فصل: سنة أربع وأربعين وسبع مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة خمس وثلاثين وسبع مائة

فيها توفي ملك العرب حسام الدين مهنا ابن الملك عيسى بن مهنا الطائي وأقاموا عليه المأتم ولبسوا السواد كان فيه خير وتعبد‏.‏

وفيها ماتت المعمرة زينب بنت الخطيب يحيى ابن الشيخ عز الدين بن عبد السلام السلمية عن سبع وثمانين سنة روت عن جماعة وحدثت بالكثير وتفردت‏.‏

وفيها مات الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور الحلبي تلا بالسبع عن إسماعيل المليحي وسمع من جماعة وصنف وخرج وأفاد مع الصيانة والديانة والأمانة والتواضع والعلم ولزوم الاشتغال والتأليف حج مرات وعمل تاريخاً كبيراً لمصر بيض بعضه وشرح السيرة لعبد الغني في مجلدين وعمل أربعين تساعيات وأربعين متباينات وأربعين بلديات وعمل معظم شرح البخاري في عدة مجلدات‏.‏

 سنة ست وثلاثين وسبع مائة

فيها توفي بدمشق الرحالة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن ممدود البغدادي الصوفي عن اثنتين وتسعين سنة سمع وأجازه جماعة وتفرد‏.‏

وفيها ماتت عائشة بنت محمد بن مسلم الحرانية عن تسعين سنة روت حضوراً وسماعاً عن جماعة وتفردت‏.‏

وفيها توفي السلطان الذي ملك بعد أبي سعيد ضربت عنقه صبراً يوم الفطر وكانت دولته وفيها مات الوزير المعظم غياث الدين محمد بن فضل الله الهمداني وكان وزيراً عادلاً عالماً محباً في العلم والخير وأهلهما‏.‏

متصفاً بالإنصاف له مآثر وصدقات ومعروف‏.‏

وفيها توفي الصاحب الأمجد عماد الدين إسماعيل بن محمد ابن الصاحب فتح الدين ابن القيسراني وكان منشياً بليغاً رئيساً ديناً صيتاً نزهاً روى عن غير واحد‏.‏

 سنة سبع ثلاثين وسبع مائة

فيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو العجائب العظيمة والكرامات الكريمة والهمم العالية والشمائل الرضية والمكاشفات الجلية والآيات الباهرة والأنوار الزاهرة أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن المجد المرشدي في رمضان بقرية مرشد كهلان‏.‏

كان له عجائب تحير العقول وغرائب ذكرها يطول‏.‏

كان لو اجتمع عنده أكثر عسكر في الورى لعجل إليه في الحال ما أحب من القرى يخرج ذلك من خزانة له صغيرة ليس فيها شيء يرى شاهد منه تلك الكرامات الباهرات خلائق لا يحصون‏.‏

قلت‏:‏ حكي لي ذلك من الثقات وسمعت ذلك عنه من خلائق أدركتهم أخياراً وفضلاء أعياناً بل رأيت ذلك منه مشاهدة عياناً وذلك أني لما وردت عليه زائراً ولم أكن رأيته قبل ذلك دخلت زاويته فلم أجده فيها ثم بعد ساعة يسيرة جاءني فتسالمنا وقال لي‏:‏ ما أراها إلا غزالية ثم أخذ بيدي وأدخلني خلوة له فكان يحدثني فيها ساعة ثم يخرج ويتلقى من يزوره ساعة وكنت صائماً فلم يقرب لي طعاماً إلى أن كان بعد صلاة المغرب وإذا به قد مد عندي سماطاً يكفي جماعة كثيرة من الأضياف من الأطعمة ما يكثر عده من الأنواع والأصناف وكان في نفسي شهوة طعام مخصوص ما كنت ذقته في جميع عمري أحضره في ذلك السماط ثم أذن لي في تناول الطعام فأكلت منه ما اشتهيت وإذا به قد جاءني واستأذنني في إدخال جماعة مخصوصين علي ليطعموا معي كأنهم التمسوا ذلك وهم الفقيه الإمام شرف الدين ابن الصاحب وأولاده من نسل الوزير الشهير المعروف بابن حنا وإذا بهم قد أظهروا لي من حسن الاعتقاد ما يقل مثله في المعتقدين من العباد حتى أخذوا الماء الذي غسلت به يلي فشربوه ثم لما أصبحت عزمت على السفر هاربا من لقاء من يأتيه من سائر البلدان لما قد اعتادوا عنده ليلة النصف من شعبان فمنعني عن السمر وقال‏:‏ تخرج معنا إلى كوم قرح مكان يجتمع فيه عنده خلائق لا يحصون‏!‏ غ الليلة المذكورة ويطعمهم جميعا من الأطعمة الطيبة المشكورة فكرهت الإقامة الاجتماع بالخلق واعتذرت إليه في ذلك فقال‏:‏ إذا كان لا بد من السفر فأقم عندنا إلى العشاء فوافقته في ذلك ثم حدثتني نفسي حينئذٍ وقالت لي‏:‏ إذا أقمت تصوم أو تفطر فنازعتني في الإفطار فقال لي‏:‏ في الحال تصالحها ثم قال لخادم عنده‏:‏ هات الطعام فتباطأ قليلاً فشد الشيخ وسطه وجاءني بمائدة عليها الطعام فأكلت ثم قال لي‏:‏ هل لك في مجلس علم اذهب إلى الموضع الفلاني فذهبت إلى ذلك الموضع فمكثت فيه يسيراً وإذ بفتوى قد جاءت من بعض القرى وحضر عندي حينئذٍ جماعة من الفقهاء منهم ابن الصاحب المذكور وغيره فقالوا لي‏:‏ اكتب عليها فقلت لهم‏:‏ أنا تركت ذلك في موضع إقامتي فكيف أكتب ذلك في بلاد الغربة‏.‏

فقالوا‏:‏ لا بد من ذلك فقلت‏:‏ إن كان ولا بد‏.‏

فليحضر صاحبها فأذكر له ما عندي في ذلك من الجواب ولا حاجة إلى رقم ذلك في كتاب فجاء صاحبها فذكرت له ما ظهر لي من الجواب ثم وقالوا لي‏:‏ تقيم عندنا مدة حتى نشتغل عليك في كتاب الحاوي فاعتذرت من ذلك وعجبت من إشارة الشيخ فيما وقع من البحث في العلم هنالك وشاهدت منه هذه الكرامات المذكورات‏.‏

أعني الطعام الذي اشتهيته ومصالحة النفس في الفطر والبحث في العلم‏.‏وأما قوله‏:‏ ما أراها إلا غزالية فاسأل الله الكريم أن يمن علي بما كان عليه الإمام أبو حامد الغزالي من السيرة الحميدة في العلوم والأعمال الصالحات والانعزال عن الخلق والأنس في الخلوات‏.‏

وأخبرني أنه صحب سبعين من الشيوخ‏.‏

ذكر منهم الشيخ الكبير العارف بالله أبو العباس المرسي والولي الكبير الفقيه الإمام أحمد بن موسى بن عجيل وكان قد حفظ القرآن عليه وقرأ كتاب التنبيه ثم انقطع في زاوية ومع هذا فالناس مختلفون فيه فأكثر الناس يعتقدونه لكثرة ما سمعوا ورأوا من كراماته في مد السماطات العظيمة من غير وجود لأسبابها في الظاهر والمكاشفات الكثيرة والتكلم على الباطن ولا خادم يخدمه ولا معاون حتى قيل‏:‏ إنه أطعم في ثلاث ليال متوالية ما قيمته ألف دينار ولم يزل يتوارد عليه الأمراء والوزراء وأبناء الدنيا وأهل المناصب الكبار‏.‏

ومع ذلك يقريهم في الحال بما يدهش عقولهم من الأطعمة التي ليس للسلطان على إحضارها في الحال اقتدار بعض الناس لا يعتقدونه ويحمل ما يسمعه منه على تأويلات باطلة كما نقل عن ابن تيمية أنه قال‏:‏ هو مخدوم لما اشتهر عنده واستفاض كثرة خوارقه للموائد لم يمكنه جحدها فحملها على هذا الظن الكاذب والتأويل الفاسد فيه فإن الجان ليس له اطلاع على بواطن العباد وما يخطر في بواطنهم نعوذ بالله من سوء الاعتقاد ومنهم من تشكك فيه‏.‏وبلغني عن الشيخ الكبير الولي الشهير الشيخ عبد الهادي المغربي أنه لما ذكر عنده قال‏:‏ لا أشك أنه حصل له نصيب من أحوال الفقراء إلا أن الفقراء لا يرضون بشهرة هذه الكرامات التي وكذلك بلغني عن سيد الكبير الولي الشهير الشيخ حسين الحاكي أنه قال‏:‏ لو كنت يظهر على يدي مثل هذا الذي يظهر على يديه لدخلت في سرب تحت الأرض‏.‏

وكذلك بلغني عن السيد الجليل الإمام الحفيل الشيخ خليفة الشاذلي الإسكندراني أنه لما ذكر عنده قال كلاماً معناه ترى متى يتفرغ هذا الرجل لذكر الله لشغل أوقاته بمن يأتيه من الأمراء والوزراء وغيرهم من أهل الدنيا‏.‏

قال الراوي‏:‏ فلما سمعنا منه هذا الكلام أتينا الشيخ محمداً نزوره فقال لنا‏:‏ قولوا للفقيه خليفة والله ما شغلوني عن الله طرفة عين أو قال‏:‏ والله لو شغلوني عن الله طرفة عين ما سلمت عليهم أو قال‏:‏ ما قرأتهم السلام أو كما قال من الكلام‏.‏

قلت‏:‏ والذي أراه أنه لا ينبغي أن ينكر عليه شيء مما ينسب فإنه إن كان يتعاطى ذلك بإذن فليس علي من إقامة الحق في مقام‏.‏

وصرفه فيه تصريف الحكام لأحد معه كلام ولا اعتراض ولا ملام ولا يصح أن يكون صدور ذلك منه بغير إذن فإن الأولياء لا يتعاطون الأشياء بهوى نفوسهم إذ لو فعلوا ذلك ما كانوا أولياء الله وما كانت تواتيهم الأشياء ولو أتاهم شيء في وقت بغير ولاية بل بكهانة أو سحراً وغواية لظهر ذلك عليهم وافتضحوا في العواقب والمرشدي المذكور لم يزل مستوراً مشكوراً فظهر والله أعلم‏.‏

أن ذلك من تخصيص وفيها توفي الملك المعمر أسد الدين عبد القادر بن عبد العزيز بن السلطان الملك المعظم روى السيرة وأجزاء عن خطيب بردى وتفرد وكان ممتعاً بحواسه مليح الشكل ما تزوج ولا يسرى‏.‏

وفيها قتل صاحب تلمسان أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى وكان سني السيرة‏.‏

قتل أباه وكان قتله له رحمة للمسلمين لما انطوى عليه من خبث السريرة وكان بطلاً شجاعاً تملك نيفاً وعشرين سنة‏.‏

حاصره سلطان المغرب أبو الحسن المريني مدة ثم برز عبد الرحمن ليكبس المريني فلم يتم له ذلك فطال عليه الحصار حتى دخلت البلد عليه عنوة فقاتل على حصانه حتى قتل في رمضان كهلاً‏.‏

 سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة

فيها توفي الصالح المسند أبو بكر بن محمد بن الرضي الصالحي القطان عن تسع وثمانين سنة سمع حضوراً من خطيب برداً وعبد الحميد بن عبد الهادي وسمع عبد الله بن الخشوعي وابن خليل ابن البرهان وتفرد وأكثروا عنه كان له إجازة السبط وجماعة‏.‏

وفيها مات في حماة قاضيها صاحب السيرة السديدة والمحاسن الحميدة والفضائل العديدة والتصانيف المفيدة شرف الدين هبة الله ابن القاضي نجم الدين عبد الرحيم القاضي شمس الدين إبراهيم ابن البارزي الجهني الشافعي عن ثلاث وتسعين سنة روى عن جده وغيره وله إجازة من جماعة منهم الكمال الضرير وكان إماماً قدوة مصنفاً صاحب فنون وإكباب على العلم والصلاح وتواضع حسن وصحة ذهن تخرج الأصحاب وانتفع به وأفاد‏.‏

قال الذهبي‏:‏ وبلغ رتبة الاجتهاد‏.‏

قلت‏:‏ وكتب إلي في آخر عمره يستشيرني في المجاورة في الحرم الشريف إلى الموت ثم أدركته المنية على القرب‏.‏

ومن تصانيفه شرح الحاوي في مجلدين وكتاب آخر في حل الحاوي وكتاب المغني جمع فيه مسائل التنبيه وزيادات وغير ذلك وله مسألة تفرد بها أعني ما أفتى به من جواز السفر للحائض قبل طواف الإفاضة مع نحر بدنة كمذهب الحنفية‏.‏

قلت‏:‏ ولقد عجبت من ذهابه إلى الفتوى مع جلالة قدره ورسوخه في العلم وقد صح عن سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال في زوجته صفية رضي الله تعالى عنها‏:‏ أحابستنا هي يعني عن السفر حتى تطهر لما قيل له أنها حاضت فإذا كانت حبيب الرحمن المنسوخ بدينه الأديان ينجس عن السفر بسبب حيض امرأته قبل طوف الإفاضة كيف يطلق غيره من آحاد الناس هذا خارجاً عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس‏.‏

وهذا أقول لا طعناً في جلالة شرف الدين وعلمه المعتبر بل تحذيراً من فعل ذلك فالجواد قد يعثر وكان رضي الله تعالى عنه حسن الاعتقاد في الصوفية والزهاد العباد من سائر العباد ذا أصل أصيل ومجد أثيل ووصف جميل يقر له بالفضل كل فضيل‏.‏

وقد بلغني أن الشيخ الإمام محيي الدين النووي رحمه الله تعالى مدحه وقال‏:‏ ما في البلاد أفقه من هذا الشاب أو نحو ذلك لما رآه وبلغني أيضاً أن الشيخ محيي الدين المذكور كان يعرض عليه ما يكتبه في كتاب الروضة حال اختصاره كتاب الإمام أبي القاسم الرافعي أعني ‏"‏ العزيز ‏"‏ في شرح ‏"‏ الوجيز ‏"‏ للإمام أبي حامد الغزالي قدس الله تعالى أرواح الجميع‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي قاضي القضاة جمال الدين بن حملة بن يوسف بن إبراهيم الأنصاري تميز وباحث وأخذ الفقه عن عز الدين الفاروثي وابن النقيب وابن الوكيل وابن الزملكاني وقرأ النحو وصار من أعيان الفقهاء وولي قضاء دمشق وحكم فحمد وكان ماضي الحكم ذا هيبة وصولة وشدة وطأة علي المرتبة وجرت له أمور وأوذي وعزل فالله تعالى يوجره ثم أعطي تدريس الشامية وكان شديد البأس على ابن تيمية والمبتدعين وكان متين الديانة حسن المعتقد‏.‏

وفيها توفي العلامة زين الدين بن المرحل محمد بن عبد الله ابن خطيب دمشق عمر بن مكي القرشي العثماني العبدي الأموي الشافعي تفقه بمصر والشام على عمه الشيخ صدر الدين ابن الوكيل وعلى الشيخ كمال الدين بن السريشي وكمال الدين ابن الزملكاني وتولى هو والشيخ العلامة شمس الدين بن اللبان التدريس في يوم واحد يوم توفي الشيخ صدر الدين المذكور في أواخر سنة ست عشرة وسبع مائة‏.‏

درس في المجدية فأخذها شمس الدين المذكور وانتقل هو إلى مشهد الحسين فدرس فيه سبع سنين ثم انتقل إلى الشام ودرس في الشامية الكبرى والعذراوية ومكث فيها مدرساً ثلاث عشرة سنة وناب في الحكم عن ابن الأخناي بدمشق وكان رحمه الله تعالى إماماً عالماً عاملاً بارعاً نظاراً ذكياً وفياً ورعاً زاهداً لم ير بالشام مثله ولا مثل عبارته مع طلاقة الوجه وحسن المحيا رحمه الله تعالى وله مصنفات جليلة منها كتاب الفوائد في الفرق بين المسائل ومنها كتاب النظائر ومنها مختصر الروضة ومنها في أصول الفقه كتاب التلخيص وكتاب المخلص وكتاب الخلاصة ولم يصنف مثلها فاقت على أصول ابن الحاجب وغيره كذا ذكر بعض أهل الطبقات من الشاميين‏.‏

وفيها وقيل‏:‏ في التي بعدها مات بمصر شيخ الشافعية زين الدين عمر بن أبي الحزم الدمشقي ابن الكنتاني أبو حفص العلامة كبير الشافعية أوحد الأصوليين‏.‏

تفقه وناظر ونشأ بدمشق ثم تحول إلى القاهرة وكان تام الشكل حسن الهيئة جيد الذهن كثير العلم إماماً في المذهب مائلاً إلى الحجة‏.‏

خطب ودرس واشتهر اسمه وسمع جزء الأنصاري وامتنع من الرواية وكان يوهن بعض المسائل لضعف دليلها ويلقي دروساً مفيدة متقنة يدهش من يسمعها ويزجر من يعارضه وكان متصوفاً متديناًً مليح البزة حسن الشكل لا يخضع لقاضٍ ولا أمير ولا تأهل قط‏.‏

درس بالمنصورية وغيرها‏.‏

تفقه على البرهان المراغي فقرأ عليه التحصيل في الأصول وحفظه وسمع من جماعة وعين للقضاء لكن في خلقه زعارة وعنده قوة نفس وقلة إنصاف وله أخبار في نفوره وزعارته‏.‏قلت‏:‏ هكذا نقلوا عنه وأخبرني بعض الفقهاء المصريين أنه كان يقرر المسألة حتى لا يخلي لأحد معه كلاماً فإن جاء أحد يتكلم‏.‏

فال‏:‏ إيش تريد تفسر ومن زعارته ما حكى لي بعض الفقهاء الفضلاء المصريين بعد أن جرى لي معه قضية وهي أنه جاءني يطلب مني إعارة نسخة كتاب الحاوي وكانت عندي عارية للقاضي نجم الدين الطبري وذكر أنه أذن له في أخذها مني فامتنعت من دفعها إليه فخرج من عندي مغتاظاً فلقي بعض الفقهاء المكيين فشكا عليه ذلك وقال‏:‏ جئته فلم يقم لي وامتنع من دفع الكتاب إلي فهون عليه ذلك وكنت قد قلت له‏:‏ لو جاء صاحبه ما أعطيته إياه وقال له‏:‏ إنه يدل على القاضي يعني له عند القاضي منزلة ومودة فلما كان بعد ذلك بأيام جاءني وأنا في المسجد الحرام وعندي جماعة يشرحون على الكتاب المذكور فقال لي‏:‏ أحب منك أن تعيرني الكتاب أنت فأنا أعتقد أنك ما تحتاج إليه فقلت له عند ذلك بعدما أنعمت له به‏:‏ ما أنت إلا صبرت على جفائي بجلافة خلقي فتبسم عند ذلك وقال ما معناه المدح لي وبقي ما ذكرت من الخلق المذكور ثم بعد ذلك شرع يحكي حكاية جرت له مع الشيخ زين الدين المذكور وقال‏:‏ جئت مع والحي إليه فلما قربنا من الباب قال لي والدي‏:‏ لا تدخل معي بل قف قليلاً ثم ادخل قال‏:‏ فلما دخل والدي فسلم سمعته يقول له البعيد‏:‏ حمار قال‏:‏ ثم وقفت قليلاً ودخلت فقال لي‏:‏ إيش أنت فقلت‏:‏ يا سيدي جحش ولد ذلك الحمار فضحك هو ومن عنده قلت‏:‏ وبلغني أنه كان يستحضر‏.‏

 سنة تسع وثلاثين وسبع مائة

هلك في شهر رجب منها ستون نفساً بالزلزلة في طرابلس الشام‏.‏

وفي الشهر المذكور قدم الإمام العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي متولياً قضاء القضاة في البلاد الشامية وفرح العالم به لدينه وعفته وعلومه الباهرة وأوصافه الجميلة‏.‏

وفيها توفي الإمام العلامة بدمشق قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الشافعي عن ثلاث وسبعين سنة ذو الفنون جامع المعقول والمنقول ابن قاضي القضاة سعد الدين ابن قاضي القضاة إمام الدين‏.‏

أخذ المعقول عن الشيخ شمس الدين الألجي وغيره وسمع من الفاروثي وطائفة ثم ولي خطابة البلد مدة ثم طلبه السلطان الملك الناصر وشافهه بقضاء دمشق ووصله بذهب كثير فحكم مع الخطابة ثم طلب سنة سبع وعشرين فولاه قضاء الممالك وعظم شأنه وبلغ من الرتبة والعز ما لم يصل إليه غيره وكان فصيحاً حلو العبارة يعرف العربي والعجمي والتركي مليح الصورة موطأ الأكناف سمحاً جواداً حليماً‏.‏

جم الفضائل كثير التحمل‏.‏

ثم نقل في سنة ثمان وثلاثين إلى قضاء الشام فتعلل وحصل له طرف من الفالج ثم حضره الأجل وله من التصانيف المفيدة الكتابان المشهوران في علم المعاني والبيان‏.‏

وفيها توفي الإمام العلامة الصالح الخاشع جامع المحاسن العديدة والسيرة الحميمة الورع المتواضع الخاضع أبو البشر محمد بن محمد الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الصائغ ولد سنة ست وسبعين وست مائة وسمع كثيراً من أبيه وابن شيبان والفخر علي وعدة وحدث بصحيح البخاري وحفظ التنبيه ولازم حلقة الشيخ برهان الدين وولوه قضاء القضاة فاستعفى وصمم على الامتناع فاحترمه الناس وأحبوه لتواضعه ودينه وتعبده‏.‏

حج غير مرة وكان مقتصداً في لباسه وأموره كبير القدر حصل في صغره ودرس وهو أمرد وزار بيت المقدس عند قرب أجله فتعلل ثم انتقل إلى دمشق وفيها انتقل إلى الله تعالى وكان حسن الاعتقاد بمن سمع به من أهل الخير كثير الوداد ولقد بلغني أنه لما وقف على بعض كتبي وأظنه كتاب الإرشاد وضعه على عينه حسن ظن منه‏.‏

نفعه الله ونفع به وكذا عادة أهل الخير في حسن الظن ومن ذلك أني لما حكيت للسيد الجليل الزاهد الواعظ المقرئ الشيخ أبي عبد الله المغربي المعروف بالقصري حكاية الشيخ المشهور المقرئ المشكور محمد بن زاكي التميمي مع بعض المبتدعين لما قرأ عليه واجتمع له التحقيق وحسن الصوت قال له أصحابه‏:‏ ما أحسن هذا لو كان شيخك منا فقال‏:‏ وما على من ذلك أخذت العسيلة وتركت الظرف فلما بلغ ابن زاكي ذلك قال للطلبة‏:‏ نحب أن ترجع إلينا عسيلتنا فأنسى ذلك الشخص جميع ما كان يحفظ وكان قد قرأ السبع فعرف من أين أتى واستغفر الله تعالى وتاب ودخل في مذهب الشيخ ابن الزاكي وكان شافعياً وصار يتعلم كما يتعلم المبتدئ إلى أن بلغ خمس روايات ثم توفي‏.‏

وهذه الحكاية مستفيضة في بلاد اليمن فلما حكيتها للشيخ أبي عبد الله القصري المذكور قال لي‏:‏ إن كنت قرأت على هذا الشيخ قرأت عليك نقول ذلك من باب حسن الظن كما ذكرت ولمناسبة أهل الخير والصلاح في حسن الظن ذكرت هذه الحكاية هنا مع كونها دخيلة وكان - رحمه الله تعالى - يسألني عن مذهب الإمام الشافعي ويقول‏:‏ أنا ما أتقيد بمذهب مالك بل آخذ بما رجح فيه الدليل وكان يسمع بقراءتي سنن أبي داود على شيخنا الإمام رضي الدين الطبري فلما فرغت قراءة الكتاب قال‏:‏ اكتب لي الإجازة فكتبت وذكرت فيها بعض أوصافه على سبيل المدح فأخذ القلم وضرب على ذلك سوى المقرئ الواعظ فإنه لم يضرب على لفظهما وقال‏:‏ صحيح وذلك من شدة ورعه وزهده أعني ضربه على ما نسبت إليه رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي شيخ بلاد الجزيرة الإمام القدوة شمس الدين محمد المنتسب إلى شيخ الشيوخ في المجد والمفاخر الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر الشيخ أبي محمد محيي الدين عبد القادر الجيلي جده الرابع أعاد الله من بركاته علينا وعلى المسلمين وكان شمس الدين المذكور عالماً صالحاً وقوراً وافر الجلالة روى عن الفخر علي بدمشق وحج مرتين‏.‏

وفيها توفي صاحب التاريخ الكبير محمد بن إبراهيم ابن الجرزي الدمشقي عن إحدى وثمانين سنة‏.‏

وفيها مات بخليص محرماً في ذي الحجة الإمام الحافظ محدث الشام علم الدين القاسم بن قلت‏:‏ وعليه أمنت الشاميون في الصلاة عليه في خليص بإشارة بعضهم وكان روى عن خلق كثير وقرأ وكتب وتعب وأفاد مع الصدق والتواضع والإتقان وكثرة المحاسن ووقف جميع كتبه وأوصى بثلثه وحج خمس مرات رحمه الله‏.‏

 سنة أربعين وسبع مائة

في صفر منها هبت بجبل طرابلس ريح فيها سموم وعواصف على جبل عكا وسقط نجم اتصل نوره بالأرض برعد عظيم وعلقت منه نار في أراضي الجون أحرقت أشجاراً ويبست أثماراً وأحرقت منازل وكان ذلك آية عظيمة ونزلت من السماء نار بقرية الفيحة على قبة خشب أحرقتها وأحرقت ثلاثة بيوت‏.‏

كل هذا صح واشتهر‏.‏

وفيها توفي بمصر الإمام العلامة الصالح المشهور الخاشع المشكور أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز مجد الدين السنكلومي من سنكلوم بالسين المهملة والنون والكاف واللام والواو ثم الميم بلدة من أعمال الشرقية وبعضهم يقول‏:‏ السنكلوني بالنون قبل باء النسبة الفقيه الشافعي المفيد الورع‏.‏

قدم القاهرة قريب بلوغه أو بعد البلوغ فأخذ الفقه عن الشيخ محيي الدين عبد الرحيم النشائي الفقيه وكان أكثر اشتغاله واستفادته عليه ثم اشتغل أيضاً على الإمام العلامة عز الدين بن عمر بن أحمد بن المدلجي وغيرهما وكثر عن عز الدين المذكور فأخذ عنه الفقه والنحو وشيئاً من الأصول وقرأ عليه الكافية لابن مالك في النحو وقرأ الفصول لابن معطي على أبي البقاء خطيب القدس وأخذ أصول الفقه وشيئاً من علم البيان عن الشيخ علم الدين العراقي وصنف عدة كتب في الفقه منها انتخابه لكافية النبيه وشرح التنبيه للإمام نجم الدين بن الرفعة ست مجلدات وسماه ‏"‏ تحفة النبيه في شرح التنبيه ‏"‏ في أربع مجلدات‏.‏

قلت وهذا الكتاب المذكور منتفع به مشكور متداول بين أهل العلم مشهور‏.‏

ومنها اللمح العارضة فيما وقع بين الرافعي والنووي من المعارضة في مجلد واحد‏.‏

ومنها شرح منهاج النووي في الفقه ومنها شرح مختصر التبريزي في الفقه أيضاً وابتدأ في شرح التعجيز مختصر الوجيز لابن يونس وسماه الواضح الوجيز في شرح مختصر الوجيز وبلغ نحواً من النصف وسمع الحديث عن جماعة منهم الحافظ الدمياطي وحدث بالقاهرة وولي مشيخة الرباط الركني ثم الخانقاه ثم التدريس بالقبة من الخانقاه والإعادة في الفاضلية والقطبية والظاهرية وغيرها من المدارس وكان كريم النفس حسن الأخلاق كثير التواضع طارحاً للتكلف يحمل عيش عياله بنفسه إلى الفرن كثير الاشتغال للطلبة متصدياً لاشتغالهم وإفادتهم في أكثر أوقاته قلت‏:‏ وبلغني أن له بعض كرامات وذكر أن عمره ينيف على الستين وفيها توفيت مسندة الشام أم محمد زينب بنت الكمال أحمد بن عبد الرحيم المقدسية المرأة الصالحة العذراء عن أربع وتسعين سنة روت عن جماعة سماعاً وإجازة وتكاثروا عليها وتفردت وروت كتباً كباراً‏.‏قلت‏:‏ وإلى هاهنا انتهى تاريخ الذهبي وكذلك انتهى في نيف وستين وست مائة تاريخ ابن خلكان ومنهما انتقيت تاريخي هذا وها أنا أذكر بعض من توفي من الأعيان في عشر سنين أخرى التقطتهم مما ذكره بعض المتأخرين‏.‏

 سنة إحدى وأربعين وسبع مائة

وفيها توفي الإمام العلامة الأوحد شمس الدين أحمد بن يحيى بن محمد القرشي البكري السهروردي الشافعي الكاتب سمع الحديث وأخذ الإجازة من جماعة وشارك في طرف من العلوم وبرع في اللغة والأدب وفاق في صناعة الخط وحسن الكتابة وتقدم في صناعة الموسيقى وصار شيخ الكتاب ورئيس أهل الآداب حسن الأخلاق جميل الأعراق كثير الحياء والإطراق سديد المقال مليح الفعال كريم الطباع كثير الإطلاع معمور الأوقات في الاشتغال والأشغال صاحب رأي وفصاحة وشرف نفس وبلاغة‏.‏

فيها توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن منصور الدمياطي المعروف بابن الحباس الصوفي الأديب الشاعر ومن شعره‏:‏ زاد وجدي فلست أملك صبراً أعظم الله لي في الصبر أجرا راسل الوجد مهجتي فدموعي أرسلت رسلها على الخد تترى صنت سر الهوى فنم بي الدمع فلولا الدموع لم أبد سرا يا عذولي دع الملام فإني أرى موتي على الصبابة أحرى لا تلمني على الغر أم ولكن خذ من الوجد والصبابة حذراً مع أبيات أخرى منها قوله‏:‏ يا عزيز الجمال رفقاً بقلب إن فيه ليوسف الحسن مصرا سنة ثلاث وأربعين وسبع مائة فيها توفي الإمام العلامة قاضي القضاة عبد الله بن محمد العبيدلي الفرغاني الحنفي البارع العلامة المناظر‏.‏

يضرب بذكائه ومناظراته المثل‏.‏

كان إماماً بارعاً متفنناً خرج به الأصحاب بعرف المذهبين الحنفي والشافعي أقرأهما وصنف فيهما‏.‏

وأما الأصول والمعقول فتفرد فيهما بالإمامة وله تصانيف منها شرح الغاية في الفقه في مذهب الشافعي وشرح الطوالع وشرح المصباح وشرح المنهاج للبيضاوي وغير ذلك من التصانيف والأمالي والتعاليق وولي تبيز وأعمالها إلى أن توفي وكان الأستاذين في وقته‏.‏

 سنة أربع وأربعين وسبع مائة

فيها توفي الإمام العلامة تقي الدين أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف الأنصاري الشافعي السبكي المصري‏.‏

نزيل دمشق برع في الفقه والأصلين وصار علامة زمانه ورئيس أقرانه مع حسن أخلاق وكثرة تواضع وديانة حسنة وسمع بمصر والشام كثيراً وله شعر رائق ونثر فائق وكتابة جيدة وذهن ثاقب وقريحة حسنة وحسن قراءة الحديث ودرس وأفتى وصنف‏.‏

 سنة خمس وأربعين وسبع مائة

فيها توفي الإمام العلامة المفتي الشافعي القاضي شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن النقيب بقية الشافعية بالديار الشامية ولي القضاء بمدينة حلب وغيرها ودرس بالشامية البرانية وانتفع به المسلمون وأسند وعمر‏.‏

فيها توفي العلامة الهمام أحد أئمة الأعلام المقتدي بهم شيوخ الإسلام المفيدين للطلبة المفتين للأنام البارعين في المعقول والمنقول الجامعين لفنون العلم الكثيم المحصول فخر الدين أبو المكارم أحمد بن حسن نزيل تبريز الفقيه الشافعي صاحب المصنفات البديعة والمؤلفات المفيدة‏.‏

منها الحواشي على الكشاف في عشر مجلدات وشرح المنهاج للبيضاوي في أصول فقه الشافعية وشرح البزدوي وشرح الهداية للحنفية وشرح التصريف لابن الحاجب‏.‏