمر كما وصفناه، وإن طالت المسافة.
ولو كانت السفرة على حدٍّ من الطول أو الشغل فيه ثقيل لا ينتجز إلا في زمان طويل، يفرض في مثله نسيان الأنساب، سيّما في أصحاب الخمول، فالذي ذهب إليه الأصحاب في الطرق طردُ القياس في إدامة الحضانة؛ فإن بناء السفر على إضماره الكرّة، وحق الحضانة إنما يُقطَع بأمرٍ ظاهر الوقع.
وكان شيخي أبو محمد يقول: له المسافرة بالمولود إذا كان يطول أمر السفر على حدٍّ يظهر ضرره وأثره، والعلم عند الله.
فصل:
10229- إذا كان الولد مضموماً إلى الأم، فحق على الأب ألاّ يكله إليها فيما يعلم أنها لا تستقل فيه برعاية مصلحة المولود، وذلك كتأديب الطفل عند مسيس الحاجة، وحملِه إلى المكتب وردِّه، أو إلى من يعلّمه الحرفةَ إن كانت تقتضي ذلك؛ فإن هذه الأمور لا يتأتى من النسوة الاستقلالُ بها.
ولو ضممنا المولود إلى الأب عند اختيار الولد المميز للأب، فلا يجوز قطع الأم عنه؛ فإن ذلك يؤذي الصبي ويبلغ به المبلغ العظيم، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تولّهُ والدة بولدها».
فصل:
10230- ألحق الفقهاء رضي الله عنهم حقَّ الحضانة بالولايات، ولذلك قُدّم القريب على البعيد، غيرَ أنها تثبت للإناث، بل الإناثُ بها أولى على الجملة، كما سيتضح ذلك في التفاصيل، والولايات في غير ذلك مختصة بالرجال، والسبب فيه أن مقصود الولايات يليق بالرجال لتعلقه بالتصرف والتبسط، وهذا لا يتأتى من النساء، وحقهن أن يلزمن خدرهن ويُفوّضن إلى الرجال أمورَهن.
وأما الحضانة، فالنساء بمصالحها أعرف، ولو حاولها الرجل، لأعياه أمرها ما لم يستعن بامرأة، فانفصلت الحضانة عن الولايات، لما ذكرناه.
واشتراطنا الصفات التي ذكرناها في الحاضنة والحاضن يشهد لالتحاقها بالولاية.
ثم من قولنا في الولاية: إن القريب المستحِق لها لو غاب وحضر البعيد الذي هو من أهل الولاية لولا القريب، فالولاية لا تنتقل إلى البعيد، بل يقوم بها السلطان-إن مست- قيامَ نيابة قهرية، كما قدمنا تقرير ذلك في كتاب النكاح.
وما ذكرناه يجري في ولاية التزويج والإنكاح إذا غاب الأقرب وهو الأبُ، وشهد الجدُّ أبُ الأب، ويمكن فرض ما ذكرناه في غير الأب والجد من العصبات، إذا كان الكلام في ولاية التزويج.
10231- فأما الحضانة فإذا غاب عنها القريبُ المقدمُ لو حضر، وشهد البعيدُ المستحق لو لم يكن القريب، فالذي قطع به أئمة المذهب أن حق حضانة المولود يثبت للبعيد بخلاف سائر الولايات، وفرّقوا في ذلك فرقاً واضحاً، فقالوا: النظر في التزويج وحفظ المال يتهيّأ من السلطان بنفسه أو بإقامته غيرَه مقام نفسه.
وأما الحضانة فمبناها على الشفقة المستحَقَّة على إدامة النظر؛ إذ الصبي غير المميز يحتاج في كلاءته إلى شفيق به، وقد قلنا: لا يزوج السلطان الصغيرة؛ لأن مبنى تزويجها على كمال الشفقة، ويلي مالَها؛ لأنه لو خُلِّي عن النظر، لتعطل، ولو بُلي السلطان بحضانة طفل، لكان طريقه أن يستعين فيها بذي قرابة له إن وجد، وليس من النظر أن يسلّمه إلى أجنبي، أو أجنبية، وهذا الذي ذكرناه مما يجب، وليس أمراً يوصف بالاستحباب.
وإذا كان كذلك، فالوجه التسليم إلى القريب.
وقد أشاع الخلافيون وجهاً أن القريب إذا غاب، فحقّ النظر يتعلق بالقاضي قياساً على سائر الولايات، ولست أحكي مثل ذلك ليلحق بالمذهب، ولكني أذكره ليتبين أنه لم يذكره المعتمدون، فيقطع عن المذهب.
فصل:
" وإذا اجتمعت القرابة من قِبل النساء وتنازعن المولود... إلى آخره".
10232- مضمون هذا الفصل غمرة الحضانة، وهو الذي يجب صرف الاهتمام إليه، والله المعين.
وغرضه الجُملي الكلامُ فيمن يكون أولى بالحضانة إذا فُرض اجتماع أصحاب الحقوق، وحاصله يتعلق بنوعين:
أحدهما: في ضمن التنازع في طلب الحضانة، والنوع الثاني- في التدافع في الحضانة.
فأما النوع الأول- فيشتمل على فصولٍ: أحدها: في اجتماع النسوة المنفردات.
والثاني: في اجتماع الرجال المنفردين.
والثالث: في اجتماع الرجال والنساء.
وقاعدة الفصل أن الحضانة ليست كوجوب النفقة؛ فإن وجوب النفقة يختص بالبعضية، والحضانةُ تتعداها لا محالة، وهي تتعلق بالقرابة والمحرميّة وفاقاً، إلا في الجدات الفاسدات، وفيهن كلام سيأتي في التفصيل، وتتعلق بالقرابة والعصوبة من غير محرمية.
والقرابةُ المحضة التي لا محرمية معها، ولا عصوبة، ولا إرث فيها كلامٌ واختلافٌ.
هذا قواعد المذهب على الجملة.
ويخرج منها أنا في وجهٍ ظاهر نُعلّق الحضانةَ بالقرابة المحضة، وإن كنا نقدم القريب على البعيد، ومن يتمسك بقوة في القرابة على من لا يتمسك بها.
10233- ونحن الآن نبتدىء بعون الله وتوفيقه القول في النسوة المتجردات إذا اجتمعن، وتنازعن الحضانة. وللشافعي في تأسيس المذهب مسلكان نطردهما أولاً، ثم نذكر ما نراه أَوْلى الطرق المفضية إلى البيان.
قال الشافعي في الجديد: أوْلى النساء بالحضانة الأم وأمهاتها، ما لم يتخلل بينهن ذكر، والقربى منهن أولى من البعدى.
ثم بعدهن أمهات الأب وإن علون، ما لم تدلين بمن لا يرث، والقربى منهن أولى من البعدى.
فإن لم يكن، فأمهات الجد وإن علون على الحدّ الذي ذكرناه في أمهات الأب، ثم بعدهن أمهات أب الجد على الترتيب الذي تقدم، والجدة البعيدة المدلية بمحض الأمهات إلى الأب، مقدمة على أم أب الأب؛ فإن الدرجة إذا تقدمت على الدرجة لم يُرْع بين الشخص الواقع في الدرجة القريبة وبين الشخص الواقع في الدرجة البعيدة التفاوتُ في القرب والبعد ممن يطلب القرب منه في الأصل، فإن الدرجة إذا قدمت قدم من فيها-وإن بعدوا- على من في الدرجة الأخرى البعيدة، وعلى ذلك يجري أصل الميراث والعصوبة وما يتعلق بها، ولذلك يقدم ابن ابن الأخ وإن سفل وتناهى بُعْدُه على العم.
ثم إن لم يكن للمولود واحدة من الجدات من قِبل الأم ولا من قبل الأب، فالرجوع بعدهن في الترتيب الجديد إلى الأخوات، ثم هن يترتبن: فالمقدمة الأخت من الأب والأم، وبعدها الأخت من الأب، وبعدها الأخت من أم.
والرجوع بعد أخوات المولود إلى خالاته، وهن يترتبن ترتُّبَ الأخوات، فإنهن يقعن من أم المولود موقع أخوات المولود.
وبعدهن العمات وترتيبهن كترتيب الأخوات والخالات.
هذا هو الترتيب المنقول عن الجديد.
وقال في القديم: تقدم الأم وأمهاتها المدليات بالإناث، فإن لم يكن، فالأخوات، ثم الخالات، وهن مترتبات كما ذكرنا في الترتيب الجديد، وبعدهن أمهات الأب، وبعدهن العمات.
10234- وأول ما نذكره بعد نقل الترتيبين الجديد والقديم محل اتفاق النصين ومحل اختلافهما، فالأم وأمهاتها مقدماتٌ على من عداهن جديداً وقديماً، والعمات مؤخرات عن الجميع في الترتيبين، والأخوات مقدمات على الخالات في القولين.
ومحل الخلاف أن القول الجديد يقتضي تقديم أمهات الأب إذا لم يكنّ فاسدات على الأخوات والخالات، وترتيب القديم يقتضي تقديم الأخوات والخالات على أمهات الأب.
هذا موضع اختلاف القولين، وبيان الترتيبين.
10235- وإذا اتضح هذا، فالوجه أن نذكر بعده متمسَّك القولِ الجديد، ومتعلَّق القول القديم، ونقدّم على رسم التوجيه التنبيهَ على ما يجب أن يكون معتبراً في هذا الباب، فنقول: مقاصد الأبواب تناسب عِللَها، وعللُها تلائم مقاصدَها، ومعلوم أن المقصود من الحضانة القيامُ بحفظ مولودٍ غيرِ مستقل، ثم الأمر في حفظه ليس مما يقبل الفترات، فإن المولود في حركاته وسكناته لو لم يكن ملحوظاً من مراقِب لا يسهو ولا يغفل، لأوشك أن يهلَك، وهذا يستدعي شفقةً تامةً تحمل على المراقبة بالعين الكالئة.
فهذا هو المعتبر ولا شك وهذا الأصل مع اختلاف المذاهب واحد، وهذا كما أنا رأينا اعتبار القُرب في النفقة أولى المسالك.
ثم إن اتجه التَّدْوار على هذا المعنى، طردناه، وإن بعدت الدرجات ودقّ النظر في التفاوت في الشفقة، امتزج بالكلام اعتبار قوة القرابات، ويثور إذ ذاك وجوه التردد.
ومن الأصول اللطيفة أن النفقة اختُصَّت بالبعضية؛ إذ ليس في قطع تعلقها بالقرابة العامة ما يؤدي إلى تعطيل، فإن لأصحاب الحاجات أموالاً معتدة من جهات، والحضانة يعسر إقامة الأجانب والأجنبيات بها، فحَسُنَ ألاّ تُقْصَر على جهة في القرابة؛ فإن القريب وإن بعد أولى بالحدب من الأجنبي.
10236- وإذا تمهد هذا، فالذي اعتبره في الجديد-مأخوذاً من الشفقة- أن الأمهات أولى النساء بالشفقة، والجدات من قِبل الأب رآهن-في الجديد- لمكان الأمومة والبعضية القائمة والاستنادِ على عمود النسب أولى من الأخوات بالشفقة، وهذا يبعد إنكاره في أحكام العادات، وموجَب الجبلاّت، ثم صوّر عدمَ الجدات، ولم يصادف على عمود النسب غيرَهن، فمال إلى الواقعات حاشيةً، ورأى الأخوات مقدماتٍ؛ لأنهن أشفق على المولود من الخالات، وهن أقرب، وقرابتهُن أقوى، ثم اعتبر الخالات، ورآهن مقدّمات على العمات لإدلائهن بالأمهات، فهن من الأمهات كأمهات الأم، والعمات كأمهات الأب.
فهذا سبيل تعليل القول الجديد.
وأما وجه القول القديم، فينشأ من القاعدة التي ذكرناها أيضاً، لكنه قدم الأخوات والخالات؛ لأنهن متصلات بقرابة الأم، فرأى قرابةَ الأم أحق بالشفقة، فاستوعب المتصلات بها، ثم رجع بعدهن إلى أمهات الأب، وأخَّر العمات عنهن؛ فإنهن يقعن حاشية.
وهذا غير سديد، أولاً في وضعه؛ لأن اسم القرابة لا يراعى، وإنما يراعى الشفقة، ونحن لا نشك في أن أم الأب في الغالب أشفق على المولود من أخته وخالته، وهذا على ظهوره قد لا ينتهي إلى القطع، والوجه الذي يَفْسُد القولُ القديم به ويخرج سلسلة النظام أنه قدم الأختَ من الأب على الأخت من الأم، ولا إدلاء للأخت من الأم إلا بالأم، فاضطرب بهذا تقديم الاتصال بجانب الأم، ثم الأخت من الأب بنت أب المولود، وأم الأب أم أب المولود فإدلاؤهما جميعاًً بالأب، وتقع إحداهما بالنسبة إلى المولود أصله، وتقع الثانية بالنسبة إليه حاشية من نسبه.
فلاح بمجموع ذلك إيضاح وجه القول الجديد، واضطراب القديم. ولما ظهر التناقض في تقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم في القول. القديم خرّج طائفة من الأصحاب في التفريع على القديم وجهاً أن الأخت من الأم مقدمة على الأخت من الأب، لمكان الإدلاء بالأم.
هذا أصل القولين.
10237- ويتعلق باستيعاب الكلام عليهما أطرافٌ، ونحن نتبعها واحداً واحداً: فمن أهمها، وهو معضلة الباب، والمشكلة التي لا حل لها أن المزني نقل عن الشافعي في المختصر أنه لا يثبت لأم أب الأم حقّاً في الحضانة، وكذلك لم يُثبت الحضانة لكل جدة ساقطة من جانب الأب، وهن الجدات المسميات الفاسدات ويجمعهن أن على طريق إدلائهن ذكَر مُدلٍ بأنثى.
وهذا وإن كان منصوصاً عليه، وهو الذي أثبته أئمة المذهب واستمروا عليه، وطاب لهم مأخذه، فهو في نهاية الإشكال؛ من جهة أنها على عمود النسب، وهي أصل المولود، وذلك حكم نيط بالبعضية، فهو متعلق بهما كاستحقاق النفقة والعتقِ عند جريان الملك على الرقبة، ورد الشهادة النافعة، وإن نظرنا إلى سقوطهن عن استحقاق الإرث، فالخالات ساقطات عند من لا يورث بالرحم، ولا خلاف أنهن يستحققن الحضانة، وإن قيل: الخالة ترث الأم فأم أبيها ترثها أيضاً، فكان هذا بالغاً في الإشكال.
وقد حكى الشيخ أبو علي رضي الله عنه أن الجدات الفاسدات تثبت لهن الحضانة بعد الوارثات، وهن في الترتيب الجديد مقدمات على الأخوات والخالات، وهذا متجه حسن.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً ثالثاً أنهن مؤخرات عن كل أنثى مستحقة للحضانة، وإذا لم نصادف سواهن، فنُثبت لهن حق الحضانة حينئذ.
فانتظم فيهن ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا حق لهن أصلاً، وهذا ظاهر النص.
والثاني: أنهن مؤخراتٌ عن الجدات الوارثات مقدّماتٌ على من يترتب على الجدات، وهذا هو القياس، حكاه الشيخ أبو علي. والوجه الثالث: أنهن مؤخراتٌ عن الجميع، فإذا لم نجد أنثى حاضنة، فلهن حق الاحتضان.
وتوجيه هذه الطرق سيأتي في أثناء الفصل-إن شاء الله- إذا تمهد ما يفتقر التوجيه إليه.
هذا أحد الأطراف.
10238- ومما يتعلق بالتفريع أنا في الجديد قدمنا الأخت من الأب؛ لأنه لم يتضح لنا تفاوت بينهما في الشفقة، ولا حاصل لقول من يقول: إذا كانت الأم أشفق، فالأخت من الأم أشفق؛ فإن هذه المعاني لا تدرك بالألقاب ونظم العبارات، فلما لم يتجه للشافعي تفاوت بينهما في الشفقة، ورأى الأختَ من الأب أقوى في قرابتها، مزج اعتبار قوة القرابة بالأصل المستند إلى الشفقة، وقدم الأخت من الأب؛ فقال أئمتنا: إن اتجه هذا في أخت المولود، لم يتجه في الخالة من الأب، إذ لا إرث ثَمَّ، والخالة من الأب بنت أبي الأم، فقد ذكروا وجهين:
أحدهما: أنا نقدم الخالة من الأب على الخالة من الأم، على قياس أخوات المولود.
والثاني: أنا نقدم الخالة من الأم على الخالة من الأب، وقطع به الصيدلاني؛ فإنها بنت أم الأم، وأم الأم أصل الحضانة، فالإدلاء بها أولى بالاعتبار، وإذا كان ينقدح هذا التردد في الترتيب الجديد، فهو في الترتيب القديم أوجه؛ لأن تعويله على اعتبار قرابة الأم، والتفصيل الذي ذكرناه منقدح في رعاية قرابة الأم.
10239- ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك القولُ في بنات الإخوة والأخوات، وبنات الخالات والعمات. قال بعض المصنفين: بنات الإخوة والأخوات مقدمات على العمات، والعمات مقدمات على بنات الخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، فأجرى هذا مطلقاً من غير تخصيص بالجديد أو القديم، واعتل بأن قال: بنات الإخوة والأخوات يقدّمن، كما يقدم بنو الإخوة على الأعمام، والعمات مقدمات؛ فإنهن محارم، فكن مقدمات على بنات الأخوال والخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، كما أن الخالات مقدمات على العمات.
وهذا فيه اختلاطٌ عندنا، كما سنصفه: أولاً- كيف يطيب إثبات بنات الخالات وبنات العمات حاضنات، مع إسقاط الجدات الفاسدات، ولا محرمية لبنات الخالات وبنات العمات، والمحرمية والأمومة والبعضية ثابتة للجدات الفاسدات؟ فمن أسقط الجدات الفاسدات، لزمه قطعاًً إسقاط بنات الخالات، وبنات العمات، وأما بنات الإخوة والأخوات، فهن مُدليات بأصول من الذكور والإناث، يثبت لهم حق الحضانة، وهن على قرابة تقتضي المحرمية.
وقد تبيّن من ترتيب كلام الأصحاب، بعد استثناء الجدات الفاسدات مع النص فيهن أن كل أنثى قريبة لها محرمية مع المولود، فلها حق الحضانة، والكلام في تقديمها وتأخيرها، وكل أنثى لا محرمية بينها وبين المولود، وكانت قريبة منه، فلا حضانة لها ومعها أنثى محرّمة، فإن انفردت، فهل يثبت لها حق الحضانة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يثبت للقرابة والشفقة المتوقعة منها.
والثاني: لا يثبت؛ لأن المحرمية تناسب الاختلاط وتأمّلَ الظواهر والبواطن في الحفظ، فإذا انعدمت المحرمية، اختل هذا المعنى.
وسنذكر في ترتيب الذكور إذا انفردوا أن الذكر القريب الذي ليس عصبة، ولا محرماًً، لا شك أنه يتقدم عليه الوارث من الذكور الأقارب، ويتقدم عليه المحرم القريب، وإن لم نجد من الأقارب وارثاً ولا محرماًً، فهل يثبت له حق الحضانة والمولود غلام، أو صغيرة لا تُرمق بعدُ، فيه طريقان: ذهب الأكثرون إلى أنه لا حق له. وأجرى مجرون فيه خلافاً في الاستحقاًق؛ فإنه على حالٍ أولى من الأجنبي.
وإذا ضممنا الذكر الذي ليس محرماًً ولا وارثاً إلى الأنثى التي ليست وارثة ولا محرماً، انتظم فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا حق لهما.
والثاني: أنه يثبت لكل واحد منهما الحق عند الانفراد إذا لم نجد من نقدمه عليه، وعلى ذلك يستدّ إطلاق القول بتعليق الحضانة بالقرابة. والثالث: أن الأنثى تستحق إذا انفردت، والذكر لا يستحق؛ لأن للأنوثة أثراً في استحقاق الحضانة، كما سيأتي شرح ذلك في اجتماع الذكور والإناث.
10240- فإذا ثبت هذا ننعطف على الاتصال به إلى توجيه الوجوه في الجدات الفاسدات، أما إثبات الحق لهن، فبيّن منقاس، وأما إسقاطهن بالكلية، فلا خروج له إلا على مسلكٍ، وهو أن الذكر الذي ليس وارثاً، فقد نقول: لا حق له في الحضانة، وإن كان محرماً. وأم أب الأم مُدلية بأب الأم، ونحن لا نثبت لأب الأم حقاً، فلا نثبت للمدلية به حقاًً، ومن أثبت لها حقاًً بعد أن لا يجد حاضنة مستحِقة، فهو خارج على إثبات حق الحضانة للذكر المحرم الذي ليس وارثاً، فتكون المُدلية به بمثابته.
هذا منتهى القول في اجتماع الإناث المتمحّضات، ولا ذَكَر معهن، فإن قيل: هل تعتبرون القرب والبعد؟ قلنا: نعم مع اتحاد الجهة، فإن القربى في كل جهة تُسقط البعدى من تلك الجهة، ويعتبر تقديم الدرجة القريبة على الدرجة البعيدة، كما ذكرنا في أمهات الأب مع أمهات الجد، إلى حيث يتفق الالتقاء، وتقديمنا أخوات المولود على خالاته قد يخرّج على اعتبار القرب، فإنهن أقرب إليه من الخالات.
10241- فأما الكلام في اجتماع الذكور المتمحضين، فالأب أولاهم، ثم الجد أب الأب وإن علا-ما لم يُدل بأنثى- أَوْلى، لمكان البعضية، وقوة الولاية، وقد مضى أن الحضانة ضربٌ من الولاية، وكل ذلك إبعادٌ، وأوْلى معتبرٍ الشفقةُ، وإن كنا نرعى معها قوة القرابة.
ثم الكلام بعد الأب وآبائه يقع في أصنافٍ من الذكور، وهم أقسام: منهم العصبات المحارم، ومنهم المحارم الذين ليسوا عصبة، ومنهم العصبات ولا محرمية، ومنهم أقارب بلا محرمية ولا عصوبة.
فأما العصبات المحارم، فمقدمون على من عداهم، فالعصبة المحرم مقدّم على من اتصف بالمحرمية دون العصوبة، أو بالعصوبة دون المحرمية، ثم هؤلاء الواقعون في هذا القسم يترتبون ترتُّبَهم في عصوبة الإرث، ويتصل بذلك أنا نعتبر لا محالة الأقرب فالأقرب، كما مضى ترتيب العصبات في المواريث، فأَفْرِدْ منهم المحارم ورتّبهم ترتيب المواريث: فالأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم ابن الأخ من الأب والأم، ثم ابن الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ولا مزيد عليهم.
فأما العصبات بلا محرمية، فيثبت لهم حق حضانة الغلمان، وحق حضانة الصبيّة التي لا تُرمق ولا تشتهى.
ثم لا ذكَر من المحارم من غير عصوبة مع استحقاق الإرث إلا الاخ من الأم، فلو فرض اجتماع ابن العم وهو عصبة غير محرم، والأخ من الأم، وهو محرم وارث، وليس بعصبة، فكيف السبيل؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قدّم العصوبة؛ لأنها تناسب الولايات على حالٍ، والحضانةُ ولاية، فيجب تقديم ابن العم، كما يجب تفويض ولاية التزويج إليه.
ومنهم من قال: الأخ من الأم أولى؛ لأنه أقرب وبالحريّ أن يكون أشفق، ولعل الأظهر هذا.
ثم العصبات بلا محرمية يرتبون ترتيبهم في الميراث فيتقدم الأقرب على الأبعد منهم، وتتقدم الدرجة على الدرجة.
وأما القريب الذي هو محرم، وليس بوارث، فالخال، والعم من الأم، وأب الأم، وبني الأخوات، فهم مؤخرون عن الورثة الذكور، فإذا لم يوجد غيرهم، فلا شك أن السلطان يؤثر تسليم المولود إليهم، وهذا استحباب، أو استحقاق؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه استحقاق القرابة والمحرمية.
والثاني: أنه استحباب.
والخلاف وإن جرى متجهاًً في الذكور الذين ليسوا ورثة، فلا جريان له في المحارم من الإناث، كالخالة، والعمة؛ لأن الأنوثة إذا انضمت إلى القرابة والمحرمية، أكدت استحقاق الحضانة، وهذا ينخرم بالجدة الفاسدة، ولكن سبب خروجها إدلاؤها بذَكَر من القرابة غير وارث.
وهذا ينتقض بالخالات؛ فإن إدلاءهن بأب الأم، وإن كان لما ذكرناه في الجدات ثبات، فمن ضرورته أن يخرج الخالة من الأب عن استحقاق الحضانة؛ فإنه لا إدلاء لها إلا بأب الأم.
هذا منتهى الكلام في الإناث المتمحضات، والذكور المتمحضين.
وإذا أخرجنا الخال أخرجنا ابنه، وإن أثبتنا الخال، فالمذهب الذي يجب قطع القول به أنه لا حق لابن الخال؛ لاجتماع الذكورة، وسقوط المحرمية، وانتفاء الميراث.
وفيه شيء بعيد لا يعتد به. نعم، في بنت الخال خلاف معروف، وكذلك في بنات الخالات والعمات، كما تقدم ذكره، وذلك لمكان الأنوثة مع القرابة.
10242- وأما اجتماع الذكور والإناث فنقول في مقدمة هذا الفصل: إذا تبين أن الحضانة تتلقى من مقصودها وهي القيام بحفظ المولود، فلا شك أن النساء أقومُ به وأهدى إليه، وأصبرُ عليه، وهن يلزمن البيوتَ، والرجالُ ينشطون للتصرفات، ومن رام منهم القيامَ بحفظ مولودٍ، فقد لا يستقل به دون الاستعانة بامرأة، فخرج من ذلك أن الإناث على الجملة أولى بالحضانة.
فإذا تمهد هذا فنقول: الأم وأمهاتها على الوصف المقدم مقدماتٌ على الأب، فالجدة العالية من قبل الأم مقدمة على الأب، باتفاق الأصحاب، وإذا قُدِّمت على الأب، لم يخْفَ تقدمُها على الجد وسائر الذكور.
وأما الجدات من قبل الأب إذا اجتمعن مع الأب، فظاهر النص الذي نقله المزني أن الأب مقدم عليهن. قال الشافعي: "لا يقدم على الأب إلا الأم وأمهاتها"، فالأب إذاً على هذا مقدم، ووجهه أن الجدات مُدْلياتٌ به، فيبعد تقدم المُدْلِية على أصلها.
وحكى بعض أصحابنا قولاً آخر مخرّجاً أن أمهات الأب مقدمات-وإن بعدن- على الأب، لمكان الأنوثة والأمومةِ والاستقلالِ التام بمقصود الحضانة، ولا نظر إلى الإدلاء مع ما أشرنا إليه من المزيّة التي تنبني الحضانة عليها، وهي الشفقة والتهدّي، والإناث أشفق وأهدى، كما قدمنا.
ولو اجتمع مع الأب الأخواتُ والخالاتُ، فكيف السبيل فيه؟
نبدأ بالأخوات ونقول: إن جرينا على الترتيب الجديد في الإناث، فالجدات من قبل الأب مقدمات على الأخوات. فإن قدمنا الأبَ على الجدات، فلأن نقدمه على الأخوات أولى، وإن قدمنا الجداتِ على الأب، فهل نقدم الأخوات على الأب؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: أنا نقدمهن للأنوثة وقوة القرابة، كما قدمنا أمهات الأب، وإن كن مُدْلِيات بالأب.
والثاني: نقدّم الأبَ عليهن؛ لأنه أصل، وهن فروع.
والوجه الثالث: أنه تقدم أخت الأب والأم، وأخت الأم، ولا تقدم أخت الأب، لأنه لا تعلق لها إلا بالأب، وهي فرع لا أمومة لها.
فأما القول في الخالات مع الأب، فلَسْن مدليات بالأب، ولكن الأخوات مقدمات عليهن، فإن قدمنا الأب على الأخت، قدمناه على الخالة وأَوْلى، وإن لم نقدم الأبَ على الأخت، وقدمنا الأخت على الأب، ففي الأب والخالة وجهان، ولا ينقدح الوجه الثالث؛ فإن الخالة من الأب ليست مدلية بهذا الأب، وإنما إدلاؤها بأب الأم. وإن كنا ذكرنا على الجملة أن الخالة من الأب ضعيفة.
10243- فإذا جمع الجامعُ هذه المسائل، قال: الأب في قول يقدم على كل أنثى إلا الأم وأمهاتها، وفي وجه يقدم عليه كل أنثى حاضنة إلا العمة، فإنه لا خلاف في تقديم الأب عليها، وفي وجه يقدم على الأخوات والخالات، ولا يقدم على الجدات من قبل الأب، وفي وجهٍ يقدم على الأخت من الأب، ولا يقدم على الأختين الأخريين، وقد يجري من ترتيب الخالات على الأخوات وجهٌ متلقًّى لا يخفى.
وقد تناهى وضوح ما أردناه، وكل ذلك إذا جرينا على ترتيب الإناث في الجديد.
10244- فإن قدمنا الأخوات والخالات على أمهات الأب في الترتيب القديم، فإذا اجتمع الأب معهم، انتظم الخلاف في الترتيب القديم معكوساً؛ فإن أمهات الأب في القديم يقعن آخراً، فمن هذا الوجه ينشأ من الترتيب ومما يقع تتمة لذلك أنه إذا اجتمع جدٌّ عالٍ من قبل الأم وأم الأب القريبة، فأم الأب أولى بلا خلاف؛ لأنها ليست مُدْليةً بالجد العالي، وهي مختصة بالقرب والأمومة.
والجدات من قبل الأم والأب مقدمات على كل ذَكَرٍ من الأقارب، فإذا اجتمع أخ من أب وأم، وأم أب أو أم أب أب، فالذي عليه التعويل ويجب القطع به أن الجدة مقدمةٌ للأمومة، مع أنها ليست فاسدة.
10245- فأما إذا فرض اجتماع الذكر والأنثى في جوانب النسب، فالقول الجامع أنهما إذا استويا في القرب والدرجة والإرث، فالأنثى أَوْلى: كالأخ والأخت، ولو كان الذكر قريباً والأنثى بعيدة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الذكر أَوْلى نعني الذكر الذي هو من أهل الحضانة.
والثاني: أن الأنثى أولى، نعني الأنثى التي هي من أهل الحضانة لو انفردت.
وإذا فرض ذكر من درجة قريبة، وأنثى من درجة بعيدة، فالوجهان جاريان، كالأخ والخالة، ولو روجعنا في خاتمة الكلام في ذكورِ أرحام ليسوا ورثة، وهم أصحاب محرمية، كالخال والعم من الأم، فالوجه أن نقول: نقدرهم إناثاً، ونقدم منهم من كنا نقدمه لو كان أنثى.
وكل ذلك في نوع واحد: وهو أن يتنازع المجتمعون في الحضانة، والمعنيّ بالحضانة في جميع ما ذكرناه حفظ الولد قبل التمييز. وفيه مجرى تقديمنا وتأخيرنا.
10246- فأما إذا ظهر تمييز المولود، فقد مهدنا في أصل الباب أنه يتخير بين الأم والأب، مع القطع بأن الأم مقدمة على الأب في حفظ المولود قبل التمييز.
فلو فرض عم وأم، وقد ظهر تمييز المولود، فهل نخيره بين الأم وبين العم، أو الأخ، وكل ذكر يقع حاشية؟ في المسألة وجهان: أظهرهما- أنا نخيره، وإن كانت الأم مقدمة في أصل الحضانة قبل التمييز، كما خيرناه بين الأب والأم، واستدل الشافعي في صدر الباب بما رَوَى عن عمارةَ الجرمي " أنه قال: خيرني عليٌّ بين عمي وأمي، ثم قال لأخٍ لي أصغر مني: وهذا لو بلغ خيّرته". وقال في الحديث: «وكنت ابن سبع أو ثمان».
والوجه الثاني ذكره الشيخ والعراقيون- أنا لا نخيره، ويجعل كأن الأم منفردة؛ فإن التخيير بين الوالدين قد يَقْرُبُ، فأما الأم-وهي الأصل- والعم، فيبعد التخيير بينهما. وأصل التخيير مأخوذ من الخبر، وحديث الرسول صلى الله عليه في التخيير بين الأبوين.
وإذا قدمنا الأبَ على الأخت، أو على الخالة، على الترتيب المقدم، فإذا ظهر تمييز المولود، ففي تخييره بين الأب والأخت من الخلاف ما في تخييره بين الأم والأخ.
وقد نجز الكلام في نوع واحد وهو التنازع في الحضانة.
10247- فأما النوع الثاني وهو الكلام في التدافع، فإذا اجتمعت النسوة أو الرجال الذكور، أو الرجال والنساء، والحاجة ماسة إلى حضانة الطفل، فإذا امتنع عن القيام بها من جعلناه أهلاً لها، فهذا ينحو نحو النفقة، فكل من يجب عليه النفقة يجب عليه القيام بالحضانة؛ فإنها من المؤن المتعلقة بالكفاية، وعلى الأب نفقة المولود الصغير، فإذا تردد المولود بين الأب وبين الأم، وأبت الأم أن تحتضنه، فعلى الأب الاحتضان لما ذكرناه من أن إيجاب ذلك يتبع إيجاب النفقة.
فانتظم منه أن الأم، إذا طلبت الحضانة مع الأب، قُدّمت، وإن أبت، وجب على الأب القيام بها، وإن لم يكن أب، على الأم حينئذ القيام بالحضانة على الترتيب المقدم في النفقات، وازدحام من يلتزمها.
ويخرج منه أن أب الأم لو طلب الحضانة، لم يُجَب إليها، وإذا احتاج الطفل إلى الحضانة ولم تطلبها الأم، فهي واجبة، على أب الأم؛ لأن النفقة تجب على أب الأم بحكم البعضية، ومؤونة الرضاع والحضانة جزء من النفقة.
ويخرج من ذلك أن العم والأخ، والذين يقعون على حاشية النسب لا يلزمهم الحضانة، كما لا يلزمهم النفقة؛ فإنّا أوضحنا أن وجوب الحضانة يتبع وجوب النفقة ولم نستثن منه شيئاًً، وقد تبين فيما تقدم من يجب عليه النفقة ومن لا يجب عليه، وقد أبنّا حُكمَ وجوب الحضانة في الطرد والعكس.
10248- ولو طلبت الأم الحضانة، وطلبت أجراً عليها، فهو بمثابة طلبها الأجرَ على الإرضاع، ولكن إذا كان يتأتى من الوالد أن يتولى الحضانة بنفسه، ولا حاجة إلى الإرضاع، فنمكنه من تولي الحضانة، وهل ينزل منزلةَ وجدانِه متبرعةً بالإرضاع والأم تطلب الأجرة على الإرضاع؟ فيه تردد بين الأصحاب: يجوز أن يقال: إنما نُجري القولين في تقديم الأم مع أنها تطلب الأجر في الإرضاع، أما الحضانة، فهي منها ومن غيرها على وتيرة واحدة، ويجوز أن تجعل الحضانة تابعةً للإرضاع، حتى نجري القولين في أن الأم هل تكون أولى بها أم لا؟ ثم تعبُ الرجل في حضانة الولد هل يكون كوجدان حاضنة بأجر، أم يكون كوجدان متبرعة حتى يجري الترتيب المقدم؟ هذا فيه احتمال، ولعل الظاهر أن ما يناله من التعب بمثابة الأجرة التي تطلبها الأجنبية، ولا يكون هذا كوجدان متبرعة، والعلم عند الله.
فرع:
10249- قد ذكرنا أن الجدة أم الأم أولى بالحضانة من الأب، فلو فرضنا أباً، وأماً، وأم أم، ثم جُنت الأم أو فسقت، فولاية الحضانة تنتقل لا محالة إلى الجدة، ثم إن أفاقت الأم أو رجعت عن فسقها، عادت ولايتها في الحضانة، ولو تزوجت الأم، انتقلت الولاية إلى الجدة أيضاً؛ فإن موضع النكاح على التعبد، ثم إذا طُلّقت، عاد حقها.
ولو امتنعت الأم عن الحضانة، فالامتناع منها أولاً بمثابة عَضْل الولي الأقرب عن التزويج، ولو عَضَل الولي القريبُ، لم تنتقل الولاية إلى البعيد، بخلاف الأسباب القاطعة للولاية، فإنه مهما أراد أن يزوج زوّج، وإنما السبب البات للولاية هو الذي يبطل خِيَرَة الولي.
فإذا امتنعت المرأة عن الحضانة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: حق الحضانة في حالة امتناعها للجدة؛ فإن الحضانة لا تقبل التأخير، وهذا بمثابة مصيرنا إلى أن القريب إذا غاب، فحق الحضانة للبعيد، ولا ينتقل إلى السلطان، فليكن امتناع الأم بمثابة غيبتها.
ومنهم من قال: الحق للأب إذا امتنعت الأم، وذلك أن الجدة إنما تتولى الحضانة إذا بطل حق الأم، وهي وإن كانت ممتنعة، فحقها قائم متى تشاء، والأب في القيام بالحضانة بمثابة السلطان في القيام بولاية التزويج عند عضل القريب؛ إذ سلطان القاضي عامّ، وسلطان الأب في المال والبدن والحضانة عام، غير أن الأم اختصت بالحضانة، فإذا امتنعت، قام الأب مقامها.
والأقيس عندي الوجهُ الأول، وهذا الوجه الأخير ذكره الصيدلاني، وقطع به وأجرى الشيخ أبو علي الوجهين.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا حق لمن لم يكْمُل في الحرية... إلى آخره".
10250- قد ذكرنا أن الرقيقة لا حضانة لها، وكذلك الرقيق، ومن بعضه حر وبعضه رقيق، فلا حق له في الحضانة أيضاًً؛ فإن الجزء الرقيق يمنعه عن الاستقلال، والحضانة تقتضي الاستقلال، فكانت ولايةً، أو كالولاية، وكما لا يلي الرقيق لا يلي من لم يكمل فيه الحرية.
ويعترض من الناظر طلبُ الكلام في أنه هل يجب عليه النفقةُ للقريب؟ أما نفقة الزوجة، فتجب، والكلام في أنا نوجب نفقة المعسرين، أم نبعّض إذا كان موسراً ببعضه الحر، فنوجب قسطاً من نفقة الموسرين، وقسطاً من نفقة المعسرين؟ فيه خلافُ المزني، وتردّدُ الأصحاب، فإذا رددنا النظر إلى نفقة الأقارب وهو موسر ببعضه الحر-وليس إخراج النفقة من قبيل الولايات، بل هو من الغرامات- فلا يبعد أن نوجب قسطاً من نفقة القريب على مقابلة الجزء الحر منه، ونُسقط من النفقة المقدارَ الذي يناسب الجزءَ الرقيقَ منه، وهذا يظهر إذا وزعنا نفقة الزوجية في اليسار والإعسار على
جزأيه.
ويجوز أن يقال: يجب عليه أن يخرج تمامَ نفقة قريبه لتحقق يساره، كما لو ملك مالاً وطائفة من البنين، فإن من يُسقط يوجب عليه أنصافَ نفقات، فإذا لم يَبْعُد إيجابُ نصفي نفقتي ابنين، لم يبعد إيجاب نفقة تامة لابنٍ.
ويجوز أن يقال: كل شخص متميز عن غيره، فليقع إنفاقه عليه على قدر إنفاقه على نفسه، ومعلوم أنه إنما ينفق على نفسه بقدر ما فيه من الحرية.
وقد عنّ لي أن أجمع أحكام من بعضه حر وبعضه رقيق في كتاب العتق، وأجمع فيه كل ما بدّده الأصحاب في الكتب، والله ولي التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
ولو نكح حرّ أمة نكاح غرور، فولده منها حرٌ، ولا حضانة للأم؛ فإنها رقيقة، ولو كان على علم برقّها، فالولد رقيق، ولا حق للأب في الحضانة؛ فإن المالك أولى به، وحق الملك يتقدم على حق القرابة.
ولو فرضنا ولداً بعضه حر وبعضه رقيق فحق الحضانة في القدر الرقيق لمالكه، وحق الحضانة في الجزء الحر منه للأم إن كانت الأم حرة، أو للأب إن كانت رقيقة، فإن اتسق بين المالك وبين من له حق الحضانة مهايأة في الحضانة، جاز، وإن اتفق التراضي على أن ينفرد أحدهما، ساغ، وإن امتنعا من المهايأة ولم يتراضيا، فالسلطان ينصب حاضنةً، ويوجب مؤنتها على من يجب عليه النفقة.