فصل: سنة سبع وثمانين وثلاثمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 ست وثمانين وثلاثمائة

فيها توفي شيخ الإسلام قدوة الأولياء الكرام أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب محمد بن علي بن عطية الحارثي نشأ بمكة وتزهد ولقي الصوفية وصنف ووعظ وكان في البداية صاحب رياضة ومجاهدة وفي النهاية صاحب أسرار ومشاهدة وأستاذه الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو الحسن بن سالم البصري‏.‏

وفيها توفي العزيز بالله أبو منصور نزار بن المعز بالله معد بن المنصور إسماعيل القاسم بن محمد بن المهدي العبيدي الباطن صاحب المعز ومصر والشام ولي الأمر بعد أبيه‏.‏

وكان شجاعاً جواداً حليماً قريباً من الناس لا يحب سفك الدماء له أدب وشعر وكان مغرماً بالصيد وقام بعده ابنه الحاكم‏.‏

وذكر بعض المؤرخين أنه هو الذي اختط أساس الجامع بالقاهرة مما يلي باب الفتوح وفي أيامه بني قصر البخرة بالقاهرة الذي لم يبن مثله شرقاً ولا غرباً وقصر الذهب وجامع القرافة‏.‏

وقيل‏:‏ كتب نزار المذكور إلى المرواني صاحب الأندلس كتاباً يسبه فيه ويهجوه فكتب إليه‏:‏ أما بعد فإنك قد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفتك لأجبتك والسلام فاشتد على نزار وأقحم عن الجواب وأكثر أهل العلم بالأنساب لا يصححون نسب العبيديين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما حكاه بعضهم‏.‏

قلت وسيأتي ذكر الطعن في نسبه في محضر فيه خطط جماعة من الأئمة المشهورين في العراق وفي مبادي ولاية العزيز المذكور صعد المبرد يوم الأحد فوجد هناك ورقة فيها مكتوب‏.‏

إنا سمعنا نسباً منكراً يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما تدعي صادقاً فاذكر ما بعد الأب الرابع وإن ترد تحقيق ما قلته فأنسب لنا نفسك كالطائع وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن حسن الأسترابادي ختن أبي بكر الإسماعيلي وكان صاحب وجه في المذهب وله مصنفات وكان أديباً بارعاً مفسراً مناظراً‏.‏

روى عن أبي نعيم عبد الملك بن عدي الجرجاني وعاش خمساً وسبعين سنة وتوفي يوم عرفة رحمه الله تعالى‏.‏

 سنة سبع وثمانين وثلاثمائة

فيها توفي الشيخ العارف المنطق بالحكم والمعارف والحبر الواعظ الإمام السيد جليل قدوة الأنام سني الأحوال الذي على فضله الأفاضل مجمعون عالي المقام أبو حسين محمد بن أحمد المعروف بابن شمعون‏.‏قال الإمام الحافظ أبو بكر بن إسماعيل‏:‏ أبو الحسين الواعظ المعروف بابن شمعون كان واحد دهره وفريد عصره في الكلام على الخواطر والإشارات ولسان الوعظ دون ناس حكمه وجمعوا كلامه قال‏:‏ وكان بعض شيوخنا إذا حدث عنه قال‏:‏ حدثنا الشيخ جليل المنطق بالحكمة أبو الحسين بن شمعون‏.‏

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ محمد بن أحمد بن شمون لسان الوقت والمرجوع إليه في آداب الظاهر يذهب إلى أشد المذاهب وهو إمام التكلم على هذا الشأن في الوقت والمعبر عن الأحوال بألطف بيان مع ما يرجع إليه من صحة الاعتقاد وصحبة الفقراء‏.‏

وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الأصفهاني خادم الشيخ أبي بكر الشبلي قال‏:‏ كنت بين يدي الشبلي في الجامع يوم الجمعة فدخل أبو الحسين ابن شمعون وهو صبي على رأسه قلنسوة فجاز علينا وما سلم فنظر الشبلي إلى ظهره وقال‏:‏ يا أبا بكر‏:‏ أتدري أي شيء لله تعالى في هذا الفتى من الذخائر‏.‏

وبسند الحافظ أبي القاسم إلى النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأموي قال‏:‏ كان القاضي أبو بكر الأشعري وأبو حامد يقبلان يد ابن شمعون يعني الإمامين ناصر السنة وقامع البدعة شيخ الأكابر من أئمة الأصول الجهابذة الحذاق والإمام الكبير السيد الشهير شيخ طريقة العراق‏.‏

قال‏:‏ وكان القاضي - يعني الباقلاني - يقول‏:‏ ربما خفي علي من كلامه بعض شيء لدقته‏.‏

وروى الحافظ أبو القاسم أيضاً بسنده‏:‏ إنه كان في أول عمره ينسخ بأجرة ويعول بأجرة نسخه على نفسه وعلى أمه وكان كثير البر لها فجلس يوما ينسخ وهي جالسة بقربه فقال لها‏:‏ أحب أن أحج قالت‏:‏ يا ولدي كيف يمكنك الحج وما معك نفقة ولا لي ما أنفقه‏.‏

إنما عيشنا من أجرة هذا النسخ وغلب عليها النوم فنامت وانتبهت بعد ساعة فقالت‏:‏ يا ولدي حج فقال لها‏:‏ منعت قبل النوم وأذنت بعده‏.‏

فقالت‏:‏ رأيت الساعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول‏:‏ دعيه فإن الخيرة له في حجه في الآخرة والأولى‏.‏

ففرح وباع من دفاتره ماله قيمة ودفع إليها من ثمنها نفقتها وخرج مع الحجاج فأخذ العرب الحاج وأخذ في الجملة‏.‏

قال ابن شمعون‏:‏ فبقيت عرياناً فوجدت مع رجل عباءة كانت على عدل فقلت له‏:‏ هب لي هذه العباءة أستر نفسي بها فقال‏:‏ خذها فجعلت نصفها على وسطي ونصفها على كتفي وكان عليها مكتوب‏:‏ يا رب سلم مبلغ رحمتك يا أرحم الراحمين‏.‏

وكنت إذا غلب علي الجوع ووجدت قوماً يأكلون وقفت أنظر إليهم فيدفعون إلي كسرة فأقنع بها ذلك اليوم‏.‏

ووصلت إلى مكة فغسلت العبادة وأحرمت بها وسألت أحد بني شيبة أن يدخلني البيت‏.‏

وعرفته فقري فأدخلني بعد خروج الناس وأغلق الباب فقلت‏:‏ اللهم أنك بعلمك غني عن إعلامي بحالي اللهم ارزقني معيشة أستغني بها عن سؤال الناس فسمعت قائلاً يقول من ورائي‏:‏ اللهم إنه ما يحسن أن يدعوك اللهم ارزقه عيشاً بلا معيشة‏.‏

فالتفت فلم أر أحداً فقلت‏:‏ هذا الخضر أو أحد الملائكة الكرام على الجميع السلام قال‏:‏ فأعدت القول فأعاد الدعاء فأعدت فأعاد ثلاث مرات وعدت إلى بغداد وكان الخليفة قد حرم جارية من جواريه وأراد إخراجها من الدار فكره ذلك إشفاقاً عليها‏.‏قال أبو محمد ابن السني‏:‏ فقال الخليفة‏:‏ اطلبوا رجلاً مستوراً يصلح أن يزوج هذه الجارية‏.‏

فقال بعض من حضر‏:‏ قد وصل ابن شمعون من الحج وهو يصلح لها فاستصوب الجماعة قوله وتقدم بإحضاره وبكل حضار الشهود فأحضروا وزوج بالجارية ونقل معها من المال والثياب والجواهر ما يحمل بالملوك‏.‏

وكان ابن شمعون يجلس على الكرسي للوعظ فيقول‏:‏ أيها الناس خرجت حاجاً وكان من حالي كذا وكذا وشرح حاله جميعه وأنا اليوم علي من الثياب ما ترون ووطئتي ما تعرفون ولو وطئت على العتبة تألمت من الدلال ونفسي تلك‏.‏

وروى الحافظ والخطيب عنه‏:‏ إنه خرج من مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصداً بيت المقدس وحمل في صحبته تمراً صيحانياً فلما وصل إلى بيت المقدس طالبته نفسه بأكل الرطب فأقبل عليها باللائمة وقال‏:‏ من أين لنا في هذا الموضع رطب‏.‏

فلما كان وقت الافطار عمد إلى التمر ليأكل منه فوجده رطباً صيحانياً فأكل منه شيئاً ثم عاد إليه من الغد فوجده تمرا على حالته فأكل منه أو كما قال‏.‏

وكان له حسن الوعظ وحلاوة الإشارة ولطف العبارة‏.‏

أدرك جماعة من جلة المشايخ وروى عنه منهم الشيخ الكبير العارف أستاذ الطريقه ولسان الحقيقة وبحر المعارف أبو بكر الشبلي وروى عن أبي بكر بن داود وجماعة وأملى عدة مجالس وروى الصاحب بن عباد قال‏:‏ سمعت ابن شمعون يوماً وهو على الكرسي في مجلس وعظ يقول‏:‏ سبحان من أنطق باللحم وبصر بالشحم وأسمع بالعظم إشارة إلى اللسان والعين والأذن وهذه عن لطائف الاشارات‏.‏

ومن كلامه أيضاً‏:‏ رأيت المعاصي نزلة فتركتها مروءة فاستحالت ديانة‏.‏

وله كل معنى لطيف كان لأهل العراق فيه اعتقاد كثير ولهم به غرام شديد وإياه عنى الحريري في المقامة الحادية والعشرين وهي الرازية بقوله في أوائلها‏:‏ رأيت ذات بكرة زمرة أسرر تمرات‏.‏

وهم منتشرون انتشار الجراد مستنون استنان الجياد ومتواصفون واعظاً يقصدونه ويجعلونه ابن شمعون دونه وكان مولده سنة ثلاثمائة وتوفي رحمه الله في نصف ذي القعدة يوم الجمعة وقيل ذي الحجة من السنة المذكورة ولم يخلف ببغداد بعده مثله رحمه الله‏.‏وفيها توفي أبو طاهر ابن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي‏.‏

والفقيه الإمام أبو عبد الله ابن بطة الحنبلي‏.‏

 ثمان وثمانين وثلاثمائة

فيها توفي الحافظ أبو بكر أحمد بن عبدان الشيرازي الصيرفي كان من كبار المحدثين‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله‏:‏ حسيين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي الصيرفي‏.‏

كان عجباً في حفظ الحديث وسرده‏.‏

وفيها توفي الإمام الكبير الخير الشهير أبو سليمان الخطابي أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي الشافعي‏.‏

كان فقيهاً أديباً محدثاً وله التصانيف البديعة منها ‏"‏ أعلام السنن ‏"‏ في شرح البخاري و ‏"‏ معالم السنن ‏"‏ في شرح سنن أبي داود و ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ و ‏"‏ كتاب إصلاح غلط المحدثين ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الشرح ‏"‏ و ‏"‏ كتاب بيان الدعاء ‏"‏ وغير ذلك سمع بالعراق أبا وروى عنه الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري وعبد الغفار بن محمد الفارسي وأبو القاسم عبد الوهاب بن أبي سهل الخطابي وذكر صاحب يتيمة الدهر وأنشد له‏:‏ وما غمة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكلي وإلى غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أصلي قلت يعني بالشكلي‏:‏ المشاركة في أوصافه وأسرة الرجل بالضم رهطه والغمة بالضم الكربة‏.‏

وأنشد له أيضاً‏:‏ فسامح ولا تستوف حقك كله وأبق فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم قلت هكذا يحفظ ذميم وفي الأصل الذي وقفت عليه من نقل ابن خلكان سليم ومعناه غير صحيح فإن الطرفين إما إفراط وإما تفريط‏.‏

قالوا‏:‏ وكان يشبه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلام علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً‏.‏

والبستي بضم الموحدة وسكون السين المهملة والمثناة من فوق نسبة إلى بست‏:‏ مدينة من بلاد كابل بين هراة وغزنة كثيرة الأشجار والأنهار‏.‏

قال الحاكم أبو عبد الله‏:‏ سألت أبا القاسم المظفر بن طاهر عن اسم أبي سليمان الخطابي‏:‏ أحمد أو حمد فقال‏:‏ سمعته يقول اسمي الذي سميت به حمد ولكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه‏.‏

وقال أبو القاسم المذكور‏:‏ أنشدنا أبو سليمان لنفسه‏:‏ ما دمت حياً فدار الناس كلهم فإنما أنت في دار المداراة من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى عما قليل نديماً للندامات قلت داري قوله هذا‏:‏ مأخوذ من القول السائر في ألسنة الناس متضمناً للجناس‏:‏ ‏"‏ دارهم ما دمت في دارهم ‏"‏ قلت‏:‏ وهذا الإطلاق الذي أطلقه وأجمله أرى فيه تقييداً وتفصيلاً وقد خطر لي وقت وقوفي على هذين البيتين معارضتهما ببيتين فقلت‏:‏

إن كنت بالناس مشغولاً فدارهم ** أو كنت بالله ذا شغل وهمات

فلا تعلق سوى بالله ذائقة ** إن المهيمن كافيك المهمات

وفيها توفي الحاتمي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي أحد الأعلام المشاهير المطلعين المكثرين‏.‏

أخذ الأدب عن أبي عمرو الزاهد المعروف بالمطرز غلام ثعلب‏.‏

روى عنه وعن غيره أيضاً وأخذ عنه جماعة من النبلاء منهم القاضي أبو قاسم التنوخي وله الرسالة الحاتمية التي شرح فيها ما جرى بينه وبين المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره ولقد دلت رسالته على غزارة مادته وتوقر إطلاعه وسماها الموضحة وهي كثيرة في اثنتي عشرة كراسة شهدت لصاحبها بالفضل الباهر مع سرعة الاستحضار وإقامة الشاهد وله ‏"‏ كتاب حلية المحاضرة ‏"‏ يدخل في مجلدين و ‏"‏ الحاتمي ‏"‏ نسبة إلى بعض أجداد له اسمه حاتم‏.‏

حكى في أول رسالته المذكورة السبب الحامل له على إنشائها فقال‏:‏ لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينه السلام منصرفاً عن مصر ومتعرضاً للوزير أبي محمد المهلبي بالتخيم عليه والمقام لديه التحف رداء الكبر وأرسل ذيول التيه ونأى بجانبه استكباراً وثنى عطفه وازدراءاً‏.‏

وكان لا يلاقي أحداً إلا أعرض عنه بها وزخرف عليه القول تمويهاً تخيل عجباً إليه أن الأدب مقصور عليه وأن الشعر بحر لم يرد به غيره وروض لم ير نواره سواه فهو يجني جناه ويقطف قطوفه دون من تعاطاه وكل مجرى في الخلاء يستر ولكل نبأ مستقر فغير جار على هذه الوتيرة مديدة أحرز به رسن البغي فيها فظل يموج في تيهه حتى إذ تخيل لأنه السابق الذي لا يجارى في مضمار ولا يساوى عذاره بعذار وأنه رب الكلام ومفضض عذارى الألفاظ ومالك رق الفصاحة‏.‏

نثراً ونظماً وقريع دهره الذي لا يقارع فضلاً وعلماً وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب وأنيط من مائه أعذب مشرب فطأطأ بعض رأسه وخفض بعض جناحيه وظاهر من أعلى التسليم له طرفة‏.‏

وساء معز الدولة أحمد بن بويه وقد صورت حاله أن يرد حضرته - وهي دار الخلافة ومستقر العز بيضة الملك - رجل صدر عن حضرته سيف الدولة ابن حمدان وكان عدواً مبايناً لمعز الدولة فلا يلقى أحداً بمملكته يساويه في صناعته وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية والهمة التي لو هممت بالدهر لما قصرته بالإحراز صروفه ولا دارت عليهم دوائره وحنوقه وتخيل الوزير المهلبي رجماً بالغيب أن أحداً لا يستطيع مساجلته ولا يرى نفسه كفوءاً له ولا يصلح بأعيانه فضلاً عن التعلق بشيء من معانيه ولم يكن هناك مزية يتميز أبو الطيب بها تميز الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلاً عن العتيق القارح إلا الشعر ولعمري إن افتاته كانت فيه ريطبة ومجانبة عذبة له منيعاً عواره معلماً أظفاره ومذيعاً أسراره وناشراً مطاويه ومنقذاً من نظمه ما تسمح فيه ومتوخياً أن يجمعنا دار يشار إلى ربها فأجري أنا وهو في مضمار ويعرف فيه السابق من المسبوق واللاحق من المقصر عن اللحوق وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار وزند في كل فضيلة ودار وفظيع يناسب صفو العقار إذا وصبت بالحباب ووسبت به سرائر الأكواب والخيل تجري يوم الرهان بإقبال أربابها لا بعروقها ونصابها ولكل امرىء حظ من مواتاة زمانه يقضى في ظله أرب وبذلك مطلب ويتوسع مراد ومذهب حتى إذا عدت عن اجتماعنا عواراً من الأنام قصدت مستقره وتحتي بغلة سفوا تنظر عن عيني بارويتشوف بمثل قادمتي نسر كأنني كوكب وقاد من تحته عمامة يقتادها زمام الجنوب ومن بين يدي عدة من الغلمان الورقة مماليك وأحرار يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه ولم أذكر هذا تبجحاً ولا تكبراً بل لأن أبا الطيب شاهد جميعه ولم يرعه روعته ولا استنطفه زبرجه ولا زادته تلك الحالة الجميلة التي ملأت طرفه وقلبه إلا عجباً بنفسه وإعراضاً عني بوجهه فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئاً من شعره فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعاً ووارى شخصه مستخفياً فأعجلته نازلاً عن البغلة - وهو يراني - ودخلت فأعظمت الجماعة قدري وأجلستني في مجلسه وإذا تحته أحلاق عناقد الحب عليها الحوادث فهي رسوم دائرة وأسلاك متناثرة فلم يكن إلا ريثما جلست فنهضت ووفيته حق السلام غير مشاح له في القيام لأنه إنما اعتمد نهوضه عن الموضع لئلا ينهض إلي والغرض في لقائه غير ذلك وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر‏:‏

وفي الممشى إليك علي عار ** ولكن الهوى منع القرارا

فتمثل بقول الآخر‏:‏

يسقى رجال ويسقى آخرون بهم ** ويسعد الله أقواماً بأقوام

وليس رزق الفتى من فضل حليته ** لكن جدود وأرزاق بأقسام

وإذا به لابس سبعة أقبية كل قباء منها لون وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه فجلست مستوفزاً وجلس محتقراً وأعرض عني لاهياً وأعرضت عنه ساهياً أؤنب نفسي في قصده وأستخف رأيها في تكفف ملاقاته بعز هيئته ثانياً عطفه لا يعيرني طرفه وأقبل على تلك الرغفة التي بين يديه وكل يومىء إليه ويرجي بلحظه ويشير إلى مكاني بيده ويوقظه من سنته وجهله ويأتي الازدراء نفاراً وعتواً واستكباراً ثم أيان يثني جانبه إلي ويقبل بعض الإقبال علي فأقسمت بالوفاء والكرم فإنهما من محاسن القسم أنه لم يزد علي أن قال‏:‏ ايش خبرك‏.‏

فقلت‏:‏ بخير ولا ما جنيت على نفسي من قصدك ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك وتجشمت رأيي من السعي إلى مثلك ممن لم تهذبه تجربة ولا أدبته بصرة ثم تحدرت عليه تحدر لسيل إلى قوارة الوادي وقلت له‏:‏ أبن لي مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وكبرياؤك وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك‏.‏

والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك لا يطول اليك ذراعك هل هاهنا نسب تنتسب إلى المحدثة أو شرف علقت بأذياله أو سلطان تسلطت بعزه أو علم يقع الإشارة إليك به‏.‏

إنك لو قدرت نفسك بقدرها أو وزنتها بميزانها ولم يذهب بك البتة مذهباً لما عددت أن تكون شاعراً مكتسباً فامتقع لونه وغض بريقه وجعل يلين في الاعتذار ويرغب في الصفح والاعتذار ويكرر الإيمان أنه لم يتبين ولا اعتمد التقصير في‏.‏

فقلت‏:‏ يا هذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه أو عظيم في أدب صغرت أدبه أو متقدم عند سلطان حفظت منزلته فهل المجد تراث لك دون غيرك كلا والله لكنك مددت الكبر ستراً على نقصك وضربته رواقاً حائلاً دون مباحثك فعاود الاعتذار نقلت‏:‏ لا عذر لك مع الإصرار وأخذت الجماعة في الرغبة أني في مباشرته وقبول عذره واستعمال الأناة الذي تستعملها الحرمة عند الحفيظة وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفة ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي فأقول لم يستأذن عليك باسمي ونسبي أما في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني وهب أن ذلك كذلك ألم تر شاربي‏.‏

أما شممت عطر نشري ألم تميز في نفسك عن غيرك‏.‏

وهو في أثناء ما أخاطب به وقد ملأت سمعه تأنيباً وتفنيداً يقول‏:‏ خفف عليك أكفف عن عزتك اردد من صورتك فإن الأناة من شيم مثلك فأصحب حينئذ جانبي له يعني‏:‏ انقاد بعد صعوبته ولانت عريكتي في يده واستحييت من تجاوز الغاية التي انتهيت إليها في معاتبة وذلك بعد أن روضته رياضة الصعب من الإبل وأقبل علي معظماً وتوسع في تقريظي مفخماً وأقسم أنه ينازع منذ ورد العراق ملاقاتي ويعد نفسه بالاجتماع معي ويسومها التعلق بأسباب مودتي فحين استوفى القول في هذا المعنى استأذن عليه فتى من الفتيان الطالبين الكوفيين فأذن له فإذا حدث مرهف الأعطاف يمثل به نشوة الصبي فتكلم فأعرب عن نفسه وإذا لفظ رخيم ولسان حلو وأخلاق فكهة وجواب حاضر وثغر باسم في إناة الكهول ووقار المشايخ فأعجبني ما شاهدته من شمائله وملكني ما تبئنته من فضله فجازاه أبياتاً‏.‏

ومن ها هنا كان افتتاح الكلام بينهما في إظهار سرقاته ومعايب شعره‏.‏

قلت هذا ما نقله ابن خلكان مع خلل في ألفاظ يسيرة من نقله قال‏:‏ وقد طال الكلام لكنه لزم بعضه بعضاً فما أمكن قطعه وهذه الرسالة تشتمل على فوائد جمة فإن كان كما ذكر أنه أبان له جميعها في ذلك المجلس فما هذا الاطلاع عظيم‏.‏

قلت‏:‏ والأمر على ما ذكر ابن خلكان أعني إن كان هذا الكلام صدر عنه في مجلس واحد فقد أبدع ما صنع وجمع من الفوائد‏.‏

 تسع وثمانين وثلاثمائة

فيها توفي الإمام الكبير الشهير أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي شيخ المغرب وإليه انتهت رئاسة المذهب‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ حاز رئاسة الدين والدنيا رحل إليه من الأقطار ونجب أصحابه وكثر الآخذون عنه وهو الذي لخص المذهب وملأ البلاد من تآليفه وفيها توفي أبو الطيب ابن غلبون الحلبي المقرىء الشافعي صاحب الكتب في القراءات‏.‏

وفيها توفي أبو الهيثم الكشميهني محمد بن مكي المروزي راوية البخاري عن الفربري وله رسائل أنيقة‏.‏

توفي يوم عرفة رحمه الله‏.‏

 تسعين وثلاثمائة

فيها توفي ابن فارس اللغوي أبو الحسين أحمد بن فارس الرازي‏.‏

كان إماماً في علوم شتى‏.‏

وخصوصاً اللغة فإنه أتقنها وألف ‏"‏ كتاب المجمل ‏"‏ فيها جمع على اختصاره شيئاً كثيراً وله ‏"‏ كتاب حلية الفقهاء ‏"‏ ورسائل أنيقة ومسائل في اللغة تفانى بها الفقهاء ومنه اقتبس الحريري صاحب المقامات ذلك الأسلوب ووضع المسائل الفقهية في المقامة الطيبية وهي مائة مسألة وكان مقيماً بهمدان وعليه اشتغل بديع الزمان الهمداني صاحب المقامات المتقدمة على مقامات الحريري وله أشعار جيدة فمنها قوله‏:‏ وقالوا‏:‏ كيف حالك قلت‏:‏ صبراً يقضي حاجة وتفوت حاج إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا عسى يوماً يكون بها انفراج وله شعر‏:‏ تريق بطرف فاتر فاتن أضعف من حجة نحوي وقوله‏:‏ إذا كنت في حاجة مرسلاً وأنت بها كلف مغرم فارسل حكيماً ولا توصه وذاك الحكيم هو الدرهم وغير ذلك من أشعار حذفتها للاختصار‏.‏

وفيها توفيت أمة الإسلام بنت القاضي أحمد بن كامل البغدادية كانت دينة حافظه فاضلة رحمها الله تعالى‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو زرعة الكشي محمد بن يوسف الجرجاني‏.‏

وفيها توفي القاضي أبو الفرج النهرواني المعافى بن زكريا الجريري تفقه على مذهب محمد بن جرير الطبري وسمع من البغوي وطبقته‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كان من أعلم الناس في وقته بالفقه والنحو واللغة وأصناف الآداب‏.‏

وله شعر حسن ومنه ما روى القاضي أبو الطيب‏:‏ ألا قل لمن كان لي حاسداً أتدري على من أست الأدب أسأت على الله في فعله لأنك لم ترض لي ما وهب فجازاك عني بأن زادني وشد عليك وجوه الطلب وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في ‏"‏ كتاب طبقات الفقهاء ‏"‏ وأثنى عليه ثم قال وأنشدني قاضي بلدنا أبو علي الداودي قال‏:‏ أنشدني أبو الفرج لنفسه‏:‏

أأقتبس الضياء من الضباب ** وألتمس الشراب من السراب

أريد من الزمان النذل بدلاً ** وأربأ من جنى سلع وصاب

أرجي أن ألاقي لاشتياقي ** خيار الناس في زمن الكلاب

يعني ما لا يرى العسل ومن شعره أيضاً‏:‏

مالك العالمين ضامن رزقي ** فلماذا أملك الخلق رقي

قد قضى لي بما علي ** ومالي خالقي جل ذكره قبل خلقي

صاحب البذل والندى في يساري ** ورفيقي في عسرتي حين رفقي

فكما لا يرد عجز رزقي ** فكذا لا يجر رزقي حذقي

وله عدة تصانيف ممتعة في الأدب و ‏"‏ كتاب الجليس والأنيس ‏"‏ تصنيفه‏.‏وروى عن الفقيه عبد الباقي أنه كان يقول‏:‏ إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها ولو أوصى رجل بشيء أن يدفع إلى أعلم الناس لوجب أن يدفع إليه‏.‏

فيها توفي الحسين المعروف بابن الحجاج الشاعر له ديوان شعر في عشر مجلدات تولى حسبة بغداد وقيل إنه عزل بأبي سعيد الاصطخري الإمام الشافعي‏.‏

ومن شعره‏:‏ يا صاحبي استيقظا من رقدة تزري على عقل اللبيب الأكيس هذي المجرة والنجوم كأنها نهر تدفق في حديقة نرجس وفيها توفي الفقيه إمام أهل الظاهر في عصره أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخوزي بالخاء المعجمة والزاي قال عبد الله الضميري‏:‏ ما رأيت فقيهاً أنظر منه ومن أبي حامد الأسفراييني الشافعي‏.‏وفيها توفي حسام الدولة مقلد بن المسيب بن رافع العقيلي صاحب الموصل تملكها بعد أخيه قتله غلام له ورثاه الشريف الرضي وأبو القاسم بن أحمد الشيباني‏.‏