فصل: فصل في أن صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في أن صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم:

وقال بعض العلماء: إخواني اعلموا أن صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم وأن من العلماء رحمة على الناس يسعد من اقتدى بهم وأن من العلماء فتنة على الأمة يهلك من تأسى بهم.
فالعالم إذا كان عاملاً برضوان الله مؤثرًا للآخرة على الدنيا فأولئك خلفاء الرسل عليهم السلام والنصحاء للعباد والدعاة إلى الله فيسعد من أجابهم ويفوز من اقتدى بهم ولهم مثل أجر المتأسين بهم.
وتلا بعض أهل العلم قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
فقال: هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال: إنني من المسلمين إنه خليفة الله.
يا قوم فبمثل هذا العالم اقتدوا به وتأسوا تسعدوا ألا أن صنفًا من العلماء رضوا بالدنيا عوضًا عن الآخرة فآثروها على جوار الله تعالى ورغبوا في الاستكثار منها وأحبوا العلو فيها.
فتأسى بهم عالم من الناس وافتتن بهم خلق كثير أولئك أسوء فتنة على الأمة، تركوا النصح للناس كيلا يفتضحوا عندهم، لقد خسروا وبئسما اتجروا واحتملوا أوزارهم مع أوزار المتأسين بهم فهلكوا وأهلكوا أولئك خلفاء الشيطان ودعاة إبليس أقل الله في البرية أمثالهم.
وقال بعض العلماء: من ازداد بالله علمًا فازداد للدنيا حبًا ازداد من الله بعدًا وقال: إذا كان العالم مفتونًا بالدنيا راغبًا فيها حريصًا عليها فإن في مجالسته لفتنة تزيد الجاهل جهلاً وبفتن العالم يزيد الفاجر فجورًا ويفسد قلب المؤمن.
أُوصِيكُمُ يَا مَعْشَرَ الإِخْوَانِ ** عَلَيْكِمْ بِطَاعَةِ الدَّيَّانِ

وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُهْمِلُوا أَوْقَاتَكُمْ ** فَتَنْدَمُوا يَوْمًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ

وَإِنَّمَا غَنِيمَةُ الإِنْسَانِ ** شَبَابُهُ وَالْخُسْرُ فِي التَّوَانِي

مَا أَحْسَنَ الطَّاعَةَ لِلشُّبَّانِ ** فَأَسْعَوْا لِتَقْوَى اللهِ يَا إِخْوَانِي

وَأَعْمِرُوا أَوْقَاتَكُمْ بِالطَّاعَةَ ** وَالذِّكْر كُلَّ لَحْظَةٍ وَسَاعَةْ

وَمَنْ تَفُتْهُ سَاعَةْ فِي عُمْرِهِ ** تَكُنْ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ فِي قَبْرِهِ

وَمَنْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي شَبَابِهِ ** حَتَّى مَضَى عَجِبْتُ مِنْ تَبَابِهِ

وَيَا سَعَادَةَ امْرِئٍ قَضَاهُ ** فِي عَمَلٍ يَرْضَى بِهِ مَوْلاهُ

أَحَبَّ رَبِّي طَاعَةِ الشَّبَابِ ** يَا فَوْزَهُمْ بِجَنَّةِ الرِّضْوَانِ

فَتُبْ إِلَى مَوْلاكَ يَا إِنْسَانُ ** مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفُوتَكَ الأَوَانُ

وَمَنْ يَقُلْ إِنِّي صَغِيرٌ أَصْبِرُ ** ثُمَّ أُطِيعُ اللهَ حِينَ أَكْبُرَ

فَإِنْ ذَاكَ غَرَّهُ إِبْلِيسُ ** وَقَلْبُهُ مُغَلَّقٌ مَطْمُوسُ

لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ صَغِيرَا ** وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْبِهِ بَصِيرَا

مُجَانِبًا لِلإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ ** مُخَالِفًا لِلنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ

مُلازِمًا تِلاوَةَ الْقُرْآنِ ** مُسْتَعْصِمًا بِالذِّكْرِ مِنْ نِسْيَانِ

مُرَاقِبًا للهِ فِي الشُّؤُونِ ** مُحَاذِرًا مِنْ سَائِرِ الْفُتُونِ

مُجَانِبًا رَذَائِلَ الأَخْلاقِ ** مُجَافِيًا كُلا عَدَا الْخَلاقِ

مُحَارِبًا لِنُزْعَةِ الضَّلالِ ** وَصَوْلَةِ الأَهْوَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ

فَإِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ بِالنَّجَاةِ ** فَاسْلُكْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْهُدَاةِ

يَا مَنْ يَرُومُ الْفَوْزَ فِي الْجَنَّاتَ ** بِالْمُشْتَهَى وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ

انْهَضْ إِلَى السَّجَدَاتِ فِي الأَسْحَارِ ** وَاحْرِصْ عَلَى الأَوْرَادِ وَالأَذْكَارِ

وَاحْذَرْ رِيَاءَ النَّاسِ فِي الطَّاعَاتِ ** فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ

وَاخْتَرْ مِنَ الأَصْحَابِ كُلَّ مُرْشِدِ ** إِنَّ الْقَرِينَ بِالْقَرِينَ يَقْتَدِي

وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ دَاءٌ وَعَمَى ** تَزِيدُ فِي الْقَلْبِ السَّقِيمَ السَّقَمَا

فَإِنْ تَبِعْت سُنَّةَ النَّبِي ** فَاحْذَرْ قَرِينَ السُّوءِ وَالدَّنِي

وَاخْتَرْ مِنَ الزَّوْجَاتِ ذَاتِ الدِّينِ ** وَكُنْ شُجَاعًا فِي حِمَى الْعَرِينِ

وَزَوِّدْ الأَوْلادَ بِالآدَابِ ** تَحْفَظْ قُلُوبَهُم مِن الأَوْصَابِ

وَهَذِّبِ النُّفُوسَ بِالْقُرْآنِ ** وَلا تَدَعْهَا نُهْبَةَ الشَّيْطَانِ

وَاحْرِصْ عَلَى مَا سُنَّةُ الرَّسُولُ ** فَهُوَ الْهُدَى وَالْحَقُّ إِذَا أَقُولُ

دَعْ عَنْكَ مَا يَقُولُهُ الضُّلالُ ** فَفِيهِ كُلَّ الْخُسْرِ وَالْوَبَالُ

وَأَصْدَقُ الْحَدِيثِ قَوْلُ رَبِّنَا ** وَخَيْرُ هَدْيِ اللهِ عَنْ نَبِيِّنَا

يَا أَيُّهَا الْغَفْلانُ عَنْ مَوْلاهُ ** انْظُرْ بِأَيِّ سَيِّءٍ تَلْقَاهُ

أَمَا عَلِمْتَ الْمَوْتَ يَأْتِي مُسْرِعًا ** وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى

وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مِنْ بَعْدِ الأَجَلْ ** إِلا الَّذِي قَدَّمَهُ مِنَ الْعَمَلْ

فَبَادِرِ التَّوْبَةَ فِي إِمْكَانِهَا ** مِنْ قَبْل أَنْ تُصَدَّ عَنْ إِتْيَانِهَا

يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ مَا هَذَا الْعَمَلْ ** إِلَى مَتَى هَذَا التَّرَاخِي وَالْكَسَلْ

لَوْ يَعْلَمُ الإِنْسَانُ قَدْرَ مَوْتِهِ ** مَا ذَاقَ طُولَ الدَّهْرِ طَعْمَ قُوتِهِ

مَا لِي أَرَاكَ لَمْ تُفِدْ فِيكَ الْعِبَرْ ** وَيْحَكَ هَذَا الْقَلْبُ أَقْسَى مِنْ حَجَرْ

وَأَفْلَسُ النَّاسِ طَوِيلُ الأَمَلِ ** مُضَيِّعُ الْعُمْرِ كَثِيرِ الْخَطَلِ

نَهَارُهُ مُمْضِيهِ فِي الْبَطَالَةْ ** وَلَيْلَهُ فِي النَّوْمِ بِئْسَ الْحَالَةْ

ادْعُ لَنَا يَا سَامِعًا وَصِيَّتِي ** بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ مَعَ الْعَطِيَّةِ

وَلا تُؤَاخِذْنَا عَلَى النِّسْيَانِ ** وَلا عَلَى الأَخْطَاءِ وَلا الْعِصْيَانِ

يَا رَبِّ وَاحْفَظْنَا مِنَ الْفَتَّانِ ** وَلا تُذِقْنَا حُرْقَةَ النِّيرَانِ

يَا رَبِّ وَانْصُرْنَا عَلَى الأَعْدَاءِ ** وَاحْمِ الْحِمَى مِنْ هِيشَةِ الْغَوْغَائِي

وَدِينَكَ احْفَظْهُ مَعَ الأَمَانِ ** لِلأَهْلِ فِي الأَقْطَارِ وَالأَوْطَانِ

وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى الْخِتَامِ ** وَالشُّكْرُ للهِ عَلَى الإِنْعَامِ

مَا أَعْظَمُ الإِنْعَامَ مِنْ مَوْلانَا ** وَأَجْزَلَ الإِفْضَالُ إِذْ هَدَانَا

لِنِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ ** وَالاقْتِدَاءِ بِسَيِّدِ الأَنَامِ

ثُمَّ صَلاةُ اللهِ وَالسَّلامُ ** مَا نَاحَ طَيْرُ الأيْكِ وَالْحَمَامِ

عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى الْبَشِيرِ ** الْهَاشِمِي الْمُجْتَبِي النَّذِيرِ

وَآلِهِ مَا انْبَلَجَ الصَّبَاحُ ** وَصَحْبَهِ مَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسماوات أنت الله الأحد لصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

.فصل في ذكر بعض آثار تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

وحسبك من آثار تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على قوة الثقة بالله وحسن الظن به والتوكل عليه والزهد في الدنيا ما يتجلى بأكمل معانيه في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة. أما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر».
فقال: عدة الله وعدة رسوله فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير إلا كنت سابقًا، وجاء عمر بنصف ماله حتى دفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: «ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر».
قال: خلفت نصف مالي لهم. رواه ابن أبي حاتم من حديث عامر الشعبي وعن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة.
فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان: علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذا». أخرجه الترمذي.
وعن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذر رضي الله عنه فخرج عطاؤه ومعه جارية له قال: فجعلت تقضي حوائجه ففضل معها سبعة فأمرها أن تشتري بها فلوسًا قال: قلت لو أخرجته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك قال: إن خليلي عهد لي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه». رواه الطبراني في الكبير.
وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا؟ قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب قالت: غفر الله له ثم سلت سترًا لها فقطعته وجعلت العطاء صررًا وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها ثم رفعت يديها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقًا به.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن عبد العزيز قال: كان للزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه شيء.
وأخرج الحاكم عن أم بكر بنت المسور أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه باع أرضًا له بأربعين ألف دينار فقسمها في بني زهرة وفقراء المسلمين والمهاجرين وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى عائشة رضي الله عنها بمال من ذلك فقالت: من بعث هذا المال قلت: عبد الرحمن بن عوف.
قال: وقص القصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحنو عليكن من بعدي إلا الصابرون سقى الله عوف من سلسبيل الجنة». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وعن نافع أن معاوية رضي الله عنه بعث إلى ابن عمر مائة ألف فما حال الحول وعنده منها شيء. وعن أيوب بن وائل الراسبي قال: قدمت المدينة فأخبرني رجل جار لابن عمر أنه أتى ابن عمر أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من قبل آخر وقطيفة.
فجاء إلى السوق يريد علفًا لراحلته بدرهم نسيئة فقد عرفت الذي جاءه فأتيت سريته فقلت: إني أريد أن أسألك عن شيء أحب أن تصدقيني قلت: أليس قد أتي عبد الرحمن أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من آخر وقطيفة.
قالت: بلى قلت: رأيته يطلب علفًا بدرهم نسيئة قالت: ما بات حتى فرقها فأخذ القطيفة فألقاها على ظهره ثم ذهب فوجهها ثم جاء فقلت: يا معشر التجار ما تصنعون بالدنيا وابن عمر أتته البارحة عشرة آلاف درهم وضح فأصبح اليوم يطلب لراحلته علفًا نسيئة بدرهم.
وكانت زوجاتهم رضي الله عنهم زوجات صالحات تعينهم على تنفيذ المشاريع الخيرية فهذا أبو الدحداح لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}.
قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح». فقال: أرني يدك يا رسول الله فناوله صلى الله عليه وسلم يده الكريمة فقال: اشهد يا رسول الله أني قد أقرضت ربي حائطي. أي البستان وكان له بستان فيه ستمائة نخلة وفي البستان زوجته أم الدحداح وأولاده يسكنونه.
ثم جاء إلى البستان فنادى زوجته يا أم الدحداح قالت: لبيك. قال: أخرجي أنت وأولادك فقد أقرضت ربي عز وجل حائطي فشجعته ونشطته وقالت: ربح بيعك ثم نقلت متاعها وأولادها رضي الله عنهما. فتأمل قوة اليقين فيما عند الله كيف تعمل وتأمل موقف زوجته من عمله هذا.
ولو كانت من نساء الزمان لقالت: أنت مجنون وأقلقت راحته وألبت عليه أولاده وأمه وأباه وقالت: خذوا على يديه. نسأل الله العافية.
وهذا عثمان بن عفان ترد عليه عير له من الشام في وقت نزل فيه البرح بالمسلمين من الجدب والقحط فإذا هي ألف بعير مسوقة تحمل برًا وزيتًا وزبيبًا.
فجاءه التجار وقالوا: بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنك تعلم ضرورة الناس فيقول حبًّا وكرامة: كم تربحوني على شرائي فيجيبون قائلين الدرهم درهمين فيقول: أعطيت أكثر من هذا فيقولون: يا أبا عمر، وما بقى في المدينة تجار غيرنا وما سبقنا إليك أحد فمن الذي أعطاك.
فيجيب إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة فيقولون: لا، فيشهد الله على أن هذه وما حملت صدقة لله على المساكين والفقراء من المسلمين، فيا ليت أغنياء هذا الزمن تنسخوا من الزكاة فقط ولكن هيهات أن يتغلبوا على النفس والشيطان والدنيا والهوى.
اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما أصاب أرضًا بخيبر أتي النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عني منه فما تأمرني قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها».
قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل ولضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه. متفق عليه.
وهذا أبو بكر رضي الله عنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته وقد ربح الكثير من التجارة بعد الإسلام فلما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد بقي له من كل مدخره سوى خمسة آلاف درهم.
لقد أنفق ماله المدخر في افتداء الضعفاء من الموالي المسلمين الذين كانوا يذوقون العذاب ألوانًا من ساداتهم الكفار كما أنفقه في بر الفقراء والمعوزين، فليعتبر بذلك معشر الحراس للأموال.
وقد حدث أن جاء عامل عمر بالبحرين أبو هريرة بمال كثير وروايته: قدمت من البحرين بخمسمائة ألف درهم فأتيت عمر بن الخطاب مساء فقلت: يا أمير المؤمنين اقبض هذا المال. قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: وتدري كم خمسمائة ألف درهم؟ قلت: نعم مائة ألف خمس مرات. قال: أنت ناعس أذهب الليلة فبت حتى تصبح.
فلما أصبحت أتيته فقلت: اقبض مني هذا المال؟ قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: أمن طيب هو؟ قلت: لا أعلم إلا ذاك. فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس إنه قد جاءنا مال كثير فإن شئتم أن نكيل لكم كلنا وإن شئتم أن نعد لكم عددنا وإن شئتم أن نزن لكم وزنا.
فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين دون الدواين يعطون عليها فاشتهى عمر ذلك ووزعها على المسلمين كلها.
وذكر بعض المفسرين أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس فصلى الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفات وقت الصلاة ولم يخبروه بذلك هيبة له فاغتنم لذلك وقال: ردوها علي فاقبل عليها فضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربًا إلى الله وطلبًا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعة الله.
وكان ذلك مباحًا له وبقي منها مائة فرس فلما عقرها لله تعالى أبدله الله تعالى خيرًا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب تجري بأمره كيف شاء وإليه يشير قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}.
لا أَجْعَلُ الْمَالَ لِي رَبًا يُصرِفُنِي ** لا بَلْ أَكُونُ لَهُ مَوْلاً أُصَرّفُهُ

مَا لِي مِنَ الْمَالِ إِلا مَا تَقَدَّمَنِي ** فَذَاكَ لِي وَلِغَيْرِي مَا أُخَلِّفُهُ

آخر:
وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَالِ لَوْلا امْتِهَانُهُ ** وَبَيْنَ الْحَصَى الْمَجْمُوع أَوْ كُثُبِ الرَّمْلِ

آخر:
تَمَتَّعْ بِمَالِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ ** وَإِلا فَمَا النَّفْعُ إِنْ أَنْتَ مُتَّا

شَقِيتَ بِهِ ثُمَّ خَلَّفْتَهُ ** لِغَيْرِكَ بَعْدَكَ فَسُحْقًا وَمَقْتَا

آخر:
فَإِنَّ مَسِيرِي فِي الْبِلادِ وَمَنْزِلِي ** هُوَ الْمَنْزِلُ الأَقْصَى إِذَا لَمْ أُقْرَّبِ

وَلَسْتُ وَإِنْ أُذْنِيتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ ** خَلاقِي وَلا دِينِي ابْتِغَاءِ الرَّغَائِب

وروي أن عمر أرسل مع غلامه بأربعمائة دينار إلى أبي عبيدة بن الجراح وأمر الغلام بالتأني ليرى ما يصنع فيها فذهب بها الغلام إليه وأعطاها له وتأنى يسيرًا ففرقها أبو عبيدة كلها فرجع الغلام لعمر فخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فأرسلها معه إليه وأمره بالتأني كذلك ففعل ففرقها فاطلعت زوجته وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فأعطاهما إياها. فرجع الغلام لعمر وأخبره فسر بذلك. وقال: إخوة بعضهم من بعض.
وروي أن زوجة طلحة بن عبيد الله رأت منه ثقلاً فقالت له: مالك لعله رابك منا شيء فنعتبك قال: لا ولنعم الحليلة للمسلم أنت ولكن اجتمع عندي مالي ولا أدري كيف أصنع قالت: وما يغمك منه أدع قومك فاقسمه بينهم فقال: يا غلام عليَّ بقومي. فكان جملة ما قسم أربعمائة ألف 400000.
وباع أرضًا من عثمان بسبعمائة فحملها عليه فلما جاء بها قال: إن رجلاً يبيت عنده هذه في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله فبات ورسله تختلف في السكك سكك المدينة حتى أسحروا ما عنده منها فرقوها على الفقراء والمساكين.
الصحابة رضي الله عنهم جمعوا كرمًا وشجاعة وخصالاً حميدة اقرأ آخر سورة الفتح وما ينطبق عليهم رضي الله عنهم ما يلي:
فَهُمْ جَمَعُوا الْعَلْيَاءَ عِلْمًا وَعِفَّةً ** وَزُهْدًا وَجُودًا لا يَضِيقُ فُوَاقَا

كَمَا جَمَعَ التُّفَّاحُ حُسْنًا وَنَظْرَةً ** وَرَائِحَةً مَحْبُوبَةً وَمَذَاقَا

آخر:
لَهُمْ سَحَائِبُ جُودٍ فِي أَنَامِلِهِمْ ** أَمْطَارُهَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالذَّهَبُ

فِي الْعُسْرِ قَالُوا إِذَا أَيْسَرْنَ ثَانِيةِ ** قَصَّرْنَ عَنْ بَعْضِ مَا نُعْطِي وَمَا نَهَبُ

حَتَّى إِذَا عَادَ أَيَّامُ الْيَسَارَ لَهُمْ ** رَأَيْتَ أَمْوَالَهُمْ فِي النَّاسِ تُنْتَهَبُ

آخر:
هُمُ الْقَوْمُ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا ** أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطَوْا أَطَابُوا وَأَجْزَلُ

وَمَا يُدْرِكُونَ التَّابِعُونَ فِعَالَهُمْ ** وَإِنْ أَحْسَنُوا فِي النَّائِبَاتِ وَأَجْمَلُوا

آخر:
وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كَالصَّحَابَةْ ** بِالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِصَابة

آخر:
وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لَدَيْهِمُ ** تَحِيضُ دِمَاءً وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ

وَأَعْجَبُ مِنْهَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ ** تَأَجَّجُ نَارًا وَالأَكُفُّ بُحُورُ

وبعث عبد الله بن الزبير إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمال في غرارتين ثمانون ألف ومائة ألف درهم وهي صائمة فجعلت تقسم بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فقالت لجارتها: هلمي فطوري فجاءت بخبز وزيت فقالت لها الجارية: فما استطعت فيما قسمت في هذا اليوم أن تشتري لنا لحمًا بدرهم قالت: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت. هكذا يؤثر الإيمان العميق بما أخبر الله به وبرسوله.
كان سهل بن عبد الله بن يونس التستري ينفق ماله في طاعة الله فجاءت أمه وإخواته إلى عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يشكونه فقالوا: هذا لا يمسك شيئًا ونخشى عليه الفقر فأراد عبد الله أن يعينهم عليه.
فقال له سهل: يا عبد الله أرأيت أن رجلاً من أهل المدينة اشترى ضيعة برستاق، أرض السواد وهو يريد أن يتنقل إليها أكان يترك بالمدينة شيئًا وهو يسكن الرستاق.
فقال عبد الله بن المبارك: خصمكم يعني أنه أراد أن يتحول على الرستاق لا يترك بالمدينة شيئًا فالذي يريد أن يتحول على الآخرة كيف يترك في الدنيا شيئًا.
بِهَا لِيْلُ فِي الإِسْلامِ سَادُوا وَلَمْ يَكُنْ ** كَأَوَّلِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ

هُمُ الْقَوْمِ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا ** أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطُوا أَطَابُوا وَأجْزَلُوا

ومن الشعر الذي لا ينطبق إلا على الصحابة رضي الله عنهم ما يلي:
مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقِيتُ سَيِّدَهُمْ ** مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي

لا يَنْطِقُونَ عَنِ الْفَحْشَاءِ إِنْ نَطَقُوا ** وَلا يُمَارُونَ إِنْ مَارَوْا بِإِكْثَارِ

إِنْ يُسْأَلُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإِنْ خُبِرُوا ** فِي الْجُهْدِ أَدْرَكَ مِنْهُمْ طِيبَ أَخْبَارِ

وَإِنْ تَوَدَّدْتَهُمْ لانُوا وَإِنْ شُهِمُوا ** كَشَفْتَ إِذْ مَارَ حَرْبٍ غَيْرَ إِغْمَارِ

هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسَارٌ ذُوو حَسَبٍ ** سُوَّاسُ مَكْرُمَةً أَبْنَاءُ أَيْسَارِ

آخر:
بِهَا لِيلُ لَوْ عَايَنْتَ فَيْضَ أَكُفِّهَم ** لأَيْقَنْتَ أَنَّ الرِّزْقَ فِي الأَرْضِ وَاسِعُ

فائدة سبب البخل ستة أشياء:
(1) غلبة الشهوات.
(2) وطول الأمل.
(3) ورحمة الولد.
(4) وخوف الفقر.
(5) وقلة الثقة بمجيء الرزق.
(6) وعشق المال لذاته.
فالبخل يتعب نفسه ويحرمها وينفع غيره كما قيل: شعرا:
يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ** وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ

كَدُودَةِ الْقِزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ** وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ

آخر:
إِذَا كُنْتَ جماعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا ** فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ

تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ ** فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ

آخر:
وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يَلِمُّ وَفْرًا ** لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ

كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ ** فَرِيسَتَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ

آخر:
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ ** عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآتِ

إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَطْلُبُنِي ** مَا لَيْسَ عِنْدِي لِمَنْ إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ

آخر:
قُلْ لِي بِرَبِّكَ مَاذَا يَنْفَعُ الْمَالُ ** إِنْ لَمْ يُزَيِّنْهُ إِحْسَانٌ وَإِفْضَالُ

الْمَالُ كَالْمَاءِ إِنْ تُحْبَسْ سَوَاقِيَهُ ** يَأْسَنْ وَإِنْ يَجْر يَعْذُبْ مِنْهُ سِلْسَالُ

تَحْيَا عَلَى الْمَاءِ أَغْرَاسُ الرِّيَاضِ كَمَا ** تَحْيَا عَلَى الْمَالِ أَرْوَاحٌ وَآمَالُ

إِنَّ الثَّرَاءَ إِذَا حِيلَتْ مَوَارِدُهُ ** دُونَ الْفَقِير فَخَيْرٌ مِنْهُ إِقْلالُ

اللهُ أَعْطَاكَ فَابْذُلْ مِنْ عَطِيَّتِهِ ** فَالْمَالُ عَارِيَةٌ وَالْعُمْرُ رَحَّالُ

آخر:
لَقَدْ دَرَجَ الأَسْلافُ مِنْ قَبْلِ هَؤُلاءِ ** وَهِمَّتُهمِ نِيلُ الْمَكَارِمِ وَالْفَضْلِ

وَقَدْ رَفَضُوا الدُّنْيَا الْغُرُورَ وَمَا سَعَوْا ** لَهَا وَالَّذِي يَأْتِي يُبَادَرُ بِالْبَذْلِ

فَقِيرُهُمْ حُرٌّ وَذُو الْمَالِ مُنْفِقٌ ** رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ فِي صَالِحِ السُّبْلِ

لِبَاسُهُمْ التَّقْوَى وَسِيمَاهُمْ الْحَيَا ** وَقَصْدُهُمْ الرَّحْمَنُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ

مَقَالُهُمْ صِدْقٌ وَأَفْعَالُهُمْ هُدَىً ** وَأَسْرَارُهُمْ مَنْزُوعَةُ الْغِشِّ وَالْغِلِّ

خُضُوعٌ لِمَوْلاهُمْ مُثُولٌ لِوَجْهِهِ ** قُنُوتٌ لَهُ سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ مِثْلِ

آخر:
أَيَا نَفْسُ لِلْمَعْنَى الأَجَلِّ تَطَلَّبِي ** وَكُفِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي قَدْ تَقَضَّتِ

فَكَمْ أَبْعَدَتْ إِلْفًا وَكَمْ كَدَّرَتْ صَفًا ** وَكَمْ جَدَّدَتْ مِنْ تَرْحَةٍ بَعْدَ فَرْحَتِ

فَلَوْ جُعِلَتْ صَفْوًا شُغِلْتُ بِحُبِّهَا ** وَلَمْ يَكُ فَرْقٌ بَيْنَ دُنْيَا وَجَنَّةِ

لَعُمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ أَخِي حِجَا ** فَيَلْهُو بِهَا عَنْ دَارِ فَوْزٍ وَجَنَّةِ

عَنِ الْمَوْطِنَ الأَسْنَى عَنِ الْقُرْبِ وَاللِّقَا ** عَنِ الْعَيْشِ كُلِّ الْعَيْشِ عِنْدَ الأَحِبَّة

فَوَاللهِ لَوْلا ظُلْمَةُ لَمْ يَطِبْ ** لَكَ الْعَيْشُ حَتَّى تَلْتَحِقْ بِالأَحِبَّة

اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين، وخصنا منك بالتوفيق المبين، ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه، وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفًا من كل داء، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
ومن أخلاقهم توصية بعضهم بعضًا بما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة: ودع ابن عون رجلاً فقال له: عليك بتقوى الله فإن المتقي ليست عليه وحشة.
وقال زيد بن أسلم: كان يقال من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا.
وكانت أعمالهم بعيدة عن الرياء عملاً بقوله تعالى في الصدقات: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، كان الربيع بن خيثٍم لا يطلع على عمله إلا أهل بيته ودخل عليه رجل وهو يقرأ في المصحف فغطاه بكمه.
إِذَا وَاتَاكَ مِنْ مَوْلاكَ خَمْسٌ ** فَلا تَأْسَفْ عَلَى شَيْءٍ يَفُوتُ

حِجىً وَسَلامَةٌ وَلِبَاسُ تَقْوَى ** وَدِينٌ غَيْرَ مَدْخُولٍ وَقُوتُ

آخر:
جَمَالُ أَخِي النُّهَى كَرَمٌ وَتَقْوَى ** وَلَيْسَ جَمَالهُ عَرْضًا وَطُولا

وكان ميمون بن مهران يقول لأصحابه قولوا ما أكره في وجهي فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره وكان يقول يا أهل القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الربح في الدنيا اطلبوا الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة.
وبالتالي فإن الانهماك في الدنيا قد شمل أصناف الخلق لقلة معرفتهم بالله تعالى إذ لا يحب الله إلا من عرفه فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازداد حبه له، وكلما فكر في نعم الله عليه قوى حبه لربه، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله ورسوله ومن المجاهدة لأعلاء كلمة الله فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله.
ولهذا قال حتى يأتي الله بأمره وهذا وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ شنيعٌ للمنهمكين في طلب الدنيا المؤثرين لها ولأهلهم وقرابتهم وعشيرتهم على الله ورسوله والجهاد في سبيله أفلا يعتبر اللبيب وينظر كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غيرت الأرض ببلائها وكم غيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف المخلوقين.
وما أكثر من أخذت الدنيا بقلبه وقالبه وصار عبدًا لها في ليله ونهاره ضاعت أوقاته النفيسة في الركض خلفها يجمعها لمن يخلفه عليها وصار هو بالحقيقة حارسًا خادمًا محاميًا بجازته وكسوته وسكناه فقط ولا شكر ولا ثناء ولا مروءة وتأمله وصفًا مطابقًا لأغنياء أهل هذا الزمن تكون بذلك مصدقًا متعجبًا وان كنت موفقًا قلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم، اللهم عافهم ولا تبتلينا واستعملت ما عندك فيما يقرب إلى الله والدار الآخرة وسألت الله أن يثبتك على الإيمان وأن يزيغ قلبك بعد إذ هداك وأن يهب لك من لدنه رحمة وأن يهيئ لك من أمرك رشدًا.
وَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَكُنْ لَهُ ** مِن اللهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ

فَإِنْ تُعْجِبُ الدُّنْيَا رِجَالاً فَإِنَّهَا ** مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالزَّوَال قَرِيبُ

آخر:
يُحْصِي الْفَتَى مَا كَانَ مِنْ نَفَقَاتِهِ ** وَيُضِيعُ مِنْ أَنْفَاسِهِ مَا أَنْفَقَا

وَكَأَنَّمَا دُنْيَا ابْنِ آدَمَ عِرْسُهُ ** أَخَذَتْ جَمِيعَ تُرَاثِهِ إِذْ طَلَّقَا

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.