فصل: سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة

فيها افتتح صلاح الدين بالشام فتحاً مبيناً ونصر نصراً مبيناً وهزم الفرنج وأسر ملوكهم وكانوا أربعين ألفاً‏.‏

ونازل القدس وأخذه وأخذ عكا وافتتح عدة حصون وعز الإسلام وعلاه ودخل على المسلمين سرور لا يعلمه إلا الله تعالى وفيها قتل ابن الصاحب ببغداد فذلت الرافضة‏.‏

وفيها توفي القاضي عيسى بن علي ولاه سيف الإسلام قضاء الجند‏.‏وفيها توفي الفقيه الفاضل الورع المصنف حسن بن أبي بكر الشيباني الساكن في الجوهة من بلاد اليمن تفقه على الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن عبدويه المتقدم ذكره وبعبد الله الهروي والطويري لزم مجلسه تسع سنين ورحل إلى عدن رحلتين بينهما أربعون سنة وله مصتفات حسنة‏.‏وعرض عليه قضاء زبيد في ولاية شمس الدولة وفي ولاية أخيه سيف الإسلام فامتنع واعتذر فقيل له‏:‏ أرشدنا إلى من تراه فأشار بالقاضي عبد الله بن محمد بن أبي عقامة‏.‏

قال ابن سمرة بعدما ذكر بني عقامة‏:‏ وبهم نشر الله تعالى مذهب الشافعي في تهامة‏.‏

وذكر منهم جماعة منهم‏:‏ القاضي أبو الفتوح بن أبي عقامة - بفتح العين المهملة - الثعلبي كان عالماً مجوداً له مصنفات حسنة منها‏:‏ كتاب التحقيق وكتاب الخبايا أخذ عن الفقيه أبي الغنائم وهو عن الشيخ أبي حامد الاسفرائيني ومنهم القاضي محمد بن علي بن أبي عقامة الخطيب قيل إنه ولي قضاء زبيد زمن الحبشة وكان معظماً عندهم ذا جاه كبير وعلم غزير‏.‏

ومنهم الحسن بن محمد بن أبي عقامة الخطيب قيل إنه كان ينظم الخطبة على المنبر وإليه تنسب الخطب العقامية‏.‏

ومنهم القاضي محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عقامة وأخوه أبو بكر ابن عبد الله وقال‏:‏ وآخرهم في هذا الزمان القاضي عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عقامة الثعلبي قاضي زبيد من جهة الأمير تفقه فقهاء زبيد وأخذ عنهم وله معرفة بالحديث والتفسير‏.‏

وفضائل آل أبي عقامة مشهورة‏.‏

قلت‏:‏ وفقهاء اليمن ينشدون أبياتاً وينسبونها إلى القاضي ابن أبي عقامة يمدح فيه بمعرفة عشرين علماً ولا أدري أي المذكورين هو‏.‏

وفيها قويت نفس السلطان ابن أرسلان وأرسل إلى بغداد بأن يعمر له دار السلطان وأن يخطبوا له ويرفع له الشأن فأمر الناصر بهدم الدار والآخراب وأخرج رسوله مهاناً بلا جواب‏.‏

وفيها توفي شيخ الفتوة وحامل لوائها عبد الجبار بن يوسف البغدادي حاجاً بمكة‏.‏

وكان قد علا شأنه بكون الخليفة الناصر يفتي ومحدث بغداد وصالحها عبد المغيث بن زهير وابن الدامغاني قاضي القضاة أبو الحسن علي بن أحمد الحنفي‏.‏

وكان ساكناً وقوراً محتشماً‏.‏

وفيها توفي المقدم الأمير الكبير محمد بن عبد الملك كان من أعيان أمراء الدولتين بطلاً شجاعاً محتشماً عاقلاً شهد في الشام المذكور الفتوحات وحج فلما نزل بعرفات رفع علم السلطان صلاح الدين وضرب الكوسات فأنكر عليه أمير ركب العراق فلم يلتفت وركب في طلبه وركب إليه الآخر فالتقوا وقتل جماعة من الفريقين وأصاب ابن المقدم سهم في عينه فخرج سريعاً ثم مات من الغد بمنى‏.‏

وتوفي شيخ الحنابلة الملقب بناصر الإسلام نصر بن قينان - وكان موصوفاً بالورع والزهد والتعبد‏.‏

وفيها توفي مجد الدين الصاحب هبة الله بن علي ولي أستاذ دار للمستضيء ولما ولي الناصر رفع منزلته وبسط يده وكان رافضياً سباياً لما تمكن أحيى شعار الإمامية واشتهر بأشياء قبيحة فقتل وأخذت حواصله من جملتها ألف ألف دينار‏.‏

 سنة اربع وثمانين وخمس مائة

دخلت وصلاح الدين يصول وبخيوله يجول حتى لاقت الفرنج منه ما ذكره يطول وافتتح أخوه الملك العادل الكرك بالأمان سلموها له لفريط القحط في رمضان‏.‏

وفيها توفي أسامة بن مرشد الأمير الكبير مؤيد الدولة أبو المظفر الكناني - الشيرازي أحد الأبطال المشهورين والشعراء المبرزين له عدة تصانيف في الأدب والأخبار والنثر ونظم الأشعار له ديوان شعر في جزأين ومن شعره‏:‏ لا تستعر جلداً على هجرانهم فقواك تضعف عن صدود دائم واعلم بأنك إن رجعت إليهم طوعاً وإلا عدت عودة راغم وله في ابن طليب المصري وقد احترقت داره‏:‏ انظر إلى الأيام كيف تسوقنا قهراً إلى الإقرار بالأقدار ما أوقد ابن طليب قط بداره ناراً وكان خرابها بالنار قال ابن خلكان‏:‏ ومما يناسب هذه الواقعة أن الوجيه بن صورة المصري - دلال الكتب - كانت له دار موصوفة بالحسن فاحترقت فقال علي بن مفرح المعروف بالمنجم‏:‏ أقول وقد عاينت دار ابن صورة وللنار فيها مارج يتضرم كذا كل مال أصله من نهاوش فمما قليل في نهار يعدم قلت‏:‏ ومع هذا البيتين بيت ثالث أفرط فيه ما ينبغي أن يذكر والبيت الثاني مأخوذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ من أصاب مالاً من نهاوش أهبه الله في نهابر ‏"‏‏.‏والنهاوش الحرام والنهابر المهالك‏.‏

وقال لغزاً وقد قلع ضرسه‏:‏ لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا لناظري افترقنا فرقة الأبد قلت‏:‏ وقد فسرت هذا اللغز حيث قلت‏:‏ ضرس امرىء غاب عن عينيه في فمه عليه في طحن مايغذوه معتمد نعم الرحى صور الباري بحكمته تراه عند انقلاع غير مرتدد وفيها توفي الإمام عبد الرحمن بن محمد بن حبيش الأنصاري‏.‏

كان من أئمة الحديث والقراءات والنحو واللغة ولي خطابة مرسية وقضاءها واشتهر ذكره وبعد صيته وصنف كتاب المغازي في مجلدات‏.‏

وفيها توفي شيخ الحنفية في زمانه بما وراء النهر عمر ابن الإمام شمس الأئمة بكر بن علي رحمه الله تعالى‏.‏وفيها توفي التاج المسعودي محمد بن عبد الرحمن الخراساني الصوفي الرحال الأديب‏.‏

كتب وسعى وجمع فأوعى وصنف شرحاً طويلاً للمقامات استوعب فيه ما لم يستوعبه غيره في خمس مجلدات كبار ولم يبلغ أحد من شرح المقامات إلى هذا القدر ولا إلى نصفه وكان مقيماً بدمشق والناس يأخذون عنه بعد أن كان يعلم الملك الأفضل عند السلطان صلاح الدين حصل له بطريقة كتباً نفيسة غريبة وبها استعان على شرح المقامات‏.‏

وحكى أبو البركات الهاشمي قال‏:‏ لما دخل السلطان صلاح الدين حلب نزل المسعودي المذكور إلى جامع حلب وقعد في خزانة كتب الوقف واختار منها جملة أخذها لم يمنعه منها مانع ولقد رأيته وهو يحشوها في عدل وقال ابن النجار‏:‏ كان من الفضلاء في كل فن في الفقه والحديث والأدب وكان من أظرف المشايخ وأجملهم توفي عن اثنتين وثمانين سنة‏.‏وفيها توفي أبو الفتح التعاويذي الشاعر الذي سار نظمه في الآفاق وتقدم على شعراء العراق‏.‏

هكذا ذكر بعضهم في السنة المذكورة وقد قدمنا عن بعضهم ذكر موته في سنة ثلاث وخمسين وذكرت شيئاً من فضائله هناك‏.‏

وفيها توفي الإمام الحافظ محمد بن موسى الخازمي الهمداني الملقب زين الدين أحد الحفاظ المتقنين وعباد الله الصالحين سمع من أبي الوقت حضوراً وسمع من أبي زرعة ومعمر بن الفاخر بالخاء المعجمة ورحل إلى العراق وأصبهان والجزيرة وبلاد فارس وهمدان والشام والنواحي وصنف التصانيف وكان إماماً ذكياً ثاقب الذهن فقيهاً بارعاً ومحدثاً ماهراً بصيراً بالرجال والعلل متبحراً في علم السنن ذا زهد وتعبد وتأله وانقباض عن الناس وغلب عليه الحديث وبرع فيه واشتهر به وصنف فيه وفي غيره كتباً مفيدة منها‏:‏ الناسخ والمنسوخ في الحديث وكتاب الفصل في مشتبه السنة وكتاب عجالة المبتدىء في النسب وكتاب ما اتفق لفظه وافترق مسماه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط وكتاب سلسلة الذهب فيما روى الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشافعي وشروط الأئمة وغير ذلك من الكتب النافعة‏.‏

واستوطن بغداد ساكناً في الجانب الشرقي ولم يزل مواظباً للاشتغال ملازم الخير إلى أن توفي رحمة الله تعالى عليه فدفن في الشونيزية إلى جانب سمنون بن حمزة مقابل قبر الجنيد رحمة الله تعالى على الجميع بعد أن صلى عليه خلق كثير برحبة جامع القصر وحمل إلى الجانب الغربي فصلي عليه مرة بعد أخرى وفرق كتبه على أصحاب الحديث‏.‏

وكانت ولادته في سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمس مائة ونسبته إلى جده حازم‏.‏وفيها توفي الفقيه الفاضل قاضي عدن ذو الفضل أحمد بن عبد الله بن محمد اليمني القريظي كان حافظاً مجوداً في الحديث بارعاً عارفاً باللغة والعربية أقام في مجلس الحكم بها أربعين سنة‏.‏

 سنة خمس وثمانين وخمس مائة

في أول شعبان منها التقى صلاح الدين الفرنج وفي وسطه التقاهم أيضاً فانهزم المسلمون واستشهد جماعة ثم ثبت السلطان والأبطال كروا عليهم ووضعوا فيه السيف وجافت الأرض من كثرة القتلى ونازلت الفرنج عكا فساق صلاح الدين وضايقهم وبقي محاصراً والتقاهم المسلمون مرات وطال الأمر وعظم الخطب وبقي الحصار والحالة هذه عشرين شهراً أو أكثر وجاء الفرنج في البر والبحر وملأوا السهل والوعر حتى قيل إن عدة من جاء منهم بلغت ست مائة ألف‏.‏

وفيها توفي فقيه الشام قاضي القضاة أبو سعد عبد الله بن محمد المعروف بابن عصرون التميمي ئم الموصلي وأحد الأعلام‏.‏تفقه بالموصل وسمع بها ثم رحل إلى بغداد فقرأ القراءات ودرس النحو والأصلين ودخل واسط وتفقه بها ورجع إلى الموصل بعلوم جمة ودرس بها وأفتى ثم سكن سنجار ثم قدم حلب ودرس بها وأقبل عليه نور الدين فقدم معه عند مفتتح دمشق ودرس بالغزالية ثم رد وولي قضاء سنجار وحران مدة ثم قدم دمشق وولي القضاء لصلاح الدين وله مصنفات كثيرة‏.‏

وفيها توقي المبارك بن المبارك شيخ الشافعية في وقته ببغداد وصاحب الخط المنسوب ومؤدب أولاد الناصر لدين الله درس بالنظامية وتفقه به جماعة وحدث وكان صاحب علم وعمل ونسك وورع وكان قد جود للكتابة حتى بالغ بعضهم وقال‏:‏ هو أكتب من ابن البواب‏.‏ثم اشتغل بالفقه فبلغ فيه الداية‏.‏

وفيها توفي صاحب الطريقة في الخلاف أبو طالب محمد بن علي التميمي الأصبهاني‏.‏

تفقه على الشهيد محمد بن يحيى تلميذ حخه الإسلام أبي حامد الغزالي وبرع في الخلاف وصنف فيه التعليقة التي شهدت بفضله وتحقيقه وتدبيره على أكثر نظرائه وجمع فيها بين الفقه والتحقيق‏.‏

وكان عمدة المدرسين في إلقاء الدروس واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به وصاروا علماء مشاهير وكان له في الوعظ اليد الطولى وكان متفنناً في العلوم خطيباً قاضياً مدرساً‏.‏

وفيها توفي محمد بن يوسف البحراني الشاعر المشهور وكان إماماً مقدماً في علم العربية متفنناً في أنواع الشعر من أعلم الناس بالعروض والقوافي وأحذقهم بنقد الشعر وأعرفهم بجيده من ردئيه واشتغل بشيء من علوم الأوائل وحل كتاب إقليدس وبدأ بنظم الشعر وهو صبي صغير بالبحرين جرياً على عادة العرب قبل أن ينظر في الأدب‏.‏

وكان قد رحل إلى شهرزور وأقام بها مدة ثم رحل إلى دمشق وخدم السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى بقصيدة طويلة وله ديوان شعر جيد ورسائل حسنة ومن شعره قصيدة مدح بها أبا المظفر صاحب إربل من جملتها هذه الأبيات‏.‏رب دار بالفضا طال بلاها عكف الركب عليها فبكاها درست إلا بقايا أسطر سمح الدهر بها ثم محاها كان لي فيها زمان وانقضى فسقى الله زماني وسقاها والبحراني نسبة إلى البحرين‏:‏ وهي بليدة بالقرب من هجر‏.‏

قال الأزهري‏:‏ وإنما سمي البحرين لان في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ وقدرت البحيرة ثلاثة أميال في مثلها وعن أبي محمد اليزيدي قال‏:‏ سألني المهدي وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وإلى الحصنين ثم قالوا‏:‏ حصني وبحراني فقال الكسائي‏:‏ كرهوا أن يقولوا‏:‏ حصناني لاجتماع النونين قال‏:‏ وقلت أنا‏:‏ كرهوا أن يقولوا بحري سنة ست وثمانين وخمس مائة فيها توفي الحافظ الكبير أبو المواهب الحسن بن هبة الله المحفوظ ابن صصري الدمشقي سمع من الحافظ ابن عساكر وغيره وتخرج به وسمع بالعراق وهمدان وأصبهان والجزيرة والنواحي من شيوخ فيها وبرع في هذا الشأن وجمع وصنف مع الثقة والجلالة والكرم والرئاسة‏.‏

وفيها توفي الحافظ النحوي محمد بن عبدالله الفهري الاشبيلي برع في الفقه و العربية وانتهت إليه الرئاسة في الحفظ والفتيا‏.‏

وفيها توفي قاضي القضاة أبو حامد محمد ابن قاضي القضاة أبي الفضل محمد بن عبدالله الشهرزوري الشافعي له مع فضائله أشعار جيدة منها قوله في وصف جرادة‏:‏ لها فخذا بكر وساقا نعامة وقادمتا نسر وجؤجؤه ضيغم خبتها - أفاعي الرمل بطناً وأنعمت عليها جياد الخيل بالرأس والفم ويحكى عنه رئاسة جسيمة ومكارم عظيمة‏.‏

 سنة سبع وثمانين وخمس مائة

فيها اشتدت مضايقة الفرنج لعكا وقلة الأقوات على المسلمين بها فسلموها بالأمان‏.‏

وفيها توفي أبو المعالي عبد المنعم بن عبدالله بن محمد بن الفضل الفراوي النيساوري مسند خراسان سمع من جده وجماعة‏.‏

وفيها توفي صاحب حماة الملك المظفر عمر ابن شاهنشاه بن أيوب أحد الأبطال ابن أخي السلطان صلاح الدين‏.‏

كان شجاعاً مقداماً منصوراً في الحروب مؤيداً في الوقائع له مشاهد مشهورة مع الفرنج وآثار حميدة في المضافات دلت عليه التواريخ وله في أبواب البر معروف متسع منها مدارس شافعية ومالكية وأوقاف كثيرة وكثرة إحسان إلى العلماء والفقراء وأرباب الخير وناب عن عمه صلاح الدين بالديار المصرية في بعض غيباته عنها ثم استدعاه صلاح الدين إليه في الشام ورتب في الديار المصرية ولده العزيز الملك عثمان ومعه الملك العادل فشق ذلك على الملك المظفر المذكور وعزم على دخول بلاد المغرب وقبح عليه أصحابه ذلك فامتثل قول عمه وحضر إلى خدمته وخرج صلاح الدين فالتقاه وفرح به وأعطاه حماة فتوجه إليها ورتب فيها بعده ولده الملك المنصور أبو المعالي الملقب ناصر الدين‏.‏

وفيها توفي الفقيه نجم الدين محمد بن الموفق الصوفي الزاهد الفقيه الشافعي‏.‏

تفقه على الإمام محمد بن يحيى تلميذ حجة الاسلام وكان يستحضر كتابه المحيط في شرح الوسيط وألف كتاباً سماه تحقيق المحيط في ستة عشر مجلداً‏.‏

روى ودرس وأفتى وكان صلاح الدين يعتقد فيه ويبالغ في احترامه وعمر له مدرسة الشافعية وكان يبالغ في ذم العبيديين ولما هاب صلاح الدين من الإقدام على قطع خطبة العاضد وقف قدام المنبر وأمر أن يخطب الخطيب لبني العباس ففعل ولم يقع إلا الخير‏.‏

قال الذهبي‏:‏ ثم عمد إلى قبر ابن الكيزاني - من غلاة السنة وأهل الأثر - فنبشه وقال‏:‏ لا يكون صديق وزنديق في موضع واحد‏.‏

يعني‏:‏ هو والشافعي فثارت حنابلة مصر عليه ووقعت الفتنة وصار بينهم حروب‏.‏

قلت‏:‏ وقوله من غلاة السنة وأهل الأثر‏:‏ أي ممن يتغالى في تقرير الظواهر وعدم تأويلها وإنما قال الذهبي‏:‏ وغلاة أهل السنة لأنه كثيراً ما يشير إلى أن الظاهرية هم أهل السنة مفهماً بذلك أن اعتقاده موافق لأهل الظاهر - والله أعلم بالسرائر - ولما توفي المذكور في السنة المذكورة دفن في قبة تحت رجلي الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وبينهما شباك‏.‏

وكان أصحابه يصفون فضله ودينه وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا‏.‏

وفيها توفي الحكيم شهاب الدين يحيى بن حبش بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة - السهروردي المقتول بحلب‏.‏

كان بارعاً في الحكمة وعلوم الفلسفة والأصول الفقهية وعلم الكلام - وشيخه وشيخ فخر الدين الرازي واحد وهو مجد الدين الجيلي وكان الحكيم المذكور مفرط الذكاء فصيح العبارة مناظراً محجاجاً متزهداً وكان علمه أكثر من عقله ويقال إنه كان يعرف السيمياء‏.‏حكي أنه خرج من دمشق مع جماعة فلما وصلوا إلى القابون لقوا قطيع غنم مع تركماني فقال أصحابه‏:‏ زيد رأساً من هذا الغنم فأخذوا رأساً بعشرة دراهم كانت معه فقال صاحب الغنم‏:‏ خذوا رأساً أصغر منه فقال‏:‏ امشوا وأنا أقف معه وأرضيه فتقدموا وبقي يتحدث معه ويطيب قلبه فلما بعدوا قليلاً تبعهم وتركه وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به فلم يلتفت إليه حتى لحقه وجذب يده اليسرى وقال‏:‏ أين تروح وتخلفني وإذا بيده قد انخلعت من عند كتفه وصارت في يد التركماني ودمها يجري فبهت التركماني وتحير ورمى اليد وخاف وهرب وأخذ هو تلك بيده اليمنى ولحق أصحابه وهو يلتفت إليه حتى غاب عنه‏.‏

ولما وصل إلى أصحابه رأوا في يده اليمنى منديلاً لا غيره‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة - انتهى والله أعلم بصحتها‏.‏

قلت‏:‏ ومثل هذا ما سمعته ممن يحكى عمن صاحب ابن سينا إلى جبل حراء أنه أخذ من بدوي شاة في الطريق فذبحها هو وأصحابه وشووها وأكلوها فجاء البدوي إلى رأس الجبل يطالبه بالثمن فجلس معه في مكانه بعيداً عن رفقائه وتمدد بين يدي البدوي فنظر إليه ذلك البدوي فإذا هو مذبوح ففزع البدوي وهرب‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الأفعال وأشباهها يئست من أفعال وبئس من يفعلها وبئس المعلم - الموصل إليها‏.‏

رجعنا إلى ذكر الحكيم السهروردي له تصانيف عديدة كالتنقيحات في أصول الفقه و التلويحات وكتاب الهياكل والرسالة الغريبة وغير ذلك‏.‏ومن كلامه‏:‏ حرام على الأجساد المظلمة أن تلحق في ملكوت السماوات فوحد الله تعالى وأنت بتعظيمه ملآن واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان ولو ما كان في الوجود شمس لأظلمت الأكوان وأبى النظام أن يكون غير ما كان فخفت حتى قلت لست بظاهر وظهرت من سعيي على الأكوان اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف‏.‏

وتنسب إليه أشعار فمن ذلك‏:‏ جعلت هياكلها تجرعلى الحمى وصبت لمغناها القديم تشوقا وتلفتت نحو الديار فشاقها ربع عفت أطلاله فتمزقا وقفت تسائله فرد جوابها رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا فكأنها برق تآلف بالحمى ثم انطوى وكأنه ما أبرقا ومن شعره المشهور‏:‏ أبداً تحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانة والراح وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم وإلى لقاء جمالكم ترتاح وارحمتا للعاشقين تحملوا ثقل المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح فإذا هم كتموا فحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح فإلى لقاكم نفسه مرتاحة وإلى رضاكم طرفه طماح عودوا بنور الوصل من غسق الدجى فالهجر ليل والوصال صباح صافاهم فصفوا له قلوبهم في نورها المشكاة والمصباح ركبوا على سفن الهوى ودموعهم بحر وشدة شوقهم ملاح والله ما طلبوا الوقوف ببابه حتى دعوا وأتاهم المفتاح لا يطربون بغير ذكر حبيبهم أبداً وكل زمانهم أفراح حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم فتهتكوا لما رأوه وصاحوا أفناهم عنهم وقد كشفت لهم حجب البقا فتلاشت الأرواح مع أبيات أخرى في أثنائها وفي آخرها أوليتها حذف هجر الإعراض - عند لمعان برق سحاب بعض الأعراض‏.‏

وكان شافعي المذهب ويلقب بالمؤيد بالملكوت‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل واعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين واشتهرعنه ذلك فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله بما ظهر لهم من سوء مذهبه في اعتقاده قال‏:‏ وقال الشيخ سيف الدين الآمدي‏:‏ اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي‏:‏ لا بد لي أن أملك الأرض فقلت له‏:‏ من أين لك هذا قال‏:‏ رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر فقلت‏:‏ لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسبها فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه ورأيته كثير العلم قليل العقل‏.‏

وكان في دولة الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين فحبسه ثم خنقه بإشارة والده صلاح الدين - وعمره ثمان وقيل‏:‏ ست وثلاثون - وقيل‏:‏ قتله وصلبه أياماً‏.‏

وقيل‏:‏ خير بين أنواع القتل فاختار أن يموت جوعاً لاعتياده الرياضات فمنع من الطعام حتى تلف‏.‏

ونقل ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد قال‏:‏ أقمت بحلب للاشتغال بالعلم الشريف ورأيت أهلها مختلفين في أمر فمنهم من ينسبه إلى الزندقه والإلحاد - وهم أكثر الناس - ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات ويقولون‏:‏ ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك‏.‏

وانتهى والله أعلم ببواطن العباد وإليه المرجع والمعاد‏.‏

 سنة ثمان وثمانين وخمس مائة

فيها سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة بجيوشه فالتقى ملك الهند فانتصر المسلمون واستحر القتل بالهنود وأسر ملكهم وغنم المسلمون ما لا ينحصر من ذلك أربعة عشر فيلاً‏.‏وفيها التقى المسلمون بالشام الفرنج غير مرة والنصرة كلها للمسلمين إلا واحدة مقدمها الملك العادل فدهمهم العدو وهزمهم‏.‏

وفيها توفي أبو الفضل اسماعيل بن علي الشافعي الفرضي من أعيان المحدثين‏.‏

تفقه على جمال الإسلام ابن المسلم وغيره وسمع من هبة الله بن الأكفاني وطبقته ورحل إلى بغداد فسمع بها جماعة من الكبار وكتب الحديث الكثير وكان بصيراً بعقد الوثائق والسجلات‏.‏

وفيها توفي المشطوب الأمير - مقدم الجيوش سيف الدين علي بن أحمد بن أبي الهيجاء الهكاري نائب عكا لما أخذت الفرنج عكا أسروه ثم اشتري بمبلغ عظيم ثم أقطعه صلاح الدين القد فتوفي بها‏.‏

وفيها توفي أبو المرهف نصر بن منصور الشاعر المشهور كان ضريراً قدم بغداد وحفظ القرآن المجيد وتفقه على مذهب الإمام أحمد وسمع الحديث من القاضي ابن الباقلاني وأبي البركات عبد الوهاب بن المبارك وأبي الفضل ابن الناصر وغيرهم وقرأ الأدب على ابي منصور الجواليقي وله ديوان شهر ومن شعره قوله من قصيدة له‏:‏ وأخوف ما أخاف على فؤادي إذا ما أنجد البرق اللموع لقدحملت من طول الثناء عن الأحباب ما لا أستطيع وكان زاهداً ورعاً حسن المقاصد في الشعر‏.‏

 سنة تسع وثمانين وخمس مائة

وفيها توفي صاحب مكة داود بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن أبي هاشم العلوي الحسيني‏.‏

ومحمود سلطان شاه أخوه الملك علاء الدين خوارزم شاه ابنا أرسلان الخوارزمي‏.‏

وسنان بن سليمان أبو الحسن البصري الإسماعيلي الباطني صاحب الدعوة وصاحب حصون الإسماعيلية‏.‏

كان أديباً متفنناً متكلماً عالماً عارفاً بالفلسفة أخبارياً شاعراً

وصاحب الموصل السلطان عز الدين مسعود بن مودود أتابك بن زنكي‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ بقي عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين وبالتلاوة ورزق خاتمة خير وكان كثير الخير والإحسان يزور الصالحين ويقربهم ويشفعهم وفيه حلم وحياء ودين‏.‏

ودفن في مدرسته في الموصل وتملك بعده ولده نور الدين‏.‏

وفيها توفي السلطان صلاح الدين الملك الناصر أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي - بالشين والذال المعجمتين وبينهما ألف في آخره ياء النسبة ومعناه بالعربية فرحان - صاحب الديارالمصرية والبلاد الشامية والعراق واليمنية‏.‏

وتراجم أبيه أيوب وقرابته من الإخوة والأعمام مذكورة في مواضعها وصلاح الدين المذكور كان واسطة العقد وشهرته وشائعته شهيرة مغنية عن مدحته والتعريف بصفته وسيرته‏.‏

وقد ذكر بعض المؤرخين الاتفاق على أن أباه وأهله من الاكراد وذكر بعضهم نسبه أباً فإما إلى عدنان ثم رفعه إلى آدم صلى الله عليه وسلم وذكر ابن الأثير أن مجاهد الدين متولي شحنة العراق من جهة السلطان غياث الدين السلجوقي مسعود رأى في نجم الدين أيوب شاذي عقلاً ورأياً حسناً وحسن سيرة فجعله وألياً بتكريت حافظاً للقلعة فلما انهزم أتابك الشهيد صاحب - الموصل عماد الدين زنكي بالعراق في أيام الإمام المسترشد وكان قد جاء على قصد حصار بغداد - وصل بعد انهزامه إلى تكريت فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه فأحسن نجم الدين إليهم وسيرهم ثم إن أسد الدين أخا نجم الدين قتل إنساناً بتكريت لكلام جرى بينهما فأرسل مجاهد الدين إليهما وأخرجهما من تكريت فقصدا عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأحسن إليهما وعرف لهما خدمتهما واقطعهما إقطاعاً حسناً وصار من جملة جنده‏.‏

فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين والياً عليها وحافظاً فلما قتل عماد الدين زنكي وتولى بعده ولده سيف الدين غازي بن زنكي أرسل إليه نجم الدين أيوب وطلب منه عسكراً ليستعين به على قتال صاحب دمشق مجير الدين - وكان قد حاصر أيوب فلم ينجده بالعسكر فلما رأى نجم الدين تلك الحال وخاف أن يؤخذ قهراً أرسل في تسليم القلعة وطلب أقطاعاً ذكره فأجيب إلى ذلك وحلف له صاحب دمشق فسلم القلعة ووفى له بما حلف عليه من الإقطاع وصار عنده من أكبر الأمراء‏.‏واتصل أخوه أسد الدين بالخدمة النورية المتعلقة بنور الدين محمود صاحب حلب - وكان يخدمه - فقربه نور الدين وأقطعه وكان يرى منه في الحروب آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته فصارت له حمص والرحبة وغيرهما وجعله مقدم عساكره‏.‏

وكان صلاح الدين مولده سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة بقلعة تكريت لما كان عمه وأبوه بها ثم إن عماد الدين قصد حصار دمشق فلم تحصل له فرجع إلى بعلبك فحاصرها شهراً وملكها سنة أربع وثلاثين وخمس مائة ورتب فيها نجم الدين أيوب ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع‏.‏

وحاصر نور الدين بن عماد الدين زنكي دمشق فأخذها فلازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين وكانت مخائل السعادة عليه لائحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة بتأييد الله تعالى ونور الدين يرى له ويؤثره وتعلم منه صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد حتى تجهز للمسير مع عمه أسد الدين إلى الديار المصرية لما جاء شاور مستغيثاً إلى الشام بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وخمس مائة فوجه نور الدين معه الأمير أسد الدين بن شاذي في جماعة من عسكره وكان صلاح الدين من جملتهم في خدمة عمه وهو كاره للسفر معهم وجعل أسد الدين ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره شاور حتى دخلوا مصر فاستولوا عليها‏.‏

وكان الملك المنصور أبو الأشبال الضرغام بن عامر بن سوار الملقب بفارس المسلمين اللخمي المنذري قد استولى على الديار المصرية فقتل عند مشهد السيدة نفيسة بين القاهرة ومصر واجتز رأسه وطيف به ثلاثة أيام ثم دفن عند بركة الفيل وبنيت عليه قبة‏.‏

ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الضرغام وحصل لشاور مقصده وعاد إلى منصبه واستمرت أموره غدر بأسد الدين واستنجد بالفرنج عليه فحصروه في بلبيس فخلى لهم البلاد طامعاً في العود إليها وملكها وعاد إلى الشام في سنة تسع وخمسين وخمس مائة فأقام بها مفكراً في تدبير عوده إلى مصر محدثاً نفسه بالملك لها مقرراً ذلك معه نور الدين إلى سنة اثنين وستين وخمس مائة‏.‏

وبلغ شاور حديثه وطمعه في البلاد فخاف عليها فكتب إلى الفرنج وقرر معهم أنهم يجيؤون إلى البلاد ويمكنهم تمكيناً كلياً ليعينوه على استئصال أعدائه فبلغ ذلك نور الدين وأسد الدين فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويتطرقوا إلى ملك غيرها من البلاد فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر - وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين - فوصلوا إليها وصولاً مقارباً لوصول الفرنج إليها واتفق شاور والمصريون جميعهم والفرنج على أسد الدين وجرت حروب كثيرة ووقعات شديدة وانفصل الفرنج عن البلاد وانفصل أسد الدين أيضاً راجعاً إلى الشام‏.‏

وسبب رجوع الفرنج أن نور الدين جرر العساكر إلى بلادهم في تلك السنة فخافوا على بلادهم وعادوا إليها وكان سبب عود أسد الدين ضعف عسكره عن مقاومة الفرنج - و المصريين وما عاينوه من الشدائد وما عاينوه من الأهوال وما عاد حتى صالح الفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر‏.‏

ثم إن أسد الدين عاد إلى مصر مرة ثانية وقيل ثالثة بسبب أن الفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون الديار المصرية فسار بنفسه وماله وإخواته وأهله ورجاله‏.‏

وكان شاور لما أحس بخروج الفرنج إلى مصر أرسل إلى أسد الدين يستصرخه فخرج مسرعاً ولما علم الفرنج بوصوله إلى مصر واتفاقه مع أهلها رحلوا راجعين على أعقبهم ناكصين‏.‏

وقام اسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان وكان قد وعدهم بمال في مقابلة ما خسروا من النفقة فلم يعطيهم شيئاً وعلقت مخالب أسد الدين في البلاد وعلم أنه متى وجد الفرنج فرصة أخذوا البلاد وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه‏.‏

وكان الأمراء الواصلون مع أسد الدين يترددون إلى خدمة شاور وهو يجتمع بأسد الدين في بعض الأحيان وكان يركب على عادة وزرانهم بالطبل والبوق والعلم فلم يتجاسر على قبضه أحد من الجماعة إلا أسد الدين بنفسه وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً وسار إلى جانبه وأخذ يتلاعب به وأمر العسكر أن يقصدوا أصحابه ففزوا ونهبهم العسكر وأنزل شاور في خيمة مفردة وأمر بجز رأسه‏.‏

وأرسل المصريون إلى أسد الدين خلع الوزارة فلبسها وسار ودخل القصر وترتب وزيراً وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمس مائة ودام آمراً وناهياً - وصلاح الدين مباشر الأمور ومقررها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته - إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة فمات أسد الدين في القاهرة ودفن بها ثم نقل إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد مدة بوصية منه‏.‏

وذكر بعضهم أن أسد الدين دخل القاهرة في سنة أربع وستين وخمس مائة وخرج إليه العاضد آخر ملوك العبيديين وتلقاه وحضر يوم الجمعة ثالث يوم دخوله وجلس جانب العاضد فخلع عليه وأظهر له شاور وداً وطلب منه أسد الدين مالاً ينفقه في العسكر فدافعه وأرسل إليه أن الجند تغيرت قلوبهم عليه بسبب عدم النفقة فإذا خرجت فكن منهم على حذر فلم يكترث شاور بكلامه وعزم أن يعمل دعوة يستدعي إليها أسد الدين والعساكر الشامية ويقبض عليهم فأحس أسد الدين بذلك فاتفق صلاح الدين وعز الدين وبعض كبراء الدولة على قتل شاور وأعلموا أسد الدين فنهاهم عنه وخرج شاور قاصداً أسد الدين - وخيامهم كانت على شاطىء النيل - فلم يجده في خيمته وكان قد ركب إلى زيارة قبر الشافعي رضي الله عنه بالقرافة - فقال شاور‏:‏ يمضي إليه فساروا فاكتنفه صلاح الدين مع آخر فأنزلاه عن فرسه فهرب أصحابه وأخذ أسيراً وكتف ولم يمكنهم قتله بغير إذن نور الدين فأرسل العاضد يأمرهم بقتله فقتلوه‏.‏

وكان ذا شهامة ونجابة وفروسية قد تمكن فى بلاد الصعيد ثم توجه إلى القاهرة وأخذ الوزارة ثم توجه إلى الشام مستنجداً بالملك العادل نور الدين لما خرج عليه ضرغام بن عامر اللخمي المنذري وأخرجه عن القاهرة وولي الوزارة مكانه فأنجده بالأمير أسد الدين‏.‏

وأصل شاور من بني سعد من نسل والد حليمة التي أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي كيفية قتله اختلاف كثيرة والقصد من ذكر هذه الأشياء التوصل إلى ذكر ولاية السلطان صلاح الدين وسيرته‏.‏فلما مات أسد الدين استقرت الأمور بعده لصلاح الدين وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع وبذل الأموال وملك قلوب الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله تعالى عليه فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بقميص الجد والاجتهاد وما زال على قدم الخير وفعل ما يقربه وإلى الله تعالى إلى أن مات - رحمه الله تعالى - وما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد وغشي الناس من سحائب الأفضال والإنعام ما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام هذا كله وهو وزير متابع للقوم لكنه يقول بمذهب أهل السنة ويجالس أهل العلم والفقه و التصوف والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون عليه من كل جانب وهو لا يخيب قاصداً ولا يعدم وافداً إلى سنة خمس وستين وخمس مائة فلما عرف نور الدين انتشار أمر صلاح الدين بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين‏.‏ولما علم الفرنج ما جرى بين المسلمين وعساكرهم وما تم للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية علموا أنه سيملك بلادهم ويخرب ديارهم ويقلع آثارهم اجتمعوا هم والروم جميعاً وقصدوا الديار المصرية وتوجهوا إلى دمياط ومعهم آلة الحصار وما يحتاجون إليه من العدد‏.‏

فلما بلغ صلاح الدين ذلك استعد بتجهيز الرجال وجمع الآلة وبالغ في العطايا والهبات وكان متحكماً لا يرد أمره في شيء‏.‏فلم يزل الحصار والقتال بين المسلمين وبينهم حتى رحلوا عنها خائبين وقتل من رجالهم خلق كثير واستقرت قواعد صلاح الدين مع والده اليها في جمادى الآخرة وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده نجم الدين أيوب ليتم له السرور وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف عليه السلام فوصل والده إليها في جمادى الآخرة وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده وإكرامه له لما وصل إليه وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخواته فلم يجبه إلى ذلك وقال‏:‏ أخاف أن يخالف عليك أحد منهم فيفسد البلاد

 فصل

اعلم أنه لما كان شهر المحرم مفتتح سنة سبع وستين وخمس مائة قطعت خطبة العاضد صاحب مصر وخطب فيها للإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين‏.‏

وكان سبب ذلك أن صلاح الدين لما ثبت قدمه في مصر وزال المخالفون له وضعف أمر العاضد ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية فاعتذر صلاح الدين للخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين فلم يصغ نورالدين إلى قوله وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة له واتفق أن العاضد مرض وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة له فاستشار أمراءه كيف يكون الابتداء بالخطبة العباسية فمنهم من ساعد على ذلك ومنهم من خاف‏.‏

وكان قد وصل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم فلما رأى ما هم فيه من الإحجام قال‏:‏ أنا أبتدىء بها‏.‏فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء بأمر الله فلم ينكر أحد ذلك‏.‏

فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك وقال‏:‏ إن سلم فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن ينغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله‏.‏

فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بذلك‏.‏

قلت‏:‏ وقد نقلت عن بعضهم في كتاب المرهم أن العاضد مات غماً بما فعله صلاح الدين ولم يقدرعلى منعه من ذلك‏.‏

ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما فيه‏.‏

ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد ووكل بهم من يحفظهم وجعل أولادهم وعمومتهم وأبناءهم في إيوان من القصر وجعل عندهم من يحفظهم وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء وأعتق البعض ووهب البعض وباع البعض وأخلى القصر من سكانه وأهله‏.‏

فسبحان من لا يتغير ملكه ولا يزول ولا يؤثر فيه مرور الأيام والدهور

وكان ابتداء الدولة العبيدية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين‏.‏ذكر أئمة العبيديين وعدد سني دولتهم أما عددهم فجملتهم أربعة عشر‏:‏ أول من ظهر منهم على إفريقية عبيدالله الملقب بالمهدي ثم بعده القائم بأمر الله ثم المنصور ثم المعز ثم العزيز ثم الحاكم وهو الذي ملك مصر والشام والحجاز والمغرب ثم الظاهر ثم المستنصر ثم المستعلي ثم الآمر ثم الحافظ ثم الظافر ثم الفائز ثم العاضد وهو آخرهم‏.‏

ومدة دولتهم مائتا سنة وست وستون سنة‏.‏

وكان مقامهم بمصر مائتي سنة وثمان سنين‏.‏

قلت‏:‏ وإذ قد ذكرت عدد أئمة العبيديين ومدة دولتهم فلأذكرن عدد خلفاء بني العباس ومدة دولتهم ثم كذلك أفعل في بني أمية ودولتهم وأذكر الخلفاء الراشدين المستحقين ومدة خلافتهم ليسهل معرفة الجميع في موضع واحد لمن أراد الاطلاع على ذلك‏.‏

ذكر خلفاء بني العباس وعدد سني دولتهم هم سبعة وثلاثون‏:‏ السفاح عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبد المطلب ثم أخوه عبدالله أبو جعفر المنصور ثم المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور ثم الهادي موسى بن المهدي ثم الرشيد هارون بن المهدي ثم الأمين محمد بن هارون الرشيد ثم أخوه المأمون عبدالله بن هارون ثم المعتصم محمد بن هارون ثم الواثق هارون بن المعتصم ثم المتوكل جعفر بن المعتصم ثم المستنصر محمد بن المتوكل ثم المستعين أحمد بن المعتصم ثم المعز محمد بن المتوكل ثم المهتدي محمد بن الواثق ثم المعتمد أحمد بن المتوكل ثم المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل ثم المكتفي علي بن المعتضد ثم المقتدر جعفر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل ثم القاهر بن أحمد بن المعتضد ثم الراضي أحمد - وقيل محمد بن المقتدر - ثم المقتفي ثم المتقي ابراهيم بن المقتدر ثم المستكفي عبدالله بن محمد بن المكتفي ثم المطيع الفضل ابن المقتدر ثم الطائع عبد الكريم بن المطيع ثم القادر أحمد بن إسحاق بن المقتدر ثم القائم عبدالله بن القادر ثم المقتدي عبدالله بن محمد بن القائم ثم المستظهر أحمد بن المقتدي ثم المسترشد الفضل بن المستظهر ثم الراشد جعفر - وقيل منصور بن المسترشد - ثم المقتفي محمد بن المستظهر ثم المستنجد يوسف بن المقتفي ثم المستضيء الحسن بن المستنجد ثم الناصر محمد بن المستضيء ثم الظاهر محمد بن الناصر ثم المستنصر بن الظاهر ثم المستعصم عبدالله بن المستنصر‏.‏

وأما مدة خلافتهم في خمس مائة وأربع وعشرون سنة‏.‏ذكر ملوك بني أمية وعدد سني دولتهم هم ثلاثة عشر‏:‏ معاوية بن أبي سفيان ثم يزيد بن معاوية ثم معاوية بن يزيد ثم مروان بن الحكم ثم عبد الملك بن مروان ثم الوليد بن عبد الملك ثم سليمان بن عبد الملك ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد بن عبد الملك ثم هشام بن عبد الملك ثم الوليد ابن يزيد ثم يزيد بن الوليد ثم مروان بن محمد الجعدي وهو آخر ملوك بني أمية‏.‏

وأما مدة دولتهم فهي إحدى ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم هم المشار إلى خلافتهم بقوله عليه السلام‏:‏ الخلافة بعدي ثلاثون سنة‏.‏وهم‏:‏ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم الحسن بن علي وبه تمام الثلاثين من السنين المذكورة‏.‏رجعنا إلى ما كنا بصدده من ذكر بعض ما جرى في دولة السلطان صلاح الدين‏:‏ فلما استولى على القصر الذي كان فيه العاضد وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد ووهب وباع ما شاء وكان فيه من الجواهر والذخائر النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك مما جمع على طول السنين‏.‏

ومن ذلك قضيب الزفرد طوله نحو قصبة ونصف والخيل الياقوت - لعله بالخاء المعجمة ثم المثناة من تحت وفي الأصل ضبطه بالجيم والباء الموحدة والله اعلم - غير ذلك من الكتب المنتخبة بالخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد‏.‏

ولما خطب للمستضيء بأمر الله أرسل إليه نور الدين يعرفه ذلك فحل عنده أعظم محل وسير اليه الخلع الكاملة إكراماً له وسيرت الأعلام السود لتنصب على المنابر وكانت هذه أول هيئة عباسية دخلت مصر بعد استيلاء العبيديين عليها‏.‏

ثم إنه وقع بين نور الدين وبين صلاح الدين وحشة يطول ذكر سنيها فعزم نور الدين على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها فظهر لصلاح الدين ذلك فجمع أهله كما تقدم - وفيهم أبوه وخاله وسائر الأمراء وأعلمهم بما بلغه واستشارهم فلم يجبه أحد بشيء فقام تقي الدين ابن أخي صلاح الدين وقال‏:‏ إذا جاء قاتلناه ومنعناه من البلاد‏.‏ووافقه بعض أهله فشتمهم والد صلاح الدين وأنكر ذلك واستعظمه وشتم تقي الدين وقال له‏:‏ اقعد‏.‏

وقال لولده صلاح الدين‏:‏ أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا‏!‏ والله لو رأيته - أنا وخالك - لم يمكنا إلا أن نقبل الأرض بين يديه ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا‏!‏‏!‏ وكل من تراه من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم وهذه البلاد له ونحن مماليكه وقد أقامك فيها فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب إليه كتاباً وتقول‏:‏ بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد وأي حاجة إلى هذا ترسل المولى فلاناً - وسماه يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني أو قال‏:‏ ويجرني إليك فما ها هنا ما يمتنع عليك‏.‏

وقال للجماعة كلهم‏:‏ قوموا عنا نحن مماليك نور اللين وعبيده يفعل بنا ما يريد‏.‏

فتفرقوا على هذا وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر‏.‏

فلما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له‏:‏ أنت جاهل قليل المعرفة تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك‏!‏ وإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه البلاد جعلك أهم الأمور إليه وأولاها بالقصد ولو قصدك لم ير معك أحداً من هذا العسكر‏.‏

وكانوا أسلموك إليه‏.‏

وأما الآن بعد هذا المجلس فيكتبون إليه ويعرفونه قولي فاكتب أنت إليه وارسل إليه في المعنى وقل‏:‏ أي حاجة لك في قصدي أرسل إلي بأحد يأخذني بحبل يضعه في عنقي فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بغيرنا والأقدار تفعل عملها‏.‏

والله لو أراد نور الدين قصبة من قصبة سكر مصر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل

ففعل صلاح الدين ما أشار به فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره وكان الأمر كما ظنه نجم الدين أيوب‏.‏

وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها‏.‏

ثم توفي نور الدين في سنة تسع وستين وخمس مائة كما تقدم في ترجمته وبلغ صلاح الدين أن إنساناً يقال له الكنز جمع بأسوان خلقاً عظيماً من السودان وزعم أنه يعيد الدولة المصرية وانضاف إليه المصريون فجهز صلاح الدين إليه جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل فساروا والتقوهم وكسروهم وذلك في سنة سبعين وخمس مائة‏.‏

واستقر لصلاح الدين قواعد الملك وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح اسماعيل في دمشق وكان شمس الدين بن الداية بقلعة حلب قد حدثته نفسه بأمور فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب فوصل إلى ظاهرها ومعه سابق الدين فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين ولما دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين بن الداية وأخيه حسن وأودع الثلاثة السجن‏.‏

وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل ابن الخشاب لفتنة جرت بحلب وقيل بل قتل قبل أولاد الداية‏.‏

ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن الملك الصالح ولد نور الدين صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض باعباء الملك فتجهز من مصر في جيش كثيف وترك بها من يحفظها وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة وتسلم قلعتها واجتمع الناس إليه وفرحوا به وأنفق أموالاً عظيمة وأظهر السرور بالدمشقيين وسار إلى حلب فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها وتوجه إلى حلب ونازلها‏.‏

ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود وساروا يريدون لقاء صلاح الدين‏.‏

فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح وخرجوا في جمع عظيم‏.‏ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم والقضاء يجر إلى أمور هم بها لا يشعرون‏.‏

فتلاقوا فقضى الله تعالى أنهم انكسروا فهزموا بين يديه وأسر جماعة منهم ثم سار ونزل على حلب فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين‏.‏

ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين ثم جمع العساكر وسار وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه فوصل إلى حلب وصعد قلعتها‏.‏

وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم فانكسرت ميسرة صلاح الدين فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء فمر عليهم وأطلقهم وعاد سيف الدين إلى حلب فأخذ منها خزائنه وسار حتى عاد إلى بلاده‏.‏ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم ونزل على خيامهم وقسم الخزائن وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين وسار إلى منبج فتسلمها ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة ثم رحل عنها‏.‏

وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز فوهبها لها‏.‏

ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها ثم تأهب للغزاة وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة في أوائل سنة ثلاث وسبعين وكانت الكسرة على المسلمين‏.‏

فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في الطريق وأسروا منهم جماعة منهم الفقيه عيسى الهكاري وكان ذلك وهناً عظيماً جبرها الله تعالى بوقعة بعدها‏.‏

ثم التمس الروم منه الصلح فصالحهم وتوفي الملك الصالح بن نور الدين في السنة المذكورة - أعني سنة ثلاث وسبعين - وكان قد استحلف أمراء حلب وأجنادها لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل‏.‏

فلما بلغ عز الدين المذكور موت الملك الصالح ووصيته له بحلب بادر إلى التوجه إليها خوفاً أن يسبقه صلاح الدين فوصل إليها وصعد القلعة واستولى على ما بها من الحواصل وتزوج أم الملك الصالح ثم قايض عز الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار وخرج عز الدين عن حلب ودخلها عماد الدين وجاء صلاح الدين وحاصره ثم صالح عماد الدين صلاح الدين على أن ينزل له عن حلب ويعوضه عنها بسنجار والخابور ونصيبين وسروج وحلف صلاح الدين على ذلك وتسلم قلعة حلب وجعل فيها ولده الملك الظاهر وكان صبياً‏.‏

ثم سار صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل - وهو بمصر يستدعيه ليجتمعوا على الكرك فسار إليه بجمع كثير وجيش عظيم واجتمعوا في شعبان سنة تسع وسبعين وخمس مائة‏.‏فلما بلغ الفرنج الخبر حشروا خلقاً كثيراً وجاؤوا إلى الكرك ليكونوا قبالة عسكر المسلمين فخاف صلاح الدين على الديار المصرية فسير إليها ابن أخيه تقي الدين ورحل عن الكرك واستصحب أخاه الملك العادل معه ودخل دمشق‏.‏

وكان الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه لما فيه من الخلال الحميدة‏.‏

ولم يأخذ منه حلب إلا لمصلحة رآها في ذلك الوقت‏.‏

ثم إن صلاح الدين رأى عود الملك العادل إلى مصر وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح - وكانت بيد أخيه - فأعطاها ابنه الملك الظاهر ونزل صلاح الدين على الموصل وحاصرها ثلاث مرات فلم يقدر على أخذها وترددت الرسل بينه وبين صاحبها ثم مرض صلاح الدين فسار إلى حران فلحقته الرسل بالإجابة إلى ما طلب وتم الصلح على أن يسلم إليه صاحب الموصل شهرزور وأعمالها وما وراء الفرات من الأعمال وأن يخطب له على المنابر وينقش اسمه على السكة‏.‏

فلما حلفا أرسل صلاح الدين نوابه فتسلموا البلاد التي وقع الصلح عليها وطال مرضه حتى أيسوا منه فحلف الناس لأولاده - وكان عنده منهم الملك العزيز - وجاء أخوه العادل من حلب - وهو ملكها يومئذ - وجعله وصياً على الجميع وأوصى لكل واحد منهم بشيء من البلاد وكان عنده أيضاً ابن عمه ناصر الدين فأقطعه حمص والرحبة وسلم السلطان صلاح الدين ولده الملك العزيز إلى الملك العادل وجعله أتابكه‏.‏

ثم كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين في رابع شهر ربيع الآخر - سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة في يوم الجمعة وكان كثيراً ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركاً بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر وسار حتى نزل على بحيرة الطبرية - على سفح الجبل - ينتظر قصد الفرنج له فلم يتحركوا ولا خرجوا عن منازلهم فلما رآهم لا يتحركون ترك جريده على طبرية وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو ونازل طبرية وهجمها فأخذها في ساعة واحدة وانتهت الناس بابها وأخذوا في النهب والقتل والسبي والحرق وبقيت القلعة محمية بمن فيها‏.‏

ولما بلغ العذو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك ورحلوا نحوها وبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصرها ولحق بالعسكر فالتقى العدو على سفح طبرية وحال الليل بين العسكرين فناما على مصافهما ليلة الجمعة إلى بكرة يومها واستمرت نار الحرب واشتد الأمر وضاق الخناق بالعدو وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون قد أيقنوا بالويل والثبور وأنهم في غدهم من زوار القبور ولم تزل الحرب تضطرم والفارس مع قرنه يضطرم ولم يبق إلا الظفر ووقوع الوبال على من كفر حتى حال بينهم الليل بظلامه وبات كل واحد من الفريقين بمقامه إلى صبيحة يوم السبت وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن ومن بين أيديهم بلاد العدو وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد فحملوا بأجمعهم عليه وصاحوا صيحة رجل واحد فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏.‏

وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب وأطلقوا فيهم السهام وحكموا فيهم السيوف القواضب وأشعلوا حولهم النيران وصدقوا فيهم الضرب والطعان وضاق بهم الأمر حتى كادوا يستسلمون خوفاً من القتل فأسر مقدمهم وقتل الباقون‏.‏وقال بعض الرواة‏:‏ حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصاً واحداً معه نيف وثلاثون أسيراً قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان ثم رحل السلطان إلى عكا فأخذها واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين فكانوا أكثر من أربعة آلاف واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع لأنها كانت مظنة التجارة وتفرقت العساكر في بلاد الساحل فأخذوا الحصون والقلاع والأماكن المنيعة فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصر‏.‏

ولما استقرت قواعد عكا وقسمت أموالها صار يشن الغارة ويأخذ بلداً بعد بلد فأخذ صيدا وعسقلان - والرملة والداروم والأماكن المحيطة بالقدس ثم شمرعن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار نحوه معتمداً على الله مفوضاً أمره إليه ومنتهزاً الفرصة في فتح باب الخير الذي حث الله على انتهازه على لسان نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - لقوله‏:‏ ‏"‏ من فتح له باب خير فلينتهزه فإنه لا يعلم متى يغلق دونه ‏"‏‏.‏

وكان نزوله بالجانب الغربي وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة وحزر أهل الخبرة من كان فيه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين ألفاً خارجاً عن النساء والصبيان ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب المجانيق وضايق البلد بالزحف والقتال حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم‏.‏

ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم وظهرت لهم أمارات الفتح وظهور المسلمين عليهم وكانوا قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر وعلى حصونهم من التخريب والهدم وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان وحصل الاتفاق عليه بالمراسله من الطائفتين وكان تسلم المسلمين القدس المبارك في يوم الجمعة الميمون السابع والعشرين من رجب المعظم - وليلته كانت ليلة المعراج على المشهور من الأقوال - وكان فتحه عظيماً شهده الأولياء والعلماء وخلق وقصده أهل الخير من البلدان القريبة والبعيدة وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير وصليت فيه الجمعة يوم فتحه وتكسر الصليب التي كانت على قبة الصخرة وكان شكلاً عظيماً ونصر الله المسلمين على يدي صلاح الدين نصراً عزيزاً‏.‏

وكان الفرنج قد استولوا عليه سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم السلطان صلاح الدين في التاريخ المذكور‏.‏

وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين ديناراً وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكراً وأنثى ديناراً واحدا‏.‏

فمن أحضر قطيعته نجى بنفسه وإلا أخذ أسيراً وأخرج - عن كل من كان بالقدس من أسارى المسلمين وكانوا خلقاً وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال ويحبوها الفقهاء والعلماء والزاهدين والوافدين عليه وقد تقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه وهي مدينة عظيمة ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جيء له شيء وكان يقارب مائتي ألف ألف دينار وعشرين ألفاً‏.‏

ولما فتح القدس حسن عنده قصد صور وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليها‏.‏

فسار نحوها حتى أتى عكا فنزل عليها‏.‏

ونظر في أمورها ثم رحل عنها متوجهاً الى صور فنزل قريباً منها وأرسل بإحضار آلات القتال فلما تكاملت عنده نزل عليها وقاتلها وضايقها في البر والبحر ثم أسروا من المسلمين المقدم الرئيس وخمس قطع من المسلمين وقتلوا خلقاً كثيراً من رجال المسلمين فعظم ذلك على السلطان وضاق صدره - وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار - وامتنع الناس من القتال لكثرة الامطار فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل ليستريح الرجال ويتجمعوا للقتال‏.‏

فرحلوا عنها وجمعوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله‏.‏

ثم خرج السلطان صلاح الدين وسار إلى بلاد العدو ومعه عماد الدين صاحب سنجار ومظفر الدين بن زين الدين وعسكر الموصل قاصدين خدمته والغزاة معه فسار نحو حصن الأكرا ودخل بلاد العدو حتى وصل إلى طرطو فوقف قبالتها ينظر إليها والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر وهي مدينة لها برجان كالقلعتين فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا واشتد القتال وباعثوها وصعد المسلمون سورها وأخذوها بالسيف وغنموا جميع من بها وما فيها وأحرقوا البلد‏.‏

ثم سار يريد جبل فما استتم نزول العسكر حتى أخذوها وقوتل في القلعة قتالاً شديداً ثم سلمت بالأمان‏.‏

ثم لم يزل يأخذ بلداً بعد بلد وقلعة بعد قلعة ويقتل ويأسر ويغنم حتى بلغ إلى برزية - وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج تحيط بها أودية من جميع جوانبها وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعاً فأخذها عنوة ثم كذلك بلداً بعد بلد حتى قرب من أنطاكية فراسله أهلها في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر وكان الصلح معهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد‏.‏

ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك فوصل حلب وأقام بالقلعة ثلاثة أيام - وولده يقوم بالضيافة حق القيام - ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين - ابن أخيه - وأصعده إلى قلعة حماة وصنع له طعاماً وأحضر له سماعاً من جنى سماع الصوفية وبات ليلة واحدة وأعطاه جبلة وبلدة أخرى ثم سار على طريق بعلبك ودخل دمشق وأقام بها أياماً ثم سار يريد صف فنزل عليها ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان ثم سلمت له الكرك ثم سار إلى كوك وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة - والأمطار متواترة والوحول متضاعفة والرياح عاصفة والعدو متسلط لعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان فأجابهم إليه وتسلمها منهم‏.‏

ثم نزل إلى الغو وأقام بالمخيم مدة الأيام وأعطى الجماعة دستوراً وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه في توجهه إلى مصر فدخل القدس وصلى بها عيد الأضحى وتوجه إلى عسقلان لينظر في أمورها وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها وأمر بعمارة سورها ثم سار إلى دمشق فأقام بها شهر ربيع الأول ثم خرج إلى شقيف - وهي في موضع حصين - فخيم في مرج عيون بالقرب منه وأقام أياماً يباشر قتاله - والعساكر تتواصل إليه - فلما تحقق صاحب شقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه فلم يعشر به إلا وهو قائم على باب خيمته فأذن له في دخوله إليه واكرمه واحترمه وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم وكان يعرف بالعربية وعنده الاطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث وكان حسن التأني لما حضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام وخلابه ذكر أنه مملوكه وتحت طاعته وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق وإقطاعاً فيها يقوم به وبأهله وشروط غير ذلك فأجابه إلى مرامه‏.‏

وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك وكان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه وسلموه بالأمان‏.‏

ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة فراسلهم عليه ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها فسير صاحب شقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة وأتى عكا ودخلها بغتة لتقوي قلوب من بها ثم استدعى العسكر من كل ناحية ثم تكاثر الفرنج واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا ومنعوا من يدخل إليها ويخرج فضاق صدر السلطان لذلك ثم اجتهدوا في فتح طريق إليها لتستمر المسايلة بالمسيرة والنجدة وسار الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق ففعلوا ذلك وانفتح الطريق وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا فأشرف على أمورها ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام ثم جرت وقعات لا حاجة للتطويل بذكرها وقيل للسلطان‏:‏ إن الوخم قد عظم بمرج عكا فإن الموت قد نشأ بين الطائفتين فأنشده‏:‏ اقتلاني ومالكاً وإقتلا مالكاً معي يريد بذلك أنه قد رضي أن أتلف إذا أتلف الله أعداءه‏.‏

قيل‏:‏ وهذا البيت له سبب وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي تماسك هو وعبدالله بن الزبير يوم الجمل وكل واحد منهما من الأبطال المشهورين وكان ابن الزبير مع خالته عائشة - رضي الله تعالى عنها - والأشتر مع علي - رضي الله عنه - وكان كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته وفعلا ذلك مراراً وابن الزبير ينشد البيت المذكور وقيل إن الأشتر دخل على عائشة - رضي الله تعالى عنها - بعد وقعة الجمل فقالت‏:‏ يا أشتر أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة‏.‏

فأنشدها‏:‏ أعايش لولا أنني كنت طاوياً ** ثلاثاً لألقيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي والرماح تنوشه ** بآخر صوت اقتلوني ومالكا

فنجاه مني أكله وشبابه ** وخلوة جوف لم يكن متماسكا

وقيل إن عائشة رضي الله تعالى عنها أعطت البشارة على سلامة ابن الزبير من الأشتر عشرة آلاف درهم وان ابن الزبير قال‏:‏ لاقيت الأشتر النخعي وما ضربته ضربة إلا ضربني ستاً أو سبعاً‏.‏

والله أعلم‏.‏

رجعنا إلى ما كنا فيه‏.‏

ثم إن الفرنج جاءتهم الأمداد من البحر واستظهروا على المسلمين بعكا فضاق المسلمون من ذلك وعزموا على صلح الفرنج بأن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمس مائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم ويخرجوا بأنفسهم وما معهم سالمين من الأموال والأقمشة مختصة بهم وذراريهم ونسأئهم وكتبوا بذلك كتباً فلما علم السلطان أنكره إنكاراً عظيماً وعظم عليه هذا الأمر وعزم على أن يكتب إليهم في الإنكار عليهم المصالحة على هذا الوجه وبقي متردداً في هذا فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد وصاح الفرنج صيحة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حربهم ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب‏.‏

وذكر بعضهم أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها وساروا على الساحل - والسلطان وعساكره قبالتهم وكان بينهم قتال عظيم ونال المسلمين منه وهن شديد - فاستشار السلطان أرباب مشورته في خراب عسقلان خوفاً من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة ويأخذ بها القدس وينقطع بها طريق مصر فاتفق رأيهم على ذلك فشرع في خرابها فلحق الناس من خرابها حزن عظيم واشتد على أهل البلد ذلك وعظم فراق أوطانهم وشرعوا في بيع ما لا يقدورن على حمله فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد واختبط البلد وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم وتشتتوا فذهب بعضهم إلى مصر وبعضهم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة‏.‏

ثم وصل خبر من جانب الملك العادل أن الفرنج قد تحدثوا معه في الصلح وطلبوا جميع البلاد الساحلية فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم ما في النفوس من الضجر وكثرة ما هم عليهم من الديون‏.‏وكتب إليه بالإذن بذلك وتفويض الأمر إلى رأيه وحث الناس على العجلة في الخراب المذكور خوفاً من هجوم الفرنج وأمر بإحراق البلد فأضرمت النيران في بيوته وكان سورها عظيماً ولم يزل الحريق يعمل في البلد من عشرين في شعبان إلى سلخه وأمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه‏.‏

قال بعض الرواة‏:‏ ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه للإحراق ثم خرج إلى اللد وأمر بإخرابها وإخراب القلعة التي بالرمل ففعل ذلك والتمس بعض أكابر ملوك الفرنج أن يجتمع بالسلطان صلاح الدين بعدما اجتمع بأخيه الملك العادل فاستشار صلاح الدين أصحابه من أكابر دولته في ذلك فوقع الاتفاق على أن ذلك يكون بعد الصلح ثم قال السلطان صلاح الدين‏:‏ متى صالحنا هم لم نأمن غائلتهم ولو حدث لي حادث الموت كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى على الفرنج والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت‏.‏

ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح وجرت وقعات كثيرة ثم وقع الصلح بينهم ثم أعطى العساكر الواردة عليه المنحدرة من البلاد البعيدة الدستور فساروا عنه وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج وجاؤوهم الى بلاد المسلمين وحملت البضائع والمتاجر إلى البلدان وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس وتوجه السلطان إلى القدس وأخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب وابنه الملك الأفضل إلى دمشق وأقام هو في القدس يقطع الناس ويعطيهم دستوراً ويتأهب إلى المسير إلى الديار المصرية وانقطع عزمه عن الحج ثم قوي عزمه على أن يدخل الساحل جريدة ويتفقد القلاع ويدخل دمشق ويقيم بها أياماً ويعود إلى القدس ومنه الى الديار المصرية‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ قال شيخنا ابن شداد‏:‏ وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي انشأها فلما فرغ من افتقاده أحوال القلاع دخل دمشق وفيها أولاده‏:‏ الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الدين وأولاده الصغار وجلس للناس يوم الخميس السابع والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمس مائة وحضروا عنده وبلوا شوقهم منه وأنشد الشعراء فلم يتخلف منه أحد من الخاص والعام وأقام بنشر جناح عدله وبهطل سحاب إنعامه وفضله ويكشف عن مظالم الرعاياء‏.‏عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر أظهر فيها من الهمم المالية ما يليق بهمته وسأل السلطان الحضور فحضر عند الغلبة وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وسار الملك العادل فوصل إلى دمشق فخرج السلطان إلى لقائه وأقام يتصيده وأخوه وأولاده ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الظباء - وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه - ونسي عزمه إلى مصر وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج وكان ذلك آخر ركوبه‏.‏

ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً غشيته الحمى في أثناء الليل ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته‏.‏وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير‏.‏

ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل وصلوا عليه إرسالاً ثم أعيد إلى الدار التي في البستان ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام‏.‏

ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام

تغمده الله تعالى برحمته كان من محاسن الدنيا وغرائبها‏.‏

ومن مصالح الأمور الدينية ودفع نوائبها وذكر بعضهم أنه لم يخلف في خزائنه ذهباً ولا فضة سوى سبعة وأربعين درهماً مصرية وخرصاً واحداً من الذهب صورياً ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً‏.‏

وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى والد الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها رسالة بديعة مشتملة على معان رفيعة مع الإيجاز الفائق والنطق الرائق في حالة يذهل فيها الإنسان عن نفسه والخطب الذي صير الضرغام في رمسه وهي‏:‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إن زلزلة الساعة شيء عظيم كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف - في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً وقد حفرت الدموع المحاجر وبلغت القلوب الخناجر وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده وقد قبلت وجهه عني وعنك وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا يملك رد القضاء‏.‏

ويدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك يا يوسف لمحزونون‏.‏

وأما الوصايا فما يحتاج إليها والآراء فقد شغلني المصاب عنها وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم - والسلام‏.‏

وقد تقدم ذكر أولاده وهم‏:‏ الأفضل والظاهر والعزيز - وهو الملقب بالظافر فيما تقدم - ويعرف بالمشمر لأن أباه لما قسم البلاد بين أولاده الكبار قال‏:‏ وأنا مشمر فغلب عليه هذا اللقب وتوفي في سنة سبع وعشرين وستمائة بحران عند ابن عمه الملك الأسرف بن الملك العادل ولم يكن الأشرف يومئذ ملكاً‏.‏

ثم إن ولده الملك العزيز لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب القبة المذكورة المدرسة العزيزية ووقف عليها وقفاً جيداً ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية عمر بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه -‏.‏

وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الإمام الحسين بن علي - رضي الله تعالى عنهما - وجعل على ذلك وقفاً جيداً وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقاً ووقف عليها وقفاً طائلاً وجعل دار عباس بن السلار مدرسة للحنفية وعليها وقف جيد أيضاً والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين النجار وقفاً على الشافعية وقفاً جيداً أيضاً وله بمصر أيضاً مدرسة للمالكية وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستان وله وقف جيد وله بالقدس مدرسة وقفها كثير خانقة بها‏.‏

قلت‏:‏ وصلاح الدين كاسمه لما فتح من بلاد الكفار وعمرها بالإسلام وما له من محاسن الأحكام وفعل من المعروف في الأوقاف العظيمة ما تضمن النفع العام - فالله تعالى يقدس روحه وينور ضريحه - مع أن كثر هذه الوقوفات من المدارس وغيرها غير منسوبة إليه في الظاهر ولا يعرف أنه أنشأها إلا من له اطلاع على علم التواريخ‏.‏

قالوا‏:‏ وكان مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العضيم والمرتبة المرتفعة كثير التواضع واللطف قريباً من الناس رحيم القلب كثير الاحتمال والمداراة وكان يحب العلماء وأهل الخير ويحسن إليهم ويميل إلى الفضائل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجالسه حتى قيل إنه كان كثيراً ما ينشد قول أبي منصور محمد بن الحسين الحميري وقيل إنه قول أبي محمد أحمد بن خيران الشامري‏:‏ فكدت أوقظ من حولي به فرحاً وكاد يهتك سر الحب بي شغفا ثم انتبهت وآمالي تخيل لي نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا قيل‏:‏ وكان يعجبه ايضاً إنشاد أبي الحسن المعروف بابن المنخم‏.‏

وما خضب الناس البياض لقبحه فأقبح منه حين يظهر ناضله ولكنه مات الشباب فسودت على الرسم من حزن عليه منازله فكان يمسك بكريمته وبنظر إليها ويقول‏:‏ إي والله مات الشباب‏.‏

وأرسل إليه بعض الشعراء بقصيدتين من بغداد قال في آخر إحداهما‏:‏

يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم ** فأنا الذي استودعت غير أمين

أوعدت مغبوناً فما أنا في الهوى ** لكم بأول عاشق مغبون

ومن البلية أن تكون مطالبي ** جدوى نخيل أو وفاء خؤون

ليت الظنين على المحب بوصله ** أخذ السماحة من صلاح الدين

ومما قيل فيه لبعض شعراء المشرق‏.‏الله أكبر جاء القوس باريها ** ورام أسهم دين الله راميها

قل للملوك تخلي عن ممالكها ** فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

فلما أنشده إياها أعطاه ألف دينار‏.‏

ومدحه المهذب أبوحفص عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر المشهور بقصيدته التي أولها‏.‏

سلام مشوق قد يراه التشوق ** على خيره الحي الذي يتفرق

وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً وفيها البيتان السائران اللذان ثمثل بهما مدعي الأشجان مع بعد المكان أحدهما‏.‏

وإني امرؤ أحببتكم لمكارم سمعت بها والأذن كالعين تعشق وهذا البيت أخذه من قول بشار‏:‏

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ** والأذن تعشق قبل العين أحيانا

والبيت الثاني من قصيدة ابن الشحنة‏:‏ وقالت لي الأيام إن كنت واثقاً بأبناء أيوب فأنت الموفق وقد مدحه خلق كثير من الشعراء تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه بحبوحة جنته‏.‏

فيها سار بعض ملوك الهند وقصد بلاد الإسلام فطلبه شهاب الدين صاحب غزنة فالتقى الجمعان على نهر ماخون‏.‏

قال ابن الاثير‏:‏ وكان مع الهندي سبع مائة فيل ومن العسكر ألف ألف نفس على ما قيل فصير الفريقان وكان النصر لشهاب الدين الغوري‏.‏

وكثر القتل في الهنود حتى جافت منهم الأرض وأخذ شهاب الدين سبعين فيلاً وقتل ملكهم وكان قد شد أسنانه بالذهب فما عرف إلا بذلك وكان أكبر ملوك الهند‏.‏

ودخل بلاده شهاب الدين وأخذ من خزائنه ألف حمل وأربع مائة حمل وعاد إلى غزنة ومن جملة الفيلة فيل أبيض‏.‏

وفيها توفي الفقيه العلامة الشافعي القزويني الواعظ أبو الخير أحمد بن اسماعيل الطالقاني‏.‏قدم بغداد ودرس بالنظامية وكان إماماً في المذهب والخلاف والأصول والوعظ

وروى كتباً وكباراً ونفق كلامه بحسن سمته وحلاوة منطقه وكثرة محفوظاته وكان صاحب قدم راسخ في العبادة كبير الشأن عديم النظير‏.‏

رجع إلى قزوين سنة ثمانين ولزم العبادة إلى أن مات في محرم السنة المذكورة رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي الإمام المقرىء أحد الأعلام أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف الرعيني الشاطبي الضرير صاحب القصيدة المشهورة المباركة الموسومة بحرز الأماني ووجه التهاني في القراءات حقق القراءات على غير واحد من أثمة القراء وسمع الحديث من طائفة من المحدثين وكان إماماً وعلامة محققاً كثير الفنون واسع الحفظ نظم القصيدتين اللتين سارت بهما الركبان وخضعت لبراعة نظمهما فحول الشعراء وأئمة القراء والبلغاء وكان ثقة زاهداً ورعاً كبير القدر نزل القاهرة وتصدر للإقراء بالمدرسة الفاضلية وشاع أمره وبعد صيته وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء‏.‏

وكان عالماً بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيراً وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان إذا قرىء عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظ ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها وكان أوحد في علم النحو واللغة عارفاً بعلم الرؤيا حسن المقاصد مخلصاً فيما يقول ويفعل ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه وإذا سئل عن حاله قال‏:‏ العافية‏.‏

لا يزيد على ذلك‏.‏

وقال بعض اصحابه‏:‏ كان الشيخ كثيراً ما ينشد هذا اللغز في نعش الموتى وهو في ديوان الخطيب يحيى بن سلامة الخصلفي - بالخاء المعجمة والصاد المهملة والفاء بين اللام وياءالنسبة‏.‏

أتعرف شيئاً في السماء نظيره إذا صار سار الناس حيث يسير فتلقاه مركوباً وتلقاه راكباً وكل أمير يعتر به أسير يحض على التقوى ويكره قربه وتنفر منه النفس وهو نذير ولم يسترد عن غربة في زيارة ولكن على رغم المزور يزور سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة وكان يقال إنه يحفظ عند دخوله إليها وقر بعير من العلوم وكان نزيل القاضي الفاضل رأيته بمدرسة بالقاهرة مصدراً لإقراء القرآن الكريم والنحو واللغة إلى أن توفي فدفن في تربة قاضي المذكور بالقرافة الصغرى‏.‏

وفيرة بكسر الفاء وسكون المثناة من تحت وتشديد الراء والرعيني بضم الراء وفتح العين المهملة وسكون المثناة من تحت وبعدها نون ثم ياء النسبة‏:‏ نسبة إلى ذي رعين‏:‏ وهذا جد قبائل اليمن نسب إليه خلق كثير ومن جملتهم يافع جد قبيلتنا الكبير الشهيرة‏.‏

الشاطبي - نسبة الى شاطبة مدينة كبيرة بشرق الأندلس خرج منها جماعة من العلماء وقيل أبو القاسم هو اسم الشاطبي وكنيته اسمه والصحيح ما تقدم‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو شجاع محمد بن علي المعروف بابن الدهان البغدادي الفرضي الحاجب الأديب‏.‏له أوضاع بالجداول في الفرائض وغيرها وصنف غريب الحديث في ستة عشر مجلداً الطافاً رمز فيها حروفاً يستدل بها على اماكن الكلمات المطلوبة منه‏.‏

وكان قلمه أبلغ من لسانه وجمع تاريخاً وغير ذلك وله يد طولى في معرفة النجوم وحل الأزياج وله شعر جيد منه ما كتبه إلى بعض الرؤساء وقد عوفي من مرضه‏:‏ # تذر الناس يوم برئك صوماً غير أني نذرت وحدي فطرا عالماً أن يوم برئك عيد لا أرى صومه ولو كان نذرا وفيها توفي الحافظ أبو عبدالله محمد بن ابراهيم الانصاري المالقي صاحب الإمام ابن العربي كان إماماً معروفاً يسرد المتون والأسانيد عارفاً بالرجال واللغة ورعاً جليل القدر طلبه من السلطان ليسمع بمراكش فمات بها‏.‏

وفيها توفي الشيخ الكبير قدوة العارفين وأستاذ المحققين صاحب الكرامات الخارقة والانفاس الصادقة والمقامات العلية والأحوال السنية والهمم السامية والبركات النامية والمعارف الجليلة والمواهب الجزيلة والقدم الراسخ والمنهج المحمود والباع الطويل في التصرف النافذ في الوجود والمظهر العظيم والمحل الكريم أبو مدين شعيب بن الحسن وقيل ابن الحسين المغربي - قدس الله روحه - أحد أركان هذا الشأن وأجمل الأكابر الأعيان أظهر الله على يديه عجائب الآيات ونطقه بفنون الحكم وكشف له الأسرار المغيبات ورزقه القبول العظيم التام والهيبة الوافرة في قلوب الأنام ونشر ذكره في الآفاق وانعقد الإجماع على فضله واجتمع عنده جمع كثير من الفقهاء والصلحاء وتخرج به جماعة من أكابر المشايخ الأصفياء مثل الشيخ أبي محمد عبد الرحيم القنادي والشيخ أبي عبد الله القرشي والشيخ أبي محمد عبدالله الفارسي والشيخ أبي محمد صاحب الدكالي والشيخ أبي غانم سالم والشيخ أبي علي واضح والشيخ أبي الصبر أيوب المكناسي والشيخ أبي محمد عبد الواحد والشيخ أبي الربيع المظفري والشيخ أبي زيدين هبة الله وغيرهم من العلماء‏.‏

وتلمذ له خلق كثير من أهل الطريق وقال بارادته جم غفير من أصحاب الأحوال وانتهى إليه عالم عظيم من الصلحاء وتأدب بين يديه المشايخ والعلماء وله كلام نفيس على لسان أهل الحقائق وكرامات عظام باهرات وخوارق‏.‏

فمن كلامه‏:‏ أغنى الأغنياء من أبدى له الحق حقيقة من حقه وأفقر الفقراء من ستر الحق حقه عنه ومنه إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره وليس للقلب سوى وجهة واحدة فإلى أي جهة توجه حجب عن غيرها واذا سكن الخوف القلب أورثه المراقبة ومن تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الافتراء وما وصل إلى صريح الحرية من عليه من نفسه بقية‏.‏

ومن كراماته ما روي أنه كان يوماً ماراً على الساحل فاعترضه طائفة من الفرنج وحملوه معهم أسيراً إلى سفينة عظيمة لهم فلما صار فيها إذا جماعة من المسلمين أسارى فأخذوهم وفيها جعلوهم فلما استقر الشيخ المذكور فيها مدوا قلوعها وعزموا على المسير فلم تذهب بهم السفينة ولا تحركت من مكانها - على قوة الريح وشدة هبوبها وهيجانها - فلما أيقنوا أنهم على المسير لا يقدرون وخافوا أن يدركهم المسلمون قال بعضهم لبعض‏:‏ هذا بسبب هذا المسلم ولعله من أصحاب السرائر - يشيرون إلى الشيخ المذكور - فعند ذلك أمروه بالنزول فقال‏:‏ لا أفعل حتى تطلقوا كل من في سفينتكم من المسلمين فلما علموا أن لابد لهم من ذلك الذي قال فعلوا وسارت بهم السفينة في الحال ومن شعره‏:‏ أنت الغياث لمن ضاقت مذاهبه أنت الدليل لمن حارت به الحيل إنا قصدناك والآمال واثقة والكل يدعوك ملهوف ومبتهل فإن عفوت فذو فضل وذو كرم وإن سطوت فأنت الحاكم العدل ومما أنشد بعض العلماء والصلحاء في مدحه من أهل المغرب‏.‏

تبدت لنا اعلام علم الهدى صدقا فسار بشمسى الدين مغربنا شرقا وأشرق منها كل ما كان آفلاً وأصبح نور السعد قد ملأ الأفقا صحب الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبا العز المغربي وكمل على يديه وكان سلطان المغرب في زمانه قد أمر بإشخاصه إليه فلما وصل إلى تلمسان قال‏:‏ ما لنا وللسلطان‏!‏ الليلة نزور الإخوان ثم نزل واستقبل القبلة وتشهد وقال‏:‏ ها قد جئت ها قد جئت وعجلت إليك رب لترضى

فمات ودفن في جبانة العباد وقد ناهز الثمانين‏.‏وقبره بها ظاهر للزائرين رضي الله عنه وعن سائر الصالحين

وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الخبير إمام العارفين‏:‏ جاكير‏:‏ صاحب الفتح السني والكشف الجلي والكرامات الباهرة والأحوال الفاخرة والمقامات العلية والأنفاس الزكية والتصريف النافذ في العوالم ومحاسن الأوصاف وجميل الشيم والمكارم والمعارف‏.‏

كان تاج العارفين - رضي الله تعالى عنه - يثني عليه وينوه بذكره وبعث إليه طاقيته مع الشيخ علي ابن الهيتي ولم يكلفه الحضور وقال‏:‏ سألت الله تعالى أن يكون جاكير من مريدي فوهبه لي‏.‏

وكان رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ ما أخذت العهد على أحد حتى رأيت اسمه مرقوماً في اللوح المحفوظ من جملة مريدي‏.‏

وقال أيضاً أوتيت سيفاً ماضي الحد أحد طرفيه بالمشرق والآخر بالمغرب لو أشير به إلى الجبال الشوامخ لهوت‏.‏

وروى الشيخ أبو الحسن علي ابن الشيخ الصالح ابن الشيخ العارف أبي الصبر يعقوب قال‏:‏ أخبرنا أبي قال‏:‏ سمعت والدي يقول‏:‏ كانت نفقة شيخنا الشيخ جاكير بالجيم والمثناة من تحت بين الكاف والراء - رضي الله تعالى عنه من الغيب وكان نافذ التصرف خارق الفعل متواتر الكشف يندر له كثير‏.‏

وكنت عنده يوماً فمرت به بقرات مع راعيها فأشار إلى إحداهن وقال‏:‏ هذه حامل بعجل أحمر أغر صفته كذا يولد وقت كذا من يوم كذا وهو نذر لي ويذبحه الفقراء يوم كذا ويأكله فلان وفلان ثم أشار إلى الأخرى وقال‏:‏ هذه حامل بأنثى ومن صفتها كذا تولد وقت كذا وهي نذر لي ويذبحها فلان رجل من الفقراء يوم كذا ويأكلها فلان وفلان ولكلب أحمر فيها رزق‏.‏

قال‏:‏ فوالله لقد جرت الحال على ما وصف ولم يخل منها بشيء ودخل كلب أحمر إلى الزاوية واختطف قطعة من لحم الأنثى وذهب بها‏.‏ومن كلامه - رضي الله تعالى عنه - إذا قدحت نار التعظيم مع نور الهيبة في زناد السر تولد منها شعاع المشاهدة فمن شاهد الحق عز وجل في سره سقط الكون من قلبه‏.‏

وأصله من الأكراد سكن صحراء من صحارى العراق بالقرب من قنطرة الرصاص على يوم من سامرا ولم يزل مستوطناً بها إلى أن مات بها وقبره بها ظاهر يزار يؤمه من البعد الزوار قد عمر الناس عنده قرية رغبة في مجاورته والتماساً منهم لبركته‏.‏