فصل: فَصْل في الإِنْكَارِ عَلَى المُنْحَرِفِيْن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عباد الله كلنا نعلم أن حياتنا مهما امتدت وصفت للزَوَال، وكَذَلِكَ كُلّ واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختيار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، سيصبح الواحد منا عما قريب فِي حفرة وحيدًا لَيْسَ معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تَكُون أيها الأخ كأنك ما رَأَيْت الدُّنْيَا ولا هِيَ رأتك لحظة من اللحظات.
ويا ليتك إِذَا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عَلَيْهَا آثار لو كَانَ ذَلِكَ لأحب بعضنا الموت، لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام لكنك تعلم أنه يعقب ذَلِكَ الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كَانَ منك قبل الموت فِي الاختيار.
فإن كنت قَدْ أحسنت، رَأَيْت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات.
عن البراء بن عازب قَالَ: كنا فِي جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهينا إِلَى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: «إن المُؤْمِن إِذَا احتضر أتاه ملك الموت فِي أحسن صورة، وأطيب ريحًا، فجلس عنده لِقَبْضِ رُوحِهِ، وأتاه ملكَانَ بحنوط من الْجَنَّة وكانَا منه على بعيد فاستخَرَجَ ملك الموت روحه من جسده رشحًا.
فإذا صَارَت إِلَى ملك الموت ابتدرها الملكَانَ فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الْجَنَّة وكفناها بكفن من الْجَنَّة ثُمَّ عرجا بها إِلَى الْجَنَّة، فتفتح لَهُ أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها ويقولون: لمن هَذِهِ الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء.
ويسمى بأحسن الأسماء التي كَانَ يسمى بها فِي الدُّنْيَا، فيقَالَ هَذِهِ روح فلان فإذا صَعَدَا بها إِلَى السماء شيعها مقربوا كُلِّ سماء حَتَّى توضع بين يدي الله عَنْدَ العرش، فيخَرَجَ عملها من عليين فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ للمقربين: اشهدوا أني قَدْ غفرت لصَاحِب هَذَا الْعَمَل. ويختم كتابه فيرد فِي عليين.
فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: ردوا روح عبدي إِلَى الأَرْض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها.
ثُمَّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} فإذا وضع المُؤْمِن فِي لحده تَقُول لَهُ الأَرْض: إن كنت لحبيبًا إِليَّ وأَنْتَ على ظهري، فَكَيْفَ إذ صرت الْيَوْم فِي بطني سأريك ما أصنع بك، فيفسح لَهُ فِي قبره مد بصره»
.
وقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وضع الكافر فِي قبره أتاه منكر ونكير فيجلِسَانه فيقولان لَهُ: من ربك؟ فَيَقُولُ: لا أدري. فيقولان لَهُ: لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادًا، ثُمَّ يعاد فيجلس فيقولان لَهُ: ما قولك فِي هَذَا الرجل. فَيَقُولُ: أي رجل؟ فيقولان: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: قَالَ النَّاس إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادًا».
ويا ليت الأَمْر ينتهي ويقف عَنْدَ هَذَا الحد، فتبقى فِي قبرك على الدوام، فإنه أخف مِمَّا بعده، فتَكُون آلامك فيه أخف إن كنت من أَهْل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وَهُوَ القيام من القبور، قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وحينئذ تسوقك نتيجة اختبارك إما إِلَى الْجَنَّة وإما إِلَى السعير، من كَانَ مكذبًا بهَذَا والعياذ بِاللهِ فلا كلام لَنَا معه، لأن مآله إِلَى جهنم وبئس المهاد لأنه من الكافرين، وإن كَانَ مؤمنًا بذَلِكَ كما أخبر الله ورسوله فهو الَّذِي تفيد فيه المواعظ وضرب الأمثال ويقَالَ: لماذا نراك متصفًا بما يخالف قولك.
فَأَكْثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُّكَ قَوْلُهُ ** وَلَكِنْ مَنْ يَسُرُّكَ فِعْلُهُ

اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَخِتَامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قَرُبَ الْمَدى ** وَحَتَّام لا يَنْجَابُ عَنْ قَلْبِكَ السُّكْرُ

بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا ** وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ

آخر:
وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ** يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ

لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنَ ** وَأَفْعَالُهُ أَفْعَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ

.فَصْل في الإِنْكَارِ عَلَى المُنْحَرِفِيْن:

نراك فِي ليلك ونهارك فِي ما يغضب مولاك فلسانك فِي ميدان الفحش، ومنكر القول جواد عَظِيم وعينك فِي أودية النظرات الخائبة دَائِمًا تجول وتهيم، وفرجك لا يتهيب أن يتجاوز أرضه الطيبة إِلَى الأَرْض الوبيئة الخبيثة وأما بطنك فلا يعف عَنْ أخبث المأكولات، وأما أذنك فمصغية وسامعة إِلَى ما لا يحل من الكلام.
وأما رجلك فساعية إِلَى المعاصي والآثام، وأما يدك فباطشة بالضعيف دون توقع، فيا مسكين أن المعاصي عدو مبين، يعلم ذَلِكَ كُلّ مُؤْمِن عاقل فضلاً عَنْ المُؤْمِن يلقي نَفْسهُ فيها، فاتعظ وتنبه أيها الأخ وبرهن على إِنَّكَ تميز بين النافع والضار.
إِنَّ فِي الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ لَشُغْلاً ** وَادِّكَارًا لِذِي النُّهَى وَبَلاغَا

فَاغْتَنِمْ خِصْلَتَيْنِ قَبْلَ الْمَنَايَا ** صِحَّةَ الْجِسْمِ يَا أَخِي وَالْفَرَاغَا

آخر:
فَبَادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابَهُ ** وَتُطْوَى عَلَى الأَعْمَالِ صُحْفُ التَّزَوُّدِ

وَمَثْلُ وُرُودَ الْقَبْرِ مَهْمَا رَأَيْتَهُ ** لِنَفْسِكَ نِفَاعًا فَقَدِّمْهُ تَسْعَد

آخر:
يَا طَالِبًا رَاحَةً مِنْ دَهْرِهِ عَبَثًا ** أَقْصِرْ فَمَا الوَقْتِ إِلا بِالْهُمُومِ مُلِي

كَمْ مَنْظَرٍ رَائِقٍ أَفْنَتْ جَمَالَته ** يَدُ الْمَنُونِ وَأَعْيَتْهُ عَنْ الْحِيَلِ

وَكَمْ هُمَامٍ وَكَمْ قَرْمٍ وَكَمْ مَلِكٍ ** تَحْتَ التُّرَابِ وَكَمْ شَهْمٍ وَكَمْ بَطَلِ

وَكَمْ إِمَامٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي دُوَلٌ ** قَدْ صَارَ بِالْمَوْتِ مَعْزُولاً عَنْ الدُّوَل

وَكَمْ عَزِيزٍ أَذَلَّتْهُ الْمَنُونُ وَمَا ** أَنْ صَدَّهَا عَنْهُ مِنْ مَالٍ وَلا خَوَلِ

يَا عَارِفًا دَهْرَهُ يَكْفِيكَ مَعْرِفَةً ** وَإِنْ جَهلْتَ تَصَارِيفَ الزَّمَانِ سَلِ

هَلْ فِي زَمَانِكَ أَوْ قَبْلَهُ سَمِعَتْ ** أُذْنَاكَ أَنَّ ابنَ أُنْثَى غَيْرُ مُنْتَقِلِ

وَهَلْ رَأَيْتَ أُنَاسًا قَدْ عَلوا وَغَلَوا ** فِي الْفَضْلِ زَادُوا بِمَا نَالُوا عَنْ الأَجَلِ

أَوْ هَلْ نَسِيتَ لِدُوا لِلْمَوْتِ أَوْ عَمِيَتْ ** عَيْنَاكَ عَنْ وَاضِعٍ نَعْشًا وَمُحْتَمِلِ

وَهَلْ رَعَى الْمَوْتُ ذَا عِزِّ لِعِزَّتِهِ ** أَوْ هَلْ خَلا أَحَد دَهْرًا بِلا خَلَلِ

المَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ** لَكِنْ ذَا الْفَضْلِ مَحْمُولٌ عَلَ عَجَلِ

ولَيْسَ فَقْدُ إِمَامٍ عَالِمٍ عَلَمٍ ** كَفَقْدِ مَنْ لَيْسَ ذَا عِلْمٍ وَلا عَمَلِ

ولَيْسَ مَوْت الَّذِي مَاتَتْ لَهُ أُمَمٌ ** كَمَوْتُ شَخْصٍ مِنْ الأَوْغَادِ وَالسَّفَل

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقوي إيماننا بك وملائكتك وكتبك ورسلك والْيَوْم الآخِر والقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ وأَنْتَ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فَصْل فِي الرَّجَاء:

الرجَاءَ قِيْل فِي تعريفه: هُوَ ارتياح لانتظار ما هُوَ محبوب عَنْدَ الإِنْسَان ولكن ذَلِكَ المتوقع لابد لَهُ من سبب حاصل، فَإِنْ لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتقاء سمي تمنيًا لأنه انتظار من غير سبب ولا يطلق اسم الرجَاءَ والخوف إلا على ما يتردد فيه.
فأما ما لا يتردد فيه ويقطع به فلا إِذًا، لا يقَالَ أرجو طلوع الشمس ولكن يقَالَ أرجو نزول المطر، وأخاف انقطاعه وضد الرجَاءَ اليأس وَهُوَ تذكر فوت رحمة الله، وقطع الْقَلْب عَنْ ذَلِكَ، واليأس معصية، قَالَ تَعَالَى إخبارًا عما قاله يعقوب: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
لا تَرْجُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ ** وَاقْطَعْ عُرَى الآمَالِ مِنْ خَلْقِهِ

لا تَطْلُب الْفَضْلَ مِنْ غَيْرِهِ ** وَاضْنُنْ بِمَاءِ الْوَجْهِ وَاسْتَبْقِهِ

فَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ وَمَا لامْرِئٍ ** يَكُونُ طُولَ الدَّهْرِ فِي رِقِّهِ

آخر:
التَمِسِ الأَرْزَاقِ عَنْ الَّذِي ** مَا دُونَهُ إِنْ سُئِلَ مِنْ حَاجِبِ

وَمَنْ إِذَا قَالَ جَرَى قَوْلُهُ ** بِغَيْرِ تَوْقِيعٍ مِنْ الْكَاتِب

ومقدمَاتَ الرجَاءَ أربع:
الأولى: ذكر سوابق فضل الله إِلَى الْعَبْد.
وَالثَّانِيَة: ذكر ما وعد الله من جزيل ثوابه وعَظِيم كرمه وجوده دون استحقاق أَوْ سؤال.
الثالثة: ذكر كثرة نعم الله عَلَيْكَ فِي أمر دينك وبدنك ودنياك فِي الحال من أنواع الإمداد والألطاف من غير استحقاق أَوْ سؤال.
والرابعة: ذكر سعة رحمة الله تَعَالَى وسبقها غضبه وأنه الرحمن الرحيم الغنى الكريم الرؤوف بعباده الْمُؤْمِنِينَ، وقوة الرجَاءَ على حسب قوة المعرفة بِاللهِ وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه.
قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ فالرجَاءَ ضروري للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أَوْ كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها.
وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها والرجَاءَ من الأسباب التي ينال بها الْعَبْد ما يرجوه من ربه بل هُوَ من أقوى الأسباب. اهـ.
وقَالَ فِي مختصر منهاج القاصدين: وقَدْ علم أرباب الْقُلُوب أنَّ الدُّنْيَا مزرعة الآخِرَة والْقَلْب كالأَرْض والإيمان كالبذر فيها والطاعات جارية مجرى تنقية الأَرْض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها.
وأن الْقَلْب المستغرق بالدُّنْيَا كالأَرْض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة هُوَ يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإِيمَان، وقل أن ينفع إيمان مَعَ خبث الْقَلْب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو البذر فِي الأَرْض السبخة.
فينبغي أن يقاس رجَاءَ الْعَبْد المغفرة برجَاءَ صَاحِب الزرع، فكل من طلب أرضًا طيبةً وألقى فيها بذرًا جيدًا غير مسوسٍ وعفنٍ، ثُمَّ ساق إليها الماء فِي أوقات الحاجة ونقى الأَرْض من الشوك والحشيش وما يفسد الزرع.
ثُمَّ جلس ينتظر من فضل الله تَعَالَى دفع الصواعق والآفات المفسدة إِلَى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، فهَذَا يسمى انتظاره رجَاءَ، فَأَمَّا إن بذر فِي أرض سبخة صلبة مرتفعة لا يصل إليها الماء ولم يتعاهدها أصلاً ثُمَّ انتظر الحصاد فهَذَا يسمى انتظاره حمقًا وغرورًا لا رجَاءً.
وإِنْ بث البذر فِي أرض طيبة، ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار سمي انتظاره تمنيًا لا رجَاءً، فَإِنَّ اسم الرجَاءَ إِنما يصدق على انتظار محبوب، تمهدت أسبابه الداخلة تحت اختيار الْعَبْد، ولم يبق إلا ما لَيْسَ إِلَى اختياره، وَهُوَ فضل الله سُبْحَانَهُ بصرف الموانع المفسدات.
فالْعَبْد إِذَا بث بذر الإِيمَان وسقاه ماء الطاعات، وطهر الْقُلُوب من شوك الأَخْلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تَعَالَى ثباته على ذَلِكَ إِلَى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إِلَى المغفرة كَانَ انتظاره لِذَلِكَ رجَاءً محمودًا باعثًا على المواظبة على الطاعات والقيام بمقتضى الإِيمَان إِلَى الموت.
تَرَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَصْبُو ** وَمَا يَخْلُو مِنَ الشَّهَوَاتِ قَلْبُ

فُصُولُ الْعَيْشِ أَكْثَرُهَا هُمُومٌ ** وَأَكْثَرَ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ

فَلا يَغْرُوكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ ** وَعَيْشٌ لَيِّنُ الأعْطَافِ رَطْبُ

وإن قطع بذر الإِيمَان عَنْ تعهده بماء الطاعات أَوْ ترك الْقَلْب مشحونًا برذائل الأَخْلاق وانهمك فِي طلب لذات الدُّنْيَا، ثُمَّ انتظر المغفرة كَانَ ذَلِكَ حمقًا وغرورًا، قَالَ الله تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} وذم القائل: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً}.
أَفِي السَّبَخَاتِ يَا مَغْبُونُ تَبْنِي ** وَمَا أَبْقَى السِّبَاخُ عَلَى الأَسَاسِ

ذُنُوبُكَ جَمَّةٌ تَتْرَى عِظَامًا ** وَدَمْعُكَ جَامِدٌ وَالْقَلْبُ قَاسِي

وَأَيَّامًا عَصَيْتَ اللهَ فِيهَا ** وَقَدْ حَفِظْتُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ نَاسِي

فَكَيْفَ تُطِيقُ يَوْمَ الدِّين حِمْلاً ** لأَوْزَارِ الْكَبَائِرِ كَالرَّوَاسِي

هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لا وِدَّ فِيهِ ** وَلا نَسَبٌ وَلا أَحَدٌ مُوَاسِي

اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يَا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألَكَ أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

.موعظة:

عباد الله يَقُولُ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} عباد الله إن الصَّلاة عماد الدين وأعظم أركَانَ الإِسْلام بعد الشهادتين، وهي قرة عين المُؤْمِن وطمأنينة قَلْبهُ تبدو واضحة فِي وقوفه بين يدي ربه، وخشوعه وانكساره، عِنْدَمَا يتجه إليه فِي عبادته، ويقف خاضعًا ذليلاً بين يدي العزيز الحكيم.
عباد الله من حافظ على الصَّلاة فهو السَّعِيد الرابح، ومن أضاعها فهو الشقي الخاسر، وإن اللبيب العاقل من إِذَا حضر للصلاة اقبل بقَلْبهُ وقالبه، وطرح الدُّنْيَا وشؤنها ومتعلقاتها جانبًا وتدبر ما يتلوه إن كَانَ وحده أَوْ إمامًا. وأنصت وأحضر قَلْبهُ إن كَانَ مأمومًا وتفهم ما يسمَعَ وابتهل وتضرع إِلَى مولاه.
موعظة:
عباد الله إن الخشوع فِي الصَّلاة هُوَ روحها، والمحور الَّذِي تدور عَلَيْهِ سائر أفعالها، والخشوع فيها مَعَ الإِخْلاص لله آية الإِيمَان وسبب الفلاح وأمان من وساوس الشيطان. ألا وإن الصَّلاة بلا خشوع كجسد بلا روح قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: لَيْسَ لَكَ من صلاتك إلا ما عقُلْتُ مَنْهَا.
وَفِي المسند مرفوعًا: «إن الْعَبْد ليصلي الصَّلاة ولم يكتب لَهُ إلا نصفها أَوْ ثلثها أَوْ ربعها حَتَّى بلغ عشرها». وقَدْ علق الله فلاح المصلين بالخشوع فِي صلاتهم فدل على أن من لم يخشع فلَيْسَ من أَهْل الفلاح ولو اعتد لَهُ بها ثوابًا لكَانَ من المفلحين هكَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء.
قَالُوا: وأما الاعتداد بها فِي أحكام الدُّنْيَا وسقوط الِقَضَاءِ فَإِنَّ غلب الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعًا، وكَانَتْ السُّنَن والأذكار وعقبها جوابر ومكملات لنقصها، وإن غلب عَلَيْهِ عدم الخشوع فيها وعدم تعلقها.
فقَدْ اختلف الْعُلَمَاء فِي وجوب إعادتها واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عَلَيْهَا، ولم يضمن لَهُ فيها الفلاح فلم تبرأ ذمته مَنْهَا، ويسقط الِقَضَاءِ عَنْهُ كصلاة المرائي قَالُوا: ولأن الخشوع والعقل روح الصَّلاة، ومقصوها ولبها، فَكَيْفَ يعتد بصلاة فقدت روحها، ولبها وبقت صورتها وظاهرها.
قَالُوا: ولو ترك الْعَبْد واجبًا من واجباتها عمدًا لأبطلها تركه وغايته أن يكون بَعْضًا من ابعاضها منزلة فوات عضو من أعضاء الْعَبْد المعتق فِي الكفارة، فَكَيْفَ إِذَا عدمت روحها ومقصودها، وصَارَت بمنزلة الْعَبْد الميت فإذا لم يعتد بالْعَبْد المقطوع اليد يعتقه تقربًا إِلَى الله تَعَالَى فِي كفارة واجبةٍ فَكَيْفَ يعتد بالْعَبْد الميت.
وقَالَ بَعْض السَّلَف: الصَّلاة كجارية تهدى إِلَى ملك من الملوك فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أَوْ عوراء أَوْ عمياء أَوْ مقطوعة اليد أَوْ الرجل أَوْ مريضة أَوْ دميمة أَوْ قبيحة حَتَّى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة فَكَيْفَ بالصَّلاة التي يهديها الْعَبْد ويتقرب بها إِلَى ربه تَعَالَى والله طيب لا يقبل إلا طيب ولَيْسَ من الْعَمَل الطيب صلاة لا روح فيها كما أنه لَيْسَ من العتق الطيب عتق بلا روح.
قَالُوا: وتعطيل الْقَلْب عَنْ عبودية الحضور والخشوع تعطيل لملك الأعضاء عَنْ عبوديته وعزل لَهُ عَنْهَا فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها وقَدْ عزل ملكها وتعطل.
قَالُوا: والأعضاء تابعة للقلب تصلح بصلاحه وتفسد بفساده فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها وَإِذَا فسدت عبوديته بالغَفْلَة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه وعن أمره يصدرون وبه يأتمرون.
قَالُوا: ولأن عبودية من غلبت عَلَيْهِ الغَفْلَة والسهو فِي الغالب لا تَكُون مصاحبة للإخلاص فَإِنَّ الإِخْلاص قصد المعبود وحده بالتعبد والغَافِل لا قصد لَهُ فلا عبودية لَهُ.
قَالُوا: وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، ولَيْسَ السهو عَنْهَا تركها وإلا لم يكونوا مصلين وإنما السهو عَنْ واجبها إما عَنْ الحضور أَوْ الخشوع.
والصواب أنه يعم النوعين فإنه سُبْحَانَهُ أثَبِّتْ لَهُمْ صلاة ووصفها بالسهو عَنْهَا، فهو السهو عَنْ وقتها الواجب أَوْ عَنْ إخلاصها وحضورها الواجب، ولِذَلِكَ وصفهم بالرياء، ولو كَانَ السهو سهو ترك لما كَانَ هناك رياء اهـ.
وبالتالي فَإِنَّ الْعَبْد إِذَا مرن نَفْسهُ وقَلْبهُ على التفهم والتدبر والخشوع والخضوع فِي الصَّلاة انغرست فِي قَلْبهُ خشية الله ومحبته والرغبة فيما لديه وحضرته هيبة خالقه فِي جميع أحواله وَفِي جميع أعماله.
فإذا سولت لَهُ نَفْسهُ أمرًا أَوْ زين لَهُ الشيطان سوءًا تبرأ منهما قائلاً إِني أخاف الله رب العالمين فكن فِي صلاتك خاشعًا خاضعًا مخبتًا.
فإذا قُلْتُ الله أكبر فاستحضر عظمة الله وأنه لا شَيْء أكبر منه ولا شَيْء أعظم منه وأنه مستحق لأن يعظم ويجل ويقدر وأنه لَيْسَ أحد يساويه أَوْ يدانيه فِي عظمته.
وإذا قُلْتُ الحمد لله رب العالمين فاستحضر أنه المستحق للثناء وأنه المربي لجميع الخلق التربية العامة والمربي لخواص خلقه التربية الخاصة، وهي تربية الْقُلُوب على العقائد النافعة، والأعمال الصَّالِحَة، والأَخْلاق الفاضلة.
وَإِذَا قُلْتُ الرحمن الرحيم استحضرت لرحمته العامة والخاصة راجيًا منه أن يجعلك ممن كتبها لَهُمْ فإذا قُلْتُ مالك يوم الدين مجدته واستحضرت لوقوفك بين يديه وَهُوَ أحكم الحاكمين.
فإذا قُلْتُ إياك نعبد وَإِيَّاكَ نستعين استحضرت أنَّكَ تخصه وحده بالعبادة والاستعانة، المعنى نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.
فإذا قُلْتُ أهدنا الصراط المستقيم استحضرت أنَّكَ تتضرع إليه وتسأله أن يدلك ويرشدك ويوفقك إِلَى سلوك الصراط المستقيم وأن يثبتك عَلَيْهِ فهَذَا الدُّعَاء من أجمَعَ الأدعية وأنفعها للعبد ولهَذَا وجب على الْعَبْد أن يدعو به فِي كُلّ ركعة من صلاته لضرورته إِلَى ذَلِكَ وَهَذَا الصراط هُوَ صراط المنعم عَلَيْهمْ من النبيين.
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وافعل فِي باقي صلاتك كما فعلت فِي أولها من التدبر والتفهم محضرًا قلبك لمعاني ما تقوله وما تسمعه حَتَّى تكتب لَكَ كاملة.
عباد الله إن من حافظ على الصلوات فِي أوقاتها وواظب على الْجُمُعَة والجماعات وأداها تأدية تامة بخشوع وخضوع، استنار قَلْبهُ وقويت الصلة بينه وبين ربه، وتهذبت نَفْسهُ وحسنت مَعَ الله والنَّاس معاملته، وحيل بينه وبين المحرمَاتَ وكَانَ على البؤساء عطوفًا وبالضعفاء رحيمًا، وأفلح فِي دينه وكَانَ من المحبوبين عَنْدَ الله وعَنْدَ خلقه.
عباد الله النفس آمرة بالسُّوء، والشيطان يأمر بالفحشاء والْمُنْكَر والسيف القاطع والدواء النافع الَّذِي جعله الله وقاية للإنسان من شر النفس والشيطان، إنما هُوَ الصَّلاة، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}.
عباد الله احذروا أن تستهينوا بالصَّلاة وأن لا تهتموا لها، فَإِنَّ هَذِهِ صفة الَّذِينَ خلت صلاتهم من التذلل والخشوع كما ترونهم يسرعون فِي أدائها وهم عَنْهَا غافلون لا يعرفون لها معنى ولا يعقلون لها سرًا ولم تشعر قُلُوبهمْ بحلاوتها ولا بلذة المناجات قَدْ ملكتهم الوساوس، وامتلأت قُلُوبهمْ بشواغل الدُّنْيَا ولذاتها، واستحوذ عَلَيْهمْ الشيطان فأنساهم ذكر الله.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ومن النَّاس من عميت بصائرهم، وتحجرت ضمائرهم، فأضاعوا الصَّلاة واتبعوا الشهوات، وأهملوا أوامر بديع السماوات وغفلوا عَنْ واجب شكره ولم يخافوا سطوة جبروته وبطشه، ولا سوء الحساب، ولا نار الْعَذَاب: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
فيا أيها المسلمون اتقوا الله ربكم وحافظوا على صلاتكم وقوموا لله خاضعين خاشعين لتفوزوا برضوانه وتكونوا من المفلحين.
للهِ دَرُّ السَّادَةِ الْعُبَّادِ ** فِي كُلِّ كَهْفٍ قَدْ ثَوَوْا أَوْ وَادِي

أَلْوَانُهُمْ تُنْبِيكَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ ** وَدُمُوعُهُمْ عَنْ حُرْقَةِ الأَكْبَادِ

كَتَمُوا الضَّنَى حِفَظًا لَهُمْ وَتَحَمَّلُوا ** سُقْمَ الْهَوَى وَمَشَقَّةَ الأَجْسَادِ

هَجَرُوا الْمَرَاقِدَ فِي الظَّلامِ لِرَبِّهِمْ ** وَاسْتَبْدَلُوا سَهَرًا بِطِيبِ رُقَادِ

لا يَفْتُرونَ إِذَا الدُّجَى وَافَاهُمُوا ** مِنْ كَثْرَةِ الأَذْكَارِ وَالأَوْرَادِ

وَرَأَوْا عَلامَاتِ الرَّحِيلِ فَبَادِرُوا ** تَحْصِيلِ مَا الْتَمَسُوا مِن الأَزْوَادِ

فَإِذَا اسْتَمَالَ قُلُوبَهُمْ دَاعِي الْهَوَى ** ذَكَرُوا الْبِلَى فِي ظُلْمَةِ الإِلْحَادِ

نَظَرُوا إِلَى الدُّنْيَا تَغُرُّ بِأَهْلِهَا ** بِوِصَالِهَا وَتَكِرُّ بِالإِبْعَادِ

فَتَجَنَّبُوهَا عِفَّةً وَتَزَهُّدًا ** وَتَزَوُّدُوا مِنْ صَالِحِ الأَزْوَادِ

وَمَضُوا عَلَى مِنْهَاجِ صَحْبِ نَبِيِّهِمْ ** فَنَجَوْا غَدًا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ مَعَاد

وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
فصل:
روى شداد بن أوس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «الكيس من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها وتمنى على الله الأماني».
وَمِمَّا ورد فِي الحث على الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وقَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ}، وقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية.
وقَالَ: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ}، وقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} وقَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.
إِذَا شَدَّ زَنْدِي حُسْنُ ظَنِّي بِمَنْ عَلَى ** عَلَى خَلْقِهِ فَهُوَ الَّذِي كُنْتُ أَطْلُبُ

آخر:
وَإِنِّي لآتِي الذَّنْبَ أَعْرِفُ قدْرَهُ ** وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ

لَئِنْ عَظَّمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا ** وَإِنْ عَظُمَتْ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَصْغُرُ

وقَالَ: {إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، وقَالَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إِلَى قوله: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، وقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}.
وقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}، وقَالَ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ووجه الدلالة مِنْهَا حيث أوصى الله بالإحسان إِلَى القاذف.
ومن جانب الرجَاءَ ما كَانَ من أمر السحرة المبارزين لمُوَسى عَلَيْهِ السَّلام فما كَانَ إلا أن رأوا آية مُوَسى فعرفوا الحق ووقعوا سجدًا: {قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة فهَذَا حال من عرف الله ووحده بعد كُلّ ذَلِكَ السحر والكفر والضلال والفساد فَكَيْفَ حال من أفنى عمره فِي توحيد الله.
وَكَذَا قصة أصحاب الكهف إذ آمنوا بِاللهِ كيف لطف بِهُمْ، وأكرمهم وألبسهم المهابة حَتَّى إن بركتهم شملت كلبهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحالة وصار لَهُ ذكر وشان وخبر يتلى وهذه فائدة صحبة الأخيار فما ظنك بالمُؤْمِن الَّذِي عَبَّد الله ووحده ولهج بذكره آناء الليل وآناء النَّهَارَ، وعادى فيه ووالى فيه سنين عديدة وبوده لو عمر زيادة تابع فيها خدمة سيده ومولاه جَلَّ وَعَلا.
ومن جانب الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.
تَفِيضُ عُيُونِي بِالدُّمُوعِ السَّوَاكِبِ ** وَمَالِي لا أَبْكِي عَلَى خَيْرِ ذَاهِبِ

عَلَى عُمْرِي إِذْ وَلَّى وَحَانَ انْقِضَاؤُهُ ** بِآمَالِ مَغْرُورٍ وَأَعْمَالِ نَاكِبِ

عَلَى غُرَرِ الأَيَّامِ لَمَّا تَصَرَّمَتْ ** وَأَصْبَحْتُ مِنْهَا رَهْنَ شُؤْمِ الْمَكَاسِبِ

عَلَى زَهَرَاتِ الْعَيْشِ لَمَّا تَسَاقَطَتْ ** بِرِيحِ الأَمَانِي وَالظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ

عَلَى أَشْرَفِ الأَوْقَاتِ لَمَّا غُبِنْتُهَا ** بِأَسْوَاقِ غَبْنٍ بَيْنَ لاهٍ وَلاعِبِ

عَلَى أَنْفَسِ السَّاعَاتِ لَمَّا أَضَعْتُهَا ** وَقَضَّيْتُهَا فِي غَفْلَةٍ وَمَعَاطِبِ

عَلَى صَرْفِيَ الأَيَّامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ ** وَلا نَافِعٍ مِنْ فِعْلِ فَضْلٍ وَوَاجِبِ

عَلَى مَا تَوَلَّى مِنْ زَمَانٍ قَضَيْتُهُ ** وَرَجَّيْتُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ وَصَائِبِ

عَلَى فُرَصٍ كَانَتْ لَوْ أَنِّي انْتَهَزْتُهَا ** لَقَدْ نِلْتُ فِيهَا مِنْ شَرِيفِ الْمَطَالِبِ

وَأَحْيَانَ آنَاءٍ مِنْ الدَّهْرِ قَدْ مَضَتْ ** ضَيَاعًا وَكَانَتْ مُوسِمًا لِلرَّغَائِبِ

عَلَى صُحُفٍ مَشْحُونَةٍ بِمَآثِمٍ ** وَجُرْمٍ وَأَوْزَارٍ وَكَمْ مِنْ مَثَالِبِ

عَلَى كَمْ ذُنُوبٍ كَمْ عُيُوبٍ وَزَلَّةٍ ** وَسَيِّئَةٍ مَخْشِيَّةٍ فِي الْعَوَاقِبِ

عَلَى شَهَوَاتٍ كَانَتْ النَّفْسُ أَقْدَمَتْ ** عَلَيْهَا بِطَبْعٍ مُسْتَحَثٍّ وَغَالِبِ

عَلَى أَنَّنِي آثَرْتُ دُنْيَا دَنِيَّةً ** مُنَغَّصَةً مَشْحُونَةً بِالْمَعَائِب

عَلَى عَمَلِ لِلْعِلْمِ غَيْرِ مُوَافِقٍ ** وَمَا فَضْلُ عِلْمٍ دُونَ فِعْلٍ مُنَاسِبِ

عَلَى فِعْلِ طَاعَاتٍ بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ ** وَمِنْ غَيْرِ إِحْضَارٍ وَقَلْبٍ مُرَاقِبِ

أُصَلِّي الصَّلاةَ الْخَمْسَ وَالْقَلْبُ جَائِلٌ ** بِأَوْدِيَةِ الأَفْكَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ

عَلَى أَنَّنِي أَتْلُو الْقُرْآنَ كِتَابَهُ ** تَعَالَى بِقَلْبِ ذَاهِلٍ غَيْرَ رَاهِبِ

عَلَى طُولِ آمَالٍ كَثِير غَرُورُهَا ** وَنِسْيَانِ مَوْتٍ وَهُوَ أَقْرَبُ غَائِبِ

عَلَى أَنَّنِي قَدْ أَذْكُرُ اللهَ خَالِقِي ** بِغَيْرِ حُضُورٍ لازِمٍ وَمُصَاحِبِ

عَلَى أَنَّنِي لا أَذْكُرُ الْقَبْرَ وَالْبَلَى ** كَثِيرًا وَسَفْرًا ذَاهِبًا غَيْرَ آيِبِ

عَلَى أَنَّنِي عَنْ يَوْمِ بَعْثِي وَمَحْشَرِي ** وَعَرْضِي وَمِيزَانِي وَتِلْكَ الْمَصَاعِبِ

مَوَاقِفُ مِنْ أَهْوَالِهَا وَخُطُوبِهَا ** يَشِيبُ مِنْ الْولْدَانِ شَعْرُ الذَّوَائِبِ

تَغَافَلْتُ حَتَّى صِرْتُ مِنْ فُرْطِ غَفْلَتِي ** كَأَنِّي لا أَدْرِي بِتِلْكَ الْمَرَاهِبِ

عَلَى النَّارِ أَنِّي مَا هَجَرْتُ سَبِيلَهَا ** وَلا خِفْتُ مِنْ حَيَّاتِهَا وَالْعَقَارِبِ

عَلَى السَّعْيِ لِلْجَنَّاتِ دَارِ النَّعِيمِ وَالْـ ** ـكَرَامَةِ الزُّلْفَى وَنَيْلِ الْمَآرِبِ

مِنْ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْمُخَلَّدِ وَالْبَقَا ** وَمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ مِنْ كُلِّ طَالِبِ

وَأَكْبَرُ مِنْ هَذَا رِضَا الرَّبِّ عَنْهُمْ ** وَرُؤْيَتُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجِبِ

فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا ** هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ

وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ** هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ

وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ ** عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ

عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ** وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ

عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ** وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ

عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ ** وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ

عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ** وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ

عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ** وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ

وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ ** وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ

فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا ** وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ

وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ** عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ

وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ ** وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ

عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ** وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ

عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ** وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ

عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ ** وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ

عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ** وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ

عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ** وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ

وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ ** وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ

إِلَيْهِ مآبِي وَهُوَ حَسْبِي وَمَلْجَئِي ** وَلِي أَمَلٌ فِي عَطْفِهِ غَيْرُ خَائِبِ

وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا بَقِي لِمَا ** يُحِبُّ وَيَرْضَى فَهُوَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ

وَأَنْ يَتَغَشَّانَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةٍ ** وَفَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَسَتْرِ الْمَعَائِبِ

وَأَنْ يَتَوَلانَا بِلُطْفٍ وَرَأْفَةٍ ** وَحِفْظٍ يَقِينَا شَرَّ كُلِّ الْمَعَاطِبِ

وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةٍ ** عَلَى مِلَّةِ الإِسْلامِ خَيْرِ الْمَوَاهِبِ

مُقِيمِينَ لِلْقُرْآنِ وَالسُنَّةِ الَّتِي ** أَتَانَا بِهَا عَالِي الذُّرَى وَالْمَرَاتِبِ

مُحَمَّدٌ الْهَادِي الْبَشِيرُ نَبِيُّنَا ** وَسَيِّدُنَا بَحْرُ الْهُدَى وَالْمَنَاقِبِ

عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ** وَآلٍ وَأَصْحَابٍ لَهُ كَالْكَوَاكِب

موعظة:
عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها فَإِنَّ متاعها قليل ولا تطمعوا بالإقامة فيها فَإِنَّ البقاء فيها مستحيل كيف لا والمنادي ينادي كُلّ يوم يَا عباد الله الرحيل، هُوَ الموت ما منه فوت ولا تعجيل ولا يقبل الفداء فاستعدوا لَهُ فإنه سيأتيكم عَنْ قريب. عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها وإيثارها على الآخِرَة فَإِنَّ هَذَا الفساد يقعد المسلم عَنْ التطلع إِلَى الآخِرَة والْعَمَل لها وإتعاب الجسد فِي سبيل الله والدعوة إليه وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على مهام الدعوة إِلَى الله، إِنَّ الدُّنْيَا فيها قابلية الإغراء للتعلق بها وحبها. ولهَذَا وصفها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِنَّ الدُّنْيَا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدُّنْيَا واتقوا النساء». وقَدْ حذرنا ربنا من الوقوع فِي شباكها والتعلق بها فقَالَ عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. ووجه الاغترار بالدُّنْيَا أن فيها مباهج ومناظر وملذات للأنفس والأعين والأسماع تهواها نَفْسهُ بطبيعتها وتؤثرها على ما سواها، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والآخِرَة * وَالآخِرَة خَيْرٌ وَأَبْقَى}، وقَالَ عز من قائل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَة}. فإذا تركت النفس وشانها زَادَ تعلقها بالدُّنْيَا وزَادَ التصاقها بها حَتَّى تصبح هِيَ كُلّ غايتها ومنتهى أملها ومبلغ علمها، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ}.
وإذا ما وصلت النفس إِلَى هَذَا الحد فقدت حاسة القبول والاعتبار وعَنْدَ ذَلِكَ لا يجدي معها وعظ ولا تذكير مهما بالغت فيه. فما هُوَ العلاج لمن وصل إِلَى هَذِهِ الدرجة العلاج بإذن الله هُوَ تخليص الْقَلْب من أسرارها وتعلقه بها وَذَلِكَ بان يجعل زَوَال الدُّنْيَا نصب عينيه ويتيقن لقاء الآخِرَة وبقاءها وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم. ويتدبر الآيات مثل قوله تَعَالَى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}. وقوله تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَة خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى}، وقوله: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَة إِلاَّ قَلِيلٌ}، وقوله تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ}. وقوله: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ} الآية. ويتدبر الأحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «كن فِي الدُّنْيَا غريب أَوْ عابر سبيل». الْحَدِيث. وقوله: «ما لي وللدنيا». ونحو ذَلِكَ من الآيات وَالأَحَادِيث التي مرت سابقًا حول أمثلة الدُّنْيَا.
ويقارن بين الأمرين فَإِنَّ كَانَ ذا عقل راجح آثر الآخِرَة على الدُّنْيَا وأيضًا لابد من قطع التسويف وطول الأمل حَتَّى يحس أنه فِي غربة وأنه مسافر عَنْ هَذِهِ الدار وأنه سيرحل عَنْهَا فِي أَيَّةِ ساعةٍ رغم أنفه شاء أم أبى.
وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ** يَوْمًا عَلَى آلةٍ حَدْبَاء مَحْمُول

آخر:
وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ** يَوْمًا لَهُ مِنْ دَوَاعِي الْمَوْتِ تَثْوِيبُ

وَإِن وسوس لَهُ الشيطان وألقى فِي روعه إِنَّكَ شاب قوي موفور الصحة مشدود أسرك وَفِي إمكانك الرجوع إِلَى الطاعة والإقبال إِلَى الآخِرَة فليطرد وساوسه باستحضار الَّذِينَ رحلوا شبابًا وكهولاً وهم الآن تحت الثرى.
يُعَمَّرِ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا ** وَيُنْسَى مَنْ يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ

آخر:
لا تَغْتَزِرْ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ ** فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ

ويخَرَجَ إِلَى المقابر ويتفكر فيمن جمعوا الأموال وقتلوا أوقاتهم فِي طلبها واتعبوا أبدانهم وأنهم سيحاسبون عَلَيْهَا، ويفكر فيمن تعود عَلَيْهمْ بعده ربما أنهم لا يذكرونه بخَيْر ويتمنون موته فلماذا يحرق نَفْسهُ فِي جمعها لَهُمْ.
وقَدْ يُورِثُ الْمَال الْبَعِيدَ مُظَلَّلٌ ** مِن النَّاس يَأْبَى وَضَعْه فِي الْقَرَائِب

آخر:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ** سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ

وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ** وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ

آخر:
شَقِيتُ بِمَا جَمَعْتُ فَلَيْتَ شِعْرِي ** وَرَائِي مَنْ يَكُونَ بِهِ سَعِيدَا؟!

أُعَايِنُ حَسْرَةً أَهْلِي وَمَالِي ** إِذَا مَا النَّفْسُ جَاوَزَتِ الْوَرِيدَا

أُعِدُّ الزَّادَ مِنْ تَقْوَى فَإِنِّي ** رَأَيْتُ مَنِيَّتِي السَّفَرَ الْبَعِيدَا

تَبَدَّل صَاحِبي فِي اللَّحْدِ مِنِّي ** وَهَالَ عَلَى مَنَاكِبَى الصَّعِيدَا

فَلَوْ أَبْصَرْتَنِي مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ ** رَأَيْتَ مَحَاسِنِي قَدْ صِرْنَ دُودَا

وَحِيدًا مُفْرِدًا يَا رَبِّ لُطْفًا ** بِعَبْدِكَ حِينَ مَا يُتْرَكْ وَحِيدَا

فإذا قصر أمله فِي الحياة انَبْعَث إِلَى التجهز للآخرة بعمل الطاعات إذ لا يدري متى ينادى عَلَيْهِ بالرحيل فإذا تخلص من التعلق بالدُّنْيَا وأفرغ ما فِي قَلْبهُ من سمومها وأقبل على الآخِرَة أحس بغربة شديدة فِي الدُّنْيَا ولكن مَعَ خفة فِي روحه وإقبال شديد على مراضي الله وعلى رأسها الدعوة إليه وهداية الحيارى من عباد الله.
لا يعوقه عَنْ ذَلِكَ عائقٌ من تعبٍ ولا نصبٍ ولا سفرٍ ولا سهرٍ ولا بذلٍ ولا تضحيةٍ لأن ذَلِكَ كله من الزَّاد المؤكد نفعه وفائدته فِي سفره الطويل الْبَعِيد إِلَى الآخِرَة بل إنه سيعقب تعبه راحةٌ وألمه لذة وَفِي بذله ربحًا وَفِي تضحيته عوضًا مضمونَا.
وَفِي وصية الإِمَام علي بن أبي طالب لابنه الحسن أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة وقوه باليقين ونوره بالحكمة وَذَلِلّهُ بذكر الموت وقرره بالفناء وبصره بفجائع الدُّنْيَا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأَيَّامُ وأعرض عَلَيْهِ أخبار الماضين وذكره بما أصاب من كَانَ قبلك من الأولين وسر فِي ديارهم وآثارهم وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا فإنك تجدهم قَدْ انتقلوا عَنْ الأحبة وحلوا فِي دار غربة وكأنك عَنْ قليل قَدْ صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع أخرتك بدنياك إِلَى أن قَالَ: يَا بني أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عَلَيْهِ وتفضي بعد الموت إليه حَتَّى يأتيك وقَدْ أخذت وشددت لَهُ أزرك ولا يأتيك بغتة فيبهرك وَإِيَّاكَ أن تغتر بما تَرَى من إخلاد أَهْل الدُّنْيَا إليها وتكالبهم عَلَيْهَا فقَدْ نبأك الله عَنْهَا ونعت لَكَ نفسها وتكشف لَكَ عَنْ مساويها فَإِنَّ أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهر بعضها بَعْضًا أي ينبح بعضها على بَعْض ويأكل عزيزها ذليلها ويقهر كبيرها صغيرها نَعَمٌ معلقة وأخرى مهملة قَدْ أضلت عقولها وركبت مجهولها سروح عاهة لَيْسَ راع يقيمها ولا مقيم يَسِيسُهَا سلكت بِهُمْ الدُّنْيَا طَرِيق العمى وأخذت بأبصارهم عَنْ منار الهدى فتاهوا فِي خيراتها وغرقوا فِي نعمتها واتخذوها رَبًّا فلعبت بِهُمْ ولعبوا بها ونسوا ما وراءها، واعْلَمْ أن من كَانَ مطيته الليل والنَّهَارَ فإنه يسار به وإن كَانَ واقفًا ويقطع المسافة وإن كَانَ مقيمًا.
يَا جَامِعَ الْمَالِ إِنَّ الْعُمْرَ مُنْصَرِمٌ ** فَابْخَلْ بِمَالِكَ مَهْمَا شِئْتَ أَوْ فَجُدِ

وَيَا عَزِيزًا يَخِيطُ الْعُجْبُ نَاظِرُهُ ** أُذْكُرْ هَوَانَكَ تَحْتَ التُّرْبِ وَاتَّئِدِ

قَالُوا تَرَقَى فُلانُ الْيَوْمَ مَنْزِلَةً ** فَقُلْتُ يُنْزِلُهُ عَنْهَا لِقَاءُ غَدِ

كَمْ وَاثِقٍ بِاللَّيَالِي مَدَّ رَاحَتَهُ ** إِلَى الْمَرَامِ فَنَادَاهُ الْحِمَامُ قَدِ

وَبَاسِطٍ يَدَهُ حُكْمًا وَمَقْدِرَةً ** وَوَارِدُ الْمَوْتِ أَدْنَى مِنْ فَمٍ لِيَدِ

كَمْ غَيَّرَ الدَّهْرُ مِنْ دَارِ وَسَاكِنِهَا ** لا عَنْ عَمِيدِ ثَنَى بَطْشًا وَلا عَمَدِ

زَالَ الَّذِي كَانَ لِلْعَلْيَا بِهِ سَنَدٌ ** وَزَالَتْ الدَّارُ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ

تَبَارَكَ اللهُ كَمْ تَلْقَى مَصَائِدَهَا ** هَذِي النُّجُوم عَلَى الدَّانِينَ وَالْبُعَدِ

تَجْرِي النُّجُومُ بِتَقْرِيبِ الْحِمَامِ لَنَا ** وَهُنَّ مِنْ قُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى أَمَدِ

لا بُدَّ أَنْ يَغْمِسَ الْمِقْدَارُ مُدْيَتَهُ ** فِي لَبَّةِ الْجَدْيِ مِنْهَا أَوْ حَشَى الأَسَدِ

عَجِبْتُ مِنْ آمِلٍ طُولَ الْبَقَاءِ وَقَدْ ** أَخْنَى عَلَيْهِ الَّذِي أَخْنَى عَلَى لُبَدِ

يَجُرّ خَيْطُ الدُّجَى وَالْفَجْرِ أَنْفُسَنَا ** لِلتُّرْبِ مَا لا يَجُرُّ الْحَبْلُ مِنْ مَسَدِ

هَذِي عَجَائِبُ تَثْنِي النَّفْسَ حَائِرَةً ** وَتُقِعِدُ الْعَقْلَ مِنْ عِيِّ عَلَى ضَمَدِ

مَا لِي أُسَرٌ بِيَوْمٍ نِلْتُ لَذَتَهُ ** وَقَدْ ذَوَى مَعَهُ جُزْءٌ مِن الْجَسَدِ

لا تَرْكَنَّ فَرِيدًا فِي التُّرَابِ غَدًا ** وَلَوْ تَكَثَّرَ مَا بَيْنَ الْوَرَى عَدَدِي

مَا نَافِعِي سَعَةٌ فِي الْعَيْشِ أَوْ حَرَجٌ ** إِنْ لَمْ تَسَعْنِي رُحْمَى الْوَاحِدِ الصَّمَد

اللَّهُمَّ قنعنا من الدُّنْيَا باليسير وسهل عَلَيْنَا كُلّ أمر عسير وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وأسكنا دار كرامتك يَا من هُوَ ملجؤنا وملاذنا وإليه المصير واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجَا ومن كُلّ ضيق مخرجَا، اللَّهُمَّ أحيي قلوبًا أماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.