فصل: سنة أربع وستين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة اثنتين وستين ومائة

فيها توفي السيد الكبير الولي الشهير ذو السيرة الزاهرة والآيات الباهرة العارف بالله المقرب المكرم أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم قلت‏:‏ و هذا اشارة إلى قطرة من بحر مناقبه ومحاسنه وما يليق بوصفه في ظاهره وباطنه‏.‏

وأما قول بعض المؤرخين‏:‏ الذهبي وغيره‏:‏ و فيها توفي إبراهيم بن أدهم البلخي الزاهد واقتصارهم في وصفهم له في الزهد الذي هو من أوائل مقامات المريدين المبتدين في مقامات السالكين فذلك غض من قدره وعلو مرتبة وحط له عن رفيع منزلته كذلك فعلوا في غيره من السادات العارفين الأولياء المقربين فالعجب منهم في ذلك كل العجب في اقتصارهم في وصفهم على وصف من هو بالنسبة إلى جلالة قدرهم حقير مع وصفهم لمن هو حقير بالنسبة إليهم ومدحهم له بمدح كثير والعجب الأكبر قول الذهبي روي عن منصور ومالك بن دينار وطائفة وثقه النسائي وغيره‏.‏

يا للعجب كل العجب ممن يستشهد على التوثيق والتعديل يقول معدل للمولى المعظم الذي اشتهرت فضائله وكراماته في العرب والعجم‏.‏

وأغنى من مدحته تلفظ مادحه بابن أدهم‏.‏

كأنه فيما يخبر به منهم‏.‏

وهو القائل رضي الله تعالى عنه‏.‏

تركت الخلق طراً في رضاكا وأيتمت العيال لكي أراكا فلو قطعتني في الحب إرباً لما حن الفؤاد إلى سواكما وقد ذكرت في غير هذا الكتاب نبذة من مناقبه وكراماته ومحاسن سيرته وسياحاته وكيف كان أول خروجه وسماعه الهاتف من قربوس سرجه وها أنا هنا أقتصر على ذكر كرامة واحدة من كراماته مما نقلها العلماء والاولياء منهم الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته‏.‏

قال محمد بن المبارك الصوري‏:‏ كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان فصلينا ركعات وسمعت صوتاً من أصل تلك الرمانة‏:‏ يا أبا إسحاق أكرمنا بأن تأكل منا شيئاً فطأطأ رأسه ثلاث مرات ثم قال‏:‏ يا محمد كن شفيعاً إليه ليتناول منا شيئاً فقلت‏:‏ يا أبا إسحاق لقد سمعت فقام وأخذ رمانتين فأكل واحدة وناولني الأخرى فأكلتها وهي حامضة وكانت شجرة قصيرة فلما رجعنا من زيارتنا إذا هى شجرة عالية ورمانها حلو وهي تثمر في كل عام مرتين وسموها رمانة العابدين ويأوي إلى ظلها العابدون‏.‏

وفي السنة المذكورة وقيل في سنة ستين توفي السيد الجليل الولي الفضيل البارع في العلم والعمل زهداً وورعاً وعبادة لله عز وجل‏:‏ داود بن نصير الطائي الكوفي‏.‏

ومن كلامه رضي الله عنه‏:‏ صم عن الدنيا واجعل فطرك الموت وفر من الناس فرارك من الأسد‏.‏

وفيها توفي قاضي السراق أبو بكر بن عبدالله بن محمد بن أبي شبرمة القرشي العامري المدني وولي القضاء بعده القاضي أبو يوسف‏.‏

وفيها توفي أبو المنذر بن زهير بن محمد المروزي الخراساني‏.‏

 سنة ثلاث وستين ومائة

فيها بالغ سعيد الجرشي في حصار عطاء المقنع الساحر الفاجر فلما أحس الشيطان بالغلبة استعمل سماً وسقى نساءه فمتن ثم سقى نفسه فهلك الجميع ودخل المسلمون الحصن فقطعوا رأسه ووجهوا به إلى المهدي وكان يقول بالتناسخ وأن الله تعالى عن قوله تحول إلى صورة آدم ولذلك سجدت له الملائكة ثم تحول إلى صورة نوح ثم إلى غيره من الأنبياء والحكماء ثم إلى صورة أبي مسلم الخراساني ثم إلى صورته هو الفاجر تعالى الله العظيم الشأن عما يقول الظالمون علواً كبيراً وكل شيطان وكل مفتر ذي بهتان وعن كل ما لا يليق بجلال كماله من حدث ونقصان وكان لا يسفر عن وجهه فلذلك قيل له المقنع اتخذ وجهاً من ذهب فتقنع به كي لا يرى وجهه وقبح صورته وكان قد عبده خلق وقاتلوا دونه مع ما عاينوا من عظيم ادعائه وقبح صورته وإنما غلب على عقولهم بالتمويهات التي أظهرها من ذلك صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب وإليه أشار المعزي بقوله‏:‏ أفق أيها البدر المقنع رأسه ضلال وغي مثل بدر المقنع وكان في قلعة في ما وراء النهر‏.‏

وفيها توفي إبراهيم بن ظهران الخراساني وفيها عيسى بن علي عم المنصور‏.‏

 سنة أربع وستين ومائة

فيها توفي الماجشون يعقوب سمع ابن عمرو عمر بن عبد العزيز ومحمد بن المنكدر وروى عنه ابناه يوسف وعبد العزيز وابن أخيه عبد العزيز عبدالله وقال ابن الماجشون‏:‏ عرج بروح الماجشون فوضعناه على سرير الغسل فدخل غاسل إليه يغسله فرأى عرقاً يتحرك في أسفل قدميه فلم يعجل بغسله فمكث ثلاثاً على حاله والناس يترددون إليه ليصلوا عليه ثم استوى جالساً وقال‏:‏ ائتوني بسويق فأتي به فشربه فقلنا له‏:‏ خبرنا ما رأيت فقال‏:‏ نعم عرج بروحي فصعد بي الملك حتى إلى سماء الدنيا فاستفتح فقتح له ثم عرج هكذا في السموات حتى انتهى إلى السماء السابعة فقيل له‏:‏ من معك قال الماجشون‏.‏

قيل‏:‏ لم يأن له بعد بقي من عمره كذا وكذا سنة وكذا وكذا شهراً وكذا وكذا ساعة ثم هبطت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعمر بن عبد العزيز بين يديه فقلت للملك الذي معي‏:‏ من هذا قال عمر بن عبد العزيز قلت إنه لقريب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال‏:‏ انه عمل بالحق في زمن الجور وإنهما عملا بالحق في زمن الحق ذكر هذا يعقوب بن أبي شيبة في ترجمة الماجشون هكذا ذكر ابن خلكان وفاته ووفاة عمه في السنة المذكورة ولم يذكر الذهبي عمه المذكور‏.‏

وفيها عبد العزيز بن عبدالله بن أبي سلمة الماجشون المدني الفقيه وكان إماماً مفتياً صاحب حلقة‏.‏

وفيها توفي مبارك بن فضالة البصري مولى قريش كان من كبار المحدثين والنساك‏.‏قال‏:‏ جالست الحسن ثلاث عشرة سنة قال أحمد‏:‏ ما رواه عن الحسن يحتج به‏.‏

 سنة خمس وستين ومائة

فيها غزا المسلمون غزوة مشهورة وعليهم هارون الرشيد وهو صبي أمرد فساروا حتى بلغوا خليج قسطنطينية وقتلوا وسبوا وفتحوا ماجدة وغنموا مالاً لا يحصى حتى بيع الفرس بدرهم وصالحتهم ملكة الروم على مال جليل‏.‏

وفيها توفي عبد الرحمن بن ثابت الدمشقي الزاهد المجاب الدعوة ومعروف بن مشكان قارىء أهل مكة سمع من عطاء وغيره والحافظ وهيب بن خالد البصري وخالد بن برمك وزير السفاح جد جعفر البرمكي‏.‏

سنة ست وستين ومائة فيها توفي صدقة بن عبدالله السمين من كبار محدثي دمشق ومعقل بن عبدالله الجزري من كبار علماء الجزيرة روى عن عطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران والكبار‏.‏

 سنة سبع وستين ومائة

فيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام وغرم على ذلك أموال عظيمة ودخلت فيه دور كثيرة‏.‏

قلت ذكر الأزرقي في تاريخ مكة كلاماً معناه أنه‏:‏ لما حج المهدي رأى الكعبة في شق المسجد غير متوسطة فيه فقال‏:‏ ما ينبغي أن يكون بيت الله هكذا وأمر بشراء دور كثيرة من جهة أجياد فاشتريت بثمن كثير وأدخلت فيه وهو الذي عمر المسجد الحرام بأساطين الرخام والله تعالى أجل وأعلم‏.‏

وفيها توفي عالم البصر الحافظ حماد بن سلمة سمع قتادة وأبا جمرة الضبعي وطبقتهما وكان سيد وقته‏:‏ قال ابن المدائني‏:‏ كان عند يحيى ابن فلان سماه عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث‏.‏

وقال عبد الرحمن بن مهدي‏:‏ لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً وقال غيره‏:‏ كان فصيحاً مفوهاً إماماً في العربية صاحب سنة له تصانيف في الحديث وقيل كان يعد من الابدال‏.‏

وقال موسى بن إسماعيل‏:‏ لو قلت ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً لصدقت كان يحدث أو يسبح أو يقرأ أو يصلي قد قسم النهار على ذلك‏.‏

وفيها توفي الحسن بن صالح الهمداني فقيه الكوفة وعابدها قال وكيع‏:‏ كان يشبه سعيد بن جبير كان هو وأخوه علي وأمهما قد جزءا الليل ثلاثة أجزاء فماتت أمهما فقسما الليل بينهما فمات علي فقام الحسن الليل كله‏.‏

وفيها توفي فقيه الشام بعد الأوزاعي أبو محمد سعيد بن عبد العزيز التنوخي عاش نحواً من ثمانين سنة كان صالحاً قانتاً خاشعاً قال الحاكم‏:‏ هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة‏.‏

وفيها توفي أبو حمزة محمد بن ميمون المروزي السكري كان شيخ بلده ؤ والفضل والعبادة‏.‏

وفيها وقيل في التي تليها قتل بشار بن برد العقيلي مولاهم الشاعر المشهور كان أكمه جاحظ العينين قد تغشاها لحم أحمر وكان ضخماً عظيم الخلق طويلاً وهو في أول مرتبة المحدثين من الشعراء والمجيدين في الشعر ومن شعره المشهور‏:‏ إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن بحزم نصيح أو نصاحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة قريش الخوافي تابع قوة للقوادم وفي شعره أيضاً‏:‏ يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا لمن لا ترى تبدي فقلت لهم الأذن كالعين تؤتي القلب ما كان أخذ معنى البيت الأول أبو حفص المعروف بابن الشحنة الموصلي في قوله قصيدة يمدح بها السلطان صلاح الدين‏:‏ وإني امرؤ أحببتكم لمكارم سمعت بها والأذن كالعين تعشق وشعر بشار كثير سائر شاهد ببلاغته فلا حاجة إلى التطويل بالاكثار من كتابته وكان يمدح المهدي بن المنصور أمير المؤمنين العباسي فرمي عنده بالزندقة فأمر بضربه فضرب سبعين سوطاً فمات من ذلك في البطيحة بالقرب من البصرة فجاء بعض أهله فحمله إلى البصرة فدفنه بها وقد نيف على التسعين وقيل والله أعلم به أنه كان يفضل النار على الأرض يعني الطين ويصوب رأى إبليس في امتناعه عن السجود لآدم صلى الله عليه وآله وسلم وينسب إليه من الشعر في التفضيل المذكور هذا البيت‏:‏ الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار يقال إن هذا قوله والله أعلم ولهذا قلت‏:‏ و ينسب إليه هذا البيت‏.‏

وأما قول ابن خلكان‏:‏ و ينسب إليه في ذلك قوله‏:‏ فمختل المعنى لأنه إذا كان قوله لا يصح أن يقول وينسب إليه ولكن يقال ويدل على ذلك قوله‏:‏ و قيل إنه فتشت كتبه فلم يوجد فيها شيء مما كان يرمي به‏.‏

وقال الطبري في تاريخه إن سبب قتل المهدي له أن المهدي ولى صالحاً أخا يعقوب بن داوود وزير المهدي ولاية فهجاه بشار بقوله ليعقوب‏:‏ هم حملوا فوق المنابر صالحاً أخاك فضجت من أخيك المنابر فبلغ يعقوب فجاء فدخل على المهدي فقال له‏:‏ ان بشاراً هجاك قال ويحك ماذا قال قال‏:‏ يعفيني أمير المؤمنين من إنشاء ذلك فقال لا بد فأنشده‏:‏ خليفة يزني بعماته يلعب بالبيوق والصولجان إبدلنا الله به غيره ودس موسى في زيارة حر الخيزران ثم ذكر كلمة فظيعة في آخر هذا البيت أكره ذكرها غير أني أذكر حرفاً حرفاً هجاها وهما ح ر وبعدهما لفظ الخيزران وهي امرأة المهدي وإليها ينسب دار الخيزران بمكة فطلبه المهدي فخاف يعقوب أن يدخل عليه فيمدحه فيعفو عنه فوجه إليه من تلقاه في البطيحة وقتله والله أعلم‏.‏

فيها مات السيد الأمير أبو محمد الحسن بن يزيد بن السيد الحسن بن علي بن أبي طالب شيخ بني هاشم في زمانه وأمير المدينة للمنصور ووالد الست نفيسة خافه المنصور فحبسه ثم أخرجه المهدي وقربه‏.‏

وفيها توفي أبو الحجاج خارجة بن مصعب من كبار المحدثين بخراسان وقيس بن الربيع الأسدي الكوفي الحافظ وفيها توفي الأمير عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس ولي عهد السفاح بعد أخيه المنصور وقد مضى ذكر خلعه‏.‏

 سنة تسع وستين ومائة

فيها عزم المهدي على أن يقدم هارون في العهد ويؤخر موسى الهادي فطلبه وهو بجرجان فلم يقدم وفيها توفي المهدي أبو عبدالله بن أبي جعفر المنصور وهو في طلب الصيد وذلك أنه ساق خلف صيد فدخل خربة فتبعه المهدي فوقع به صدمة في باب الخربة لشدة سوقه فتلف لساعته وقيل بل أكل طعاماً سمته جاريته لضرتها فلما وضع يده فيه ما جسرت تقول هيأته لضرتي وكانت خلافته تنيف على عشرين سنة وكان ممدوحاً محباً إلى الناس وصولاً لأقاربه قصاماً للزنادقة طويلاً أبيض مليحاً جواداً يقال إن المنصور خلف في الخزائن ألف ألف وستين ألف ألف درهم ففرقها المهدي كلها ولم يل الخلافة أحد أكرم منه ولا أبخل من أبيه ويقال إنه أعطى شاعراً مرة خمسين ألف دينار‏.‏

وذكر بعض المؤرخين أن المهدي خرج إلى الأنبار متنزهاً فدخل عليه الربيع بن يونس ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين قد عجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من هذه الرقعة جاءني بها أعرابي وهو ينادي‏:‏ هذا كتاب أمير المؤمنين لوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع فقد أمرني أن أدفعها إليه فأخذها المهدي وضحك وقال‏:‏ صدق هذا خطي وهذا خلقي افلا أخبركم بالقصة كيف كانت قلنا‏:‏ يا أمير المؤمنين أعلى رأياً في ذلك فال‏:‏ خرجت أمس إلى الصيد في غير سيمائي فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحداً وأصابني من البرد والجوع والعطش ما الله به أعلم فتحيرت عند ذلك فذكرت دعاء سمعته من أبي يحكيه عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله عنهم يرفعه قال‏:‏ من قال إذا أصبح وإذا أمسى‏:‏ بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقي وكفي وهدي وشفي من الحرق والغرق والهدم وميتة السوء فلما قلتها رفع الله لي ضوء نار فقصدتها فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له وإذا هو يوقد ناراً بين يديه فقلت‏:‏ ايها الأعرابي هل من ضيافة قال‏:‏ انزل فنزلت فقال لزوجته هاتي ذلك الشعير فأتت به فقال‏:‏ اطحنيه فابتدأت بطحنه فقلت‏:‏ اسقني ماء فإني بسقاء فيه مذقة من لبن أكثرها ماء فشربت منها شربة ما شربت شيئاً قط إلا وهي أطيب منه وأعطاني حلساً له يعني كساء رقيقاً وهو بالحاء والسين المهملتين وبينهما لام ساكنة قال‏:‏ فوضعت رأسي عليه ونمت نومة ما نمت أطيب منها وألذ ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شويهة فذبحها وإذا امرأته تقول له‏:‏ ويحك قتلت نفسك وصبيتك انما كان معاشكم من هذه الشاة فذبحتها فبأي شيء نعيش قال‏:‏ فقلت‏:‏ لا عليك هات الشاة وشققت جوفها واستخرجت كبدها بسكين كانت في خفي فشرحتها ثم طرحتها على النار فأكلتها ثم قلت له‏:‏ هل عندك شيء أكتب فيه فجاءني بهذه القطعة من جراب وأخذت عوداً من الرماد الذي بين يديه وكتبت له هذا الكتاب وختمته بهذا الخاتم وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه فإذا فيها خمس مائة ألف درهم فقال‏:‏ و الله ما أردت إلا خمسين ألف درهم ولكن جدت بخمس مائة ألف درهم لا أنقص والله منها درهماً واحداً ولم يكن في بيت المال غيرها احملوها معه قال فما كان إلا قليل حتى كثرت إبله وشاءه وصار منزله من المنازل ينزله الناس من أراد الحج وسمي منزل مضيف أمير المؤمنين المهدي‏.‏

ولما مات المهدي أرسلوا بالخاتم والقضيب إلى الهادي فأسرع على البريد وقدم بغداد‏.‏

وفيها خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسين بن علي بالمدينة وبايعه عدد كثير وحارب العسكر الذي بالمدينة وقتل مقدمهم خالد بن اليزيد ثم تأهب وخرج في جمع إلى مكة فالتفت عليه خلق كثير فأقبل ركب العراق معهم جماعة من أمراء بني العباس في عدة وخيل المهدي فالتقوا بفخ‏.‏

قلت هذه اللفظة سمعتها من بعض عوام مكة بالفاء والخاء المعجمة ورأيتها في بعض التواريخ فيها نقطة الجيم وهو اسم مكان على يسار الخارج من مكة للعمرة وهو إلى أدنى الحل أقرب منه إلى مكة فقتل في الموضع المذكور الحسين المذكور في مائة من أصحابه وقتل الحسن بن محمد بن عبدالله الذي خرج أخوه على المنصور وهرب ادريس بن عبدالله بن الحسن إلى المغرب فقام معه أهل طنجة ثم تخيل الرشيد وبعث من بينهم ادريس فقام بعده ادريس بن ادريس‏.‏

وفيها توفي نافع بن أبي نعيم أبو عبد الرحمن الليثي مولاهم قارىء أهل المدينة وأحد القراء السبعة قال موسى بن طارق‏:‏ سمعته يقول قرأت على سبعين من التابعين وقال مالك‏:‏ نافع إمام الناس في القراءة وقال ابن أبي أويس‏:‏ قال لي مالك قرأت على نافع ومن المشهور أنه كان له راويان‏:‏ و رش وقالون‏.‏

 سنة سبعين ومانة

وفيها توفي الخليفة الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبدالله قيل مات من قرحة أصابته وقيل قتلته أمه الخيزران لما هم بقتل أخيه هارون الرشيد‏.‏

وفيها توفي أبو النضر جرير بن حازم الأزدي البصري احد فصحاء البصرة ومحدثيها روى عن الحسن والكبار‏.‏

وفيها توفي أبو معشر السندي صاحب المغازي والأخبار وفيها مات كاتب المهدي ووزيره معاوية بن عبدالله وكان من خيار الوزراء صاحب علم وفضل وعبادة وصدقات‏.‏

وفيها توفي الربيع بن يونس حاجب المنصور كان كثير الميل إليه حسن الاعتماد عليه فقال له يوماً‏:‏ يا ربيع سل حاجتك قال‏:‏ حاجتي أن تحب ابني فقال‏:‏ و يحك إن المحبة تقع بأسباب فقال‏:‏ قد أمكنك الله من ايقاع سببها قال‏:‏ و ما ذاك قال‏:‏ تفضل عليه فإنك إذا فعلت ذلك أحبك وإذا أحبك أحببته قال‏:‏ و الله قد أحببته وقد حببته إلي قبل إيقاع السبب ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء قال لأنك إذا أجبته كبرعندك صغير إحسانه وصغرعندك كبير إساءته وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان وحاجته إليك كحاجة الشفيع العريان قيل‏:‏ اشار بذلك إلى قول الفرزدق‏:‏ ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا وهذا البيت من جملة أبيات له في عبدالله بن الزبير بن العوام لما طلب الخلافة لنفسه واستولى على الحجاز والعراق واليمن في أيام خلافة عبد الملك بن مروان وكان قد اختصم الفرزدق هو وزوجته النوار فمضيا من البصرة إلى مكة ليفصل الحكم بينهما عبدالله بن الزبير فنزل الفرزدق عند ابنه حمزة ونزلت النوار عند زوجته وشفع كل واحد منهما لنزيله فقضى عبدالله للنوار وترك الفرزدق فقال الأبيات المذكورة فصار الشفيع العريان مثلاً يضرب لكل من قبلت شفاعته‏.‏

قلت وهذا يرد قول من يزعم أن هذا المثل في هذا النظم من اختراع أبي نواس مخاطباً به هارون الرشيد كما سيأتي في ترجمته‏.‏

وقال المنصور له يوماً‏:‏ و يحك يا ربيع ما أطيب الدنيا لولا الموت فقال‏:‏ ما طابت إلا بالموت قال‏:‏ و كيف ذلك قال‏:‏ لولا الموت لم تقعد هذا المقعد قلت يعني أنه لو لم يمت الخليفة الذي قبلك لما وصلت الخلافة إليك بل لو لم يمت أول ملك من ملوك الدنيا لما ملك أحد بعده قال‏:‏ صدقت وقال له المنصور لما حضرته الوفاة‏:‏ يا ربيع بعنا الآخرة بنومه‏.‏وقال ربيع‏:‏ كنا يوماً وقوفاً على رأس المنصور وقد طرحت للمهدي وهو ولي عهده وسادة اذا أقبل صالح بن المنصور وكان قد رسخه لتولية بعض أموره فقام بين السماطين والناس على قدر أنسابهم ومراتبهم فتكلم فأجاد فمد المنصور يده إليه وقال يا بني واعتنقه ونظر إلى وجوه الناس هل فيهم من يذكر مقامه ويصف فضله وكلهم كرهوا ذلك بسبب المهدي خيفة منه فقام شبة بضم الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة ابن عقال التميمي فقال‏:‏ لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين‏:‏ ما أفصح لسانه وأحسن بيانه وأمضى جنانه وأبل ريقه وأسهل طريقه‏!‏ وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه والمهدي أخوه وهو كما قال الشاعر‏:‏ هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا فعجب من حضر لجمعه بين المدحين وإرضائه المنصور وخلاصه من المهدي‏.‏

قال الربيع‏:‏ فقال لي المنصور‏:‏ لا يخرج التميمي إلا بثلاثين ألف درهم فلم يخرج إلا بها‏.‏

وقال الطبري‏:‏ مات الربيع في سنة تسع وستين ومائة خلاف ما قدمناه وقيل‏:‏ ان الهادي سمه وقيل‏:‏ بل مرض ثمانية أيام والله سبحانه العلام‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي كان والياً على إفريقية خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وكان جواداً سرياً ممدوحاً قصده جماعة من الشعراء فأعطاهم عطايا سنية وهو الذى قصده ربيعة بن ثابت الأسدي الرقي فأحسن إليه وكان ربيعة المذكور قد مدح يزيد بن أسيد بضم الهمزة السلمي فقصر يزيد في حقه فقال يمدح يزيد بن حاتم ويهجو يزيد السلمي بقصيدته التي من جملتها‏:‏ لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأعز بن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا تحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم هوالبحر إن كلفت نفسك خوضه تهالكك في أمواجه بالتلاطم وقد قيل إن يزيد بن حاتم المذكور توفي سنة خمس وثمانين ومائة وسنعيد ذكر ترجمته هناك مع زيادات على ترجمته هنا ان شاء الله تعالى ويزيد بن حاتم المذكور أخوه روح بضم الراء وسكون الواو قبل الحاء المهملة ابن حاتم من الكرماء الأجواد ولي لخمسة من الخلفاء‏:‏ السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد ويقال‏:‏ انه لم يتفق مثل هذا إلا لأبي موسى الأشعري الصحابي رضي الله تعالى عنه فإنه ولي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأبي بكروعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم‏.‏

وكان روح والياً على السند بتولية المهدي بن أبي جعفر المنصور في سنه تسع وخمسين وقيل ستين ومائة وكان قد ولاه في أول خلافته الكوفة ثم عزله عن السند سنة إحدى وستين ومائة ثم ولاه البصرة‏.‏فلما توفي أخوه يزيد في السنة المذكوره بإفريقية في مدينة القيروان وكان قد قال أهل إفريقية‏:‏ ما أبعد ما يكون بين قبري هذين الأخوين‏:‏ فإن هذا هنا وأخاه بالسند فاتفق أن الرشيد عزل روحاً عن السند وسيره إلى موضع أخيه يزيد فوصل إلى إفريقية في أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة ولم يزل والياً عليها إلى أن توفي بها فدفن مع أخيه في قبر واحد فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد والافتراق وكان تولية المنصور يزيد المذكور على إفريقية عندما قتلت الخوارج عامله فيها وجهز معه خمسين ألف مقاتل حين زار المنصور بيت المقدس وكان قد ولاه قبل ذلك على مصر‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي إمام اللغة والعروض والنحو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي وقيل في سنة خمس وسبعين ومائة وقيل في ستين ومائة وقيل ثلاثين ومائة وغلط ناقل هذا القول الأخير وممن نقله ابن الجوزي والواقدي وهو الذي استنبط علم العروض وحصر أقسامه في خمس دوائر استخرج منها خمسة عشر بحراً ثم زاد فيه الأخفش بحراً سقاه المجتث قلت وله أسماء أخرى ذكرتها في علم العروض وقيل إن الخليل دعا بمكة أن يرزق علماً لم يسبق إليه أحد فلما رجع من حجه فتح عليه بعلم العروض وله معرفة بالايقاع والنغم وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض فإنهما متقاربان في المأخذ‏.‏

وقال حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المسمى بالتنبيه على حدوث التصحيف‏:‏ وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع العلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول إلا من الخليل وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا على مثال تقدمه احتذاه وإنما اخترعه من ممر له بالقصارين من وقع مطرقة على طست وقيل‏:‏ و هو في اختراعه عالم العروض الذي هو لصحة الشعر وفساده ميزان كارسطاطاليس الحكيم في اختراعه علم المنطق الذي هو ميزان المعاني وصحة البرهان وفي ذلك أقول على طريق التشبيه والبيان‏:‏ بميزان حبر بارع كن بما أتى يجيء أرسطاطاليس صنعاً ويبدعا بحيث سما علياً النجابة واضعاً عروضاً حكت روضاً زها متنوعا يظل به من يهتدي الحسن مولعاً ومن لايحسن يهتدي متولعا ومن تأسيس الخليل بناء كتاب العين الذي يحضر فيه لغة أمة من الأمم ثم من إمداد سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه المشهور ومن براعة ذكائه‏:‏ ما ذكر في كتاب المقتبس أنه كان للناس رجل يعطي دواء لظلمة العين ينتفع الناس به فمات فاحتيج إلى ذلك الدواء ولم يعرف ما هو فذكر ذلك للخليل فقال‏:‏ اله نسخة معروفة قالوا‏:‏ لم نجد نسخته‏.‏

قال‏:‏ فهل كانت له آنية يعمل فيها قالوا‏:‏ نعم إناء كان يجمع فيه الأخلاط قال‏:‏ فأتوني به فجاءوه به فجعل يتشممه ويخرج نوعاً نوعاً حتى ذكر خمسة عشر نوعاً ثم عمله وأعطاه الناس فشفوا به ثم وجدت النسخة والأخلاط المذكورة فيها ستة عشر لم يغفل إلا واحداً‏.‏

قلت ومما يناسب هذا الفهم العظيم ما حكي عن حكيم وذلك أنه عمي بعض الحكماء في بلاد الشام ولم يدر ما سبب عماه حتى يعالجه بما يناسبه من أضداد العلة المفذهبة للبصر فسمع بحكيم في بلاد الهند فارتحل إليه فلما قدم عليه عرض عليه ما أصاب عينيه فنظر فيهما ذلك الحكيم ثم قال له‏:‏ العلة في ذهاب نور بصرك أنك بلت في يوم حار على حية ميتة في سبخة من الأرض فطلع في عينيك بخارها ثم استدعى بغلامه فأتي بكحل فكخل به عينيه فأبصر في الحال ثم رجع إلى بلاده فأراد أن يختبر صحة ما قاله الحكيم فتتبع موضع الحياث حتى ظفر بحية فقتلها ثم رمى بها في سبخة تشرق عليها الشمس وتهب عليها الريح مدة من الزمان ثم أتى فبال عليها فعمي في الحال ثم قال لغلامه‏:‏ الرحيل فرحل إلى ذلك الحكيم وتنكر جهده حتى لا يعرفه وقال لغلامه‏:‏ اذا رفع المرود ليكحل به عيني فخذه من يده وضعه في فمي فقال‏:‏ نعم إن شاء الله فلما وصل إليه قال له‏:‏ انا رجل غريب وقد ذهب بصري عسى من أجل الله تعالى أن تعالجه بما يرد عليه نوره فقال له‏:‏ كأني قد رأيتك قبل هذا اليوم فغالطه فاستدعى ذلك الحكيم بالدواء الذي كحله به أولاً فلما وضع طرفي المرود فيه ورفعه إلى عينيه خطف غلامه المرود من يده ووضعه في فم سيده فطعمه وشمه فعرف فيه تسعاً وتسعين نوعاً من الأدوية وغرب عنه نوع منها تمام المائة لم يعرف فعرف ذلك الحكيم فسأله فأخبر بذلك الذي لم يدركه فرجع إلى بلاده وجمع تلك الأدوية من العقاقير واكتحل فعاد إليه بصره فسبحان اللطيف الخبير الذي هو على كل شيء قدير مسبب الأسباب وميسر الأمور الصعاب‏.‏

رجعنا إلى ذكر الخليل والخليل أول من جمع جميع الحروف في بيت واحد حيث قال‏:‏ صف خلق جود كمثل الشمس إذ بزغت يخطي الضجيع بها بخلاء معطار وقال النضر بن شميل جاء رجل من أصحاب يونس فسأله عن مسألة فأطرق الخليل يفكر وأطال إلى أن انصرف الرجل فعجبنا منه وعاتبناه فقال لنا‏:‏ ما كنتم أنتم قائلين فيها قلنا‏:‏ كذا وكذا قال‏:‏ فإن قال لكم كذا قلنا‏:‏ كنا نقول كذا‏.‏

قال‏:‏ فيزيدكم كذا فلم يزل يعترض على قولنا إلى أن انقطعنا وأقبلنا نتفكر فقال‏:‏ ان المجيب إذا ابتدأ في الجواب قبح به أن يفكر بعد ذلك ثم قال‏:‏ ما أجبت بجواب قط إلا وأنا أعرف ما علي فيه يعني من الاعتراضات والمؤاخذات‏.‏

وقال بعض المؤرخين‏:‏ كان الخليل رجلاً صالحاً عاقلاً حليماً وقوراً وقال تلميذه النضر بن شميل‏:‏ اقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلس وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال قال ولقد سمعته يوماً يقول‏:‏ اني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي وكتب إليه سليمان بن حبيب بن المهلب يستدعي حضوره وكان في ولايته أرض فارس والأهواز فكتب إليه الخليل جوابه‏:‏ أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غيرأني لست ذا مال شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً يموت هزلاً ولا يبقى على حال والرزق عن قمر لا الضعف ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال والفقر في النفس لا في المال تعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال وقيل‏:‏ اجتمع الخليل وابن المقنع ليلة يتحدثان إلى الغداة فلما تفرقا قيل للخليل‏:‏ كيف رأيت ابن المقنع فقال‏:‏ رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله وقيل لابن المقنع‏:‏ كيف رأيت الخليل فقال‏:‏ رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه‏.‏

وللخليل عدة تصانيف‏.‏

وقال الخليل كان يتردد إلى شخص يتعلم العروض وهو بعيد الفهم فأقام مدة ولم يعلق على خاطره شيء منه فقلت له يوماً‏:‏ قطع هذا البيت‏:‏ إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع فشرع في تقطعيه على قدر معرفته ثم نهض ولم يجىء بعد إلي فعجبت من فطنته لما قصدته في ذلك البيت مع بعد فهمه‏.‏

ويقال إن أبا الخليل أول من سمي بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكره صاحب كتاب المقتبس نقلاً عن أحمد بن أبي خيثمة ومن النظم المنسوب إلى الخليل قوله‏:‏ وما هي إلا ليلة تم يومها وحول إلى حول وشهر إلى شهر مطايا يقربن الجديد إلى البلى ويدنين أرحال الكرام إلى القبر ويتركن أزواج الغيور لغيره ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر وقوله‏:‏ ألا ينهاك شيبك عن صباكا ويترك ما أضلك من هواكا أترجو أن يعطيك قلب سلمى وتزعم أن قلبك قد عصاك وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال وسأل الأخفش الخليل‏:‏ لم سميت بحر الطويل طويلاً قال‏:‏ لأنه تمت أجزاؤه‏.‏

قال فالبسيط قال‏:‏ لأنه انبسط على يدي الطويل‏.‏

قال فالمديد قال‏:‏ لتمدد سباعيه حول خماسيه‏.‏

قال فالوافر قال‏:‏ لوفورالأجزاء وتداً بوتد‏.‏

قال فالكامل قال لأن فيه ثلاثين حركة لم يجتمع في غيره‏.‏

قال فالرجز قال‏:‏ لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء‏.‏

قال فالرمل قال‏:‏ لأنه يشبه رمل الحصير بضم بعضه إلى بعض‏.‏

قال فالهزج قال‏:‏ لأنه يضطرب شبه هزج الصوت‏.‏

قال فالسريع قال‏:‏ لأنه يسرع على اللسان‏.‏

قال فالمنسرح قال‏:‏ لانسراحه وسهولته قال فالخفيف قال‏:‏ لأنه أخف السباعيات‏.‏

قال فالمقتضب قال‏:‏ لأنه اقتضب من الشعر لقلته‏.‏

قال فالمضارع قال لأنه ضارع المقتضب‏.‏

قال والمجتث قال‏:‏ لأنه اجتث أي قطع من طول دائرته‏.‏

قال فالمتقارب قال لتقارب أجزائه وإنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً‏.‏

وقيل‏:‏ لما دخل الخليل البصرة عزم على مناظرة أبي عمرو فجلس في حلقته ثم انصرف ولم ينطق فقيل له‏:‏ ما منعك قال‏:‏ نظرت فإذا هو رائس من خمسين سنة فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد فلن أكلمه‏.‏

فيها توفي أبو عبد الرحمن عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري الذي روى عن نافع كان محدثاً صالحاً قلت وهو الذي وعظ هارون الرشيد وهو في السعي على الصفا فقال له‏:‏ يا هارون قال‏:‏ لبيك يا عم قال‏:‏ انظر إليهم هل تحصيهم يعني الحجيج فقال‏:‏ و من يحصيهم قال‏:‏ اعلم أن كلاً منهم يسأل عن خاصة نفسه وأنت مسؤول عنهم كلهم ثم قرعه بكلام قال في آخره‏:‏ و الله إن الرجل يسرف في ماله فيستحق الحجر عليه فكيف من يسرف قي أموال المسلمين وسمي العمري لانتسابه إلى عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ممن واجه الرشيد بالموعظة الغليظة البالغة وكذلك الفضيل بن عياض رضي الله عنه وقد ذكرت موعظته البالغة الدامغة في كتابي روض الرياحين وممن وعظه أيضاً ابن السماك وبهلول المجنون رضي الله عنهم‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو دلامة الشاعر المشهور وكان عبداً حبشياً فصيحاً صاحب نوادر ومزاح وقد تقدم شيء من ذلك‏.‏

 سنة اثنتين وسبعين ومائة

فيها توفي الإمام أبو محمد سليمان بن بلال المدني مولى آل أبي بكر الصديق كان حسن الهيئة عاقلاً مفتياً بالمدينة‏.‏

وفيها توفي عم المنصور الفضل بن صالح بن علي أمير دمشق وهو الذي أنشأ القبة العربية التي بجامع دمشق وتعرف بقبة المال‏.‏

وفيها توفي صاحب الأندلس أبو المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي فر إلى المغرب عند زوال ولايتهم فقامت معه اليمانية فتولى الأندلس بعد أن هزم صاحبها يوسف وولي بعده ولده هشام وبقيت الأندلس لعقبه إلى حد الأربع مائة‏.‏

قلت والمراد باليمانية من دخل بلاد المغرب من عرب اليمن وقد تقدم ذكر سبب دخول من دخل منهم فيها مستنجداً بهم للنصرة‏.‏

وفيها أو في سنة ست وسبعين توفي حادي قلوب المشتاقين القارىء الواعظ تحفة الزاهدين وطرفة العابدين الصالح الولي صالح المري البصري روى عن الحسن وجماعة وكان شديد الخوف من الله اذا وعظ كأنه ثكلى‏.‏

 سنة ثلاث وسبعين ومائة

فيها توفي الإمام أبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة روى عن سماك بن حرب وطبقته وكان أحد الحفاظ الأعلام‏.‏

وفيها توفي عبد الرحمن بن أبي الموال المدني مولى آل علي رضي الله عنه روى عن أبي جعفر الباقر وطائفة وضربه المنصور على أن يدله على محمد بن عبدالله بن حسن فلم يدله وكان من شيعته‏.‏

وفيها توفي جويرية بن أسماء بن عبيد سنة أربع وسبعين ومائة فيها توفي الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن عبدالله بن لهيعة الحضرمي روى عن الأعرج وعطاء بن أبي رباح وخلق كثير وقد ولي قضاء مصر في خلافة المنصور‏.‏

 سنة خمس وسبعين ومائة

فيها توفي شيخ الديار المصرية وعالمها سامي المجد والعلا بالعلم والسخاء الذي سما بها الملا ابو الحارث ذو المجد والسعد المشهور بالليث بن سعد الفهمي مولاهم وأصله فارسي أصفهاني روى عن عطاء وابن أبي مليكة ونافع وخلق كثير توفي يوم الجمعة يوم النصف من شعبان وله إحدى وثمانون سنة قال الشافعي الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به وقال يحيى بن بكير‏:‏ الليث أفقه من مالك لكن الحظوة لمالك وقال محمد بن رمح‏:‏ كان دخل الليث في السنة ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة قط وكان من الكرماء الأجواد روي أنه كان لا يتغدى كل يوم حتى يطعم ثلاث مائة وستين مسكيناً‏.‏

وحكى بعضهم أنه ولي القضاء بمصر وأن الإمام مالكاً أهدى إليه صينية فيها تمر فأعادها مملوءة ذهباً وأنه كان يتخذ لأصحابه الفالوذج ويعمل فيه الدنانير ليحصل لكل من أكل من أصحابه كثير وكانت وفاته يوم الخميس منتصف شعبان ودفن يوم الجمعة بمصر في القرافة الصغرى وقبره أحد المزارات رحمة الله عليه وقد أراده المنصور لإمرة مصر فامتنع‏.‏

 سنة ست وسبعين ومائة

فيها فتحت مدينة ريسة من أرض الروم واشتد البلاء والقتل بين القيسية واليمانية في الشام واستمرت بينهم إحن وأحقاد ودماء يهيجون لأجلها في كل وقت إلى اليوم‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي قاضي بغداد الرشيد أبو عبدالله سعيد بن عبد الرحمن الجمحي المدني وكان من أولي العلم والصلاح وتوفي أبو عوانة الوضاح مولى يزيد بن عطاء الواسطي البزار أحد الحفاظ الأعلام‏.‏

وفيها توفي حماد بن أبي حنيفة كان على مذهب أبيه وكان من أهل الصلاح والخير وكان ابنه إسماعيل قاضي البصرة فعزل عنها بالقاضي يحيى بن أكثم فلما وصل يحيى إلى البصرة فسافر إسماعيل نشيعه القاضي يحيى المذكور‏.‏

وحكى إسماعيل المذكور قال‏:‏ كان لنا جار طحان رافضي وكان له بغلان سمي أحدهما قاتله الله أبا بكر والآخر عمر فرمح ذات ليلة أحد البغلين فقتله فأخبر جدي أبو حنيفة به فقال‏:‏ انظروا فإني أخال أن البغل الذي سماه عمر هو الذي رمحه فنظروا فكان كما قال‏.‏

وفيها توفي الولي الكبير السيد الشهير عبد الواحد بن زيد البصري الذي قيل إنه صل الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة‏.‏

وقد ذكرت في كتاب روض الرياحين بعض حكاياته المشتملة على كراماته ومحاسن صفاته‏.‏

وفيها توفي شريك بن عبدالله النخعي الكوفي القاضي أحد الأعلام وله نيف وثمانون سنة‏.‏

 سنة ثمان وسبعين ومائة

فيها توفي جعفر بن سليمان الضبعي وكان أحد علماء البصرة روى عن أبي عمران الجوني وطائفة وأخذ عنه الشيخ عبد الرزاق اليماني‏.‏

 سنة تسع وسبعين ومائة

فيها كانت فتنة الوليد بن طريف الشيباني الخارجي الذي قالت أخته المسماة بالفارعة لما قتل‏:‏ أيا شجر الخابور ما لك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من قنا وسيوف ولا الذخر إلا كل جردا هلدم معاودة للكد بين صفوف كأنك لم تشهد هناك ولم تقم مقاماً على الأعداء غير خفيف فقدناك فقدان الشباب وليتنا فديناك من دهمائنا بألوف وما زال حتى أزهق الموت نفسه شجا لعدو أو ملجأ لضعيف ألا يا لقومي للحمام وللبلى وللأرض همت بحلى برجوف ألا يا لقومي للنوأئب والردى ودهر ملج بالكرام عنيف وللبدر من بين الكواكب إذ هوى وللشمس لما أزمعت بكسوف هو الليث كل الليث إذ يحملونه إلى حفرة ملحودة وسقيف ألا قاتل الله الحثا حيث أضمرت فتى كان بالمعروف غير عنوف فإن يك أراده يزيد بن مرثد فرب رجوف لفها برجوف عليه سلام الله وقفا فإنني أرى المرت وقاعاً بكل شريف وأول هذه المرثية‏:‏ بتل نباثي رسم قبر كأنه على جبل فوق الجبال منيف تضمن مجداً عد مكياً وسؤددا وهمة مقدام ورأي خصيف والعد مكي بالعين والدال المهملتين‏:‏ المديم ولها فيه مراثي كثيرة قالوا‏:‏ و كان يوم المصاف ينشد‏:‏ أنا الوليد بن الطريف الشاري قسورة لا يصطلي بناري ويقال إنه لما انكسر جيشه وانهزم تبعه يزيد بنفسه حتى لحقه على مسافة بعيدة فقتله وأخذ رأسه ولما علمت بذلك أخته المذكورة لبست عدة حربها وحملت على جيش يزيد فقال يزيد‏:‏ دعوها ثم خرج فضرب بالرمح فرسها‏.‏

وقال أعرابي‏:‏ عرب الله عليك فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت والخابور نهر معروف يصب في الفرات وعلى هذا النهر مدن صغار تشبه الكبار في عمارة بلادها وأسواقها وكثرة خيراتها وطريف بفتح الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الراء المثناة من تحت وبعدها فاء وتل نباثي معروف مضاف إلى نباتي بضم النون وبعدها موحدة وبعد الألف مثلثة مفتوحه في برية الموصل والحثا في قولها ألا قاتل الله الحثا جمع حثية وقولها‏:‏ فتى لا يريد الزاد إلا من التقى ولا المال إلا من فتى وسيوف قلت هذا البيت ظاهرة التناقض فإن القائل يقول إن حصول المال بالقنا والسيوف ظاهره القتل والقتال ونهب الأموال وهذا مناف للتقوى والجواب فيما يظهر والله تعالى أعلم‏:‏ ان هذا لا تناقض فيه على مذهب الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنب ويرون الخروج عليهم والدليل على كونه منهم قوله أنا الوليد بن الطريف الشاري فنسب نفسه إلى الشراة وهم الخوارج المتسمون بهذا الاسم بكونهم بزعمهم باعوا نفوسهم بالجنة وقد أبدعت أخته في شعرها المذكور وبلغت في بلاغته نهاية من النظم المشكور وما سمعت من أشعار النساء أبلغ من شعرها وشعر الخنساء كلتاهما رثت أخاها ومن شعر الخنساء البليغ فيه‏:‏ وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار أبدعت في التشبيه وناسبت بين طرفي البيت لأنها لما جعلته هادي الهداة شبهته بدليل على دليل وهما الجبل والنار وأخت ابن طريف أيضاً أبدعت في مواضع من هذه الأبيات ومنها‏:‏ تبكيتها لشجر الخابور ومعاتبتها له على عدم تساقط ورقه لاحتراقه بنار الحزن على قتل أخيه الوليد المذكور فاستعارت استعارة بالغة مشعرة بكون الكون جديراً بأن يحزن ويأسى على فقد من اتصف بالأوصاف الجميلة الثناء حيث قالت‏:‏ أيا شجر الخابور ما لك مورقاً كأنك لم تحزن على ابن طريف وقال بعضهم‏:‏ أظنه في بلد نصيبين وهو موضع الوقعة والشاري بفتح الشين المعجمة وبعد الألف راء واحدة الشراة بضم الشين وهم الخوارج سموا بذلك لقولهم‏:‏ شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة‏.‏

وكان الوليد المذكور أحد الشجعان الأبطال وكان رأس الخوارج خرج في خلافة هارون الرشيد وبغى وحشد جموعاً كثيرة فأرسل إليه هارون جيشاً كثيفاً مقدمه أبو خالد يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فأغروا به الرشيد وقالوا إنه يراعيه لأجل الرحم وإلا فشوكة الوليد يسيرة وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب وقال‏:‏ لو وجهت أحد الخدام أو قال أصغر الخدم لقام بأكثر ما تقوم به ولكنك مداهن متعصب وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليبعثن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين فالتقيا فظهر على الوليد فقتله وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة في شهر رمضان وهي وقعة مشهورة مسطورة في التاريخ‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي إمام دار الهجرة وشيخ الأئمة الجلة أبو عبدالله مالك بن أنس الأصبحي نسبة إلى بطن من حمير يقال له ذو أصبح ولد سنة أربع وتسعين وسمع من نافع والزهري وطبقتهما وأخذ القراءة عرضاً عن نافع بن أبي نعيم قال الإمام الشافعي‏:‏ اذا ذكر العلماء فلمالك النجم‏.‏

وكان مالك طويلاً جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية وقيل تبلغ لحيته صدره وقيل كان أشقر أزرق العينين يلبس الثياب العدنية الرفيعة البيض‏.‏

وقال أشهب‏:‏ كان مالك إذا أعتم جعل منها تحت ذقنه ويسدل طرفيها بين كتفيه وقال خالد بن خداش‏:‏ رأيت على مالك طيلساناً وثياباً مروية جياداً قيل‏:‏ و كان يكره خلق الثياب يعيبه ويراه من المثلة ولا يغير شيبه‏.‏

وقال ابن عيينة لما بلغه موت مالك‏:‏ ما ترك على وجه الأرض مثله‏.‏

وقال أبو مصعب‏:‏ سمعتعت مالكاً يقول‏:‏ ما أفنيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وعنه أنه قال‏:‏ قل رجل كنت أتعلم منه ومات حتى يجيئني ويستفتيني‏.‏

قلت أخبر رضي الله عنه بنعمة الله تعالى عليه وقد يقع مثل هذه الغيرة وقد والحمد لله وقع لي ذلك فبعض شيوخي التمس مني أن يقرأ علي بعض العلوم وبعضهم سألني عن بعض الأحكام الفقهية وبعضهم رجع عن بعض ما أفتى به لما وقف على ما أفتيت به مخالفاً لفتياه وبعضهم جاء بمسائل عديدة من بلاد بعيدة اشكلت عليه وسالني أن أنظرفيها رجاء وضوحها وزوال إشكالها وهو شيخنا وسيدنا وبركتنا الإمام العالم العامل العابد الخاشع الصالح الورع الزاهد حليف المحراب وبركة الأصحاب بل بركة الزمن‏.‏

ونور اليمن جمال الدين محمد بن أحمد الذهيبي بضم الذال المعجمة وبالموحدة المثناتين من تحت المشهور بالنصال قدس الله روحه ونور ضريحه وزاده من الأنعام والأفضال‏.‏

وبعض شيوخي المتصدرين للقضاء والتدريس وغيرهما من الفضائل الشرعية والمناصب العلية لما قرأت عليه كتاب الحاوي في الفقه قال بعد ما أكملته للحاضرين به اشهدوا على أنه شيخي فيه وقال لي لقد استفدت منك فيه أكثر ما استفدت مني وهو الامام الفاضل ذو المحاسن والفضائل والأوصاف الحميدة الجميلة العديدة القاضي نجم الدين الطبري رحمه الله تعالى‏.‏

وبعض الفضلاء النجباء العلماء الألباء قال‏:‏ لي ما نتكلم في فن إلا حسب سامعك أن ذلك فنك دون غيره وبعضهم كان يسميني الفرضي لكونه حضر عندنا يوماً في حساب الفرائض مع أن اشتغالي بعلم الفرائض كان أقل من اشتغالي بغيره من العلوم واشتغالي بالعلوم كان أقل من نصف عشر اشتغال غيري من العلماء وكنت آتي جماعة من شيوخ الفقراء والفقهاء والصلحاء وأتبرك بهم فلم يمض كثير من الزمان حتى جاءوني زائرين وقد كانوا من العلماء المقتدين بهم والشيوخ المشار إليهم وأنا إذ ذلك أمي لا أقرأ ولا أكتب والحمد لله ذو الجلال والإكرام على ما عود فضله من الجميل والأنعام‏.‏

رجعنا إلى ذكر الإمام مالك قال ابن وهب‏:‏ سمعت منادياً ينادي بالمدينة ألا لايفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس صدر فراشه وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال‏:‏ احب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائماً أو مستعجلاً ويقول‏:‏ احب أن أفقههم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه ويقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفونة‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ قال لي محمد بن الحسن‏:‏ ايهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم يعني الإمامين أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما قال‏:‏ قلت‏:‏ على الأنصاف قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فقلت‏:‏ ناشدتك الله من أعلم بالقرآن أو قال بكتاب الله صاحبنا أم صاحبكم قال‏:‏ اللهم صاحبكم‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم قال‏:‏ اللهم صاحبكم قال قلت‏:‏ فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قال الشافعي‏:‏ فلم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ كان مالك يأتي المسجد ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد وكان يصلي وينصرف إلى مجلسه وترك حضور الجنائز و كان يأتي أصحابها فيعزيهم ئم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحد يعزيه ولا يقضي له حقاً واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه وكان ربما قيل له في ذلك فيقول‏:‏ ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره‏.‏

وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم أبي جعفر المنصور وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه شيئاً فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمراً عظيماً فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي بها‏.‏

وذكر ابن الجوزي في كتاب صدور العقول أنه ضرب مالك بن أنس تسعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين وقد تقدم أنه ولد سنة أربع وتسعين وقيل خمس وتسعين فعاش أربعاً وثمانين سنة وقال الواقدي مات وله تسعون سنة والله أعلم با لصواب‏.‏

وحكى الحافظ أبو عبدالله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال‏:‏ حدث القعنبي قال‏:‏ دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه ثم جلست فرأيته يبكي فقلت يا أبا عبدالله ما الذي يبكيك فقال‏:‏ يا ابن قعنب وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت بها برائي بسوط ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال وكانت وفاته بالمدينة الشريفة ودفن بالبقيع ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله‏:‏ سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك من المزن مرعاد السحائب مبراق إمام موطأه الذي طبقت به أقاليم في الدنيا فساح وآفاق أقام به شرع النبي محمد له حذر من أن يضام وإشفاق له مسند عال صحيح وهيبة فللكل منه حين يرويه إطراق وأصحابه بالصدق تعلم كلهم إنهم إن أنت سألت حذاق ولو لم يكن إلا ابن ادريس وحده كفاه على أن السعادة أرزاق وفي السنة المذكورة توفي خالد بن عبدالله الواسطي الحافظ المعروف بالطحان قال إسحاق الأزرق‏:‏ ما أدركت أفضل منه وقال أحمد كان ثقة صالحاً بلغني أنه اشترى نفسه من الله ثلاث مرات‏.‏

وفيها توفي سلام بن سلم احد الحفاظ الأثبات وفي رمضان منها توفي امام أهل البصرة أبو إسماعيل حماد بن زيد بن درهم الأزدي مولاهم سمع أبا عمران الجوني وأنس بن سيرين وطبقتهما‏.‏

وقد تقدم قول عبد الرحمن بن مهدي‏:‏ ائمة الناس أربعة‏:‏ الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز وحماد بن زيد بالبصرة والأوزاعي بالشام‏.‏

وقال يحيى بن يحيى التميمي‏:‏ ما رأيت شيخاً أحفظ من حماد بن زيد وقال أحمد العجلي حماد بن زيد ثقة كان حديثه أربعة آلاف حديث يحفظها ولم يكن له كتاب‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ ليس أحد أثبت من حماد بن زيد‏.‏

 سنة ثمانين ومائة

فيها كانت الزلزلة العظمى التي سقط منها رأس منارة الاسكندرية وفيها نزل الرشيد الرقة واتخذها وطناً‏.‏

وفيها توفي حفمى بن سليمان قارىء الكوفة وتلميذ عاصم وقد حدث عن علقمة بن مرثد وجماعة وعاش تسعين سنة رحمة الله عليه‏.‏

وفيها توفي محدث البصرة بعد حماد بن زيد عبد الوارث بن سعيد الحافظ اخذ عن أيوب السختياني وطبقته رحمة الله عليهم‏.‏

وفيها توفي مبارك بن سعيد اخو سفيان الثوري وفقيه مكة‏:‏ ابو خالد مسلم بن خالد الزنجي أحد شيوخ الإمام الشافعي عاش ثمانين سنة روى عن ابن أبي مليكة والزهري وطائفة قال أحمد بن محمد الأزرقي كان فقيهاً عابداً يصوم الدهر يلقب بالزنجي في صغره وكان أشقر‏.‏

وفيها توفيت الولية الكبيرة العارفة بالله الشهيرة ذات المقامات العلية والأحوال السنية‏:‏ رابعة العدوية البصرية على خلاف ما تقدم في سنة خمس وثلاثين ومائة وذكر شيء مما يتعلق بفضلها‏.‏

 سنة احدى وثمانين ومائة

فيها توفي الإمام محدث الشام ومفتي أهل حمص إسماعيل بن عياش بالشين المعجمة العنسي قال يزيد بن هارون‏:‏ ما رأيت شامياً ولا عراقياً أحفظ من إسماعيل بن عياش ما أدري ما الثوري وقال أبو اليمان‏:‏ كان إسماعيل جارنا وكان يحيي الليل كله‏.‏

وقال داود بن عمرو‏:‏ ما حدثنا إسماعيل إلا من حفظ وكان يحفظ عشرين ألف أو قال أكثر من عشرين ألف حديث‏.‏

وفيها توفي قاضي مصر أبو معاوية ومفضل بن فضالة القتباني كان زاهداً ورعاً قانتاً مجاب الدعوة عاش أربعاً وسبعين سنة‏.‏

وفيها في شهر رمضان توفي الإمام العالم العامل مقر المحاسن والفضائل أبوعبد الرحمن عبدالله بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ الزاهد العابد ذو المناقب العديدة والسيرة الحميدة تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس وروى عنه الموطأ وكان كثير الانقطاع محباً للخلوة شديد التورع كذلك كان أبوه ورعاً‏.‏

يحكى عنه أنه كان يعمل في بستان لمولاه اقام فيه زماناً طويلاً ثم إن مولاه جاءه يوماً وقال له‏:‏ اريد رماناً حلواً فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً وكسره فوجده حامضاً فحرد عليه وقال‏:‏ اكلت الحلو وأحضرت لي الحامض هات حلواً فمضى وقطع من شجرة آخرى فلما كسره وجده حامضاً فاشتد حرده عليه ثم كذلك مرة ثالثة فقال له بعد ذلك‏:‏ انت ما تعرف الحلو من الحامض فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ و كيف ذلك فقال‏:‏ لأني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه فقال‏:‏ و لم لا تأكل فقال‏:‏ لأنك ما أذنت لي فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً فعظم في عينه وزوجه ابنته قيل إن عبدالله بن المبارك من تلك الابنة فظهرت عليه بركة أبيه‏.‏

قلت هكذا ذكر بعض أصحاب التواريخ والذي كنا نعرفه وذكرته في بعض كتبي أن سبب زواجه إياها‏:‏ ان سيده استشاره وكانت له بنت قد خطبت إليه ورغب فيها كثير من الناس فقال له‏:‏ يا مبارك من ترى أن تزوجه هذه البنية فقال له‏:‏ يا سيدي الناس مختلفون في الأغراض فأما أهل الجاهلية فكانوا يزوجون للحسب وأما اليهود فيزوجون للمال وأما النصارى فيزوجون للجمال وأما هذه الأمة فيزوجون للدين يعني الأخيارمنهم الدينين قلت والى هذه الأربع الخصال أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله ‏"‏ تنكح المرأة لأربع ‏"‏ وذكرها ثم قال‏:‏ ‏"‏ فاظفر بذات الدين ‏"‏ الحديث الصحيح فلما سمع منه ذلك أعجبه عقله فقال لأمها‏:‏ و الله ما لها زوج غيره فزوجها منه فجاءت له بهذه الدرة الفاخرة المشتملة على نفائس المحاسن الباطنة والظاهرة وفي شيء من مناقبه المشتملة على فضائله ومحاسنه في ظاهره وباطنه كتاب مستقل لبعض العلماء وإلى وصفه الحسن أشار القائل وصدق وأحسن‏:‏ إذا سار عبدالله من مرو ليلة فقد سار عنها نورها وجمالها وقد تتبع أصحابه ما ظهر لهم من مناقبه فبلغت خمساً وعشرين من العلوم والصلاح والكرم والشجاعة في سبيل الله وحسن الخلق والعبادة والنجابة والفصاحة وحسن اللفظ في النثر والنظم‏.‏

ومن شجاعته وصلاح سريرته ما روي عنه‏:‏ خرج مرةً في بعض الغزوات فبرز بعض العلوج ودعا المسلمين إلى المبارزة فخرج إليه جماعة من المسلمين واحد بعد واحد فقتل الجميع فبرز إليه إنسان مثلهم فقتل ذلك العلج قال الراوي‏:‏ فدنوت منه وتأملته فإذا هو ابن المبارك رضي الله عنه‏.‏

ومن كرمه وشفقته على إخوانه وحسن صحبته ما اشتهر عنه أنه كان إذا أراد الحج يأتيه اخوانه ويكلمونه في الصحبة فينعم لهم ويقول هاتوا ما أعددتم لذلك من النفقة فاذا أتوه بها قبضها وكتب على كل نفقة اسم صاحبها وأقفل على الجميع في صندوق ثم يحج بهم وينفق عليهم ذهاباً وإياباً من أطيب الأطعمة ويشتري لهم الهدية من مكة والمدينة زادهما الله شرفاً ثم إذا وصل إلى الموطن صنع لهم طعاماً نفيساً ومد سماطاً عظيماً قيل عد ما في سماط له من جفان الفالوذج وحده فبلغت خمساً وعشرين جفنة ثم يناديهم من شاء الله من الفقراء والصلحاء فإذا فرغوا من‏.‏

أكل الطعام جمع إخوانه الذين حجوا معه فكساهم لباساً جديداً ثم استدعى بالصندوق ففتحه ورد إلى كل واحد منهم نفقته التي عليها اسمه‏.‏

قلت وهذا مختصر ما روي في ذلك معنى القصة إن لم يكن لفظ جميعه والفالوذج بالفاء والذال المعجمة وهو نوع من الحلواء ويحتمل أنه الخبيصة قال في الصحاح وقيل الأعرابي أتعرف الفالوذج قال اصفر رعديد‏.‏

وذكر الجوهري أن الرعديد الرخص ويقال ذلك للمرأة الرخصة ويقال أيضاً للجبان ومنه قول المتنبي‏:‏ إن ترمني نكبات الدهر عن كثب ترام امرأًغير رعديد ولا نكس والرعديد بكسر الراء المهملة وسكون العين المهملة وكسر الدال والمثناة من تحت بين الدالين المهملتين والكثب بفتح الكاف والمثلثة وفي آخره موحدة القرب والنكس بكسر النون‏:‏ الرجل الضعيف قلت ويحتمل أنهم أرادوا ضعيف الجسم ويحتمل ضعيف القلب‏.‏

وأما ما ورد في الحديث‏:‏ ‏"‏ أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ‏"‏ فالأصح عند أئمة الحديث أن المراد به قوة القلب كما أن الغني المطلوب في الحديث هو غني النفس عندهم‏.‏

وقد ورد عن بعض السلف أن الفالوذج لباب الحنطة يطبخ بالعسل وقد اقتصرت على هذا القدر من محاسن ابن المبارك البحر وعمره ثلاث وستون سنة وسمع من هشام بن عروة وحميد الطويل ومن في طبقتهما وصنف التصانيف الكثيرة وحديثه نحو من عشرين ألف حديث‏.‏

قال أحمد بن حنبل لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه وقال شعبة‏:‏ ما قدم علينا مثله وقال أبو إسحاق الفزاري‏:‏ ابن المبارك إمام المسلمين‏.‏وعن شعيب بن حرب‏:‏ ما لقي ابن المبارك مثل نفسه وقال غيره‏:‏ كانت له تجارة واسعة وكان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم وكان يحج سنة ويغزو سنة‏.‏

وروي عن الإمام سفيان الثوري أنه قال‏:‏ رددت أن عمري كله بثلاثة أيام من أيام ابن المبارك وموته قيل في هيت عند انصرافه من الغزو في شهر رمضان من السنة المذكورة وقيل توفي في بعض البراري سائحاً مختاراً للعزلة والخمول بعد الشهرة والجاه العظيم الذي شرحه يطول والله أعلم بحقيقة الأمور‏.‏