فصل: سنة ثمان وأربعين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة ثمان وثلاثين ومائة

فيها أقبل طاغية الروم قسطنطين في مائة ألف حتى نزل بدابق بكسر الموحدة بعد الألف فالتقاه صالح بن علي عم المنصور فهزمه والحمد لله على ظهور دين الإسلام على كل دين‏.‏

وفيها توفي العلاء بن عبد الرحمن وليث بن أبي سليم يخلف فيه وزيد بن واقد‏.‏

 سنة تسع وثلاثين ومائة

فيها توفي يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني الفقيه الأعرج يروي عن شرحبيل بن سعد وطبقته من التابعين ويونس بن عبيد شيخ البصرة رأى أنساً وأخذ عن الحسن وطبقته قال سعيد بن عامر‏:‏ ما رأيت رجلاً قط أفضل منه وأهل البصرة على ذا‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ هو أكبر من سليمان التيمي ولا يبلغ سليمان منزلته وقال يونس‏:‏ ما كتبت شيئاً قط يعني لحفظه وذكائه‏.‏

وفيها توفي خالد بن يزيد المصري الفقيه يروي عن عطاء والزهري وطبقتهما‏.‏

 سنة أربعين ومائة

فيها نزل جبريل بن يحيى الأمير من جهة صالح بن علي بالمصيصة مرابطاً فأقام بها سنة حتى بناها وحصنها‏.‏

وفيها توفي أبو حازم سلمة بن دينار الفارسي المدني الأعرج عالم أهل المدينة وزاهدهم وواعظهم قال ابن خزيمة‏:‏ لم يكن في زمانه مثله له حكم ومواعظ‏.‏

وفيها توفي داود بن أبي هند البصري الفقيه الحافظ المفتي النبيل السيد الجليل وففيه واسط أبو العلاء أيوب بن أبي مسكين وسهل بن أبي صالح السمان روى عن أبيه وطبقته وأخذ عنه مالك والكبار‏.‏وفيها توفي عمرو بن قيس الكندي السكوني عاش مائة تامة وروى عن عبدالله بن عمر والكبار وقيل إنه أدرك سبعين صحابياً‏.‏

 سنة إحدى وأربعين ومائة

قال بعضهم فيها ظهر قوم خراسانيون يقولون بتناسخ الأرواح وإن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم المنصور وإن الهيثم بن معاوية جبرائيل فأتوا قصر المنصور وطافوا به فقبض على مائتين من كبارهم وحبسهم فغضب الباقون وحفوا بنعش وحملوا هيئة جنازة ثم مروا بالسجن فشدوا على الناس وفتحوا السجن وأخرجوا أصحابهم وقصدوا المنصور في ست مائة مقاتل فأغلقوا باب البلدة وحاربهم العسكر مع معن بن زائدة ثم وضعوا السيف فيهم وأصيب عثمان بن نهيك الأمير فاستعمل المنصور مكانه على الحرمين أخاه عيسى وكان ذلك بالهاشمية قال المدائني‏:‏ فحدثني أبو بكر الهذلي قال‏:‏ اطلع المنصور فقال رجل إلى جانبي‏:‏ هذا رب العزة الذي يطعمنا ويرزقنا تعالى الله الملك الحق المبين عن مقالة أهل الضلالة الملحدين‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي موسى بن عقبة المدني صاحب المغازي قال الواقدي‏:‏ كان موسى فقيهاً يفتي رحمه الله‏.‏

وفيها توفي أبان بن تغلب الكوفي القارىء المشهور رحمه الله‏.‏

وفيها توفي موسى بن كعب التميمي المروزي أحد نقباء بني العباس‏.‏

وفيها أو في التي يليها توفي أبو إسحاق الشيباني الكوفي سليمان بن فيروز وقيل ابن خاقان‏.‏

 سنة اثنتين وأربعين ومائة

وفيها توفي خالد الحذاء البصري الحافظ يروي عن كبار التابعين وقد رأى أنساً وكان يجلس بالحذائين فلقب بالحذاء وفيها توفي عاصم بن سليمان احد حفاظ البصرة رحمة الله عليهم‏.‏

وفيها أو في التي بعدها توفي عمرو بن عبيد البصري الزاهد العابد المعتزلي القدري صحب الحسن ثم خالفه واعتزل خلقته فلذا قيل المعتزلة‏.‏

وفيها توفي محمد بن أبي إسماعيل الكوفي روى عن أنس وجماعة قال شريك‏:‏ رأيت أولاد أبي إسماعيل أربعة ولدوا في بطن واحد وعاشوا‏.‏

وفيها توفي أبو هانىء حميد بن هانىء الخولاني المصري روى عن علي بن رباح وعدة وأدركه ابن وهب‏.‏

 سنة ثلاث وأربعين ومائة

وفيها ثارت الديلم وقتلوا خلائق من المسلمين فانتدب أهل الإسلام لغزوهم‏.‏

وفيها سار الأمير محمد بن الأشعث إلى المغرب فالتقى الاباضية فهزمهم وقتل زعيمهم أبو الخطاب في المصاف وفيها توفي حجاج بن أبي عثمان أحد حفاظ البصرة المعروف بالصواف روى عن الحسن وغيره‏.‏

وفيها على الصحيح توفي حميد الطويل أحد ثقات التابعين البصريين كان فيها قائماً يصلي فسقط ميتاً سمع أنساً وطائفة‏.‏

وكنيته أبو عبيدة‏.‏

وفي ذي القعدة توفي سليمان بن طرخان أبو المعتمر التيمي أحد علماء البصرة وعبادها سمع أنساً وطائفة‏.‏

قال شعبة‏:‏ كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغير لونه وما رأيت أصدق منه وقال المعتمر‏:‏ مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي الفجر بوضوء العشاء وعاش سبعاً وتسعين سنة‏.‏

وفيها توفي مطرف بن طريف الكوفي الزاهد وفيها توفي يحيى بن سعيد الأنصاري المدني الفقيه أحد الأعلام ولي قضاء المنصور ومات بالرصافة قبل أن يبني بغداد‏.‏

قال ايوب السختياني‏:‏ ما رأيت بالمدينة أفقه منه وكان يحيى القطان يقدمه على الزهري وقال الثوري‏:‏ كان من الحفاظ‏.‏

وفيها توفي على الأصح ليث بن أبي سليم الكوفي أحد الفقهاء‏.‏

قال الفضيل بن عياض‏:‏ كان أعلم أهل زمانه في المناسك‏.‏

 سنة أربع وأربعين ومائة

فيها حج بالناس المنصور وأهمه شان محمد بن عبدالله بن الحسن وأخيه إبراهيم لتخلفهما عن الحضور عنده فوضع عليها العيون وبذل الأموال وبالغ في طلبهما لأنه عرف مرامهما وجرت أمور يطول شرحها وقبض على أبيهما فسجنه وجهز جيش العراق والجزيرة لغزو الديلم وعلى الناس محمد بن السفاح‏.‏

وفيها توفي سعيد بن إياس محدث البصرة وعبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة في حبس المنصور‏.‏

قال الواقدي‏:‏ كان من العباد وله شرف وهيبة ولسان شديد بالشين المعجمة على ما ضبط في الأصل المنقول منه‏.‏

وفيها توفي عمرو بن عبيد المعتزلي المتكلم الزاهد المشهور ومولى بني عقيل كان أبو يختلف إلى أصحاب الشرط بالبصرة فكان الناس إذ رأوا عمراً مع أبيه قالوا‏:‏ هذا خير الناس من شر الناس فيقول أبوه صدقتم هذا إبراهيم وأنا آزر‏.‏

وإذا قيل لأبيه عبيد إن ابنك يختلف إلى الحسن البصري ولعله أن يكون منه خير فقال‏:‏ وأي خير يكون من ابني وأمه اصبتها من غلول وأنا أبوه ثم صار عمرو شيخ المعتزلة في وقته‏.‏

وسئل الحسن البصري عنه فقال للسائل‏:‏ سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته وكأن الأنبياء ربته ان قام بأمر قعد به وإن قعد بأمر قام به وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن ولا باطناً أشبه بظاهر منه‏.‏

ودخل يوماً على الخليفة أبي جعفر المنصور وكان صديقاً له قبل الخلافة فقربه وقال عظني فقال‏:‏ ان هذا الأمر الذي في يدك لو بقي في يد أحد ممن كان قبلك لم يصل إليك فاحذر من ليلة تمحض بيوم لا ليلة بعده وغير ذلك من المواعظ فلما أراد النهوض قال‏:‏ قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم قال‏:‏ لا حاجة لي فيها‏.‏

قال‏:‏ والله تأخذها‏.‏

قال‏:‏ و الله لا آخذها وكان المهدي حاضراً فقال يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت فالتفت عمرو إلى المنصور وقال‏:‏ من هذا الفتى قال‏:‏ هذا المهدي ولدي وولي عهدي‏.‏

فقال‏:‏ اما فقد ألبسته لباساً ما هو لباس الأبرار وسميته باسم ما استحقه ومهدت له أمراً أمنع ما يكون به أشغل ما يكون عنه ثم التفت إلى المهدي وقال‏:‏ نعم يا ابن أخي إذا حلف أبوك اخشه لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك فقال له المنصور‏:‏ هل من حاجة قال‏:‏ لا تبعث إلي حتى آتيك فقال المنصور‏:‏ اذن لا نلتقي‏.‏

قال عمرو‏:‏ هي حاجتي فاتبعه المنصور نظره وقال‏:‏ كلكم يمشي رويدا كلكم يطلب صيدا غير عمرو بن عبيد ولما حضرته الوفاة قال لصاحبه‏:‏ نزل بي الموت ولم أتأهب ثم قال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران في أحدهما رضى لك وفي الآخر هوى لي إلا اخترت رضاك على هوائي فاغفر لي وتوفي وهو راجع من مكة بموضع يقال له مران بفتح الميم وبعدها راء مشددة وفيه دفن أيضاً تميم بن مر الذي ينسب إليه بنو تميم القبيلة المشهورة ورثا المنصور عمراً المذكور بقوله‏:‏ صلى الإله عليك من متوسد قبراً به قبرعلى مران قبراً تضمن مؤمناً متحنفاً صدق الإله ودان بالعرفان قالوا ولم يسمع بخليفة رثى من هو دونه سواه ولعمرو المذكور رسائل وخطبات وكتاب التفسير عن الحسن البصري وكتاب الرد على القدرية قلت هكذا قال بعض المؤرخين والذي حكى أصحابنا عنه في كتب الأصول‏:‏ قول شنيع وكفر فظيع في نفيه المقدر وهو ما روى الإمام الطبري أنه قال‏:‏ ان كان تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فما على أبي لهب من لوم‏.‏وذكر الإمام الطرسوسي المالكي في كتابه في الخلاف عنه أنه لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان المشتمل على قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنين‏:‏ ‏"‏ ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ‏"‏‏.‏

قال‏:‏ لو سمعته من الأعمش لكذبته ولو سمعته من أن مسعود لما صدقته ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقلت‏:‏ ما بهذا بعثت الرسل ولو سمعته من الله عز وجل ما على هذا أخذت مواثيقنا قال أئمتنا‏:‏ و ليس يزيد على كفره كفر‏.‏

وفيها توفي فقيه الكوفة أبو شبرمة عبدالله بن شبرمة الضبي القاضي روى عن أنس والتابعين وكان عفيفاً عارفاً عاقلاً يشبه النساك شاعراً جواداً‏.‏

وفيها توفي عقيل بضم العين المهملة مولى بني أمية وكان حافظاً حجة ومجالد بالجيم ابن سعيد الهمداني الكوفي صاحب الشعبي‏.‏

قالوا فيها ظهر محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن الحسني وخرج في مائتين وخمسين نفساً بالمدينة وهو راكب على حمار وذلك في أول رجب فوثب على متولي المدينة فسجنه وتتبع أصحابه ثم خطب الناس وبايعه بالخلافة أهل المدينة قاطبة طوعا وكرهاً وأظهر أنه قد خرج غضباً لله عز وجل وما تخلف عنه من الوجوه إلا نفر يسير واستعمل على مكة عاملاً وعلى اليمن وعلى الشام فلم يتمكن عماله وندب المنصور لحربه ابن عمه عيسى بن موسى وقال‏:‏ لا أبالي أيهما قتل صاحبه وإنما قال ذلك لأن عيسى المذكور كان ولي العهد بعد المنصور على ما عهد في ذلك السفاح‏.‏

قيل‏:‏ و كان المنصو يود هلاكه ليولي ولده المهدي مكانه فسار عيسى في أربعة آلاف وكتب إلى الاشراف يستميلهم ويمنيهنم فتفرق عن محمد ناس كثير وأشير عليه بالمسير إلى مصر ليتقوى منها فأبى وتحصن في المدينة وعمق خندقها فلما وصل عيسى تفرق عن محمد أصحابه حف بقي في طائفة قليلة فراسله عيسى يدعوه إلى الإنابة ويبذل له الأمان فلم يسمع ثم أنذر عيسى أهل المدينة ورغبهم ورهبهم أياماً ثم زحف على المدينة فظهر عليها ونادى محمداً وناشده الله ومحمد لا يرعوي‏.‏

قال عثمان بن محمد بن خالد أني لأحسب محمداً قتل بيده يومئذ سبعين رجلاً وكان معه ثلاث مائة مقاتل ثم قتل في المعركة وبعث عيسى برأسه إلى المنصور‏.‏وفي السنة المذكورة خرج أخوه إبراهيم بن عبدالله إلى البصرة وكان قد سار إليها من الحجاز فدخلها سراً في عشرة أنفس فجرت له أمور غريبة في اختفائه ربما يقع به بعض الأعوان فيصطنعه ثم دعى إلى نفسه سراً بالبصرة حتى تابعه نحو أربعة آلاف وجاء خير أخيه وما جرى له بالمدينة فوجم واغتم‏.‏

ولما بلغ المنصور خروجه تحول فنزل الكوفة حتى يأمن غايلة أهلها وألزم الناس لبس السواد وجعل يقتل كل من اتهمه أو يحبسه وكان بالكوفة ابن عامر يبايع لإبراهيم سراً وتهاون متولي البصرة في أمر إبراهيم حتى اتسع الخرق وخرج أول ليلة من رمضان وتحصن منه متولي البصرة وأقبل الخلق إلى إبراهيم ما بين ناصر وناظر ونزل متوليها بالأمان ووجد إبراهيم في الحواصل ست مائة ألف ففرقها بين أصحابه خمسين خمسين وبعث عاملاً إلى الأهواز ليفتحها وبعث آخر إلى فارس وآخر إلى واسط فجهز المنصور لحربه خمسة آلاف ثم التقوا فكان بين الفريقين عدة وقعات وقتل خلق من أهل البصرة وواسط وبقي إبراهيم سائر رمضان يفرق العمال على البلدان ليخرج على المنصور من كل جهة فأتاه مصرع أخيه بالمدينة قبل الفطر بثلاث فعيد الناس وهم يرون فيه الانكسار وكان المنصور في جمع يسير وعامة جيوشه في النواحي فالتزم بعد ذلك أن لا يفارقه ثلاثون ألفاً فلم يبرح إلى أن رد من المدينة عيسى بن موسى فوجهه إلى إبراهيم ومكث المنصور لا يقر له قرار وجهز العساكر ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية هذا ومائة ألف سيف كامنة له بالكوفة قالوا‏:‏ و لولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك إلى أن هدم عزه وذهث وهو بالمثلثة وكان مع ذلك صقراً أحوذياً مشمراً ذا عزم ودهاء‏.‏

وعن داود بن جعفر قال‏:‏ احصى ديوان إبراهيم بالبصرة فبلغوا مائة ألف وقال غيره‏:‏ بل قام معه عشرة آلاف فلو هجم الكوفة لظفر بالمنصور ولكنه كان فيه دين قال‏:‏ اخاف إن هجمتها أن يستباح الصغير والكبير فقيل له‏:‏ فخرجت على مثل المنصور وتتوقى قتل الصغير والكبير وكان أصحابه مع قلة رأيه يختلفون عليه وكل يشير برأي إلى أن التقى الجمعان على يومين من الكوفة فاشتد الحرب وظهر أصحاب إبراهيم وكان على مقدمة جيوش المنصور حميد بن قحطبة فانهزم وجعل عيسى بن موسى يثبت الناس وقد بقي في مائة من حاشية فأشاروا عليه بالفرار فقال‏:‏ لا أزول حتى أظفر أو أقتل وكان يضرب المثل بشجاعته ثم دار أبناء سليمان بن علي في طائفة وجاءوا من وراء إبراهيم وحملوا على عسكره قال عيسى لولا أبناء سليمان لافتضحنا ومن صنع الله عز وجل أن أصحابنا انهزموا فاعترض لهم نهر ولم يجدوا مخاضة فرجعوا فوقعت الهزيمة على أصحاب إبرأهيم حتى بقي في سبعين وأقبل حميد بن قحطبة فحمل بأصحابه واشتد القتال حتى تفانى خلق تحت السيف طول النهار وجاء سهم غرب لا يدرى من رمى به في حلق إبراهيم فأنزلوه وهو يقول وكان أمر الله قدراً مقدوراً أردنا أمراً وأراد الله غيره واجتمع اصحابه يحمونه فأنكر حميد اجتماعهم فحمل عليهم فتفرقوا عن إبراهيم فنزل جماعة واحتزوا رأسه وبعث به إلى المنصور في الخامس والعشرين من ذي القعدة وعمره ثمان وأربعون سنة وكان قد أذاه يومئذ الحرب وحرارة الزردية فحسروها عن صدره فأصيب في ليته ووصل إلى المنصور خلق كثير منهزمين وهيىء النجائب ليهرب إلى الري وكان يتمثل‏.‏

ونصبت نفسي للرماح درية إن الرئيس لمثل ذاك فعول قال‏:‏ الأصمعي الدرية غير مهموز وهي دابة يستتر بها الصائد فإذا أمكنه الصيد رمى وقال أبو زيد هو مهموز لأنها تدرأ نحو الصيد أي تدفع قال الأخطل‏:‏ فإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني بسهمك فالرامي يصيب ولا يدرا أي لا يستتر ولا يختل يقال‏:‏ اقصد السهم‏:‏ اي أصاب فقتل فلما أسرعوا إليه بالبشارة وبالرأس تمثل بقول البارقي‏:‏ فألقت عصاها واستقرت لها النوى كما قر عيناً بالإياب المسافر قال خليفة‏:‏ خرج مع إبراهيم هيثم وأبو خالد الأحمر وعيسى بن يونس وعباد بن العوام ويزيد بن هارون وكان أبو حنيفة يجاهر في أمره ويأمر بالخروج معه قال أبو نعيم‏:‏ فلما وصل قتل إبراهيم هرب أهل البصرة براً وبحراً واستخفى الناس‏.‏

وفي السنة المذكورة أمر المنصور فأسست بغداد وابتدأ بإنشائها ورسم هيئتها وكيفيتها أولاً بالرماد وفرغت في أربعة أعوام بالجانب الغربي قيل وبغداد في وقتنا اكثرها من الجانب الشرقي‏.‏

وفي السنة المذكورة وقيل في سنة ست توفي إسماعيل بن أبي خالد البجلي مولاهم الكوفي الحافظ احد أعلام الحديث وكان صالحاً ثبتاً حجة‏.‏

وفيها توفي عمرو بن ميمون بن مهران الجزري الفقيه وكان يقول‏:‏ لو علمت أنه بقي علي حرف من السنة باليمن لأتيتها‏.‏

وفيها توفي عبد الملك بن أبي سليمان الكوفي الحافظ أحد المحدثين الكبار كان شعبة مع جلالته يتعجب من حفظ عبد الملك‏.‏

وفيها توفي محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني كان حسن الحديث كثير العلم مشهوراً اخرج له البخاري وفيها توفي أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي الكوفي وكان ثقة إماماً صاحب سنة‏.‏

 سنة ست وأربعين ومائة

في صفر منها تحول المنصورإلى بغداد قبل تمام بنائها وكان لا يدخلها أحد راكباً حتى إن عمه عيسى اشتكى إليه المشي فلم يأذن له‏.‏

وفيها توفي الأشعث بن عبد الملك الحمراني مولى الحمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان ثقة ثبتاً حاقظاً‏.‏

وفيها توفي محمد بن السائب الكلبي الكوفي صاحب التفسير والأخبار والأنساب قال‏:‏ انما سميت العرب شعوباً لأنهم قيل لهم ذلك حين تفرقوا من ولد إسماعيل صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم ومن ولد قحطان وتشعبوا وقال‏:‏ العرب كلهم بنو إسماعيل إلا اربع قبائل السلف والأوزاع وحضرموت وثقيف وأول من تكلم العربية يعرب بن الهميسع ابن بنت ابن إسماعيل قال‏:‏ و كل نبي ذكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير ادريس ونوح ولوط وهود وصالح قلت وكأنه لم يستثن آدم صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم لشهرة كونه أباً للكل وقال‏:‏ لم يكن في العرب في الأنبياء إلا هود وصالح وإسماعيل ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

وروي عن ابن عباس أن أصحاب سفينة نوح كانوا ثمانين رجلاً نزلوا فمكثوا حتى كثروا وملكهم نمرود بن كنعان بن حازم بن نوح فلما كفروا ابدل الله ألسنتهم وتفرقوا على الاثنين وسبعين لساناً وفهم الله العربية عمليق واميم و طسم بني لاوذ بن سام وعاد وعبيل بن عوص بن آرم بن سام وثمود وجديش ابني جابر بن أرم بن سام وبني قنطور بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم قلت وقع في كلام الكلبي تناقض فإنه ذكر أن اللغة العربية فمها الله تعالى عمليقاً وذكر من بعده من ذرية نوح بعدما ذكر أن أول من تكلم بالعربية يعرب من ذرية إسماعيل وهذا أيضاً مخالف لما جاء إن إسماعيل عليه السلام تعلم العربية من جرهم لما نشأ بينهم‏.‏

والكلبي المذكور فيه مطاعن من جهة المذهب وغيره‏.‏

وقد قيل إنه لما نزل نوح صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم ومن معه من السفينة وكانوا ثمانين خلق الله تعالى في قلوبهم لغات مختلفة فأصبح كل واحد منهم يتكلم بلغة والله تعالى أعلم‏.‏

وفيها توفي هشام بن عروة بن الزبير الفقيه أبو المنذر أحد أثمة الحديث ادرك عمه عبدالله بن الزبير وقال‏:‏ مسح ابن عمر برأسي ودعا لي قال وهيب‏:‏ قدم علينا هشام بن عروة وكان مثل الحسن وابن سيرين وكان من المكثرين من الحديث المعدودين في أكابر العلماء وجلة التابعين ورأى جابر بن عبدالله الأنصاري وأنس بن مالك وسهل بن سعد وقيل إنه سمع من عمه عبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر روى عنه جماعة من جلة المحدثين منهم يحيى بن سعيد القطان ووكيع وقدم الكوفة في أيام أبي جعفر المنصور فسمع منه الكوفيون وقيل ولد عمر بن عبد العزيز وهشام بن عروة والزهري وقتادة والأعمش ليالي قتل الحسين بن علي وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة وقدم هشام بغداد على المنصور وتوفي بها فصلى عليه المنصور ودفن بمقبرة الخيزران رحمه الله تعالى‏.‏

فيها ألح المنصور وأكثر وتحيل بكل ممكن على ولي العهد عيسى بن موسى بالرغبة والرهبة حتى خلع نفسه كرهاً وقيل بل عوضه عشرة آلاف درهم على أن يكون ولي العهد بعده المهدي بن منصور‏.‏

وفيها توفي رؤبة بن العجاج البصري التميمي السعدي هو وأبوه راجزان مشهوران كل منهما له ديوان رجز ليس فيه شعر‏.‏

قلت هكذا قال بعضهم مع أن الصحيح أن الرجز شعر وهو مذهب سيبويه والصحيح عند المحققين خلافاً للأخفش وتابعيه وهما مجيدان في رجزهما وكان رؤبة بصيراً باللغة عارفاً بوحشيها وعريبها‏.‏

حكى يونس بن حبيب النحوي قال‏:‏ كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاءه شبيل بن عزرة الضبعي فقام إليه أبو عمرو وألقى إليه لبد بغلته فجلس عليه ثم أقبل عليه يحدثه فقال‏:‏ يا أبا عمر وسألت رؤبتكم عن اشتقاق اسمه فأعرفه يعني رؤبة‏.‏

قال يونس‏:‏ فلم أملك نفس عند ذكره فقلت له لعلك تظن أن معد بن عدنان أفصح منه ومن أبيه افتعرف ما الرؤبة والرؤبة والرؤية والرؤبة والرؤبة غلام رؤبة فلم يخرج جواباً فقام مغضباً وأقبل على أبي عمرو وقال‏:‏ هذا رجل شريف يزور مجالسنا ويقضي حقوقنا وقد أسأت فما فعلت مما واجهته به فقلت‏:‏ لم املك نفسي عند ذكر رؤبة فقال‏:‏ او قد سلطت على تقويم الناس ثم فسر يونس ما قاله فقال الرؤبة خميرة اللبن والرؤبة قطعة من الليل والرؤبة الحاجة يقال فلان لا يقوم برؤبة أهله أي بما أسند إليه من خوائجهم والرؤبة حمام ماء الفحل والرؤبة بالهمز القطعة التي يشعث بها الإناء والجميع بسكون الواو وضم الراء التي قبلها إلا رؤبة فإنه بالهمز وكان رؤبة مقيماً بالبصرة‏.‏

فلما ظهر إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وخرج على أبي جعفر المنصور وجرت الواقعة المشهورة خاف رؤبة على نفسه فخرج إلى البادية ليجتنب الفتنة فلما وصل إلى الناحية التي قصدها أدركه أجله بها فتوفى هناك وكان قد اسن ورؤبة بضم الراء وسكون الهمزة وفتح الموحدة في آخرها هاء وهي في الأصل قطعة من الخشب يشعث بها الإناء وجمعها رياب وباسمها سمي الراجز المذكور‏.‏

وفيها توفي عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي كان فقيهاً عالماً وفيها انهزم الجيش على الأمير عبدالله ابن عم المنصور الذي هزم مروان وافتتح دمشق وكان من رجال الدهر رأياً ودهاء وشجاعة وحزماً‏.‏

وفيها توفي الإمام أبو عثمان عبيدالله بن عمربن حفمص بن عاصم بن عمربن الخطاب وكان أفضل إخوته وأكثرهم علماً وصلاحاً وعبادة وروى عن القاسم وسالم ونافع‏.‏وفيها توفي هشام بن حسان الأزدي الحافظ محدث البصرة‏.‏

 سنة ثمان وأربعين ومائة

فيها توفي الإمام السيد الجليل سلالة النبوة ومعدن الفتوة أبوعبدالله جعفر الصادق ابن أبي جعفر محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين الهاشمي العلوي وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر فهو علوي الأب بكري الأم ولد سنة ثمانين في المدينة الشريفة وفيها توفي ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمد الباقر وجده زين العابدين وعم جده الحسن بن علي رضوان الله عليهم أجمعين وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام أولي المناقب وإنما لقب بالصادق لصدقه في مقالته وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها وقد ألف تلميذه جابر بن حيان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمن رسائله وهي خمس مائة رسالة‏.‏

وذكر بعض المؤرخين أنه سأل أبا حنيفة فقال‏:‏ ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي فقال يا ابن رسول الله ما أعلم ما فيه فقال له‏:‏ انت ابتداء ولا تعلم أن الظبي لا يكون له رباعية وهو ثني أبداً يعني من الدهاء في قوة الفهم وجوعة النظر وجعفر المذكور معدود عند الإمامية الاثني عشرية من أئمتهم الاثني عشر وكل واحد منهم مذكور في موضعه‏.‏

وفيها توفي الإمام محدث الكوفة وعالمها أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم الأعمش‏.‏

روي عن ابن ابي أوفى وأبي وائل والكبار قال يحيى القطان‏:‏ هو علامة الإسلام وقال وكيع‏:‏ بقي الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى‏.‏

وقال غيره‏:‏ الأعمش الكوفي الإمام المشهور كان ثقة عالماً فاضلاً وقال السمعاني كان يقارب بالزهري في الحجاز ورأى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وكلمه لكنه لم يسمع عليه وما يرويه عنه فهو ارسال أخذه عن أصحابه ولقي كبار التابعين‏.‏

وروى عنه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وحفص بن غياث وخلق كثير من جلة العلماء وكان لطيف الخلق مزاحاً جاءه أصحاب الحديث يوماً ليسمعوا عليه فخرج إليهم وقال لولا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم‏.‏

وجرى بينه وبين زوجته كلام يوماً فدعا رجلاً ليصلح بينهما فقال لها الرجل‏:‏ لا تنظرين إلى عموشة عينيه وخموشة ساقيه فإنه إمام وله قدر فقال له ما أردت إلا أن تعرفها عيوبي وقال له داود بن عمر الحايك ما تقول في شهادة الحائك فقال تقبل مع عدلين وعاده جماعة في مرضه فأطالوا الجلوس عنده فأخذ وسادته وقام وقال‏:‏ شفى الله مريضكم بالعافية‏.‏

وقيل عنده يوماً‏:‏ قال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ من نام عن قيام الليل بال الشيطان في أذنه ‏"‏ فقال‏:‏ ما عمشت عيني إلا من بول الشيطان في أذني‏.‏

وقال أبو معاوية الضرير بعث إليه هشام بن عبد الملك أن أكتب إلي مناقب عثمان ومساوىء علي فأخذ الأعمش القرطاس وأدخله في فم شاة فلاكته وقال للرسول‏:‏ قل له هذا جوابك فقال له الرسول‏:‏ انه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بجوابك وتحمل عليه باخوانه وقالوا له‏:‏ يا أبا محمد نجه من القتل فلما ألحوا عليه كتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك ولو كانت لعلي مساوىء أهل الأرض ما ضرتك فعليك بخويصة نفسك والسلام وقيل إنه ولد يوم قتل الحسن رضي الله عنه يوم عاشوراء سنة إحدى وستين رحمة الله عليه‏.‏

وفيها توفي شبل بن عباد قارىء أهل مكة وتلميذ ابن كثير وفيها توفي أبو حاتم الرازي احفظ الناس في زمانه‏.‏

وفيها توفي أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصارية الفقيه قال أحمد بن أبي يونس‏:‏ كان أفقه أهل الدنيا تولى القضاء بالكوفة وأقام حاكماً ثلاثاً وثلاثين سنة ولي لبني أمية ثم لبني العباس وكان فقيهاً مفتياً تفقه بالشعبي وأخذ عنه الثوري وقال دخلت على عطاء فجعل يسالذي فأنكر بعض من عنده وكلمه في ذلك فقال‏:‏ هو أعلم مني وفيها توفي محمد بن عجلان المدني وكان عابداً ناسكاً صادقاً له حلقة بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفتوى‏.‏

 سنة تسع وأربعين ومائة

فيها توفي المثنى بن الصباح اليماني بمكة يروي عن مجاهد وعمرو بن شعيب وطائقة وكان من أعبد الناس‏.‏

وفيها توفي كهمس بن الحسين البصري يروي عن أبي الطفيل وجماعة‏.‏

وفيها توفي زكريا بن أبي زائدة وفيها توفي أبو عمر عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري قيل كان مولى خالد بن الوليد ونزل في ثقيف فنسب إليهم وكان صاحب تقعير في كلامه استعمال للغريب فيه وفي قراءته وكانت بينه وبين أبي عمرو بن العلاء صحبة ولهما مسائل ومجالس وأخذ سيبويه عنه النحو وله الكتاب الذي سماه الجامع في النحو ويقال إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه وحشى عليه من كلام الخليل وغيره ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه وهو كتاب سيبويه المشهور‏.‏

والذي يدل على صحة هذا القول‏:‏ ان سيبويه لما فارق عيسى بن عمر المذكور ولازم الخليل بن أحمد سأله الخليل عن مصنفات عيسى فقال صنف نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو وأن بعض أهل اليسار جمعها وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين احدهما اسمه الإكمال وهو بأرض فارس عند فلان والآخر الجامع وهو هذا الكتاب الذي استعمل فيه وأسألك عن غوامضه فأطرق الخليل ساعة ثم رفع رأسه‏.‏وقال رحم الله عيسى وأنشد‏:‏ ذهب النحو جميعاً كله غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع وهما للناس شمس وقمر أشار بالإكمال إلى الغائب وبالجامع إلى الحاضر الكتابين المذكورين وكان الخليل قد أخذ عنه أيضاً ويقال إن أبا الأسود الديلي لم يضع في النحو إلا باب الفاعل والمفعول فقط وإن عيسى بن عمر وضع كتاباً على الأكثر وبوبه وهذبه وسمي ما شذ على الأكثر لغات وكان يطعن على العرب ويخطىء المشاهير منهم مثل النابغة في بعفر أشعاره وغيره روى الأصمعي قال‏:‏ قال عيسى بن عمر لأبي عمرو بن العلاء‏:‏ انا أفصح من معد بن عدنان فقال له أبو عمر‏:‏ و لقد تعديت فكيف تنشد هذا البيت‏:‏ قد كن يخبئن الوجوه تسترا فاليوم حين بدأن للنظار أو بدين للنظار فقال عيسى بدأن فقال له أبو عمرو‏:‏ اخطأت يقال بدأ يبدوا إذا ظهر وبدأ يبدأ إذا أسرع في المشي‏.‏ومن جملة تقعيره في الكلام‏:‏ ما حكاه الجوهري في الصحاح انه سقط عن حمار له فاجتمع عليه الناس فقال‏:‏ ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة أفرنقعوا عني معناه ما لكم تجمعتم علي كتجمعكم على مجنون انكشفوا عني ويروى أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراقين كان قد ضربه بالسياط وهو يقول وقد أخذه الجزع‏:‏ و الله إن كانت إلا اثباتاً في اسقاط فنصبها عشاروك وقيل إن الذي ضربه كان يوسف بن عمر أمير العراقين‏.‏

وكان سبب ضربه إياه أنه لما تولى العراقين بعد خالد بن عبدالله القسري تتبع أصحابه وكان بعض جلسائه قد أودع عند عيسى المذكور وديعة فتنهى الخبر إلى يوسف فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره أن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيداً فدعا حداداً أو أمر بتقييده فلما قيده قال له الوالي لا بأس عليك إنما أرادك الأمير لتأديب ولده قال فما بال القيد اذن فبقيت هذه الكلمة مثلاً بالبصرة‏.‏

قلت يعني مثلاً لمن توهم أنه يراد به خير ويفعل به ما يدل على الشر كالقيد المذكور ووصل إلى يوسف فسأله عن الوديعة فأنكر فأمر به فضرب فقيلت المقالة المذكورة‏.‏

 سنة خمسين ومائة

فيها توفي أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي بالزاي الخراساني كان مشهوراً بتفسير كتاب الله العزيز وله التفسير المشهور اخذ الحديث عن مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح وأبي إسحاق السبيعي والضحاك بن مزاحم ومحمد بن مسلم الزهري وغيرهم وروى عنه بقية وعبد الرزاق الصنعاني وحرمي بن عصارة وعلي بن الجعد وكان من العلماء الأجلاء‏.‏

حكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ الناس كلهم عيال على ثلاثة‏:‏ على مقاتل بن سليمان في التفسير وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر وعلى أبي حنيفة في الكلام‏.‏

وروي أن أبا جعفر كان جالساً فسقط عليه الذباب فطيره فعاد إليه فألح عليه وجعل يقع على وجهه وأكثر من السقوط عليه مراراً حتى أضجره فقال المنصور‏:‏ انظروا من بالباب فقيل له مقاتل بن سليمان فقال علي به فأذن له فلما دخل عليه قال هل تعلم لماذا خلق الله الذباب قال‏:‏ نعم ليذل الله عز وجل به الجبابرة فسكت المنصور‏.‏

وقال مرة مقاتل سلوني عن ما دون العرش فقيل له من حلق رأس آدم عندما حج فقال ليس هذا من علمكم ولكن الله تعالى أراد أن يبتليني لما أعجبتني نفسي‏.‏

وقال له آخر الذرة أو النملة معاؤها في مقدمها أو مؤخرها فبقي لا يدري ما يقول له‏.‏

قال الراوي‏:‏ فظننت أنها عقوبة عوقب بها‏.‏

وقد اختلف العلماء في أمره فمنهم من وثقه في الرواية وطعن فيه خلق كثير من الأئمة ونسبوه إلى الكذب‏.‏

وفيها توفي فقيه العراق الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي مولى بني تيم الله بن ثعلبة ومولده سنة ثمانين رأى أنساً وروى عن عطاء بن أبي رباح وطبقته وتفقه على حماد بن أبي سليمان وكان من الأذكياء جامعاً بين الفقه والعبادة والورع والسخاء وكان لا يقبل جوائز الولاة بل ينفق ويؤثر من كسبه له دار كبيرة لعمل الخز وعنده صناع الخز‏.‏

قال الشافعي‏:‏ كل الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة وقال يزيد بن هارون‏:‏ ما رأيت أورع ولا أعقل من أبي حنيفة رضي الله عنه‏.‏

وعن أبي يوسف قال‏:‏ بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر‏:‏ هذا أبو حنيفة لا ينام الليل فقال والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعاً‏.‏

وقيل إن المنصور سقاه سما فمات شهيداً رحمه الله سمه لقيامه مع إبراهيم بن عبدالله بن حسن وكان قد أدرك أربعة من الصحابة هم أنس بن مالك بالبصرة وعبدالله بن أبي أوفى بالكوفة وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكه رضي الله عنهم‏.‏قال بعض أصحاب التواريخ‏:‏ و لم يلق أحداً منهم ولا اخذ عنه واصحابه يقولون لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم قال‏:‏ و لم يثبت ذلك عند النقاد‏.‏

وذكر الخطيب في تاريخ بغداد‏:‏ انه رأى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه كما تقدم وأخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع عطاء بن أبي رباح وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبدالله بن عمرو وهشام بن عروة وسماك بن حرب روى عنه عبدالله بن المبارك ووكيع بن الجراح والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم وكان عالماً عاملاً زاهداً ورعاً تقياً كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى‏.‏

ونقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد على أن يوليه القضاء فأبى فحلف لتفعلن وحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل فقال الربيع بن يونس الحاجب‏:‏ الا ترى أمير المؤمنين يحلف فقال أبو حنيفة أمير المؤمنين على كفارة أيمانه قد رمني على كفارة أيماني وأبى أن يبلى فأمر به إلى الحبس في الوقت والعوام يدعون أنه تولى أياماً ولم يصح هذا من جهة النقل‏.‏

وقال الربيع رأيت المنصور يكلم أبا حنيفة في أمر القضاء وهو يقول اتق الله ولا تدع في أمانتك إلا من يخاف الله والله ما أنا مأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب ولو اتجه الحكم علي ثم تهددتني أن تغرقني في الفرات أو إلى الحكم لاخترت أن أغرق ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم ولا أصلح لذلك فقال له‏:‏ كذبت أنت تصلح فقال قد حكمت لي على نفسك فكيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب‏.‏

قال الخطيب أيضاً في بعضى الروايات‏:‏ ان المنصور لما بنى مدينة ونزلها ونزل المهدي في الجانب الشرقي وبنى مسجد الرصافة ارسل إلى أبي حنيفة فجيء به فعرض عليه قضاء الرصافة فأبى فقال له‏:‏ ان لم تفعل ضربتك بالسياط‏.‏

قال‏:‏ او تفعل نعم فقعد في القضاء يومين فلم يأته أحد فلما كان في اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر فقال الصفار‏:‏ لي على هذا درهمان وأربعة دوانق ثمن تور صفر‏.‏

فقال أبو حنيفة‏:‏ اتق الله وانظر فيما يقول الصفار فقال ليس علي شيء فقال أبو حنيفة للصفار‏:‏ ما تقول فقال‏:‏ استحلفه لي فقال أبو حنيفة‏:‏ قل والله الذي لا إله إلا هو فجعل يقول فلما رآه أبو حنيفة مقداماً على اليمين قطع عليه وأخرج من صرة في كمه درهمين ثقيلتين وقال للصفار خذ هذا عوض ما لك عليه فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات‏.‏

وكان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أرده للقضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية فأبى عليه وضربه مائة سوط وعشرة سواط كل يوم عشرة أسواط‏.‏

وهو على الامتناع فلما رأى ذلك خلى سبيله وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبي حنيفة وذلك بعد إن ضرب الإمام أحمد على ترك القول بخلق القرآن يعني البكاء والترحم‏.‏

وذكر الخطيب في تاريخه أيضاً أن أبا حنيفة رضي الله عنه رأى في المنام أنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

فبعث من سأل محمد بن سيرين فقال ابن سيرين‏:‏ صاحب هذه الرؤيا يثور علماً لم يسبقه إليه أحد‏.‏

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة قال نعم رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته وروى حرملة ين يحيى عن الشافعي قال‏:‏ الناس عيال على هؤلاء الخمسة من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل ين سليمان ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على بن محمد بن إسحاق‏.‏

وفيها توفي وقيل في التي قبلها وقل في التي بعدها أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح القرشي مولاهم المكي كان أحد العلماء المشهورين ويقال إنه أول من صنف الكتب في الإسلام قال رحمه الله‏:‏ كنت مع معن بن زائدة باليمن فحضر وقت الحج فلم يخطر لي نية فخطر ببالي قول عمرو بن ربيعة‏:‏ بالله قولي له من غيرمعتبة ماذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت ذنباً أونعمت بها فما أخذت بترك الحج من ثمن قال فدخلت على معن فأخبرته أتي قد عزمت على الحج فقال لي‏:‏ ما يدعوك إليه ولم تكن سنة إحدى وخمسين ومائة فيها توفي شيخ البصرة وعالمها الإمام عبدالله بن عون والإمام محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني صاحب السيرة وكان بحراً من بحور الحلم ذكياً حافظاً طلابة للعلم اخبارياً نسابة ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء وأما في المغازي والسير فلا يجهل إمامته‏.‏

قال ابن شهاب الزهري‏:‏ من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق وذكره البخاري في تاريخه‏.‏

وروي عن الشافعي أنه قال‏:‏ من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق‏.‏

وقال سفيان بن عيينة ما أدركت أحداً يتهم ابن إسحاق في حديثه‏.‏

وقال شعبة بن الحجاج محمد بن إسحاق أمير المؤمنين يعني في الحديث‏.‏

وحكي عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن إسحاق واحتجوا بحديثه وإنما لم يخرج البخاري عنه وقد وثقه وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه إلا حديثاً واحداً في الزجر من أجل طعن مالك بن أنس فيه وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه عنه أنه قال هاتوا حديث مالك فأنا طبيب لعلله‏.‏

وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى ودفن في مقبره الخيزران بالجانب الشرقي وهي منسوبة إلى الخيزران أم هارون الرشيد وأخيه الهادي وإنما نسبت إليها لأنها مدفونة فيها وهي أقدم المقابر التي في الجانب الشرقي ومن كتب ابن إسحاق المذكورأخذ عبد الملك بن هشام سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك كل من تكلم في هذا الباب فعليه اعتماده وإليه استناده‏.‏

وفيها قتلت الخوارج غيلة الأمير معن بن زائدةالشيباني أمير سجستان أحد الأبطال والأجواد‏.‏

ومن أخباره ما حكى عنه مروان بن أبي حفصة قال‏:‏ اخبرني معن بن زائدة وهو يومئذ متولي بلاد اليمن أن المنصورجد في طلبه وجعل لمن يحمله إليه مالاً قال‏:‏ فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي وخفعت أوقال و خففت عارضي ولبست جبة صوف وركبت جملاً متوجهاً إلى البادية لأقيم بها فلما خرجت من باب حرب وهو أحد أبواب بغدادتبعني أسود متقلداً بسيف حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه وقبض على يدي فقلت ما لك فقال‏:‏ أنت طلبة - أميرالمؤمنين فقلت ومن أنا حتى أطلب قال‏:‏ انت معن بن زائدة فقلت‏:‏ يا هذا اتق الله عز وجل أين أنا من معن فقال‏:‏ دع هذا فو الله اني لأعرف منك بك قال‏:‏ فلمارأيت منه الجد قلت له‏:‏ هذا عقد جواهرقد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يأتيه بي فخذه ولا تكن سبباً في سفك دمي قال‏:‏ هاته فأخرجته إليه فنظر إليه ساعة وقال‏:‏ صدقت في قيمته ولست قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك فقلت قل قال‏:‏ إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت مالك كله قط قلت‏:‏ لا قال‏:‏ فنصفه قلت لا‏.‏

قال‏:‏ فثلثه قلت‏:‏ لا حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت أظن أني قد فعلت هذا فقال ما ذاك بعظيم أنا والله رجل ورزقي من المنصور كل شهر عشرون درهماً وهذا الجوهر قيمته ألوف دنانير وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثوربين الناس ولتعلم أن في الدنيا أجود منك فلا تعجبك نفسك ولتحتقر بعد ذلك كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة ثم رمى العقد في حجري وترك خطام البعير وولى منصرفاً فقلت له‏:‏ يا هذا قد والله نصحتني ولسفك دمي أهون علي مما فعلت فخذ ما دفعته لك فأني عنه غني فضحك وقال أردت أن تكذبني في مقالتي هذه فو الله لا آخذ به ولا آخذ بمعروف ثمناً أبداً ومضى لسبيله‏.‏

قال‏:‏ فوالله لقد طلبت بعد أن أمنت وبذلت لمن يجيء به ما شاء فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته وإنما كان معن خائفاً من المنصور لأنه كان في أيام بني أمية منتقلاً في ولايتهم موالياً لابن هبيرة فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس قاتل معن مع ابن هبيرة المنصور فلما قتل ابن هبيرة خاف معن من المنصور فاستتر عنه قال الراوي ولم يزل معن مستتراً حتى كان يوم الهاشمية وهو يوم مشهور ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور ووثبوا عليه وجرت مقتلة بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية التي بناها السفاح بالقرب من الكوفة وقد تقدم ذلك في سنة احدى وأربعين وكان معن متوارياً بالقرب منهم فخرج متنكراً معتماً ملثماً وتقدم إلى القوم وقاتل قتالأ بان فيه عن نجدة وشهامة وفرقهم فلما أفرج عن المنصور قال له من أنت ويحك فكشف لثامه وقال‏:‏ أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة فأمنه المنصور وأكرمه وحباه وكساه وزينه أو قال‏:‏ و رتبه وصار من خواصه‏.‏

ثم دخل بعد ذلك عليه في بعض الأيام فلما نظر إليه قال‏:‏ هيه يا معن تعطي مروان ابن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله‏:‏ معن بن زائدة الذي زيدت به شرفاً على شرف بنو شيبان فقلت‏:‏ كلا يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على قوله في هذه القصيدة‏:‏ مازلت يوم الهاشمية معلناً بالسيف دون خليفة الرحمن فمنعت حوزته وكنت وقايةً من وقع كل مناهل وسنان فقال أحسنت يا معن وقال له يوماً يا معن ما أكثر وقوع الناس في قومك فقال أمير المؤمنين‏:‏ إن العراقين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حسادا ودخل عليه يوماً قد اسن فقال له‏:‏ لقد كبرت يا معن فقال‏:‏ في طاعتك يا أميرالمؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ انك المجلد‏.‏

فقال‏:‏ على أعدائك يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ و فيك تقية‏.‏

فقال‏:‏ هي لك يا أمير المؤمنين‏.‏

وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة فقال‏:‏ ويح هذا ما ترك لربه شيئاً‏.‏

وحكى الأصمعي قال وفد اعرابي على معن بن زائدة فمدحه وطال مقامه على بابه ولم تحصل له جائزة فعزم على الرحيل فخرج معن راكباً إليه فقام وأمسك عنان دابته فقال‏:‏ وما في يديك الخيريا معن كله وفي الناس معروف وعنك مذاهب ستدرين بنات العم ما قد أتيته إذا فتشت عند الإياب الحقائب فأمر معن باحضار خمس نوق من كرام ابله وأوقرهن له ميرة وبراً وثياباً وقال انصرف يا ابن أخي في حفظ الله إلى بنات عمك فلئن فتشن الحقائب لتجدن فيها ما يسترهن فقال‏:‏ صدقت وبيت الله‏.‏

ومما يحكى عن معن بن زائدة أنه كان ذات يوم من الأيام جالساً على سرير مملكته وحوله الوزراء والأمراء والحرفاء والكتاب والمذاكرون في النوادر والغرائب إذ أقبل أعرابي يتخطى الصفوف صفاًصفاً حتى وقف بين يديه وقال‏:‏ أتعرف إذ قميصك جلد كبش وإذ نعلاك من جلد البعير قال نعم اعرف ذلك‏.‏

قال‏:‏ فسبحان الذي أعطاك ملكاً وعلمك الجلوس على السرير قال ذاك بحمد الله لا بحمدك قال‏:‏ فلست مسلماً لوعشت دهراً على معن بتسليم الأمير ولا آتي بلاداً أنت فيها ولو جار الزمان على الفقير قال أفتعلم لك موضعاً تختفي فيه قال‏:‏ فمرلي يا بن زائدة بمال وزاد إذ عزمت على المسير قال يا غلام أعطه ألف درهم قال‏:‏ قليل ما أمرت به وأني لأطمع منك بالشيء الكثير قال‏:‏ يا غلام زيادة ألف درهم‏.‏

كأنك إذ ملكت الملك زرنا بلا عقل ولا جاه خطير قال يا غلام زيادة ألف درهم قال‏:‏ ملكت الجود والأفضال جميعاً فبذل يديك كالبحر الغزير قال ضاعف له الحسنات فضاعف له الحسنات بستة آلاف ولمعن تروى أشعار جيدة فمن ذلك قوله في خطاب ابن أخي عبد الجبار وقد رآه يتبختر بين السماطين بعدما لقي الخوارج وفر منهم‏:‏ هلا مشيت كذا غداة لقيتهم وصبرت عند الموت يا خطاب نجاك خوار العنان كأنه تحت العجاج إذ كان تحت عقاب ومما روى الخطيب في تاريخه عن أبي عثمان المازني النحوي قال‏:‏ حدثني صاحب شرطة معن قال‏:‏ بينما أنا على رأس معن إذا هو براكب يوضع فقال معن ما أحسب الرجل يريد غيري ثم قال لحاجبه لا تحجبه قال فجاء حتى مثل بين يديه وأنشد‏.‏

أصلحك الله قل ما بيدي ** فما أطيق العيال إن كثروا ألح دهر ألقى بكلكلة فأرسلوني إليك وانتظروا فقال معن وأخذته أريحية‏:‏ لا جرم والله لأعجلن أوبتك‏.‏

ثم قال‏:‏ يا غلام الناقة الفلانية وألف دينار فدفعها إليه وهو لا يعرفه قلت وهذا كله مما يدل على عظم جود معن وشجاعته‏.‏

ومما يدل على حلمه وشماحته‏:‏ ما حكي أنه لما طلب أبو جعفر المنصور الإمام سفيان الثوري لينتقم منه بزعمه لما كان سفيان ينكر عليه ويغلظ له القول سافر إلى أرض اليمن متغيباً عن شره فلم يزل ينتقل في اليمن من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية وكان يقرأ عليهم حديث الضيافة ليضيفوه ويسلم من سوء الهم فلما أوى بعض القرى ذات ليلة سرق فيها لبعض الناس شيء فاتهموا سفيان لكونه غريباً عندهم وأتوا به إلى معن بن زائدة وقالوا له‏:‏ اصلح الله الأمير هذا سرق متاعنا وأنكر فقال له معن‏:‏ ما تقول قال ما أخذت لهم شيئاً‏.‏

فقال لمن حوله‏:‏ فقوموا فلي معه كلام فلما بعدوا عنه قال ما اسمك قال‏:‏ أنا عبدالله قال ابن من قال‏:‏ ابن عبدالله قال‏:‏ قد علمت أن الناس كلهم عبدالله وأبناء عبيدالله قال ما اسمك الذي سمتك به أمك قال سفيان قال‏:‏ ابن من قال ابن سعيد قال الثوري قال‏:‏ أبغية أمير المؤمنين قال‏:‏ فنكت بعود بيده في الأرض ساعة ثم رفع رأسه لي وقال‏:‏ اذهب حيث شئت فلو كنت تحت قدمي هذه ما حركتك هذا معنى ما حكي في ذلك إن لم يكن لفظه بعينه والله تعالى أعلم‏.‏

وأخبار معن ومحاسنه كثيرة وكان قد ولي سجستان في آخر أمره وله آثار وقصده الشعراء بها فلما كان سنة إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين وقيل ثمان وخمسين ومائة بينما هو في داره والصناع يعملون له شغلاً اندس بينهم قوم من الخوارج فقتلوه وهو يحتجم ثم تبعهم ابن أخيه يزيد بن مرثد بن زائدة فقتلهم بأسرهم‏.‏

ولما قتل معن رثاه الشعراء بأحسن المراثي فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة‏:‏ مضى لسبيله معن وأبقى مكارم لن تبيد ولن تنالا كأن الشمسس يوم أصيب معن من الإظلام ملبسة جلالا هوالجيل الذي كانت نزار تهد من العدو به الجبالا فعطلت الثغور لفقد معن وقد يروى بها الأسل النهالا وأظلمت العراق وأوترتنا مصيبه المخللة اختلالا وكانت من تهامة كل أرض ومن نجد تزول غداة زالا فإن تعل البلاد له خشوع فقد كانت تطول به اختيالا أصاب الموت يوم أصاب معناً من الأحياء أكرمهم فعالا وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا إلى آخر ما قاله من قصيدة فيه طويلة من أولها هذه العشرة الأبيات‏.‏

وقال عبدالله بن المعتز في كتاب طبقات الشعراء‏:‏ ادخل مروان بن أبي حفصة على جعفر البرمكي فقال له‏:‏ و يحك أنشدتي مرثيتك في معن بن زائدة‏.‏

فقال‏:‏ بل أنشدك مدحي فيك فقال جعفر‏:‏ أنشدني مرثيتك في معن فانشأ يقول القصيدة المشهورة الى أن قال‏:‏ وكان الناس كلهم لمعن إلى أن زار حفرته عيال واستمر حتى فرغ منها وجعفر يرسل دموعه على خده فلما فرغ قال له جعفر‏:‏ هل أثابك على هذه المرثية أحد من ولده وأهله شيئاً قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فلو كان معن حياً ثم سمعها كم كان يثيبك عليها قال‏:‏ أصلح الله الوزير ربع مائة دينار‏.‏

قال جعفر‏:‏ فإنا نظن أنه كان لا يرضى لك بذلك قد أمرنا لك عن معن رحمه الله الضعف بما ظننت وزدناك مثل ذلك فاقبض من الحارث ألفاً وست مائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك فقال مروان يذكر جعفراً وما سمع به عن معن‏:‏ فعجلت العطية يا بن يحيى لراثيه ولم ترد المطال فكأني عن صداء معن جواد بأجود راحة بذل النوال بنى لك خالد وأبوك يحيى بناء في المكارم لن تنال كأن البرمكي بكل مال يجود به نداه يفيد مال ثم قبض المال وانصرف‏.‏

وحكى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن محمد البيذق النديم‏:‏ أنه دخل على هارون الرشيد قال له‏:‏ أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة فأنشده بعضها فبكى الرشيد‏.‏

ويقال إن مروان بعد هذه المرثية لم ينتفع بشعره فإنه كان إذا مدح خليفة أو من دونه قال له أنت قلت مرثيتك‏:‏ وقلنا أين نرحل بعد معن وقد ذهب النوال فلا نوالا فلا يعطيه الممدوح شيئاً ولا يسمع ما يقوله فيه من المدح‏.‏

وحكى الفضل بن الربيع قال‏:‏ رأيت مروان بن أبي حفصة وقد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعة من الشعراء فأنشده مديحاً فقال له‏:‏ من أنت فقال شاعرك مروان بن أبي حفصة‏.‏

فقال‏:‏ ألست القائل‏:‏ فقلنا أين نرحل بعد معن البيت المذكور وقد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال لا شيء عندنا جروه برجله‏.‏

قال فجروه برجله حتى آخرجوه‏.‏

فلما كان من العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء كل عام مرة فمثل بين يديه وأنشد قصيدته التي أولها‏:‏

طرقتك زائرة فجاء خيالها فأنصت لها المهدي ولم يزل يرجف كلما سمع شيئاً منها حتى زال عن البساط اعجاباً بما سمع ثم قال له‏:‏ كم بيتاً هي فقال‏:‏ مائة ألف فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏

ويقال إنها أول مائة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس‏.‏

قال الفضل بن الربيع‏:‏ فلم يلبث من الأيام إلى أن أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد فأنشده شعراً فقال له‏:‏ من أنت فقال‏:‏ شاعرك مروان بن أبي حفصة‏.‏

فقال‏:‏ ألست القائل كذا وأنشده البيت ثم قال خذوه بيده فأخرجوه فإنه لا شيء له عندنا ثم تلطف حتى دخل بعد ذلك فأنشده وأحسن جائزته‏.‏

ومن المراثي النادرة أيضاً أبيات الحسين بن مطير بن الأشيم الأسدي في معن بن زائدة أيضاً وهي من أبيات الحماسة‏:‏ ألما على معن وقولاً لقبره سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا فيا قبر معن كيف واريت جوده وقد كان منه البر والبحر مترعا مع أبيات أخرى‏.‏

وقال الصاحب بن عباد‏:‏ قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلاً قال له‏:‏ احملني أيها الأمير فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية ثم قال‏:‏ لوعلمت أن الله سبحانه خلق مركوباً غير هذه لحملتك عليه وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه‏.‏

قال بعض المؤرخين‏:‏ ولولا خوف الإطالة لا تبت من محاسنه بكل نادرة بديعة‏.‏

 سنة اثنتين وخمسين ومائة

فيها توفي عباد بن منصور‏.‏

روى عن عكرمة وجماعة وفيها توفي يونس بن يزيد صاحب الزهري روى عن القاسم وسالم وجماعة‏.‏

وفيها توفي واصل بن عبد الرحمن البصري روى عن الحسن وطبقته‏.‏

 سنة ثلاث وخمسين ومائة

فيها غلبت الخوارج الإباضية على إفريقية وهزموا عسكرها وقتلوا متوليها عمر بن حفص الأزدي وكانت الإباضية في مائة وعشرين ألف فارس وأمم لا يحصون من رجالة‏.‏

وفي السنة المذكورة ألزم المنصور الناس لبس القلانس المفرطة الطول وكانت تعمل من كاغذ ونحوه على قصب ويعمل عليها السواد‏.‏

وفيها توفي أبو خالد ثور بن يزيد الكلاعي الحافظ محدث حمص‏.‏

قال يحيى القطان‏:‏ ما رأيت شامياً أوثق منه قال أحمد‏:‏ كان يرى القدر ولذلك نفاه أهل حمص‏.‏

وفي رمضان منها توفي معمر بن راشد الأزدي مولاهم البصري الحافظ قال أحمد ليس يضم معمر إلى أحد إلا وجدته فوقه وقاك غيره كان صالحاً خيراً وهو أول من ارتحل في طلب الحديث إلى اليمن فلقي بها همام بن منبه اليمني فسمع منه ومن الزهري وهشام بن عروة وارتحل إليه الثوري وابن عيينة وابن المبارك وغندر وهشام بن يوسف قاضي صنعاء وأخذ عنه عبد الرزاق فقيه اليمن ومحدث صنعاء وله الجامع المشهور والمنسوب إليه في السنن وهو أقدم من الموطأ‏.‏

وفيها توفي هشام بن عبدالله الدستوائي البصري الحافظ قال أبو داود الطيالسي كان أمير المؤمنين في الحديث وقال غيره بكى هشام حتى فسدت عينه‏.‏

وفيها توفي وهيب بن الورد المكي الولي الكبير السيد الشهير صاحب المواعظ والرقائق والمعارف والحقائق‏:‏ قلت وكان يحكى عنه في الورع أمر عظيم وكان لا يأكل مما في الحجاز شيئاً فسأل عن سبب ذلك فقال‏:‏ فيه المصافي‏.‏

يعني أن ولاة الأمر اصطفوا منه مواضع لا تفهم ولمن شاء من حاشيتهم فقيل له‏:‏ ومن الشام ومصر أيضاً كذلك فوجم من ذلك حتى غشي عليه فلما أفاق قال الفضيل لو درينا أنه يبلغ بك هذا المبلغ ما حركناك أو كما قيل رضي الله تعالى عنهم

 سنة أربع وخمسين ومائة

فيها أهم المنصور أمر الخوارج واستيلاؤهم على بلاد المغرب فسار إلى الشام وزار القدس وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألف فارس وعقد له على المغرب فقيل إنه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم‏.‏

وفيها توفي وزير المنصور سليمان بن مخلد وقيل ابن داود المورياني كان وزير أبي جعفر المذكور تولى وزارته بعد خالد بن برمك جد البرامكة وتمكن منه تمكناً بالغاً وسبب ذلك أنه كان في ابتداء أمره يكتب لسليمان بن حبيب بن المهلب الأزدي وكان المنصور قبل الخلافة ينوب عن سليمان المذكور في بعض كور فارس فاتهمه أنه أخذ المال لنفسه فضربه بالسياط ضرباً شديداً وغرمه المال فلما ولي الخلافة ضرب عنقه وكان سيمان قد عزم على قتله عقب ضربه فخلصه منه كاتبه أبو أيوب المذكور فاعتدها المنصور له واستوزره ثم إنه فسدت نيته فيه ونسبه إلى أخذ الأموال وهم أن يوقع به فتطاول ذلك فكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به ثم يخرج سالماً فقيل إنه كان معه شيء من الدهن قد عمل فيه سحراً وكان يدهن به حاجبيه إذا دخل على المنصور فصار في العامة دهن أبي أيوب وصار مثلاً‏.‏

ومن ملح أمثاله ما ذكر خالد بن يزيد بن الأرقط قال‏:‏ بينا أبو أيوب المذكور جالس في أمره ونهيه اتاه رسول منصور فتغير لونه فلما رجع تعجبنا من حالته فضرب مثلا لذلك وقال‏:‏ زعموا أن البازي قال للديك‏:‏ ما في الأرض حيوان أقل وفاء منك‏.‏

قال وكيف ذلك قال أخذك أهلك بيضة فحضنوك ثم خرجت على أيديهم وأطعموك في أكفهم ونشأت بينهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت هاهنا وهاهنا وصدت وأخذت أنا مسيباً من الجبال فعلموني وألقوني ثم تخلى عني فأخذ صيداً في الهواء وأجيء به إلى صاحبي‏.‏

فقال له الديك‏:‏ انكم لو رأيتم من البزاة في سفافيد هم المعدة للشيء مثل الذي رأيت من الديوك لكنتم أنفر مني يعني أيها البزاة ولكنكم أنتم لو علمتم أعلم لم يتعجبوا من خوفي مع ما ترون من تمكن حالي ثم إنه وقع به في سنة ثلاث وخمسين ومائة وعذبه وأخذ أمواله‏.‏

ثم مات في السنة التي تليها والمورياني بضم الميم وسكون الواو وكسر الراء وبالمثناة من تحت وبعد الألف نون ثم ياء النسبة إلى موريان وهي قرية من قرى الأهواز‏.‏

وفيها توفي الحكم بن أبان العدني روى عن طاوس وجماعة وكان شيخ أهل اليمن وعالمهم بعد معمر وكان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه يذكر الله حتى يصبح‏.‏

وفيها توفي مقرىء البصرة أبو عمرو بن العلاء بن عمار التميمي المازني البصري أحد السبعة القراء وعمره أربع وثمانون سنة قرأ على أبي العالية وجماعة وروى عن أنس وغيره‏.‏

قال أبو عمرو كنت رأساً والحسن حي ونظرت في العلم قبل أن أختن‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية والشعر وأيام العرب‏.‏

قال‏:‏ و كانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك فأحرقها وهو في النحو من الطبقة الرابعة من علي بن ابي طالب رضي الله عنه‏.‏

قال الأصمعي سألت أبا عمرو عن ألف مسألة فأجابري فيها بألف حجة‏.‏

وكان أبو عمرو رأساً في حياة الحسن البصري مقدماً في عصره وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتاً له إلى قريب من السقف كما تقدم‏.‏

ثم ذكر إحراقه لها‏.‏

قال‏:‏ فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه يقلبه وكانت عامة أخباره عن إعراب قد أدركوا الجاهلية‏.‏

قال الأصمعي جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج فلم أسمعه يحتج ببيت إسلامي قال وفيه يقول الفرزدق‏:‏ ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار والصحيح أن كنيته اسمه وكان رحمه الله تعالى إذا دخل شهر رمضان لم ينشد بيت شعر حتى ينقضي‏.‏

وعنه أنه قال ما زدت في شعر العرب قط إلا بيتاً واحداً وهو أنكرتني وما كان الذي أنكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا‏.‏

وهذا البيت يوجد في جملة أبيات للأعشى مشهورة‏.‏

قال أبو عبيدة دخل أبو عمرو بن العلاء على سليمان بن علي وهو عم السفاح فسأله عن شيء فصدقه فلم يعجبه ما قال فوجد أبو عمرو في نفسه فخرج وهو يقول‏:‏ أنفت من الذل عند الملوك وإن أكرموني وإن قربوا إذا ما صدقتم خفتهم ويرضون مني بأن أكذب قلت وهذا يعرفك بجواز الإقواء المعروف في علم القافية لوقوعه من هذا الإمام الذي هو للاحتجاج من أقوى دليل أعني رفعه للباء من‏:‏ اكذب لموافقة القافية المتقدمة مع دخول أن الناصبة للفعل المضارع وقد اعتذر عنه بعضهم ذاهباً إلى ألن أن هاهنا وقعت مخففة من الثقيلة او أنها ملغاة من العمل‏.‏

وفي قوله هذا نظر فإن كونها مخففة من الثقيلة يحتاج إلى شروطه‏:‏ منها أن يكون الفعل بمعنى العلم أو الظن على أحد الوجهين وشرط بعضهم السين في الفعل كقوله تعالى علم أن سيكون‏.‏

وحكي عن ابن محمد النوفلي قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ قلت لأبي عمرو بن العلاء‏:‏ اخبرني عما وضعت مما سميته عربية لم يدخل فيه كلام العرب كله فقال‏:‏ لا‏.‏

فقلت‏:‏ فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة قال‏:‏ اعمل على الأكثر واسمي ما خالفني لغات‏.‏

قلت وذكر شيخنا الإمام الرضي الطبري رحمة الله عليه في كتاب شهاب القبس عن أبي عمرو بن العلاء انه قال‏:‏ اول العلم الصمت والثاني حسن الاستماع والثالث حسن السؤال والرابع حسن اللفظ والخامس نشره عند أهله‏.‏

وذكر عن أبي عبيدة أنه فاخر مصري يميناً بحضرة أبي عمرو فاستعلاه اليمني فقال أبو عمرو المصري‏:‏ قل له لنا النبوة والخلافة والكعبة والسدانة وزمزم والسقاية واللواء والرفادة والشورى والندوة والسبق بالإيمان والهجرة ولنا فتوح الآفاق وتفرقة الأرزاق وبنا سميت الأنصار أنصاراً ومنا أول من تنشق عنه الأرض وصاحب الحوض وأول شافع ومشفع وأول من يدخل الجنة وسيد ولد آدم وكرم الناس أباً وأماً صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومنا الأسباط والأنبياء عليهم السلام وجبابرة الملوك العظماء فمن عزمنكم فنحن أعززناه ومن ذل فنحن أذللناه قال‏:‏ فعجب الناس من كلامه حتى أنه لو كان قد أعده أو قرأ من كتاب ما زاد على ذلك وقال فوت الحاجة خير من طلبها من غير أهلها وقال‏:‏ ما تساب اثنان إلا غلب ألامهما وقال‏:‏ اذا تمكن الإخاء فتح الثاء وقال ما ضاق مجلس بين متحابين وما اتسعت الدنيا بين متباغضين وقال‏:‏ احسن المراثي ابتداء قول فضالة بن كندة العبسي‏:‏ أيتها النفس اجملي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا بان الذي جمع السماحة والنجدة والبر والتقى جمعا الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع وقال الأصمعي‏:‏ سمع أبو عمرو رجلاً ينشد وكان مستتراً من الحجاج‏.‏

اصبرالنفس عند كل مهم إن في الصبر حيلة المحتال لاتضيقن في الأمور فقد تكشف غماؤها بغير احتمال ربما تجزع النفس في الأمر ماله فرجة كحل العقال سمعها بسحره وكان قد خرج يريد الانتقال فقال له ما الأمر فقال‏:‏ مات الحجاج‏.‏

فلم أدر بأيهما أنا أفرح بموت الحجاج أم بقوله فرجة وكنا نقول فرجة من الفرج وغيره وبالضم فرجة الحائط وفي رواية قال يقال فرجة بالفتح بين الأمرين وبالضم بين الجبلين يعني بالفتح والضم في الفاء وقال أبو عمرو‏:‏ و حججنا سنة فمررنا ذات ليلة بواد فقال لنا المكري‏:‏ ان هذا واد كثير الجن فأقلوا الكلام حتى تقطعوه قال‏:‏ مررنا بهم في الرمل مخبتين يتبين منهم الرؤوس واللحى نسمع حسهم ولا نراهم فسمعنا منهم هاتفاً يقول‏:‏ وإن امرءاً دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور قال فوالله لقد ذهب عنا ما كنا فيه من الغم وأخبار أبي عمرو كثيرة وفضائله شهيرة وكانت ولادته سنة سبعين وقيل ثمان وستين وقيل خمس وستين من الهجرة بمكة وتوفي سنة أربع وقيل ست وقيل تسع وخمسين ومائة بالكوفة وقال ابن قتيبة مات في طريق الشام ونسب في ذلك إلى الغلط فقد ذكر بعض الرواة أنه رأى قبر أبي عمرو بالكوفة مكتوباً عليه هذا قبر أبي عمرو بن العلاء فلما حضرته الوفاة كان يغشى عليه ويفيق فأفاق من غشيته فإذا ابنه بشر يبكي فقال‏:‏ و ما يبكيك وقد أتت على أربع وثمانون سنة ورثاه بعضهم بقوله‏:‏

رزينا أبا عمرو ولا حي مثله ** فلله ريب الحادثات بمن فجع

فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ** ذوي حلة ما في انسداد لها طمع

فقد جز نفعاً فقدنا لك أننا ** أمنا على كل الرزايا من الجزع

قيل رثاه بها عبدالله بن المقنع وقيل يحيى بن زياد الشاعر المشهور خال السفاح وقيل غير من ذكر‏.‏

سنة خمس وخمسين ومائة فيها فتح يزيد بن حاتم إفريقية واستعادها من الخوارج وهزمهم وقتل كبارهم ومهد قواعدها أميراً من جهة المنصور‏.‏

وفيها توفي الراوية حماد بن أبي ليلى الديلمي الكوفي وقال ابن قتيبة‏:‏ انه مولى لابن زيد الخيل الطائي الصحابي كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها هو الذي جمع السبع الطوال فيها ذكره أبو جعفر بن النحاس وكانت ملوك بنى أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره فيفيد عليهم وينال منهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها‏.‏

وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً وقد حضر مجلسه‏:‏ بما استحققت هذا الاسم فقيل لك الراوية فقال‏:‏ اني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي الأكثر منهم ممن تعرف أنك لا تعرفه ولا أسمعت به ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا حديثاً إلا ميزت القديم من الحديث فقال له‏:‏ فكم مقدار ما تحفظ من الشعر فقال‏:‏ كثير ولكنني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام فقال‏:‏ سأمتحنك في هذا وأمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استخلفه إن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأنشده ألفين وتسع مائة قصيدة جاهلية فأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏

وذكر الحريري صاحب المقامات في كتابه درة الغواص ما مثاله‏:‏ قال حماد الراوية‏:‏ كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بخلافته وكان أخوه هشام يحقدني لذلك فلما مات يزيد وتولى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق به من إخواني سراً فلما لم أسمع أحداً ذكرني في السنة أمنت فخرجت يوماً أصلي الجمعة بالرصافة فإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا يا حماد اجب الأمير فقلت في نفسي‏:‏ من هذا كنت أخاف ثم قلت لهما‏:‏ هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم ثم أسير معكما فقالا‏:‏ ما إلى ذلك سبيل فاستسلمت في أيديهما فمثلت إلى الأمير على العراق وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي كتاباً فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عند هشام أمير المؤمنين إلى فلان ابن فلان أمير العراق‏.‏

أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمس مائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق قال‏:‏ فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مر حول فركبته وسرت حتى وافيت دمشق في اثنتي ليلة فنزلت على باب هشام واستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب حمر من الخز وقد تضمخ بالمسك والعنبر فسلمت عليه فرد علي السلام فاسدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان فقال‏:‏ كيف أنت يا حماد وكيف حالك فقلت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ اتدري فيما بعثت إليك قلت‏:‏ لا فقال‏:‏ بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله قلت‏:‏ و ما هو قال‏:‏ ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت قينة في يمينها إبريق بكر العاذلون في وضح الصبح يقولون لي أما تستفيق ويلومون فيك يا ابنة عبد الله والقلب عندكم موثوق لست أدري إذا كثر العذل فيها أعدو يلومني أم صديق قال‏:‏ فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله‏:‏ ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت قينة في يمينها إبريق مع أبيات أخر يطول ذكرها قال‏:‏ فطرب هشام ثم قال‏:‏ احسنت يا حماد‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ و في هذه الحكاية زيادة قال اسقيه يا جارية فسقتني قال‏:‏ و هذا ليس بصحيح فإن هشاماً لم يشرب ثم قال‏:‏ يا حماد سل حاجتك فقلت كائنة ما كانت قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ احدى الجاريتين قال‏:‏ هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما وأنزله في داره ثم نقله إلى دار أعدها له فوجد فيها جاريتين وكل ما لهما وكل ما يحتاج إليه وأقام عنده مدة وصله بمائة ألف درهم ولما مات حماد رثاه عبد الأعلى المعروف بابن كناسة‏:‏ لو كان نجي من الردى حذر نجاك مما أصابك الحذر ِ # يرحمك الله من أخي ثقة لم يك في صفو وده كدر فهكذا يفسد الزمان ويفنى العلم وتدرس الأثر ودفن بقرية من أعمال ماسبدان وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة شعراً منه هذا البيتان وقد غيرت المصراع الأول من الأول منهما ليكون عدولاً عما لا يجوز من لفظ‏:‏ سقى الله قبراً من سحائب رحمة ثوى فيه حماد بماسبدان عجبت لأيد هالت الترب فوقه ضحى كيف لم ترجع بغير بنان ولفظه الذي غيرته هو قوله‏:‏ وأكرم قبر بعد قبر محمد نبي الهدى قبر بما سبدان فقد فضله كما ترى على جميع الأولياء بل على جمع الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على ما نقله عنه أهل التواريخ وبئس القول والقائل‏.‏

وفيها توفي مسعر بن كدام الهلالي الكوفي وصفوان بن عمرو السكسكي وعث ابن أبي العاتكة الدمشقي‏.‏