فصل: سنة سبع وعشرين واربع مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة واثنتين وعشرين واربع مائة

فيها عزم الصوفي الملقب بالمنصور على الغزو فكتب له السلطان منشوراً وقصد الجامع لقراءة المنشور وبين يديه الرجال بالسلاح يترضون على الشيخين وصاحوا‏:‏ هذا يوم معاوي‏.‏

قلت‏:‏ يعنون فيه إظهار شعار معاوية بن ابي سفيان في الذكر لإبي بكر وعمر دون علي رضي الله تعالى عنهم فحصبهم أهل الكرخ فسارت الفتنة واضطربت ونهبت العامة دار الشريف المرتضى ودافع عنه جيرانه الأتراك واحترقت له سرية وبات الناس في ليلة صعبة وتأهبوا للحرب واجتمعت العامة وخلق من الترك وقصدوا الكرخ فرموا النار في الأسواق وأشرف أهل الكرخ على التلف فركب الوزير والجند فوقعت آجره على صدر الوزير وسقطت عمامته وقتل جماعة من الشيعة وزاد النهب فيهم واحرق في هذه السائرة عدة اسواق ولم يجر من السلطان إنكار لضعفه وعجزه وتبسطت العامة وآثاروا الفتن‏:‏ فالنهار فتن ومحن والليل عملات ونهب‏.‏

وقامت الجند على السلطان جلال الدولة لإطراحه مصالحهم وراموا قطع الخطبة فارضاهم بالمال فساروا بعد أيام عليه‏.‏

وثم مات القادر بالله واستخلف ابنه القائم بأمر الله فبايبعه الشريف المرتضى ثم الأمير حسن بن عيسى بن المقتدر وقامت الأتراك على القائم بالرسم الذي للبيعة فقال‏:‏ إن القادر لم يخلف مالاً وصدق لأنه كان من أفقر الخلفاء ثم صالحهم على ثلاثة ألاف دينار وعرض القائم خاناً وبستاناً للبيع وصغر دست - الخلافة إلى هذا الحد وصارت الأموال والأعمال مقسومة بين الأتراك والأعراب مع ضعف ارتفاع الخراج والوزارة خالية من أهلية وما يناسبها من صلاحيته والوقت هرج ومرج والناس بلا رأس‏.‏

وفيها توفي القادر بالله بن المقتدر بن المعتضد العباسي وكانت خلافته إحدى اربعين سنة‏.‏قال الخطيب‏:‏ كان من أهل الديانة والتهجد وكثرة الصدقات على صفة اشتهرت عنه‏.‏

وصنف كتاب في الأصول في فضل الصحابة وتكفير المعتزلة والقائلين بخلق القرآن وكان يقرأ كل جمعة بحضرة الناس‏.‏

وفيها توفي القاضي عبد الوهاب الفقيه المالكي أحد الأعلام‏.‏

انتهت إليه رئاسة المذهب‏.‏

قال الخطيب‏:‏ لم ألق في المالكية أفقه منه‏.‏

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي‏:‏ سمعت كلامه في النظر وكان فقيهاً متأدباً شاعراً له كتب كثيرة في كل فن‏.‏

ومن ذلك كتاب التلقين في الفقه وكتاب المعرفة وشرح الرسالة وغير ذلك‏.‏

ومن أشعاره‏:‏ سلام على بغداد في كل موطن وحق لها مني سلام مضاعف فوالله ما فارقتها عن قلى لها وإني لشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت علي بأسرها ولم تكن الأرزاق فيها تساعف وكانت كخل كنت أهوى دنوه وأخلاقه تنأى به وتخالفه ومن أشعاره الظريفة المشتملة على المعاني اللطيفة قوله‏:‏ ونائمة قبلتها فتنبهت فقالت‏:‏ تعالوا فاطلبوا اللص بالحد فقلت لها إني فديتك غاصب وما حكموا في غاصب بسوى الرد فقالت‏:‏ قصاص يشهد العقل أنه على كبد الجاني الدين أشهد ما غير ذلك مما حذفته رغبة في الاختصار وكراهة لبعض الغزل الفاحش في الأشعار‏.‏

توفي ليلة الاثنين الرابعة عشر من صفر ودفن في القرافة‏.‏

وفيها توفي الإمام الواعظ يحيى بن عمار الشيباني السجستاني نزيل هراة‏.‏

 سنة ثلاث وعشرين واربع مائة

فيها سارت الغلمان بالسلطان جلال الدولة وصمموا على عزله وطرده فهرب بالليل مع جماعة من غلمانه إلى عكبراء ونهبت داره من الغد‏.‏

في السنة المذكورة سار الملك المسعود بن محمود بن ناصر الدين فدخل أصفهان بالسيف ونهب وقتل علماء لا يحصون ففعل ما لا يفعله الكفرة‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد النعيمي البصري‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان حافظاً عارفاً متكلماً شاعراً‏.‏

وفيها توفي ابن البواب الكاتب علي بن هلال‏.‏

قيل ليس له في الكتابة مثل ولا مقارب وإن كان أبو علي أول من نقل هذه الطريقة من الخط الكوفي وأبرزها في هذه الصورة وله بذلك فضيلة السبق وخطه أيضاً في نهاية الحسن لكن ابن البواب هذب طريقته ونقاها وكساها حلاوة وبهجة والكل معترفون له بالتفرد وعلى منواله ينسجون استشعر الكتاب فقدك سالفاً وقضت بصحة ذلك الأيام فلذاك سودت الروي كأنه أسف عليك وشقت الأقلام وروى ابن الكلبي الهيثم بن العدي أن ناقل هذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز هو حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وكان قد قدم الحيرة فعاد إلى مكة بهذه كتابة وقال لأبي سفيان بن حرب‏:‏ ممن أخذ أبوك هذه الكتابة فقال‏:‏ من أسلم بن نذر وقال‏:‏ سألت أسلم ممن أخذ الكتابة فقال‏:‏ من واضعها من عامر بن مرة‏.‏

قالوا‏:‏ فحدوث هذه الكتابة قبل الإسلام بقليل‏.‏

وكان لحمير كتابة تسمى المسند وحروفها منفصلة غير متصلة وكانوا يمنعون العامة من تعليمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم فجاءت ملة الإسلام وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب وجميع كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة وهي العربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية الرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية‏.‏

 سنة اربع وعشرين واربع مائة

فيها اشتد الخطب ببغداد بسبب الحرامية وأخذهم أموال الناس عياناً يأخذون للتاجر ما قيمته عشرة آلاف دينار وقتلوا صاحب الشرطة وباقي الناس لا يجسرون يقولون‏:‏ فعل بنا فلان كذا خوفاً منه‏.‏

وزادت العملات والكبسات ووقع القتال وأحرقت أماكن وأسواق ومساجد وقوي الشر وتارت الجند وقبضت على السلطان جلال الدولة ليرسلوه إلى واسط والبصرة فأنزلوه في مركب وابتلت ثيابه وأهين ثم أرجموه فأخرجوه وأركبوه فرساً ضعيفة وشتموه فانتصر له أبو الوفاء القائد في طائفة وأخذوه من أيدي أولئك وردوه إلى داره ثم سار في الليل إلى الكرخ فدعا له أهلها ونزل في دار الشريف المرتضى فأصبح العسكر وهموا به فاختلفوا فقال بعضهم‏:‏ ما بقي إلا هذا وابن أخيه من بني بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وقد سلم الأمر ومضى إلى بلاد فارس ثم كتبوا له ورقة بالطاعة والاعتذار فركب معهم إلى دار السلطنة‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العبد الصالح محمد بن ابراهيم الأردستاني بالراء والدال والسين المهملات والمثناة من فوق الالف والنون بعدها‏.‏

 سنة خمس وعشرين واربع مائة

فيها توفي الحافظ الكبير محمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني قال الخطيب‏:‏ لم نر في شيوخه أثبت منه كان ورعاً عارفاً بالفقه كثير التصانيف ذا حظ من علم العربية‏.‏

صنف مسنداً ضمنه ما يشتمل عليه الصحيحان‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان نسيج وحده‏.‏

وفيها توفي أبو علي بن شاذان البغدادي‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان صدوقاً صحيح السماع يفهم الكلام على مذهب الأشعري‏.‏

وفيها توفي الفقيه العالم الزاهد عمر بن ابراهيم الهروي‏.‏

وفيها توفي الحافظ عبدالله بن عبد الوهاب بن عبدالله المزني الدمشقي‏.‏

 سنة ست وعشرين واربع مائة

وفيها تملك العيارون بغداد‏.‏

وغزا مسعود بن أحمد بلاد الهند فوصل كتابه بأنه قتل من القوم خمسين ألفاً وسبى سبعين ألفاً‏.‏

وفيها توفي ابن شهيد الأديب أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن مروان الأشجعي القرطبي الشاعر حامل لواء الشعر بالأندلس‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ لم يخلف له تظيراً في الشعر والبلاغة وكان سمحاً جواداً‏.‏وفيها توفي أبو محمد بن الشقاق بالشين المعجمة والقاف المكررة كبير المالكية رأس القراء‏.‏

وفيها توفي الفقيه الأديب المحدث أبو عمرو الزرجاهي بفتح الزاي وسكون الراء قبل الجيم على ما ضبط في بعض النسخ محمد بن عبدالله البسطامي ابن شهيد بضم الشين المعجمة‏.‏

أحمد بن عبد الملك بن مروان القرطبي قال في كتاب الذخيرة‏:‏ وكان متفنناً بارعاً بينه وبين ابن حزم الظاهري مكاتبات ومداعبات وله التصانيف الغربية البديعة ومن محاسن شعره من قصيدة له‏:‏ وتدري سباع الطير أن كماته إذا لقيت صيد الكماة سباع تطير جياعاً فوقه وتردها ظباة إلى الأوكار وهي شباع

 سنة سبع وعشرين واربع مائة

فيها دخل العيارون وهم مائة الأكراد والأعراب فأحرقوا دار صاحب الشرطة فتحوا خاناً فأخذوا ما فيه وخرجوا بالكارات والناس لا ينطقون‏.‏

وفيها شغب الجند على الملك جلال الدولة وقالوا اخرج عنا فقال أمهلوني ثلاثة أيام وجرت أمور طويلة ثم تركوه لضعفهم‏.‏

وفيها توفي أبو إسحاق الثعلبي أحمد بن محمد بن ابراهيم النيسابوري المفسر المشهور‏.‏

وكان حافظاً واعظاً رأساً في التفسير والعربية متين الديانة فاق بتفسيره الكبير سائر أهل التفاسير‏.‏

قلت‏:‏ هكذا قيل ولعل ذلك من بعض الوجوه وإلا فهناك تفاسير أخرى قد تميز كل واحد منها بفضيلة وفن معروف عند أهله وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء وغير ذلك ذكره السمعاني وقال‏:‏ يقال له الثعلبي والثعالبي وهو لقب له وليس نسب‏.‏

ونقل بعض العلماء أن الاستاذ أبا القاسم القشيري رحمه الله تعالى قال‏:‏ رأيت رب العزة في المنام وهو يخاطبني وأخاطبه وكان في أثناء ذلك أن قال الرب تعالى اسمه‏:‏ أقبل الرجل الصالح فالتفت فإذا أحمد الثعلبي مقبل‏.‏ذكره عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور وأثنى عليه وقال‏:‏ هو صحيح النقل موثوق به‏.‏وكان كثير الشيوخ‏.‏

رحمه ته تعالى‏.‏

وفيها توفي الإمام الجياني المحدث أبو علي الحسين بن محمد الغساني الأندلسي‏.‏

كان إماماً في الحديث وله كتاب مفيد ساه تقييد المهمل ضبط فيه كل لفظ يقع فيه اللبس من رجال الصحيحين في جزئين وما قصر فيه‏.‏وكان من جهابذة المحدثين وكبار العلماء المفيدين حسن الخط جيد الضبط له معرفة بالغريب والشعر والأنساب‏.‏

ونسبته إلى جيان بفتح الجيم وتشديد المثناة من تحت مدينه كبيرة بالأندلس وبأعمال الري قرية يقال له جيان أيضاً‏.‏والغساني نسبة إلى غسان وقد تقدم الكلام عليه‏.‏

 سنة ثمان وعشرين واربع مائة

فيها توفي أبو الحسين أحمد بن محمد الفقيه الحنفي القدوري انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق‏.‏

وكان حسن العبارة في النظر وسمع الحديث وروى عنه الخطيب أبو بكر وصنف في مذهبه المختصر وغيره وكان يناظر الشيخ أبا حامد الاسفرائيني الفقيه الشافعي وقد تقدم في ترجمة أبي حامد ما بالغ القدوري في مدحته‏.‏

والقدوري نسبة إلى عمل القدور جمع قدر‏.‏

وفيها توفي الحافظ أحمد بن منجويه بالنون والجيم والمثناة من تحت بعد الواو رحل وسمع وصنف التصانيف‏.‏

وفيها توفي مهيار الشاعر المشهور الفارسي‏.‏كان مجوسياً فأسلم ويقال إن إسلامه كان على يد الشريف الرضي وعليه تخرج في نظمه وله ديوان كبير يدخل في أربع مجلدات‏.‏

ومن شعره‏:‏

يراها بعين الشوق قلبي على النوى ** فيخطىء ولكن من لعيني برؤياها

فالله ما أصفى وأكدر حبها ** وأبعدها مني الغداة وأدناها

وهما من قصيدة شهيرة‏.‏

وقال أبو الحسن صاحب دمية القصر‏:‏ ومن شعره أيضاً‏:‏ ملحاً على البخل الشحيح بماله أفلا يكون بماء وجهك أنجلا أكرم يديك عن السؤال فإنما قدر الحياة أقل من أن تسألا ولقد أضم إلي فضل قناعتي وأتيت مشتملاً بها متزملا وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرة وأمانياً أفنيتهن توكلا وفيها توفي الرئيس أبو علي المعروف بابن سينا الحكيم المشهور الحسين بن عبدالله ابن الحسن بن علي بن سينا‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ تنقل الرئيس ابن سينا في البلاد واشتغل بالعلوم وحصل الفنون ولما بلغ عشر سنين كان قد أتقن علم القرآن الكريم والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة وتوجه نحوهم الحكيم أبو عبدالله الناتلي بالنون والمثناة من فوق بين الألف واللام فأنزله أبو علي عنده وابتدأ يقرأ عليه فأحكم علم المنطق وإقليدس والمجسطي حتى فاق الناتلي بدرايتها‏.‏

وأوضح له رموزاً وفهمه إشكالات كان شيخه المذكور لا يدريها ومع ذلك كان يختلف في الفقه إلى اسماعيل الزاهد يقرأ ويبحث ويناظر ثم اشتغل بتحصيل علوم أخرى كالطبيعي والإلهي وغير ذلك ونظر في النصوص والشروح ففهم كل ذلك ثم رغب في علم الطب وتأمل الكتب المصنفة فيه وعالج هادياً لا متكسباً وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح فيه عديم القرين فقيد المثيل‏.‏

واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المكتسبة من التجربة وسنه إذ ذاك ست عشرة سنة - وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولا اشتغل بالنهار بنوى المطالبة وكان إذا أشكل عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله تعالى أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها - على ما ذكر بعض المورخين‏.‏

وذكر عند الأمير نوح بن نصر - صاحب خراسان - في مرض موته فأحضره وعالجه حتى برىء واتصل به وقرب منه ودخل إلى دار كتبه وكانت عديمة المثل فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فضلاً عن معرفته فظفر أبو علي منها بكتب الأوائل وغيرها وحصل نخب فوائدها واطلع على أكثر علومها واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة فتفزد أبو علي بما حصله من علومها ويقال‏:‏ إنه هو الذي توصل إلى إحراقها ليتفرد بمعرفة ما حصله منها وينسبه إلى نفسه ولم يستكمل ثمان عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها وقيل التي عاناها بأسرها ثم صار هو وأبوه يتصرفان في الأحوال ويتقلدان للسلطان الأعمال وجرت له تنقلات في البلدان وما فيها من دولة السلطان وإنه تولى الوزارة لشمس الدولة في همدان ثم تشوش العسكر وعمدوا إلى داره فنهبوها وقبضوا عليه وسألوا شمس الدولة في قتله فامتنع ثم اطلق فتوارى ثم مرض شمس الدولة بالقولنج فأحضره لمداواته واعتذر إليه وأعاده وزيراً‏.‏

وكان ابن سينا قوي المزاج يغلب عليه قوة الجماع حتى أضعفته ملازمته وعرض له قولنج فعالجه مراراً يصح أسبوعاً ويمرض أسبوعاً ومرض أمراضاً كثيرة وطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئاً كثيراً زائداً على ما رسمه الطبيب فعجزت المعالجات عن شفائها وأشرفت قواه على السقوط فأهمل المداواة واعترف بالعجز عن تدبير نفسه ثم اغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة ثم توفي في التاريخ المذكور في شهر رمضان بهمدان‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مختصر تنقلات جرت له في الأحوال والبلدان منها خوارزم وجرجان ودهستان وقزوين والري وبخارى وهمدان وأصفهان وبست وطوس واجتمع بولاتها لخوارزم شاه وشمس المعالي قابوس وشمس الدولة وعلاء الدولة وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه صنف كتاب الشفاء في الحكمة و النجاة و الإشارات و القانون وغير ذلك مما يقارب مائة تصنيف ما بين مختصر ومطول ورسالة في فنون شتى وله رسائل بديعة منها رسالة الطير وغيرها وهو أحد فلاسفة المسلمين وله شعر من ذلك قوله‏:‏ هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف وهي التي سفرت ولم تتبرقع وصلت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات تفجع أنفت وما ألفت فلما واصلت ألفت مجاورة الخراب البلقع وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ومنازلاً بفراقها لم تقنع حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها من ميم مركزها بذات الأجرع علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت بين المعالم والطلال الخضع حتى إذا قرب المسير الى الحمى ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع وغدت تفرد فوق ذروة شاهق والعلم يرفع كل من لم يرفع وقعود عالمه بكل خفية في العالمين فخرقها لم يرقع فهبوطها إن كان ضربة لازم ليكون سامعه بما لم تسمع فلأي شيء أهبطت من شاهق شام إلى قعر الحضيض الأوضع إن كان أهبطه الإله بحكمة طويت على الفطن اللبيب الأورع إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها قفص عن الأوج الفسيح الأرفع وكأنها برق تألف بالحمى ثم انطوى وكأنه لم يلمع قال وفضائله مشهورة كثيرة‏.‏

وكان الشيخ كمال الدين بن يونس - يقول‏:‏ إن مخدومه سخط عليه واعتقله ومات في السجن وكان ينشد‏:‏ رأيت ابن سينا يعادي الرجال وفي السجن مات أخس الممات فلم يشف ما نابه بالشفاء ولم ينج من موته بالنجاة انتهى قلت‏:‏ والشفاء والنجاة إشارة إلى كتابيه المتقدم ذكرهما ولقد طالعت كتاب الشفاء فلم شيخ الإسلام أستاذ الأنام في عصره‏:‏ شهاب الدين السهروردي رحمه الله أنه غسل كتابه الموسوم بالشفاء بإشارة قدسية نبوية يعني بإشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلت‏:‏ وقد ذكروا أنه تاب واشتغل بالتنسك فإن صح ذلك فقد أدركه الله تعالى لسابق عنايته وواسع رحمته حتى أحدث فيه لاحق توبته - والله أعلم بحقيقة ذلك وصحته‏.‏

وفيها توفي وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان ابن ناصر الدولة الحسين بن عبدالله بن حمدان الثعلبي كان شاعراً ظريفاً حسن السبك جميل المقاصد‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

إني لأحسد لا في أسطر الصحف ** إذا رأيت اعتناق اللام للألف

وما أظنهما طال اعتناقهما ** إلا لما لقيا من شدة الشغف

وأورد له الثعالبي في اليتيمة قالت‏:‏

لطيف خيال زارها ومضى بالله صفة لا تنقص ولا تزد فقال حلبت لو مات من ظمأ وقلت قف عن ورد الماء لم يرد قالت صدقت الوفا في الحب عادته يا برد ذاك الذي على كبدي وذكر بعضهم أن هذه الأبيات للشريف أبي القاسم أحمد بن طباطبا العلوي ولوجيه الدولة المذكور أشعار كثيرة حسنة شهيرة وكان قد وصل إلى مصر في أيام الظاهر بن الحكم العبيدي سنة تسع وعشرين واربع مائة فيها توفي الحافظ محدث هراة أبو يعقوب القراب بالقاف في أوله والموحدة في آخره على ما ضبطه بعضهم اسحاق بن ابراهيم السرخسي الهروي‏.‏

روى عن خلق كثير زاد عدة شيوخه على ألف ومائتين وصنف تصانيف كثيرة وكان صالحاً زاهداً مقلاً من الدنيا رجمه الله‏.‏

وفيها توفي العلامة في اللغة والشعر والعربية المصنف في الزهد وغيره يونس بن عبدالله بن محمد بن مغيث قاضي الجماعة بقرطبة‏.‏

وفيها توفي الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي الفقيه الشافعى الأصولى الأديب‏.‏

كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب فإنه كان متقناً له وله فيه تآليف نافعة وكان عارفاً بالفرائض والنحو وله أشعار‏.‏

وكان ذا مال وثروة وإنفاق على أهل العلم والحديث ولم يكتسب بعلمه مالاً وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ودرس في سبعة عشر فناً وكان قد تفقه على الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني وجلس بعده للإملاء في مكانه سنين واختلف الأئمة إليه فقرؤوا العلوم عليه مثل الأستاذ زين الإسلام القشيري والإمام ناصر المروزي وغيرهما‏.‏

 سنة ثلاثين واربع مائة

فيها توفي الإمام الحافظ الشيخ العارف أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني الصوفي صاحب كتاب حلية الأولياء كان من أعلام المحدثين وأكابر الحفاظ المفيدين أخذ عن الأفاضل وأخذوا عنه وانتفعوا به‏.‏

وكتابه الحلية من أحسن الكتب‏.‏

قلت‏:‏ أما طعن ابن الجوزي فيها وتنقصه لها فهو عن باب قولي‏.‏

لئن ذمها جاراتها وضرائر وعين جمالاً في حلاها وفي الحلي فما سلمت حسناء من ذم حاسد وصاحب حق من عداوة مبطل مع أبيات أخرى في مدح الإمام أبي حامد الغزالي وتصانيفه وكلامه الغالي وله كتاب تاريخ أصفهان تفرد في الدنيا بعلو الإسناد مع الحفظ‏.‏

روى عن المشايخ بالعراق والحجاز والخراسان وصنف التصانيف المشهورة في الأقطار‏.‏

وفيها توفي أبو منصور الثعالبي عبد الملك بن محمد النيسابوري الأديب اللبيب الشاعر صاحب التصانيف الأدبية السائرة في الدنيا وراعي بلاغات العلم وجامع أشتات النظم‏.‏

سار ذكره سير المثل وضربت إليه آباط الإبل وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب‏.‏

ومن نظمه‏:‏

لك في المفاخر معجزات جمة ** أبداً لغيرك في الورى لم تجمع

بحران يجري في بلاغة شأنه ** شعر الوليد وحسن لفظ الأصمع وإذا تفتق نور شعرك ناظراً ** فالحسن بين مرصع ومصرع

نقشت في فص الزمان بدائعاً ** تزرى بآثار الربيع الممرع

مع أبيات أخرى كتبها إلى الأمير أبي الفضل الميكالي‏.‏

وله من التآليف كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو أكبر كتبه وأحسنها وفيه يقول أبو الفرح الإسكندري‏:‏ أبيات أشعار اليتيمة أبكار أفكار قديمة ماتوا وعاشت بعدهم فذاك سميت اليتيمة قيل و الثعالبي‏:‏ نسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها‏.‏

وله كتاب فقه اللغة و سحر البلاغة وسر البراعة و مؤنس التوحيد وشعر كثير هو له مجيد جمع فيه أشعار الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم‏.‏

وفيها توفي أبو القاسم عبد الملك بن بشران البغدادي الواعظ‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان ثقة ثبتاً صالحاً وكان الجمع في جنازته يتجاوز الحد ويفوت الانحصار‏.‏

 سنة احدى وثلاثين وأربعمائة

فيها توفي القاضي المقرىء المحدث أبو العلاء الواسطي محمد بن علي بن أحمد‏.‏

وفي نيف وثلاثين توفي الفقيه الإمام أحد العلماء الأعيان أول من جمع بين طريق العراق وخراسان الحسن بن علي السنجي صاحب شرح فروع ابن الحداد‏.‏

استولت فيها السلجوقية بالسين المهملة والجيم والقاف على جميع خراسان‏.‏وفر السلطان مسعود إلى غزنة‏.‏

والحرب في بغداد بين الرافضة والسنية‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو العباس جعفر بن محمد بن المستغفر بن الفتح النسفي صاحب التصانيف الكثيرة‏.‏سنة ثلاث وثلاثين واربع مائة فيها توفي السلطان المسعود ابن السلطان محمود‏.‏

والرئيس أحمد بن محمد أبو الحسين الأصفهاني وراوي المعجم الكبير عن الطبراني‏.‏والقاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الدينوري سمع سنن النسائي من ابن السني وحدث به‏.‏

 سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

فيها كانت الزلزلة العظمى بتبريز فهدمت أسوارها وأحصى من هلك تحت الهدم فكانوا أكثر من أربعين ألفاً نسأل الله العفو والعافية‏.‏وفيها توفي الحافظ أبو ذر الهروي الأنصاري الفقيه المالكي نزيل مكة روى الصحيح عن ثلاثة من أصحاب القريري وجمع لنفسه معجماً وعاش ثمانياً وسبعين سنة وكان ثقة متقناً ديناً عابداً حافظاً بصيراً باللغة والأصول أخذ علم الكلام عن الباقلاني وصنف مخرجاً على الصحيجن وكان شيخ الحرم في عصره ثم تزوج بالسروا سنة خمس وثلاثين واربع مائة فيها توفي جلال الدولة‏.‏

وأبو الحزم جهور محمد بن جهور أمير قرطبة ورئيسها وصاحبها‏.‏سنة ست وثلاثين واربع مائة توفي فيها الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين‏.‏كان نقيب الطالبين وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر وهو أخو الشريف الرضي المقدم ذكره في سنة ست وأربعمائة‏.‏

بين موتيهما ثلاثون سنة‏.‏

وللمرتضى تصانيف على مذهب الشيعة ومقالة في أصول الدين وله ديوان شعر كثيرة وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه هل هو جمعه أو جمع أخيه الرضي وقد قيل إنه ليس من كلام علي وإنما أحدهما هو الذي وضعه ونسبه إليه والله تعالى أعلم‏.‏

وله الكتاب الذي سماه الدرر والغرر وهي مجالس املأها يشتمل على فنون من معاني الأدب تكلم فيها على النحو واللغة وغير ذلك وهو كتاب يدل على فضل كبير وتوسع في الاطلاع على العلوم‏.‏

وذكره ابن بسام الأندلسي في أواخر كتاب الذخيرة فقال‏:‏ هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق إليه فرغ علماؤها وأخذ عنه عظماؤها صاحب مدارسها وجامع شاردها وآنسها ممن سارت أخباره وعرفت بها أشعاره وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره وتواليفه في أصول الدين وتصانيفه في أحكام المسلمين مما يشهد أنه فرغ تلك الأصول وأهل ذاك البيت الجليل وأورد له عدة مقاطع فمن ذلك قوله‏:‏ ولما تفرقنا كما شاءت النوى بين ود خالص وتودد كأني وقد سار الخليط عشية أخو جنة مما أقوم وأقعد قيل ومعنى البيت الأول من هذين البيتين مأخوذ من قول المتنبي‏:‏ إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى ومما نسب إلى المرتضي أيضاً رضي الله تعالى عنه‏:‏ مولاي يا بدر كل داجية خذ بيدي قد وقعت في اللجج حسنك ما تنقضي عجائبه كالبحر جد عنه بلا حرج بحق من خط عارضيك ومن سلط سلطانها على المهج مد يديك الكريمتين معاً ثم إدع لي من هواك بالفرج وحكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة ودعته الحاجة إلى بيعها فباعها واشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً وتصفحها فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي‏:‏ أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال وجدي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شؤوني وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين وهذا الفالي منسوب إلى فالة بالفاء وهي بلدة بخوزستان وملح الشريف المرتضى وفضائله كثيرة‏.‏

وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو الحسن البصري المتكلم محمد بن علي شيخ المعتزلة والذي قبله أعني الشريف المرتضى شيخ الشيعة من كبار أئمتهم‏.‏

وأبو الحسين من كبار أئمة المعتزلة جيد الكلام حسن العبارة غزير المادة وله التصانيف الفائقة في أصول الفقه منها المعتمد وهو كتاب كبير نفيس ومنه ومن المستصفى الإمام أبي حامد الغزالي استمد فخر الدين الرازي في تصنيف كتابه المحصول ولأبي الحسين تصفح الأدلة و عزير الأدلة وله شرح الأصول الخمسة وله كتاب في الإمامة وغير ذلك‏.‏

وفيها توفي أبو عبد الله الصيمري الفقيه أحد أئمة الحنفية‏.‏

 سنة سبع وثلاثين واربع مائة

فيها توفي شيخ الأندلس وعالمها ومقرئها وخطيبها أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي كان من أهل التبحر في العلوم كثير التصانيف وكان مشهوراً بالصلاح وإجابة الدعوة رحمه الله تعالى ومما روي في إجابة دعوته أنه كان إنسان يتسلط عليه ويحصي عليه سقطاته وكان الشيخ كثيراً ما يتلعثم ويتوف فحضر ذلك الرجل في بعض الجمع وجعل يحد النظر إلى الشيخ ويغمزه فلما خرج مضى ونزل في الموضع الذي كان يقرأ فيه ثم قال لنا‏:‏ أمنوا على دعائي ثم رفع يديه وقال‏:‏ اللهم اكفنيه قال‏:‏ فأمنا فأقعد ذلك وما دخل الجامع بعد ذلك اليوم‏.‏

وله تصانيف كثيرة نافعة فمنها الهداية إلى بلوغ النهاية في معاني القرآن الكريم وتفسيره وأنواع علومه وهو سبعون جزءاً ومنتخب الحجة لأبي علي الفارسي ثلاثون جزءاً وكتاب التبصرة في القراءات في خمسة اجزاء وهو من أشهر تواليفه - وكتاب الكشف عن وجوه القراءات وعللها عشرون جزءاً وكتاب الوقف في كلا وبلى في القرآن جزءان وكتاب تنزيه الملائكة عن الذنوب وفضلهم على بني آدم جزء وكتاب اختلاف العلماء في الروح والنفس جزء وكتاب شرح التمام والوقف أربعة أجزاء وغير ذلك ومجموع تصانيفه نحو من أربعين مصنفاً بعضها مشتمل على أجزاء كثيرة‏.‏

وفيها توفي الإمام الأوحد القاسم بن محمد بن عبدالله القرشي الجمحي من أهل شمعة من بلاد اليمن‏.‏

لما تفرقت قريش عن الحجاز سكن قوم منهم بسهفنة وكان هو وأهله منهم ومات فيها وهو الذي انتشر عنه مذهب الشافعي في نواحي الجند وصنعاء والمعافر والسحول وعدن ولحج وأبين ومنه استفاد فقهاء هذه البلاد المذكورة كانت مدرسته في سهفنة وكان تفقه وتعلم في ابتداء أمره في زبيد على بكر بن المصرف بمختصر المزني وبعض شروحه وكان له رحلة إلى مكة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ولقي فيها أبا بكر أحمد بن ابراهيم المروزي فأخذ عنه كتاب السنن عن أبي داؤد سليمان بن الأشعث وسمع عنه موطأ الإمام مالك‏.‏

وكان قد جمع مع الفقه والحديث والكلام وأصول الفقه علم القراءات ومعاني القرآن وكان فقيهاً اجتمع عليه القريب والبعيد من البلاد وأخذ عنه العلم خلق كثير‏.‏