فصل: سنة أربع وسبعين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة أربع وسبعين

فيها توفي السيد الجليل الفقيه المحدث القدوة ذو الأوصاف الملاح الذي شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاح ابو عبد الرحمن عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي رضي الله عنهما وكان قد عين للخلافة يوم الحكمين مع وجود علي وكبار من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

ومن مناقبه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ أرى عبدالله رجلاً صالحاً والصالح هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد ‏"‏ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل ‏"‏ ثم لما سمع ذلك واظب على الصلاة بالليل ومنها محافظته على اتباع السنة وكثرة تعبده حتى روي أنه اعتمر أكثر من ألف عمرة ولما حضرته الوفاة أمرهم أن يدفنوه ليلاً ولا يعلم الحجاج لئلا يصلي عليه قال الأزرقي في تاريخ مكة قبره في ذات اذخر يعني فوق القرية التي يقال لها المعايدة وبعض الناس يزعم أنه في الجبل الذي فوق البستان قريباً من السور على يمين الخارج من مكة متوجهاً إلى المحصب هو خلاف قول الأزرقي المذكور‏.‏قال الإمام المهذب سعيد بن المسيب يوم مات ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ما في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منه‏.‏

وقوله ابن المسيب‏:‏ هذا نحو ما قال علي في عمر يوم مات وقال أبو داود مات ابن عمر بمكة أيام الموسم يعني سنة ثلاث وسبعين‏.‏

وتوفي بعده أبو سعيد الخدري وهو سعد بن مالك الأنصاري وكان من فقهاء الصحابة وأعيانهم شهد الخندق وبيعة الرضوان وغير ذلك‏.‏

وسلمة بن الأكوع الأسلمي كان بطلاً شجاعاً رامياً يسبق الفرس شدا وله مشاهد محمودة وهو ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت يوم الحديبية وأبو جحيفة السوائي وقيل تأخر إلى بعد الثمانين‏.‏

وتوفي محمد بن حاطب بن الحارث الجمحي وله صحبة ورواية وهو أول من دعى محمداً في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوفي رافع بن حديج الأنصاري اصابه يوم أحد سهم فنزعه وبقي النصل في جسمه إلى أن مات وعاصم بن حمزة السلولي وفي مالك بن عامر الأصبحي جد الإمام مالك وتوفي عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي بالمدينة وكان كثير الحديث والفتيا وتوفي عبدالله بن عمر الليثي رضي الله عنهم‏.‏

 سنة خمس وسبعين

فيها حج عبد الملك بن مروان وخطب على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعزل الحجاج عن الحجاز وأمره على العراق‏.‏

وفيها توفي العرباض بن سارية السلمي وأبو ثعلبة الخشني وعمرو بن ميمون الأودي قدم مع معاذ من اليمن فنزل الكوفة وكان قانتاً صالحاً لله قال بعض الأئمة حج مائة حجة وعمرة وكان إذا رؤي ذكر الله والأسود بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه العابد وورد أنه كان يصلي في اليوم والليلة سبع مائة ركعة وهو الذي استسقى به معاوية بن أبي سفيان فقال‏:‏ اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا الأسود بن يزيد‏.‏

ثم قال‏:‏ ارفع يديك‏.‏

فرفع يديه فدعا فسقوا وتوفي بشر بن مروان الأموي أمير العراقين بعد مصعب وسليم التجيبي قاضي مصر وناسكها‏.‏

فيها وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي ابن عم المختار لحرب شبيب بن قيس الخارجي الشيباني وكان خروجه في ولاية عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف يومئذ مولىعليها فاستظهر شبيب وقتل زائدة واستفحل أمره وهزم العساكر مرات‏.‏

 سنة سبع وسبعين

فيها بعث الحجاج لحرب شببب عتاب بن ورقاء الرياحي بالموحدة والحاء المهملة فالتقى شبيباً بسواد الكوفة فقتل أيضا عتاباً وهزم جيشه فجهز الحجاج لقتاله الحارث بن معاوية الثقفي فقتل أيضاً الحارث بن معاوية فوجه الحجاج أبا الورد البصري فقتل أيضاً فوجه طهمان مولى عثمان فقتل أيضاً ففرق الحجاج وسار بنفسه فالتقوا واشتد القتال وتكاثروا على شبيب فانهزم فقتلت غزالة امرأة شبيب ونجا هو بنفسه في فوارس من أصحابه وكانت بحيث يضرب بشجاعتها المثل وكانت نذرت أن تدخل مسجد الكوفة فتصلي فيه ركعتين تقرأ فيها سورة البقرة وآل عمران فأتوا الجامع في سبعين رجلاًِ فصلت فيه وخرجت عن نذرها وحجز بينهم الليل وسار شبيب إلى ناحية الأهواز وبها محمد بن موسى بن علي التيمي فخرج لقتال شبيب ثم بارزه فقتله شبيب وسار إلى كرمان فتقوى ورجع إلى الأهواز فبعث الحجاج لحربه سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي فالتقوا واشتد القتال حتى حجز بينهم الظلام‏.‏

ثم ذهب شبيب وعبر على جسر دجيل لما سار على الجسر قطع به فغرق وقيل‏:‏ بل نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل من درع ومغفر وغيرهما فألقاه في الماء فقال له بعض أصحابه‏:‏ اغرقاً يا أمير المؤمنين قال‏:‏ ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏

فألقاه دجيل ميتاً في ساحله فحمل على البريد إلى الحجاج فأمر بشق بطنه فاستخرج قلبه فإذا هو كالحجر إذا ضرب به الأرض بناء عليها فشق فإذا في داخله قلب صغير كالكرة الصغيرة فشق أيضاً فوجد في داخله علقة دم ولما غرق أحضر إلى عبد الملك بن عتبان فقال له‏:‏ الست القائل يا عدو الله‏:‏ فإن يك منكم كان مروان وابنه وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فقال لم أقل هكذا يا أمير المؤمنين وإنما قلت‏:‏ فمنا حصين والبطين وقنب ومنا أمير المؤمنين شبيب فاستحسن قوله وأمر بتخلية سبيله وكان إليه المنتهى في الشجاعة والبأس وأكثر ما يكون في مائتي نفس من الخوارج فيهزمون الألوف‏.‏

وفيها غزا عبد الملك بنفسه فدخل في الروم وافتتح مدينة هرقلة قلت وسيأتي أيضاً أنها فتحت في خلافة بني العباس ويحتمل أن الكفار ملكوها بعد هذا ثم فتحت ثانية في الدولة العباسية‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو تميم الجيشاني قرأ سنة ثمان وسبعين فيها ولي خراسان المهلب بن أبي صفرة وتوفي جابر بن عبدالله السلمي الأنصاري وهو آخر من مات من أهل العقبة وعاش أربعاً وتسعين سنة وكان كثير العلم ومن أهل بيعة الرضوان وبشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استشهد أبوه يوم أحد ‏"‏ مازلت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ‏"‏‏.‏

وفيها على الأصح توفي زيد بن خالد الجهني من مشاهيرالصحابة وعبد الرحمن بن غنم الأشعري كان قد بعثه عمر يفقه الناس وكان من رؤوس التابعين‏.‏

وفيها وقيل في سنة ثمانين توفي أبو أمية شريح بن الحارث الكندي القاضي ولي قضاء الكوفة لعمر فمن بعده وعاش أكثر من مائة سنة وولي القضاء خمساً وسبعين سنة واستعفى من القضاء قبل موته بعام فأعفاه الحجاج وكان فقيهاً شاعراً محسناًَ صاحب مزاح وكان أعلم الناس بالقضاء ذا فطنة وذكاء ومعرفة وعقل وإصابة وهو أحد السادات الطلس وهم أربعة‏:‏ عبدالله بن الزبير - وقيسى بن سعد بن عبادة - والأحنف بن قيس الكندي الذي يضرب به المثل في الحلم والقاضي شريح المذكور والأطلس‏:‏ الذي شعر في وجهه‏.‏

وحكي عن بعض أصحاب قيس بن سعد أنه قال‏:‏ لو كانت اللحى تشترى بالدراهم او قال بالدنانير او كما قال لاشترينا لقيس بن سعد لحية‏.‏

ومن مزاح شريح المذكور‏:‏ انه دخل عليه عدي بن أرطأة فقال له‏:‏ اين أنت أصلحك الله قال بينك و بين الحائط قال اسمع مني قال قل أسمع قال‏:‏ اني رجل من أهل الشام قال‏:‏ مكان سحيق قال‏:‏ وتزوجت عندكم قال بالرفاء والبنين قال وأردت أن أرحلها قال الرجل أحق بأهلها قال وشرطت لها دارها قال‏:‏ الشرط لها دارها او قال‏:‏ المؤمنون عند شروطهم قال‏:‏ فاحكم الآن بيننا قال قد فعلت من حكمت قال فعلى ابن أمك قال بشهادة من قال بشهادة ابن أخت خالتك‏.‏

وحكي أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دخل مع خصم ذمي الى القاضي شريح فقام له فقال‏:‏ هذا أول جورك ثم أسند ظهره الى الجدار وقال لو أن خصمي كان مسلماً لجلست بجنبه‏.‏

وروي عنه ايضاً كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ اجمعوا إلي القراء فاجتمعوا في رحبة المسجد فقال‏:‏ اني أوشك أن أفارقكم فجعل يسألهم ما تقولون في كذا وشريح ساكت ثم سأله فلما فرغ منهم قال‏:‏ اذهب فأنت من أفضل الناس أو قال‏:‏ من أفضل العرب وتزوج شريح امرأة من تميم تسمى زينب فنقم عليها شيئاً فضربها ثم ندم وقال‏:‏

رأيت رجالاً يضربون نساءهم ** فشلت يميني لو أضرب زينبا

أ أضربها من غير ذنب أتت به ** فما العدل في ضرب من ليس مذنبا

وزينب شمس والنساء كواكب ** اذا طلعت لم تبصر العين كوكبا

ذكر الحكاية صاحب العقد‏.‏

ويحكى أن زياد ابن أبيه كتب إلى معاوية‏:‏ يا أمير المؤمنين إني قد ضبطت العراق لشمالي وفرغت يميني لطاعتك فولني الحجاز فبلغ ذلك عبدالله بن عمر وكان بمكة مقيماً فقال‏:‏ اللهم اشغل يمين زياد فأصابه الطاعون او قال الآكلة في يمينه فجمع الأطباء واستشارهم فأشارواعليه بقطعها فاستدعى القاضي شريحاً المذكور وعرض عليه ما أشار به الأطباء فقال له‏:‏ لك أجل معلوم ورزق مقسوم وإني لأكره إن كان لك مدة أن تعيش في الدنيا بلا يمين وان كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد فإذا سألك لم قطعتها قلت بغضاً في لقائكك وفراراً من قضائك‏.‏

قلت يعني قال له لسان حالك ويحتمل أنه لسان المقال اذا ختم على الأفواه يوم الخزي والنكال نسأل الله الكريم العفو والسلامة ونعوذ به من الخزي والندامة‏.‏

قالوا ومات زياد من يومه فلام الناس شريحاً على منعه من القطع لبغضهم في زياد فقال‏:‏ انه استشارني والمستشار مؤتمن ولولا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطعت يده يوماً ورجله وما وسائر جسده يوماً وفي السنة المذكورة قتل أبو المقدام شريح ابن هاني المدلجي صاحب علي وله مائة وعشرون سنة‏.‏

 سنة تسع وسبعين

فيها وقيل في التي قبلها قتل رأس الخوارج قطري بن فجأة التميمي ثر به فرسه فأهلك وأتي الحجاج برأسه وكان الحجاج يستنفر جيشاً بعد جيش وهو يستظهر عليهم وكان المباشرلقتله سوادة وقيل سودة بن أبجر الدارمي وكان رجلاً شجاعاً مقداماً كثير الحروب والوقائع قوي النفس لا يهاب الموت وفي ذلك يقول مخاطباً نفسه‏.‏

أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لا تراعي فانك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبراً من مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع سبيل الموت غاية كل حي وداعيه لأهل الأرض داعي مع أبيات أخرى وهو معدود في جملة خطباء العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة‏.‏

وتوفي عبيدالله بن أبي بكرة وكان قد بعثه الحجاج أميراً على سجستان في العام الماضي وكان جواد ممدوحاً يعتق في كل عيد مائة عبيد‏.‏

وفيها مات عبد الرحمن بن عبدالله بن مسعود الهذلي رحمه الله تعالى‏.‏

 سنة ثمانين

فيها بعث الحجاج على سجستان عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي فلما استقربها خلع الحجاج وخرج ثم كانت بينهما حروب يطول شرحها وفيها مات عبدالله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي وهو أحد من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صغره من بني هاشم ولد بالحبشة ويقال لم يكن أحد في الإسلام في جوده وسخائه وكان يسمى الجواد‏.‏

ومن فضائله ومكارمه قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما روي في الصحيح أنه قال لابن الزبير‏:‏ اتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وأنت وابن عباس قال‏:‏ نعم فحملنا وتركك‏.‏

وفيها مات أبو ادريس الخولاني عائذ الله بن عبدالله فقيه أهل الشام وقاضيهم سمع من أبي الدرداء وطبقته وقال عمر بن عبد البر سماع أبي إدريس عندنا من معاذ صحيح‏.‏

وفيها مات أسلم مولى عمرو كان فقيهاً نبيلاً وفيها مات أبو عبد الرحمن جبير بن نفير الحضرمي عبد الرحمن بن عبد القاري وفيها صلب عبد الملك معبد الجهني في القدر وقيل بل عذبه الحجاج بأنواع العذاب وقتله‏.‏

وفيها توفي ملك عرب الشام حسان بن النعمان بن المنذر الغاني غازياً للروم وحاصر المهلب بن أبي صفرة بلاد العجم‏.‏

 سنة إحدى وثمانين

فيها قام مع ابن الأشعث عامة أهل البصرة من العلماء والعباد فاجتمع له جيش عظيم والتقوا عسكر الحجاج يوم الأضحى فانكشف عسكر الحجاج وانهزم هو وتمت بينهم عدة وقعات حتى قيل كان بينهما أربع وثمانون وقعة في مائة يوم ثلاث وثمانون على الحجاج والآخرة كانت له‏.‏

وفيها وقيل في التي بعدها توفي أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بابن الحنفية وخولة بنت جعفر بن قيس يقال كانت من بني حنيفة من سبي اليمامة وصارت إلى علي رضي الله عنه وقيل بل كانت سندية سوداء أمه لبني حنيفة ولم تكن منهم وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق من الجواري والعبيد ولم يصالحهم على أنفسهم وعاش سبعين سنة إلا وتكنيته بأبي القاسم قيل رخصة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه قال لعلي رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ سيولد لك غلام وقد نحلته اسمي وكنيتي ولا يحل لأحد من أمتي بعده ‏"‏‏.‏

قلت وقد جمع بين الكنية والاسم المذكورين جماعة كثيرة من أهل الفضل وفي ذلك مذاهب للعلماء مشهورة واختار جماعة من العلماء أن النهي عن الجمع بين التسمي باسمه والتكني بكنيته كان مخصوصاً بزمانه صلى الله عليه وآله وسلم وعلله بأن اليهود كانوا يقولون يا أبا القاسم فإذا سمعهم صلى الله عليه وآله وسلم التفت إليهم فيقولون ما عنينك وكان يحصل منهم في ذلك ايذاء له صلى الله عليه وآله وسلم فنهى حينئذ عن التكني بأبي القاسم وقد زالت هذه العلة بعده فارتفع النهي‏.‏

وكان ابن الحنفية المذكور كثير العلم والورع وقد ذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء‏:‏ وكان شديد القوة وله في ذلك أخبار عجيبة منها‏:‏ ما حكاه المبرد في الكامل‏:‏ ان أباه علياً رضي الله عنه استطال درعاً كانت له فقال له‏:‏ انقص منها كذا وكذا حلقه فقبض محمد إحدى يديه على ذيلها والأخرى على فضلها ثم جذبها فانقطع من الموضع الذي حده أبوه قال‏:‏ وكان عبدالله بن الزبير إذا حدث بها غضب واعترته الرعدة قيل لأنه كان يحسده على قوته وكان ابن الزبير أيضاً شديد القوة‏.‏

ومن قوة ابن الحنفية أيضاً ما حكاه المبرد‏:‏ ان ملك الروم وجه إلى معاوية أن الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منا وتجهد بعضهم أن يغلب على بعض أفتأذن في ذلك فأذن له فوجه إليه برسولين أحدهما طويل جسيم والآخر أيد فقال معاوية لعمرو بن العاص‏:‏ اما الطويل فقد أصبنا كفوه وهو قيس بن سعد بن عبادة وأما الآخر فقد احتجا إلى رأيك‏.‏

فقال عمرو‏:‏ ها هنا رجلان كلاهما إليك بغيض محمد ابن الحنفية وعبدالله بن الزبير‏.‏

قال معاوية‏:‏ من هو أقرب إلينا على حال أو قال على كل حال فلما دخل الرجلان للذان بشهما ملك الروم وجه معاوية إلى قيس بن سعد يعلمه فدخل قيس فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله فرمى بها إلى العلج فلبسها فبلغت ثندوته فأطرق مغلوباً قيل إن قيساً لاموه في ذلك وقيل له‏:‏ لما تبذلت هذا التبذل بحضرة معاوية هلا وجهت إليه غيرها فقال‏:‏ وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عاد ثمة وثمود وأني من القوم اليمانين سيد وما الناس إلا سيد ومسود وبد جميع الخلق أصلي ومنصبي وجسمي به أعلو الرجال سديد ثم وجه معاوية إلى ابن الحنفية رضي الله عنه فحضر فخبر بما دعى إليه فقال‏:‏ قولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني وإن شاء فليكن القاعد وأنا القائم فاختار الرومي الجلوس فأقامه محمد وعجز هو من إقعاده ثم اختار أن يكون محمد هو القاعد فجذبه محمد فأقعده وعجز الرومي عن اقامته فانصرفا مغلوبين وكان الراية يوم صفين بيده‏.‏

ويحكى أنه توقف أول يوم في حملهما لكونه قتال المسلمين ولم يكن قبل ذلك شهد مثله فقال له علي‏:‏ وهل عندك شك في جيش مقدمه أبوك فحملها قلت هكذا ذكر بعضهم‏.‏

وذكر غيره أنه قال له أبوه يوم الجمل‏:‏ تقدم بالراية وقد ازدحمت الأقران والرؤوس تقطع عن الأبدان فقال‏:‏ إلى أين أتقدم والله إن هذه هي المصيبة العمياء‏.‏

فقال له علي‏:‏ ثكلتك أمك أتكون مصيبة وأبوك قائدها وقيل لمحمد كيف كان أبوك يقحمك المهالك ويولجك المضائق دون أخويك الحسن والحسين فقال‏:‏ لأنهما كانا عينيه وكنت يديه وكان يقي عينيه بيديه‏.‏

ولما دعا ابن الزبير إلى نفسه وبايعه أهل الحجاز بالخلافة دعا عبدالله بن العباس ومحمد ابن الحنفية إلى البيعة فأبيا وقال لانبايعك حتى يجتمع لك البلاد والعباد فتهددهما وجرى ما يطول شرحه وكان الشيعة قد لقبته المهدي وتزعم شيعته أنه لم يمت وأنه بجبل رضوى مختفيأ عنده عسل وماء وإلى ذلك أشار كثير عزة وكان كيسانياً حيث قال‏:‏ ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء نراه مخيماً بجبال رضوى مقيماً عنده عسل وماء وفيها توفي سويد بن غفلة الجعفي بالكوفة ومولده عام الفيل فيما قيل وكان فقيهاً إماماً عابداً قانعاً كبير القدر رحمة الله عليه‏.‏

وفيها حجت أم الدرداء الوصابية اليمنية الحميرية وكان لها نصيب وافي من العلم والعمل ولها حرمة زائدة بالشام وقد خطبها معاوية بعد أبي الدرداء فامتنعت وقتل مع ابن الأشعث ليلة دجيل أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود الهذلي وعبدالله بن شداد بن الهاد الليثي ابن خالة خالد بن اللوليد وكان فقيهاً كثير الحديث لقي كبار الصحابة وأدرك معاذ بن جبل رضي الله عنهم‏.‏

كانت الحروب تشتعل بين الحجاج وابن الأشعث وكاد ابن الأشعث أن يغلب على العراق وبلغ جيشه ثلاثة وثلاثين ألف فارس ومائة وعشرين ألف راجل ولم يختلف عنه كثير قاموا على الحجاج لله‏.‏

وفيها توفي المهلب بن أبي صفرة الأزدي أمير خراسان صاحب الحروب والفتوحات قال وإسحاق السبيعي‏:‏ لم أر أمير اليمن نقبة ولا أشجع لقاء ولا أبعد مما يكره ولا أقرب مما يحب من المهلب‏.‏

وقال بعض المؤرخين‏:‏ روي أنه قدم على عبدالله بن الزبير أيام خلافته بالحجازوالعراق وتلك النواحي وهو يومئذ بمكة فخلا به عبيدالله يشاوره فدخل عليه عبدالله بن صفوان بن أمية الجمحي فقال‏:‏ من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا فقال‏:‏ او ما تعرفه قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ هذا سيد أهل العراق‏:‏ قال‏:‏ فهو المهلب بن أبي صفرة قال‏:‏ نعم‏.‏

فقال المهلب‏:‏ من هذا يا أمير المؤمنين قال هذا سيد قريش‏.‏

قال فهو عبدالله بن صفوان قال نعم وكان الذي استعمله على خراسان عبد الملك بن مروان وكان له كلمات لطيفة واشارات مليحة تدل على مكارمه وخلف المهلب عدة أولاد نجباء كرام أجواداً أمجاداً قال ابن قتيبة يقال إنه وقع إلى الأرض من صلب المهلب ثلاث مائة ولد وله آثار حميدة وفضائل عديدة ولما مات أكثر الشعراء فيه من المراثي من ذلك قول بعضهم‏:‏ ألا ذهب العز المقرب للفتى ومات الندى والجود بعد المهلب وفيها توفي زر بن حبيش الأسدي القاري وله مائة وعشرون سنة وكان عبدالله بن مسعود يسأله عن العربية فيما قيل وقتل الحجاج كميل بن زياد النخعي صاحب علي وكان شريفاً مطاعاً‏.‏

وفيها قتل أبو الشعثاء مع ابن الأشعث بظاهر البصرة وفيها قتل الحجاج محمد بن سعد بن أبي وقاص لقيامه مع ابن الأشعث‏.‏

وفيها توفي جميل بن عبدالله بن معمر الشاعر المشهور من بني عذرة صاحب بثينة أحد عشاق العرب تعلق قلبه بها وهو غلام فلما كبر خطبها فرد عنها فقال الشعر فيها‏.‏

قال المؤرخون ومنهم الحافظ ابن عساكر وكان يأتيها ومنزلها بوادي القرى وله ديوان شعر كثير ذكره لها فيه فقيل له‏:‏ لو قرأت القرآن كان أعود عليك من الشعر فقال‏:‏ هذا أنس بن مالك أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن من الشعر لحكمة ‏"‏ وبثينة أيضاً من بني عذرة وكانت تكنى أم عبد الملك والجمال والعشق في بني عنرة قيل لرجل منهم ممن أنت قال‏:‏ من قوم إذا أحبوا ماتوا فقالت جارية سمعته‏:‏ هذا عذري ورب الكعبة وقيل لآخر‏:‏ ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير ينماع كما ينماع الملح في الماء اما تتجلدون فقال‏:‏ انا ننظر إلى محاجرعيون لا تنظرون إليها‏.‏

وذكر صاحب كتاب الأغاني أن كثيرعزة راوية جميل وجميل راوية هدبة وهدبة راوية الحطيئة والحطيئة راوية زهير بن أبي سلمى وابنه كعب بن زهير ومن شعر جميل‏:‏ فهذي شهور الصيف إن قد انقضت فما للنوى يرمي بليلى المراميا قال ابن خلكان ومن الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة مجنون ليلى وليست له وتيماء خاصةً منزل لبني عذرة وفي هذه القصيدة يقول جميل‏:‏ وما زلتم تأبون حتى لو أنني من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا وما زادني الواشون إلا صبابة ولا كثرة الناهين إلا تماديا ومن شعره أيضاً يقضي الديون وليس ينجز موعدا هذا الغريم لنا وليس بمعسر ما أنت بالوعد الذي تعدينني إلا كبرق سحابة لم تمطر قلت والبيت الأول منهما وقول كثيرعزة قضى كل في دين فوفى غريمه‏.‏

وبيته المعروف احدهما يستمد من الآخر ومن شعر جميل‏:‏ وإني لأستحيي من الناس أن أرى رديفاً لوصل أوعلى رديف وإني للماء المخالط للقذى إذا كثرت وراده لعيوف قلت والبيت الثاني من هذين غير مناسب للأول منهما فإنه في الأول كره لأن يكون رديفا وأن يكون الذي قبله واحداً اذ الرديف يصدق على ذلك وفي الثاني قيد العيوف بكثرالوارد‏.‏

قلت ومما ذكره المؤرخون ما يكره المتدين ذكره استغفر الله من ذكره واسأل العافية من مثله قالوا‏:‏ قال كثيرة عزة لفتى مرة جميل بثينة فقال من أين أقبلت فقلت من عند الحبيبة يعني بثينة قال‏:‏ الى أين تمضي فقلت إلى الحبيبة يعني عزة فقال لابد أن ترجع عودك على بدنك فتتخذ لي موعداً من بثينة فقلت‏:‏ عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع فقال‏:‏ لا بد من ذلك‏.‏

فقلت‏:‏ ومتى عهدك ببثينة فقال من أول الصيف وقعت سحابة بأسفل واد الروم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثياباً فلما أبصرتني أنكرتني فضربت يدها إلى ثوب في الماء فالتحفت به وعرفتني الجارية فأعادت الثوب إلى الماء وتحدثنا ساعة حتى غابت الشمس وسألتها الموعد فقالت‏:‏ اهلي سائرون وما لقيتها بعد ذلك ولا وجدت أحداً منه فأرسله إليها‏.‏

قال كثير فقلت هل لك أن آتي الحي فأتعرض بأبيات شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدرعلىالخلوة بها قال‏:‏ ذلك هو الصواب قال فخرجت حتى أنخت بهم‏.‏

فقال أبوها‏:‏ ما ردك يا ابن أخي قال قلت أبيات عرضت فأحببت أن أعرضها عليك‏.‏

قال‏:‏ هات‏.‏

قال‏:‏ فأنشدته شعراً وبثينة تستمع فقلت لها‏:‏ يا عز أرسل صاحبي إليك رسولاً والرسول موكل بأن تجعلي بيني وبينك موعداً وأن تأمريني ما الذي فيه أفعل وآخرعهدي منك يوم لقيتني بأسفل واد الروم والثوب يغسل قال فضربت بثينة خدرها وقالت‏:‏ اخسأ اخسأ‏.‏

فقال لها أبوها‏:‏ مهيم‏:‏ يا بثينة قالت‏:‏ كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية ثم قالت للجارية‏:‏ ابغينا من الدومات حطباً لنذبح لكثير شاةً ونشويها له فقال كثير‏:‏ انا أعجل من ذلك وراح إلى جميل فأخبره فقال له جميل موعدنا الدومات وخرجت بثينة وصواحبها إلى الدومات وجاء جميل وكثير إليهن فما برحوا حتى برق الصبح وكان كثير يقول ما رأيت مجلساً قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ما أدري أيهما كان أفهم‏.‏

وقال الحافظ أبو عيسى ابن عسكرفي تاريخه الكبير قال ابن الأنباري أنشدني أبي هذه الأبيات لجميل‏:‏ ما زلت أبغي الحي أطلب أهلهم حتى دفعت إلى رؤيبة هودج فدنوت مختفياً ألم ببيتها حتى ولجت إلى حفى المولج فتناولت رأسي لتعرف سنه لمخضب الأطراف غير مشيخ قالت وعيش أخي ونعمة والدي لأنبهن القوم إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسمت فسلمت أن يمينها لم تلحج قلت وبعد هذا بيت حذفته كراهية ذكره‏.‏

وقال هارون بن عبدالله القاضي قدم جميل بن معمر مصر على عبد العزيز بن مروان ممتدحاً له فأذن له وسمع مدائحه وأحسن جائزته وسأله عن حبيبته بثينة فذكر وحمد كثيراً فوعده في أمرها وأمره بالمقام وأمر له بمنزل وما يصلحه فأقام قليلاً حتى مات هناك‏.‏

وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي قال‏:‏ بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال هل لك في جميل فإنه ثقيل نعوده فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه فنظر إلي ثم قال‏:‏ يا ابن سهل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن لا إله إلا الله قلت‏:‏ اظنه قد نجا وأرجو له الجنة‏.‏

فمن هذا الرجل قال‏:‏ انا قنت والله ما أحسبك سلمت وأنت تشبب منذ عشرين سنة ببثينة‏.‏

فقال‏:‏ لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإني في أول يوم من أيام الآخرة آمر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها لريبة‏.‏

قال‏:‏ فما برحنا حتى مات‏.‏

وذكر في الأغاني عن الأصمعي قال‏:‏ حدثني رجل شهد جميلاً لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعا به فقال‏:‏ هل لك إن أعطيتك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك قال فقلت نعم قال إذا نامت فخذ حلتي هذه وأعز لها جانباً وكل ما سواها لك وادمل إلى رهط بثينة فإذا صرت إليها فارتحل ناقتي هذه واركبها ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرف وصح بهذين البيتين‏:‏

صرح البغي وما كنا بجميل ** وثوى بمصر ثوى بغير قفول

قومي بثينة فاندبي بعويل ** وابكي خليلاً دون كل خليل

قال فقلت ما أمرني به فما تممت الإنشاد حتى خرجت بثينة كأنها بدر في دجنة وهي تنثني في مرطها حتى أتتني فقالت‏:‏ يا هذا والله إن كنت صادقاً لقد قتلتني وإن كنت كاذباً فقد فضحتني فقلت‏:‏ والله ما أنا لا صادقاً وأخرجت حلته فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشياً عليها ساعة ثم قامت وهي تقول‏:‏ وإن سكتموني عن جميل لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر إذا مت بأساء الحياة ولينها