فصل: سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة احدى وتسعين وخمس مائة

فيها كانت وقعة الزلاقة بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين ملك الفرنج فدخل يعقوب وغدا من زقاق سبتة في مائة ألف غير المطوعة وأقبل الكافر عدو الله في مائتي ألف وأربعين ألفاً فانتصر بحمد الله الإسلام وانهزم الكلب في عدد يسير وقتل من الفرنج على ما أرخ أبو شامة وغيره مائة ألف وستة وأربعون ألفاً وأسر ثلاثون ألفاً وغنم المسلمون غنيمة لم يسمع بمثلها حتى بيع السيف بنصف درهم والحصان بخمسة دراهم والحمار بدرهم وذلك في تاسع شعبان من السنة المذكورة‏.‏

وفيها سار الملك العزيز ولد صلاح الدين من مصر فنزل بحوران لياخذ دمشق من أخيه الأفضل فاتخذ الأفضل عمه العادل فرجع العزيز وتبعاه فدخل القاضي الفاضل في الصلح بينهم وأقام العادل بمصر

وفيها توفي الحافظ القدوة الإمام أحد العلماء الأعلام أبو محمد عبد الله الأندلسي الزاهد‏:‏ عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبيد الله المرسي سمع فأكثر على أبي الحسن بن مغيث وابن العربي والكبار وتفنن في العلوم وبرع في الحديث وطال عمره وشاع ذكره وكان قد سكن سبتة فاستدعاه السلطان إلى مراكش ليسمع‏.‏

 سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة

فيها قدم العزيز دمشق مرة ثالثة ومعه عمه العادل فحاصرا دمشق ثم حاصر جند الأفضل عليه ففتحوا لهما ودخلا في رجب وزال ملك الأفضل ورجع العزيز وبقي العادل بدمشق وخطب بها للعزيز قليلاً‏.‏

وفيها توفي الشيخ السديد شيخ الطب بالديار المصرية الملقب شرف الدين عبدالله بن علي‏.‏

أخذ الصناعة عن الموفق بن زربي - بالزاي ثم الراء ثم الموحدة وياء النسبة - وخدم العاضد صاحب مصر ونال الحرمة والجاه العريض وعمر دهراً وأخذ عنه النفيس بن الزبير‏.‏

وحكي أنه حصل له في يوم ثلاثون ألف دينار وحكى عنه تلميذه أبن الزبير أنه لما ظهر ولدي الحافظ لدين الله حصل له نحو خمسين ألف دينار‏.‏

وفيها توفي الحبر الإمام أبو القاسم محمود بن المبارك الواسطي ثم البغدادي الفقيه الشافعي أحد الأذكياء المناظرين المشار إليه في زمانه والمقدم على أقرانه درس بالنظامية وقم دمشق بنيت له مدرسة جاروخ - بالجيم في أوله والخاء المعجمة في آخره - ثم توتجه إلى شيراز وبنى له ملكها مدرسة ثم أحضره ابن القضاب وقدمه‏.‏

وفيها توفي أبو الغنائم محمد بن علي معروف بابن المعلم الشاعر المشهور كان شاعراً رقيق الشعر لطيف الطبع يكاد شعره يذوب من رقته وهو أحد من اشتهر شعره وانتشر ذكره ونبل بالشعر قدره وحسن به حاله وأمره وطال في نظمه عمره وساعده على قبوله دهره وأكثر القول في الغزل والمدح وفنون المقاصد وكان سهل الألفاظ صحيح المعاني يغلب على شعره وصف الشوق والحب وذكر الصباية والغرام فعلق بالقلوب ولطف مكانه عند أكثر الناس ومالوا إليه وتحفظوا وتداولوه بينهم واستشهد به الوعاظ واستحلاه السامعون‏.‏قال ابن خلكان‏:‏ سمعت من جماعة من مشايخ البطائح يقولون‏:‏ ما سبب لطافة شعر ابن المعلم‏!‏ ألا أنه كان إذا نظم قصيدة حفظها الفقراء المنتسبون إلى الشسخ أحمد بن الرفاعي وغنوا بها في سماعاتهم فطابوا عليها فعادت عليه بركة أنفاسهم‏.‏

قال‏:‏ ورأيتهم يعتقدون ذلك اعتقاداً لا شك فيه عندهم قال‏:‏ وبالجملة فشعره شبيه النوح ولا يسمعه من عنده أدنى هوى إلا وهاج غرامه‏.‏

قال‏:‏ وكان بينه وبين ابن التعاويذي الشاعر المتقدم ذكره تنافس وهجاه ابن التعاويذي بابيات أجاد فيها‏.‏

ومن شعر ابن المعلم‏:‏

ولكم بذاك الجزع من متمتع ** هزت معاطفه بغصن البان

أبدى قلونه بأول موعد ** ومن الوفاء لنا بوعد ثان

فمتى اللقاء ودونه من ** قومه أبناء معركة وأسد طعان

تعلو الرماح وما أظن أكفهم خلقت لغير ذوابل المران وتقلد وابيض السيوف فما ترى في الحي غير مهند وسنان ولئن صددت فمن مراقبة العدا ما الصد عن ملك ولا سلوان يا ساكني نعمان أين زماننا بطويلع يا ساكني نعمان وحكي عن ابن المعلم المذكور أنه قال‏:‏ كنت ببغداد فاجتزت يوماً بالموضع الذي يجلس فيه الشيخ أبو الفرج بن الجوزي الواعظ فرأيت الخلق مزدحمين فسألت بعضهم عن سبب ازدحامهم فقال‏:‏ هذا ابن الجوزي الواعظ جالس‏.‏

- ولم أكن علمت بجلوسه - فزاحمت وتقدمت حتى شاهدته وسمعت كلامه وهو يعظ حتى قال مستشهدا على بعض إشاراته ولقد أحسن ابن المعلم حيث يقول‏:‏ يزداد في مسمعي تكرار ذكركم طيباً وبحسن في عيني تكرره فعجبت من اتفاق حضوري واستشهاده بهذا البيت من شعري ولم يعلم بحضوري لا هو ولا سنة ئلاث وتسعين وخمس مائة فيها افتتح العادل يافا وفيها أخذت الفرنج من المسلمين بيروت وهرب أميرها الى صيدا‏.‏

وفيها توفي سيف الإسلام الملك العزيز طغتكين بن أيوب بن شاذي صاحب اليمن‏.‏

كان أخوه الملك الناصر صلاح الدين لما ملك الديار المصرية قد سير أخاه شمس الدولة إلى بلاد اليمن فدخلها واستولى على كثير من بلادها ثم رجع عنها على ما هو مذكور في ترجمته في سنة ست وسبعين وخمسمائة ثم سير السلطان صلاح الدين إليها بعد ذلك أخاه سيف الإسلام وذلك في سنة سبع وسبعين وخمس مائة وكان رجلاً شجاعاً كريماً مشكور السيرة وحسن السياسة مقصوداً من البلاد الشاسعة لاحسانه وبره‏.‏

وكانت وفاة سيف الإسلام بالمنصورة مدينة اختطها باليمن وتولى بعده ولده الملك المعز فتح الدين اسماعيل الذي سفك الدماء وظلم وعسف وادعى أنه أموي‏.‏

وللمعز المذكور صنف أبو الغنائم مسلم بن محمود الشيرازي كتابه الذي سماه‏:‏ عجائب الأسفار وغرائب الأخبار وأودع فيه من أشعاره وأخبار الناس كثيراً‏.‏

وذكر بعضهم أنه مات بالحمراء من بلاد اليمن وذكر أبو الغنائم في كتابه جمهرة الإسلام ذات النثر والنظم وأنه مات بثغر ودفن بها في المدرسة ثم قال‏:‏ وقتل ولده فتح الدين أبو الفداء اسماعيل في رجب سنة ثمان وتسعين بمكان شامي زبيد وتولى مكانه أخوه الملك الناصر أيوب‏.‏

وكان أبو الغنائم المذكور أديباً شاعراً وكان أبوه أبو الثناء محمود نحوياً متصدراً الإقراء النحو بجامع دمشق ذكره الحافظ ابن عساكر وقال ابن عنين‏:‏ أنشدني محمود المذكور لنفسه‏:‏ يقولون كافات الشتاء كثيرة وما هي إلا واحد غير مفترى إذا صح الكيس فالكل حاصل لديك وكل الصيد يوجد في القري وفيها توفي الوزير عبدالله بن يونس البغدادي تفقه واشتغل بالأصول والكلام وقرأ القراءات وسمع من أبي الوقت وصنف كتاباً في الكلام والمقالات ثم توكل لأم الخليفة فترقى وعظم قدره وولى وزارة الناصر لدين الله‏.‏

 سنة اربع وتسعين وخمس مائة

فيها استولى علاء الدين خوارزم شاه على بخار وكانت للمعين صاحب الخطا وجرى له معه حروب وخطوب ثم انتصر علاء الدين وقتل خلقاً من الخطا‏.‏

وفيها توفي السيد الكبير أبو علي الحسن بن مسل المشار إليه في العراق في زمانه‏.‏

ويقال إنه كان من الأبدال زاره الخليفة الناصر غير مرة وتفقه وسمع من أبي البدر الكرخي وكان كثير البكاء دائم المراقبة متبتلاً في العبادة مشهوراً برفض الدنيا بلغ التسعين رحمة الله تعالى عليه‏.‏

وفيها توفي صاحب سنجار الملك عماد الدين زنكي بن مودود تملك حلب بعد ابن عمه الصالح اسماعيل فسار صلاح الدين ونازله ثم أخذ منه حلب وعوضه بسنجار وكان عادلاً متواضعاً وتملك بعده ابنه قطب الدين محمد‏.‏

وفيها توفي قوام الدين يحيى بن سعيد الواسطي المعروف بابن الزياد صاحب ديوان الإنشاء ببغداد انتهت إليه رئاسة الترسل مع معرفته بالفقه والأصول والكلام والنحو والشعر أخذ عن ابن الجواليقي وحدث عن القاضي الأرجاني وغيره وولي نظر واسط ثم ولي حجابة الحجاب‏.‏

 سنة خمس وتسعين وخمس مائة

وفيها بعث الخليفة خلع السلطنة لخوارزم شاه‏.‏وفيها أخرج ابن الجوزي من سجن واسط وتلقاه الناس وبقي في المطمورة خمس سنين‏.‏

كذا ذكر الذهبي ولم يبين لأي سبب سجن‏.‏

وكنت قد سمعت فيما مضى أنه حبس بسبب الشيخ عبد القادر بأنه كان ينكر عليه وكان بينه وبين ابنه عداوة بسبب الإنكار المذكور‏.‏

وأخبرني من وقف على كتاب له ينكر على قطب الأولياء‏.‏

وتاج المفاخر الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر الشيخ محيي الدين عبد القادر - قدس الله تعالى روحه ونور ضريحه - وإنكار ابن الجوزي عليه وعلى غيره من الشيوخ أهل المعارف والنور من جملة الخذلان وتلبيس الشيطان والغرور‏.‏

والعجب منه في انكاره عليهم وبمحاسنهم يطرز كلامه فقد ملأت - والحمد لله - محاسنهم الوجود فلا مبالاة بذم كل مغرور وحسود‏.‏

قال الذهبي‏:‏ وفيها فتنة الفخر الرازي صاحب التصانيف‏.‏وذلك أنه قدم هراة ونال إكراماً عظيماً من الدولة فاشتد ذلك على الكرامية فاجتمع يوماً هو والقاضي مجد الدين ابن القدوة فناظرا ثم استطال فخر الدين على ابن القدوة وشتمه ونال منه ما خرج فيه إلى الإهانة له‏.‏

فلما كان من الغد جلس ابن عم مجد الدين فوعظ الناس وقال‏:‏ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين أيها الناس ما نقول إلا ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأما قول أرسطو أو كفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها فلأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وبكى فأبكى الناس وضجت الكرامية وثاروا من كل ناحية وحميت الفتنة فأرسل السلطان الجند وسكتهم وأمر الرازي بالخروج‏.‏

قلت‏:‏ هكذا ذكر من المؤرخين من له غرض في الطعن على أئمة الأشعرية‏.‏

ثم أتبع ذلك بقوله‏.‏

وفيها كانت بدمشق فتنة الحافظ عبد الغني‏.‏

وكان أماراً بالمعروف داعية إلى السنة فقامت عليه الأشعرية وأفتوا بقتله فأخرج من دمشق مطروداً‏.‏

انتهى كلامه بحروفه في القصتين معاً‏.‏

ومذهب الكرامية والظاهرية معروف والكلام عليهما إلى كتب الأصول الدينية مصروف فهنالك يوضح الحق البراهين القواطع ويظهر الصواب عند كشف النقاب للمبصر والسامع‏.‏

وفيها مات العزيز صاحب مصر أبو الفتح عثمان ابن السلطان صلاح الدين‏.‏

وكان شاباً ذا كرم وحياء وعفة‏.‏

قالوا‏:‏ وبلغ من كرمه أنه لم يبق له خزانة وبلغ من عفته أنه كان له غلام بألف دينار فحل لباسه ثم أدركه التوفيق فتركه وأسرع إلى سرية له فقضى حاجته منها‏.‏وأقيم والده علي فاختلف الأمراء وكان بعضهم للأفضل فسار إلى مصر ثم سار بالجيوش ليأخذ دمشق من عمه فوقع الحصار ثم دخل الأفضل من باب السلامة وفرحت به العامة وحوصرت القلعة مد‏.‏

وفيها صلب بدمشق إنسان زعم أنه عيسى ابن مريم وأضل طائفة فأفتى العلماء بقتله‏.‏

وفيها توفي الإمام العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي المعروف بابن رشد‏.‏

تفقه وبرع وسمع الحديث وأتقن الطب ثم أقبل على الكلام والعلوم الفلسفية حتى صار يضرب به المثل فيها وصنف التصانيف وكان ذا ذكاء مفرط وملازمة للاشتغال ليلاً ونهاراً‏.‏وتآليفه في الفقه والطب والمنطق والرياضي والإلهي‏.‏

وكانت وفاته بمراكش‏.‏

وفيها توفي شيخ الطب وجالينوس العصر محمد بن عبد الملك بن زهر الإيادي الإشبيلي أخذ الصناعة عن أبي العلاء زهير بن عبد الملك وبرع ونال تقدماً وحظوة عند السلاطين وحمل الناس عنه تصانيفه‏.‏

وكان جواداً ممدحاً محتشماً كثير العلم قيل‏:‏ إنه حفظ صحيح البخاري كله وحفظ شعر ذي الرمة وبرع في اللغة‏.‏

توفي بمراكش‏.‏

وفيها توفي العلامة يحيى بن علي البغدادي الشافعي المعروف بابن فضلان‏.‏

كان من أئمة علم الخلاف والجدل مشاراً إليه‏.‏

وفيها توفي المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب الملقب بأمير المؤمنين‏.‏

قد تقدم ذكر جده عبد المؤمن ولما مات أبوه اجتمع رأي المشايخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه فبايعوه وعقد له الولاية ودعوة أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور فقام بالأمر أحسن قيام وهو الذي أظهر أئمة ملكهم ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في أمر الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته والأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين فاستقامت الأحوال في أحواله وعظمت الفتوحات‏.‏

ولما مات أبوه كان معه في الصحبة فباشر تدبيرالمملكة من هناك فأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها ومهد مصالحها في مدة شهرين وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات وأرسل بذلك على سائر بلاد الإسلام التي في مملكته فأجاب قوم وامتنع آخرون‏.‏

ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم فخرج عليه علي بن إسحاق الملثم في شعبان سنة ثمانين وخمس مائة وملك بجاية وما حولها فجهز إليه يعقوب عشرين ألف فارس وأسطوله في البحر‏.‏

ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين فاستعاد ما أخذ من البلاد ثم عاد إلى مراكش‏.‏

وخرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسبوا فانتهى الخبر إلى الأمير يعقوب فتجهز لقتالهم في جحفل عرمرم من قبائل الموحدين والعرب واحتفل فيها وجاء إلى الأندلس فعلم الفرنج فجمعوا جمعاً كثيراً من أقاصي بلادهم‏.‏وكان قد كتب إليه ملك الفرنج يتهدد المسلمين ومن جملة كتابه باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح ثم عقب ذلك بالتوبيخ للأمير يعقوب والتهديد في كلام يطول‏.‏

فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه وكتب على ظهر قطعة منه‏:‏ ارجع إليهم ‏"‏ فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ‏"‏ - النمل - إن الجواب ما ترى لا ما تسمع‏.‏

ثم كتب هذا البيت‏:‏ ولا كتب إلا المشرقية عنده ولا ارسل إلا الخميس العرمرم بيت المتنبي المشهور‏.‏

ثم أمر باستدعاء الجيوش من الأمصار وضرب السرادقات بظاهر البلد من يومه وجمع العساكر وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة فعبر فيه إلى الأندلس وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج - وقد اعتدوا وأحشدوا وتأهبوا - فكسرت كسرة شنيعة بعد أن أمر فرسان الموحدين وأمراء العرب أن يحملوا ففعلوا وانهزم الفرنج وأعمل فيهم السيف فاستأصلهم قتلاً وما نجا منهم إلا ملكهم في نفر يسير‏.‏

وغنم المسلمون أموالهم حتى قيل إنه حصل لبيت المال من دروعهم ستون ألف درع‏.‏

أما الدواب على اختلاف أنواعها فلم ينحصر لها عدد ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها‏.‏

ومن عادة الموحدين أنهم لا يأسرون مشركاً محارباً إن ظفروا به ولو كان ملكاً عظيماً بل يضربون رقاب الجميع - قلوا أو كثروا‏.‏

ثم أتبعهم بجيش فألفوهم قد أخلوا قلعة رباح لما داخلهم من الرعب فملكها يعقوب وجعل فيها والياً وجيشاً‏.‏

ولكثرة الغنائم لم يمكنه الدخول إلى بلاد الفرنج فعاد إلى اشبيلية‏.‏

وله مع الفرنج حروب عديدة أذلهم فيها ونال منهم قتلاً ونهباً وتخريباً لديارهم إلى أن التمسوا منه الصلح فصالحهم‏.‏

وانتقل الى مدينة سلاوينا وهي بالقرب منها مدينة عظيمة سماها رباط الفتح على هيئة الإسكندرية في اتساع الشوارع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه وتحصينه وبناها على البحر المحيط ثم رجع إلى مراكش‏.‏

وبعد هذا اختلفت الرواية في أمره فمن قائلين إنه تجرد وساح في الأرض وانتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف لا يعرف - ومات خاملاً ومن قائلين إنه لما رجع إلى مراكش توفي - رحمه الله تعالى‏.‏

قلت وسأذكر فيما بعد ما يؤيد قول من قال إنه تجرد عن الملك وساح في البلاد‏.‏

وكان ملكاً جواداً عادلاً متمسكاً بالشرع المطهر يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر - كما ينبغي - من غير محاباة ويصلي بالناس الصلوات الخمس ويلبس الصوف ويقف للمرأة والضعيف فيأخذ لهم حقهم من كل ظالم عنيف وأوصى أن يدفن في قارعة الطريق ليترحم عليه من أوصلته طريقه إليه من كل من مر به - أقبل لحاجة أو أدبر‏.‏

وكان قد أمر علماء زمانه أن لا يقلدوا أحداً من الأئمة المجتهدين المتقدمين بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا - وهم على تلك الطريق - مثل أبي الخطاب بن دحية وأخيه أبي عمر ومحيي الدين بن العربي نزيل دمشق وغيرهم‏.‏

وكان يعقوب المذكور يعاقب على ترك الصلاة ويامر بالنداء في الاسواق بالمبادرة إليها فمن غفل عنها واشتمل بمعيشة عزر تعزيراً بليغاً‏.‏

وكان قد عظم ملكه واتسعت دائرة سلطانه حتى لم يبق بجميع أقطار بلاد المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلا من هو في طاعته وداخل ولايته إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس‏.‏

وكان محسناً محباً للعلماء مقرباً للأدباء مصغياً إلى المدح مثيباً عليه وله ألف أبو العباس الموحدي كتابه الموسوم بصفوة الأدب وديوان العرب في مختار الشعر‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهو مجموع مليح أحسن في اختياره كل الإحسان‏.‏

وإلى الأمير يعقوب نسبت الدنانير اليعقوبية المغربية‏.‏

وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدين رسولاً يستنجده على الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام ولم يخاطبه بأمير المؤمنين بل بأمير المسلمين فعز عليه ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه‏.‏

فلما توفي الأمير يعقوب بايع الناس ولده أبا عبدالله محمد بن يعقوب - ويلقب - بالناصر وارتجع الفدية من الملثم المتقدم ذكره وكان قد استولى عليها ثم تحول محمد بن يعقوب ثم توفي بعد ذلك في سنة ست عشرة وستمائة‏.‏

والمغاربة يقولون إنه أوصى عبيده بحراسة بستانه وحفظه فتنكر وجعل يمشي في بستانه ليلاً فعندما رأوه ابتدروه بالرماح فجعل يقول‏:‏ أنا الخليفة أنا الخليفة فما تحققوه حتى هلك‏.‏

والله أعلم بذلك‏.‏

ولم يزل بنو عبد المؤمن يتوارثون الملك إلى أن انتهى إلى أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن فوقعت بينه وبين بني مريم حرب قتل فيها فانقرضت دولة بني عبد المؤمن واستولى بنو مريم على ملكهم ولم يزل الملك في عنقهم إلى الآن‏.‏

قلت‏:‏ هكذا قال ابن خلكان وهكذا هو أيضاً إلى الآن لكنه قد تضعضع واضطرب لعدم طاعة العرب‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم أن بعض المغاربة يذكرون أن الأمير يعقوب خلى الملك وساح في الأرض‏.‏

ووعدت هناك بذكر ما يؤيد هذا القول وها أنا أذكره الآن‏:‏ سمعت ممن لا أشك في صلاحه من الفقراء الصادقين المتجردين المباركين من بلاد المغرب أن جمعاً من شيوخ المغاربة ذكروا رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري - رحمه الله تعالى - وما جمع فيها من مشايخ المشارقة وذكر مناقبهم فراموا أن يعارضوا رسالته برسالة مشتملة على شيوخ يذكرونهم فيها - من شيوخ المغاربة - ثم ذكروا أن في شيوخ الرسالة القشيرية من تجرد عن الملك ولم يجدوا في شيوخ المغرب من هو كذلك فقالوا‏:‏ ما تتم لنا معارضة الرسالة المذكورة إلا بملك منها يزهد ويسلك طريق ابن أدهم المشكور‏.‏

فاهتموا لحصول ملك يزهد في الدنيا من ملوك المغرب ليعارضوا به ابن أدهم على المنصب فجاء الشيخ الكبير الولي الشهير أبو ابراهيم بن أدهم إلى أمير المؤمنين - يعقوب المذكور فيما تقدم - واجتمع به فسر يعقوب بذلك وأخرج له من خزائنه جواهر نفيسة إكراماً له في مجيئه إليه فالتفت أبو ابراهيم إلى شجرة هنالك وإذا هي حاملة جواهر تدهش العقول فدهش أمير المؤمنين يعقوب وهاله ما رأى من تصريف عباد الله في ملك الله وما أكرمهم به ووالاهم ورفع قدرهم وأعلاهم حتى صارت ملوك الدنيا بين أيديهم كالخدم وملكهم حقير كالعدم‏.‏

فعند ذلك احتقر يعقوب ما هو فيه من ملك الدنيا فزهد فيه وصار من كبار الأولياء‏.‏

 سنة ست وتسعين وخمس مائة

فيها تسلطن علاء الدين خوارزم شاه محمد بعد موت أبيه‏.‏

وفيها كانت محاصرة دمشق‏.‏

وبها العادل وعليها الأفضل والظاهر ابنا صلاح الدين وعساكرهما نازلة قد خندقوا عليهم من أرض اللوان إلى بلد آخر فأمن من كبسة عسكر العادل ثم ترحلوا عنها ورجع الظاهر إلى حلب وسار الأفضل إلى مصر فساق وراءه العادل وأدركه عند العراب ثم تقدم عليه وسبقه إلى مصر فرجع الأفضل خائباً إلى صرخد - بالخاء المعجمة - وغلب العادل على مصر وقال‏:‏ هذا صبي‏.‏

وقطع خطبته ثم أحضر ولده الكامل وسلطنه على الديار المصرية فلم ينطق أحد من الأمراء‏.‏

وسهل له ذلك اشتغال أهل مصر بالقحط فإن فيها كسو النيل من ثلاثة عشر ذراعاً إلى ثلاثة أصابع واشتد الغلاء وعدمت الأقوات وشرع الوباء وعظم الخطب إلى أن آل بهم الأمر إلى أكل الآدميين الموتى‏.‏

وفيها توفي العلامة أبو اسحاق العراقي ابراهيم بن منصورالمصري الخطيب شيخ الشافعية بمصر‏.‏

شرح كتاب المهذب في عشرة أجزاء شرحاً جيداً‏.‏

قلت‏:‏ وهذا المذكور أول شراح المهذب وهم خمسة فيما علمت والثاني الإمام العلامة أبو عمر وعثمان بن عيسى الماراني الملقب ضياء الدين شرح الكتاب المذكور في قريب من عشرين مجلداً لكنه لم يكمله بل بلغ فيه إلى كتاب الشهادات وسماة الاستقصاء لمذاهب العلماء والفقهاء‏.‏

وسيأتي ذكر ذلك في ترجمته في السنة التي توفي فيها سنة اثنين وستمائة بالقاهرة‏.‏

و الثالث و الرابع السيدان الكبيران الوليان الشهيران الإمامان الجليلان أبو الذبيح اسماعيل ابن محمد الحضرمي اليمني وأبو زكريا محيي الدين النووي وهما متعاصران توفيا في سنةواحدة سنة ست وسبعين وستمائة‏.‏

ولا أدري أيهما سبق بالشرح فلهذا جمعتهما وسيأتي ذكرهما في السنة المذكورة وثني من فضائلهما بالتعديد‏.‏

والخامس الإمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي وكل هؤلاء المذكورين ما أكملوا شرحه سوى العراقي والحضرمي وشرح السبكي إنما بناه على ما انتهى إليه النووي وهو باب الربا ولم يكمله أيضاً ولقب أبو إسحاق المذكور بالعراقي لاشتغاله ببغداد‏.‏

وفيها توفي علاء الدين خوارزم شاه سلطان الوقت‏.‏

ملك من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى بغداد‏.‏وكان جيشه مائة الف فارس وهو الذي أزال دولة سلجوق‏.‏

وكان شجاعاً فارساً عالي الهمة تغير على الخليفة وعزم على قصد العراق فجاءه الموت فجأة في رمضان وحمل إلى خوارزم وقيل كان عنده أدب ومعرفة بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وقام مدة بعد ولده قطب الدين محمد‏.‏

وفيها توفي مجد الدين طاهر بن نصر الله بن جميل الكيلاني الشافعي الفرضي مدرس مدرسة صلاح الدين في القدس وهو أحد من قام على الحكيم الشهروردي وأفتى بقتله‏.‏وفيها توفي أبو علي المعروف بالقاضي الفاضل عبد الرحيم ابن القاضي الملقب بالأشرف أبي المجد علي ابن القاضي الملقب بالسعيد أبي محمد الحسن بن الحسن اللخمي العسقلاني المولد المصري الدار وزر للسلطان صلاح الدين وتمكن منه غاية التمكن‏:‏ وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدمين وله فيه الغرائب مع الإكثارقال ابن خلكان‏:‏ أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وهو مجيد في أكثرها‏.‏

قال العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة في حقه‏:‏ رب العلم والبيان واللسن واللسان القريحة والوقادة والبصيرة النقادة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة تخترع الأفكار وتفترع الأبكار وتطلع الأنوار وتبدع الازهار وهو ضابط الملك بآرائه ورابط السلك بآلآئه أن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة‏.‏

أين قس في فصاحته‏!‏ وأين قيس في مقام حصافته‏!‏ وأين حاتم وعمرو في سماحته وحماسته‏!‏ وأطال القول فيما سمت به مدائحه‏.‏

فالله تعالى يسامحنا ويسامحه‏.‏

وذكر له رسالة لطيفة كتبها إلى صلاح الدين من جملتها‏:‏ أدام الله السلطان الملك وثبته وتقبل عمله بقبول صالح وأنبته وأرغم أنف عدوه بسيفه وكتبه خدمة المملوك هذه واردة على يد خطيب عيذاب لما نابه المنزل عنها وقل عليه الموفق فيها‏.‏

وسمع بهذه الفتوحات التي طبق الأرض ذكرها ووجب على أهلها شكرها‏.‏

هاجر من هجر عيذاب وملحا سارياً في ليلة أمل كلها نهار فلا يسأل عن صحبها وقد رغب في خطابة الكرك وهو خطيب - وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس - وهو قريب - وبرع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب - والفقر سائق عنيف والمذكور خامل لطيف والسلام‏.‏

ومن رسالة له في قلعة شاهقة يقال إنها قلعة كوكب قال‏:‏ وهذه العلقة عقاب في عقاب ونجم في سحاب وهامة لها الغمامة عمامة ذائلة إذا حصنها - الأصيل كان الهلال لها قلامة‏.‏

وله في النظم أشياء حسنة منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين يتشوق إلى نيل مصر‏:‏ بالله قل للنيل عني أنني لم أشف من الفرات غليل وسل الفؤاد فإنه لي شاهد إن كان جفني بالدموع بخيلا يا قلب كم خلقت ثم بثينة وأعيذ صبرك أن يكون جميلا قلت‏:‏ وهذا البيت رمز فيه رمزاً أشار فيه إلى ما كان بين بثينة وجميل من الحب وهيمان جميل بها وإعاذته بالله من أن يكون متصفاً بما اتصف به جميل من الهيمان وفرط الحب الذي لا يقوى عليه إنسان واستعار ذلك لما في قلبه من المحبة للنيل‏.‏

ومنها قوله‏:‏ إذا السعادة لاحظتك عيونها ثم المخاوف كلهن أمان قلت والظاهر أن قوله‏:‏ وافتل - بالفاء والمثناة من فوق - من فتل العنان‏.‏

وأثنى عليه أيضاً الفقيه عمارة اليمني في كتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء - المصرية‏.‏

وقيل‏:‏ إن كتبه بلغت مائة ألف مجلد وكان له آثار جميلة وأفعال حميدة وديانة متينة وأوراد كثيرة‏.‏

وكان دخله في السنة من مغله دون خمسين ألف دينار وكان عمره بضعاً وستين سنة‏.‏

وفيها توفي الشهاب الطوسي أبو الفتح محمد بن محمود نزيل مصر شيخ الشافعية‏.‏درس وأفتى ووعظ وصنف وتخرج به الأصحاب وكان رئيساً معظماً ينبه على الملوك لصنعه يركب بالغاشية والسيوف المسلولة - وبين يديه ينادي هذا الملك العلماء - وكان صاحب صولة في القيام على الحنابلة ونصرة الأشاعرة‏.‏

وفيها توفي أبو الفتوح عبد المنعم بن أبي عبد الوهاب بن سعد الملقب شمس الدين الحراني الأصل البغدادي المولد الحنبلي المذهب‏.‏

كان تاجراً وله في الحديث السماعات العالية وانتهت الرحلة إليه من أقطار الأرض وألحق الصغار بالكبار لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد توفي في بغداد ودفن بمقبرة الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - وكان صحيح الذهن والحواس إلى أن مات وتسرى بمائة وثمان وأربعين جارية‏.‏

 سنة سبع وتسعين وخمس مائة

فيها كان الجوع والموت بالديار المصري وجرت أمور تتجاوز الوصف ودام ذلك إلى نصف الشام الثاني حتى قيل - أو قال قائل‏:‏ مات ثلاثة أرباع أهل البلد المذكور لما أبعد والذي دخل تحت قلم الحشرية في مدة اثنتين وعشرين شهراً مائتا ألف وإحدى عشر ألفاً بالقاهرة وهذا قليل في جنب من هلك بمصر والحواضر وفي البيوت والطرق ولم يدفن - وكله يسير في جنب من هلك بالإقليم‏.‏

وقيل إن مصر كان فيها تسع مائة منسج فلم يبق إلا خمسة عشر منسجاً‏.‏

فقس على هذا - وبلغ الفروخ مائة درهم ثم عدم الدجاج بالكلية لولا ما جلب من الشام‏.‏

وأما أكل لحم الآدميين فشاع واستفاض وقيل‏:‏ تواتر‏.‏

وفي شعبان منها كانت الزلزلة العظمى التي عمت أكثر الدنيا‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ مات بمصر خلق تحت الهدم قال‏:‏ ثم هدمت نابلس وذكر خسفاً عظيماً وأحصى من هلك في هذه السنة فكان ألف ألف ومائة ألف‏.‏وفيها كانت مراسلات الأمراء من مصر للأفضل والظاهر وكرهوا العادل وتطيروا بكعبة أسرع الأفضل إلى حلب فخرج معه أخوه واتفقا على أن تكون دمشق للأفضل ثم يسيران إلى مصر فإذا ملكاها استقر بها الأفضل وتبقى الشام كلها للظاهر‏.‏

فنازلوا دمشق وبها المعظم وقدم أبوه إلى نابلس فاستمال الأمراء وأوقع بين الأخوين - وكان من دهاة الملوك - فترحلوا‏.‏

وكان بخراسان فتن وحروب عظيمة على الملك‏.‏

وفيها توفي الإمام العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي البغدادي التميمي البكري نسبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - كان علامة عصره وإمام وقته في أنواع العلوم من التفسير والحديث والفقه والوعظ والسير والتواريخ والطب وغير ذلك‏.‏

ووعظ من صغره وعظاً فاق فيه الأقران وحصل له القبول التام والاحترام‏.‏

حكي أن مجلسه حزر بمائة ألف وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مرات من وراء الستر

وصنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير أربعة أجزاء اتى فيها بأشياء غريبة - وله في الحديث تصانيف كثيرة وله‏:‏ المنتظم في التاريخ وهو كتاب كبير وله‏:‏ الموضوعات في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع‏.‏وله تنقيح فهوم الأثرة على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة - وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئاً كثيراً والناس يغالون في ذلك‏.‏

قال ابن خلكان حتى نقلوا أن الكراريس التي كتبها جمعت وحبست مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس‏.‏

قال‏:‏ وهذا شيء عظيم لا يقبله العقل‏.‏

قلت‏:‏ وهو كما قال‏:‏ ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فحصل منها شيء كثير‏.‏

وأوصى أن يسخن الماء الذي يغسل به - بعد موته - بها فكفت وفضل منها

وله أشعار لطيفة‏.‏

منها قوله معرضاً بأهل بغداد‏:‏ عذيري من فتية بالعراق قلوبهم بالجفا قلب ميادينهم أن تبدت بخير إلى غير جيرانهم تقلب عذرهم عند توبيخهم مغنية الحي ماتطرب وله أشعار كثيرة‏.‏

وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة من ذلك ما يحكي أنه وقع النزاع ببغداد بين السنية والشيعية في المفاضلة بين أبي بكر وعلي - رضي الله تعالى عنهما - فرضي الكل بما يجيب عنه الشيخ أبو الفرج وأقاما شخصاً سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال‏:‏ أفضلهما من كانت ابنته تحته ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك فقالت السنية‏:‏ هو أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - لأن ابنته عائشة تحت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقالت الشعية‏:‏ هو علي لان فاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تحته وقال‏:‏ وقال ابن خلكان‏:‏ وهذا من لطائف الأجوبة ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاًعن البديهة انتهى‏.‏قلت‏:‏ ومن نوادره ما سمعت من بعض أهل العلم‏:‏ يحكى أن الخليفة غضب على إنسان من حاشيته فأراد أن يعاقبه فهرب فلزم أخاه وصادره وأخذ له مالاً فشكى ذلك المصادر إلى ابن الجوزي وذكر له القضية فقال له‏:‏ إذا انقضى مجلس وعظي فقم قدامي حتى تذكرني - وكان الخليفة يسمع وعظه من خلف الستر - كما تقدم فلما كان أول مجالسته الوعظ بعد ذلك - وانقضى المجلس - قام ذلك الإنسان المصادر فلما رآه الشيخ أبو الفرج أنشد معرضاً يكون البريء لا يؤاخذ بذنب الجزىء محرضاً للخليفة على العدل والإحسان وأن يعاد المال المأخوذ على ذلك الإنسان‏.‏

قفي ثم اخبرينا يا سعاد بذنب الطرف لم سلب الفؤاد وأي قضتة حكمت إذا ما جنى زيد - به عمرو يقاد‏!‏ يعاد حديثكم فيزيد حسناً وقد يستحسن الشيء المعاد فقال الخليفة من وراء الستر‏:‏ يعاد يعني‏:‏ المال فأعيد على ذلك الشخص ماله وانجبر حاله‏.‏

قلت‏:‏ وكلام ابن الجوزي وإن افتخر فهو بالنسبة إلى كلام القطب عبد القادر محقر ولو سلم من طعنه وإنكاره على المشايخ علماء الباطن لبقي مكتسباً يحلل الحاسن‏.‏

وقد قدمت ذكر ذلك الإنكار وأنشدت في الفرق بين الكلام أبياتاً من الأشعار ذكرت ذلك في تاريخ سنة خمس وتسعين وخمس مائة التي أخرج فيها من السجن وفي سنة إحدى وستين التي فيها ترجمة الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه‏.‏

وكانت ولادة ابن الجوزي سنة ثمان وقيل عشر وخمس مائة تقريباً وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان ببغداد بباب حرب‏.‏

والجوزي بفتح الجيم وسكون الواو وفي آخره زاي وياء النسبة - إلى موضع يقال له فرضة الجوز‏.‏

قال ابن النجار‏:‏ وكان أبوه يعمل الصفر وكان ولده محيي الدين يوسف محتسب بغداد‏.‏

وتولى تدريس المستنصرية لطائفة الحنابلة وكان يتردد في الرسائل إلى الملوك ثم صار أستاذ دار الخلافة‏.‏

وكان سبطه شمس الدولة - أبو المظفر يوسف الواعظ المشهور - له صيت وسمعة في مجالس وعظه وقبول عند الملوك وغيرهم‏.‏

وصنف تاريخاً كبيراً‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ رأيته بخطه في أربعين مجلداً أسماه‏:‏ مرآة الزمان في تاريخ الأعيان‏.‏وفي السنة المذكورة توفي أبو شجاع بن المقرون البغدادي أحد أئمة الإقراء‏.‏

كان صالحاً عابداً ورعاً مجاب الدعوة من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكان يتقوت من كسب يده‏.‏

وفيها توفي العماد الكاتب الوزير الفاضل أبو عبدالله محمد بن محمد الأصبهاني الفقيه الشافعي تفقه بالمدرسة النظامية وأتقن الخلاف وفنون والأدب وسمع من الحديث ولما حصل تعلق بالوزير يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط ثم انتقل إلى دمشق - وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين محمود بن أتابك زنكي - فتعرف به وعرفه السلطان صلاح الدين ووالده ونوه بذكره القاضي كمال الدين السهروردي عند السلطان نور الدين وعدد عليه فضائله وأهله لكتابة الإنشاء‏.‏قال العماد‏:‏ فبقيت متحيراً في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي‏.‏

وقال غيره‏:‏ لم يكن قد مارس هذه الصناعة فجبن عنها في الابتداء فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب‏.‏

وكان ينشىء الرسائل باللغة العربية والعجمية أيضاً‏.‏

وحصل بينه وبين صلاح الدين مودة أكيدة امتزاج تام وعلت منزلته عند نور الدين وصار صاحب سره وسيره رسولاً في أيام الخليفة المستنجد فلما عاد فوض إليه التدريس في المدرسة المعروفة ثم رتبه في إشراف الديوان ثم لما تسلم صلاح الدين قلعة حمص حضر بين يديه وأنشده قصيدة ثم لازمه وترقى عنده حتى صار في جملة الصدور المعدودين والأماثل الممجدين يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم‏.‏

وكان القاضي الفاضل في أكثر الأوقات ينقطع عن خدمة السلطان صلاح الدين بالقيام بالمصالح والعماد ملازم للباب وهو صاحب السر المكتوم‏.‏

وصنف التصانيف النافعة من ذلك‏:‏ خريدة القصر وجريدة أهل العصر جملة ذيلاً على زينة الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الخطيري والخطيري جعله ذيلاً على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي والباخرزي جعل كتابه ذيلاً على يتيمة الثعالبي والثعالبي جعل كتابه ذيلاً على كتابه البارع لهارون المنجم‏.‏وذكر العماد المذكور الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وبعدها وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والعرب ولم يترك إلا النادر‏.‏كتابه المذكور عشر مجلدات وصنف كتاب‏:‏ البرق الشامي في سبع مجلدات وهو مجموع تاريخ ووسمه بالبرق لسرعة انقضاء تلك الأيام‏.‏

وصنف كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس‏.‏

وكتاب السيل على الذيل جملة ذيلاً على الذيل لابن السمعاني الذي ذيل به تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب‏.‏

وكتاب نصرة الفترة وعصرة الفترة في اخبار الدولة السلجوقية‏.‏

وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات‏.‏

وكانت بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطائف‏.‏فمن ذلك ما يحكى عنه أنه لقيه يوماً وهو راكب على فرس فقال له‏:‏ سر فلا كبابك الفرس فقال له الفاضل‏:‏ دام علاء العماد‏.‏

فأتى كل واحد منهما بألفاظ تقرأ على ترتيبها المذكور وتقرأ مقلوباً أعني من آخر حروفها مرتبة إلى أولها واللفظ والمعنى لا يتغيران‏.‏

اجتمعا يوماً في موكب السلطان - وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء - فتعجبا من ذلك وأنشد العماد في الحال‏:‏ مما اثارته السنابك والجو منه مظلم لكن أثارته السنابك يا دهر لي عبد الرحيم فلست اخشى مس نابك‏.‏

فاتفق له الجناس في الأبيات الثلاثة مكتسياً حلة الحسن‏.‏

قلت‏:‏ وأما رسالته إلى القاضي الفاضل لما رجع من الحج - التي استحسنها ابن خلكان - فليست بحسنة من جهة لدين ولا من جهة البيان فإنه بالغ فيها مبالغة محرجة لشعائر الله تعالى المنظمة إلى حد الامتهان حيث قال‏:‏ راكباً فرس البيان في ميدان بلاغة الإنسان الراكض جواد اللسن الحاصل من نتائج جبلة الجنان وجرأة اللسان‏.‏

طوبى للحجر والحجون من ذي الحجر والحجى منيل الجدى - ومنير الدجى ولندى الكعبة من كعبة الندى وللهدايا المشعرات من مشعر الهدى وللقائم الكريم من مقام الكريم ومن حاطم فقار الفقر للحطيم ومتى هرم لمنى الحرم وحاتم الكرم لمائح زمزم ومتى ركب البحر البحر وسلك البر البر ولقد عاد قيس إلى عكاظه وعاد قيس لحفاظه ويا عجباً للكعبة‏!‏‏!‏ يقصدها كعبة الفضل و الأفضال والقبلة يستقبلها قبلة القبول و الإقبال‏.‏

قلت‏:‏ وليس كما قال غيره في مدح بعض الأولياء فإنهم من احباب الله تعالى الأصفياء‏.‏