فصل: ست ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 خمس ومائتين

توفي فيها أبو محمد روح بن عبادة القيسي البصري الحافظ‏.‏

وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو سليمان الداراني العنسي بالنون بعد العين كان كبير الشأن وله كلام رفيع معتبر في التصوف والمواعظ والعبر‏.‏

ومن كلامه من أحسن في نهاره كوفىء في ليله ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله سبحانه بها من قلبه والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له وأفضل الأعمال خلاف هوى النفس‏.‏

وقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ نمت ليلة عن وردي فإذا الحوراء تقول‏:‏ أتنام وأنا أربى لك في الخيام منذ خمسمائة عام والداراني نسبة إلى داريا بتشديد الياء وفتح الراء في أوله دال مهملة وهي قرية بغوطة دمشق والنسبة إليها على هذه الصورة شافة والعنسي نسبة إلى عنس بن مالك رجل من مذحج قلت‏:‏ وللشيخ أبي سليمان كرامات وحكايات عجيبات ذكرت شيئاً منها في كتاب ‏"‏ روض الرياحين في حكايات الصالحين ‏"‏‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي محمد بن عبيد الطنافسي الكوفي الحافظ وفيها توفي قارىء أهل البصرة يعقوب بن إسحاق الحضرمي مولاهم المقرىء النحوي أحد الأعلام من أهل بيت العلم والفقه المقرىء الثامن له من القراءات رواية مشهورة أخذ عنه جماعة من حرمين والعراقين والشام وغيرهم وأخذ هو القراءة عوضاً عن سلام بن سليمان ومهدي بن ميمون وأبي الأشهب العطار وغيرهم وروى عن حمزة حروفاً لحروف من أبي الحسن الكسائي وسمع من أما إسناده في القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه قرأ على سلام المذكور وقرأ سلام على عاصم وعاصم على أبي عبد الرحمن السلمي وأبو عبد الرحمن كرم الله وجهه وعلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

روى القراءة عن يعقوب المذكور عرضاً جماعة منهم‏:‏ روح بن عبد المؤمن بن المتوكل وأبو حاتم السجستاني وغيرهم وسمع منه الزعفراني واقتدى به في عامة البصريين بعد أبي عمرو بن العلاء فهم وأكثرهم على مذهبه وقال أبو حاتم السجستاني‏:‏ كان يعقوب الحضرمي أعلم من أدركنا ورأينا بالحروف والإختلاف في القرآن وتعليله ومذاهبه ومذاهب النحويين في القرآن الكريم وله كتاب سماه ‏"‏ الجامع ‏"‏ جمع فيه عامة اختلاف وجوه القراءات ونسب كل حرف إلى من قرأ به وبالجملة فإنه كان البصرة في عصره في القراءة‏.‏

 ست ومائتين

فيها استعمل المأمون على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي فوليها مدة طويلة وهو الذي امتحن الناس بخلق القرآن في أيام المأمون والمعتصم والواثق‏.‏

وفيها توفي أبو علي محمد بن المستنير النحوي اللغوي البصري المعروف بقطرب أخذ الأدب عن سيبويه وجماعة من العلماء البصريين وكان حريصاً على الإشتغال وكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلامذة فقال له يوماً‏:‏ ما أنت إلا قطرب فبقى عليه هذا اللقب وقطرب‏:‏ اسم دويبة لا تزال تدب ولا تفتر وهو بضم الراء وسكون الطاء المهملة بينهما وكان من أئمة عصره‏.‏

من التصانيف‏:‏ ‏"‏ كتاب فعاني القران ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الإشتقاق ‏"‏ و ‏"‏ كتاب القوافي ‏"‏ ‏"‏ كتاب النوادر ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الأزمنة ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الأصوات ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الصفات ‏"‏ و ‏"‏ كتاب النحو ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الأضداد ‏"‏ و ‏"‏ كتاب خفق الفرس ‏"‏ و ‏"‏ كتاب خلق الإنسان ‏"‏ ‏"‏ كتاب غريب الحديث ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الثمر ‏"‏ و ‏"‏ كتاب فعل وأفعل ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الرد على الملحدين في متشابه القرآن ‏"‏ وغير ذلك قيل‏:‏ وهو أول من وضع المثلث في اللغة وكتابه وإن كان صغيراً فله فضيلة السبق وبه اقتدى عبد الله ابن السيد البطليوسي وكتابه كبير وهناك مثلث آخر للخطيب أبي زكريا التبريزي وهو كبير أيضاً اقتصر فيه على ما قيل وكان قطرب معلم أولاد أبي دلف العجلي‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي العباس بن وهب الأزدي البصري الحافظ‏.‏

وفيها توفي السيد الجليل الإمام الحفيل أبو خالد يزيد بن هارون الواسطي الحافظ وروى عن عاصم الأحول والكبار قيل‏:‏ هو أحفظ من وكيع وعنه أنه قال‏:‏ أحفظ أربعة وعشرين ألف وفيها وقيل في التي بعدها توفي الهيثم بن عدي الطائي وكان راوية أخبارياً نقل من كلام العرب وعلومها وأشعارها ولغاتها الكثير وله عدة تصانيف واختص بمجالسة المنصور والمهدي والهادي والرشيد وروى عنهم‏.‏

قال الهيثم‏:‏ قال لي المهدي‏:‏ ويحك يا هيثم إن الناس يخبرون عن الأعراب سخاء ولؤماً وكرماً وسماحاً وقد اختلفوا في ذلك فما عندك قال‏:‏ فقلت‏:‏ على الخبير سقطت خرجت من عند أهلي أريد ديار فرائد لي ومعي ناقة أركبها إذ ندت فذهبت فجعلت أتبعها حتى أمسيت فأدركتها ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها فقالت رتة الخباء من أنت‏.‏فقلت‏:‏ ضيف فقالت‏:‏ وما يصنع الضيف عندنا‏.‏

إن الصحراء لواسعة ثم قامت إلى بر وطحنته وخبزته ثم عجنته ثم قعدت فأكلت ولم ألبث أن أقبل زوجها ومعه لبن فسقم ثم قال‏:‏ من الرجل فقلت‏:‏ ضيف فقال‏:‏ حياك الله ثم قال‏:‏ يا فلانة ما أطعمت ضيفك شيئا فقالت‏:‏ نعم فدخل الخباء وملأ قعباً من لبن ثم أتاني به فقال اشرب فشربت شراباً هنياً فقال‏:‏ ما أراك أكلت شيئاً‏.‏

وما أراها أطعمتك فقلت‏:‏ لا والله فدخل عليها مغضباً فقال‏:‏ ويلك أكلت وتركت ضيفك قالت‏:‏ ما أصنع به أطعمه طعامي‏.‏وأخزاها الكلام حتى شجها ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقة فنحرها‏.‏

فقلت‏:‏ ما صنعت عافاك الله‏.‏قال‏:‏ لا والله ما يبيت ضيفي جائعاً ثم جمع حطباً وأجج ناراً وأقبل يكبب ويطعمني ويأكل ويلقي إليها ويقول‏:‏ كلي لا أطعمك الله حتى إذا أصبح تركني ومضى فقعدت مغموماً فلما تعالى النهار أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر أن ينظر إليه فقال‏:‏ هذا مكان ناقتك ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره فخرجت من عنده فضمني الليل إلى خباء فسلمت فردت صاحبة الخباء السلام وقالت‏:‏ من الرجل فقلت‏:‏ ضيف فقالت‏:‏ مرحبا بك حياك الله وعافاك الله فنزلت ثم عمدت إلى بر وطحنته وعجنته ثم خبزته ثم نبضته قبضة روتها بالزبد واللبن ثم وضعتها بين يدي وقالت‏:‏ كل ذا غدر فلم أن أقبل أعرابي كريه الوجه فسلم فرددت عليه السلام فقال‏:‏ من الرجل‏.‏

فقلت‏:‏ ضيف فقال‏:‏ وما يصنع الضيف عندنا ثم دخل إلى أهله فقال‏:‏ أين طعامي‏.‏

فقالت‏:‏ أطعمته الضيف فقال‏:‏ أتطعمين طعامي الأضياف‏.‏

فتحاربا الكلام فرفع عصاه وضرب رأسها فشجها فجعلت أضحك فخرج إلي وقال‏:‏ ما يضحكك‏.‏

فقلت‏:‏ خير فقال‏:‏ والله لتخبرني فأخبرته بقصة المرأة والرجل اللذين نزلت عليهما قبله فأقبل علي وقال‏:‏ إن هذه التي عندي أخت ذلك الرجل وتلك التي عنده أختي فبت متعجباً وانصرفت‏.‏

وحكى الهيثم أيضاً قال‏:‏ صار سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي الذي كان يسمى الصمصامة إلى ‏"‏ موسى الهادي ‏"‏ فجرد الصمصامة وجعله بين يديه وأذن للشعراء فدخلوا عليه ودعا بمكتل فيه بدرة وقال‏:‏ قولوا في هذا السيف فبدر ابن يامين البصري وأنشد‏:‏ حاز صمصامة الزبيدي عمرو من بين جميع الأنام موسى الأمين سيف عمرو وكان فيما سمعنا خير ما أغمدت عليه الجفون أخضر اللون بين خديه برد من دباج يمس فيه المنون أوقدت فوقه الصواعق ناراً ثم شابت به الذعاف المنون فإذا سللته بهر الشمس ضياء فلم تكد تستبين ما يبالي من انتضاه لضرب أشمال سطت به أم يمين‏.‏

وكأن الفرند والجوهر الجا ري في صفحته ماء معين مع أبيات أخرى فقال الهادي‏:‏ أصبت والله ما في نفسي واستخفه السرور فأمر له كتل والسيف فلما خرج قال للشعراء‏:‏ شأنكم بالمكتل ففي السيف عناني قال في مروج الذهب‏:‏ فاشتراه الهادي منه بخمسين ألفاً‏.‏

فيها توفي طاهر بن الحسين الخزاعي وقيل‏:‏ مولاهم الملقب ذا اليمينين كان من أعوان المأمون فسيره إلى محاربة أخيه الأمين من خراسان لما خلع الأمين بيعته تقدم ذكر ذلك وما جرى له في كسر الجيش الذي سيره الأمين مع علي بن عيسى بن ماهان وأخذه بغداد وقتله للأمين وكان المأمون يرعى له خدمته ومناصحته وكان أديباً شجاعاً جواداً ركب يوماً ببغداد في حراقته فاعترضه مقدس بن صيفي الشاعر فقال‏:‏ أيها الأمير إن رأيت أن تسمع مني أبياتاً فقال‏:‏ قل فأنشد يقول‏:‏ عجبت لحراقة ابن الحسين لا غرقت كيف لا تغرق وبحران‏:‏ من فوقها واحد وآخر من تحتها مطبق وأعجب من ذاك أعوادها وقد مسها كيف لا تورق فقال طاهر‏:‏ أعطوه ثلاثة آلاف درهم على هذه الثلاثة الأبيات وقال‏:‏ قولوا له‏:‏ في زدنا حتى نزيدك فقال‏:‏ حسبي وتواعد طاهر المذكور بالقتل الكاتب خالد بن جيلويه بالجيم والمثناة من تحت مكررة بعد الواو على وزن حمدويه فبذل له خالد من المال شيئاً كثيراً فلم يقبل منه فقال خالد قلت شيئاً فأسمعه ثم شأنك وما أردت فقال طاهر وكان يعجبه الشعر قل فأنشده‏:‏ فتكلم العصور فوق جناحه والصقر منقض عليه يطير ما كنت يا هذا لمثلك لقمة ولئن سويت فإني لحقير فتهاون الصقر المذل بصيده كرماً فأفلت ذلك العصفور فقال طاهر أحسنت وعفا عنه‏.‏

قلت‏:‏ هذه الأبيات قد ذكرها بعضهم في قضية جرت لإنسان مع هشام بن عبد الملك فأنشده إياها لما تهدده بالقتل وقد تقدم ذكرها في ترجمة هشام مع اختلاف في ألفاظ يسيرة من هذه الأبيات‏.‏

ويحكى أن إسماعيل بن جرير البجلي كان مداحاً لطاهر المذكور فقيل له‏:‏ إنه يسرق الشعر ويمدحك به فأراد أن يمتحنه في ذلك وكان طاهر بفرد عين فأمره أن يهجوه فامتنع فألزمه ذلك فكتب إليه‏:‏ رأيتك لا ترى إلا بعين وعينك لا ترى إلا قليلاً فأما إذا أصبت بفرد عين فخذ من عينك الأخرى كفيلاً فقد أيقنت أنك عن قريب بظهر الكف تلتمس السبيلا فلما وقف عليه قال له‏:‏ احفر أن ينشد هذا أحد ومزق الورقة وأخبار طاهر كثيرة وسيأتي وحكي‏:‏ أنه دخل طاهر على المأمون في فقضاها وبكي فقال له طاهر‏:‏ يا أمير المؤمنين لم تبكي لا أبكى الله عينك وقد دانت لك الدنيا وبلغت الأماني فقال‏:‏ كي لا عن ذل ولا حزن ولكن لا تخلو نفسي عن شجن فاغتنم طاهر وقال لحسين الخادم حب المأمون في خلواته‏:‏ أريد أن تسأل أمير المؤمنين عن موجب بكائه لما رآني ثم أنفذ طاهر للخادم المذكور مائتي ألف درهم‏.‏

فلما كان في بعض خلوات المأمون سأله عن ذلك فقال‏:‏ مالك ولهذا ويلك فقال‏:‏ غمني بكاؤك فقال‏:‏ هو أمر إن خرج من رأسك أخذته فقال‏:‏ يا سيدي ومتى أبحت لك سراً فقال‏:‏ إني ذكرت أخي محمداً وما ناله من الزلة فخنقتني العبرة ولن يفوت طاهراً مني ما يكره فأخبر الخادم طاهراً بذلك فركب طاهر إلى أحمد بن خالد فقال له‏:‏ إن الثناء مني ليس برخيص وإن المعروف عندي ليس بضائع فغيبني عن المأمون فقال‏:‏ مه سأفعل فبكر إلى غداء وركب ابن خالد إلى المأمون فقال‏:‏ لم أنم البارحة فقال‏:‏ ولم‏.‏

قال‏:‏ لأنك وليت خراسان غساناً وهو من أكلة رأس وأخاف أن يصطلمه مصطلم قال‏:‏ فمن ترى‏.‏

قال‏:‏ طاهراً فقال‏:‏ هو جائع قال‏:‏ أنا ضامن له فدعا به المأمون وعقد له على خراسان وأهدى له خادماً كان رباه مره إن رأى ما يريبه أن يسمه فلما تمكن طاهر من ولاية خراسان قطع الخطبة للمأمون يوم الجمعة فأصبح يوم السبت ميتاً فقيل‏:‏ إن الخادم سمه في كامخ ثم إن وفيها توفي الواقدي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني العلامة قاضي بغداد كان يقول‏:‏ حفظي أكثر من كتبي وكانت كتبه مائة وعشرين جملاً في وقت انتقل فيه لكن أئمة الحديث ضعفوه وكان إماماً عالماً صاحب تصانيف في المغازي لمجرها ومنها ‏"‏ كتاب الرعة ‏"‏ ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاربة الصحابة رضي الله تعالى عنهم بطلحة بن خويلد الأسدي والأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وما أقص في الكتاب المذكور‏.‏

سمع من ابن أبي ذئب ومعمر بن راشد ومالك بن أنس والثوري وغيرهم وروى عنه كاتبه محمد بن سعد الزهري وجماعة من الأعيان وتولى القضاء بشرقي بغداد وضعفوه في الحديث وتكلموا فيه وكان المأمون يكرم جانبه ويبالغ في رعايته فكتب إليه مرة يشكو ضائقة لحقته ودنيا ركبته يسبها وعين مقداره في قضة فرفع المأمون فيها بخطه‏:‏ فيك خلتان سخاء وحياء فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت والحياء حملك أن ذكرت لنا بعض دينك وقد أمرت لك بضيف ما سألت فإن كنا قصرنا عن بلوغ حاجتك فبجنايتك على نفسك وإن كنا بلغنا بغيتك فزد في بسط يدك فإن خزائن الله مفتوحه ويده بالخير مبسوطه وأنت حدثتني حين كنت على قضاء الرشيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للزبير‏:‏ يا زبير‏:‏ إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ينزل الله سبحانه للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له ومن قلل قلل عنه قال الواقدي وكنت نسيت الحديث فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته وروى عنه بشر الحافي رضي الله عنه أنه يكتب للحمى يوم السبت على ورقة زيتون والكاتب على طهارة ‏"‏ جهنم غرثى ‏"‏ وعلى ورقة أخرى ‏"‏ جهنم عطشى ‏"‏ وعلى أخرى‏:‏ ‏"‏ جهنم مقزورة ‏"‏ ثم يجعل في خرقة وتشد في عضد المحموم الأيسر قال الواقدي‏:‏ جربته فوجدته نافعاً هكذا نقل أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب أخبار بشر الحافي‏.‏

وروى المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الواقدي قال‏:‏ كان لي صديقان أحدهما هاشمي وكنا كنفس واحدة فنالتني ضائقة شديدة فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي فوجه إلي كيساً مختوماً ذكر أن فيه ألف درهم فما استقر قراري حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صديقي الهاشمي فوتجهت إليه الكيس بحاله وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلتي مستحياً عن امرأتي فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه وبينا أنا كذلك إذ وافاني صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته فقال لي‏:‏ أصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك فعرفته الخبر على وجهه فقال لي‏:‏ إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك فكتبت إلى صديقنا أسأله قال الواقدي‏:‏ فيواسينا الألف فيما بيننا فأخرجنا للمرأة مائة درهم قبل ذلك ونما الخبر إلى المأمون فدعاني فشرحت له الخبر فأمر لنا بسبعة آلاف دينار لكل واحد منا ألفا دينار وللمرأة ألف دينار‏.‏

وذكر الخطيب أيضاً هذه الحكاية في تاريخ بغداد مع اختلاف يسير بين الزوايتين‏.‏

وفيها توفي الإمام البارع النحوي يحيى بن زياد الفراء الكوفي أجل أصحاب الكسائي كان رأساً في النحو واللغة أبرع الكوفيين وأعلمهم بفنون الأدب على ما ذكر بعض المؤرخين‏.‏

وحكي عن أبي العباس ثعلب أنه قال‏:‏ لولا الفراء لما كانت عربية لأنه خلصها وضبطها ولولاه لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل واحد‏.‏

أخذ الفراء النحو عن أبي الحسن الكسائي وهو الأحمر من أشهر أصحابه وأخصهم به‏.‏

وحكي عن ثمامة بن الأشرس النميري المعتزلي وكان خصيصاً بالمأمون أنه صادف الفراء على باب المأمون يروم الدخول عليه قال‏:‏ فرأيت أبهة أديب فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحراً وفاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم وبالنجوم ماهراً وبالطب خبيراً وبأيام العرب وأشعارها حاذقاً فقلت‏:‏ من تكون‏.‏

وما أظنك إلا الفراء‏.‏

قال‏:‏ أنا هو فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين وقال قطرب‏:‏ دخل الفراء على الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه مرات فقال جعفر بن يحيى بن البرمكي‏:‏ إنه قد لحن يا أمير المؤمنين فقال الرشيد‏:‏ أتلحن فقال الفراء‏:‏ يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الأعراب وطباع أهل الحضر اللحن فإذا تحفظت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع لحنت فاستحسن الرشيد قوله‏.‏

قلت‏:‏ وأيضاً فإن عادة المنتهين في النحو لا يتشدقون بالمحافظة على إعراب كل كلمه عند كل أحد قد يتكلمون بالكلام الملحون تعمداً على جاري عادة الناس وإنما يبالغ في النحو والتحفظ عن اللحن في سائر الأحوال فالمبتدئون إظهاراً لمعرفتهم بالنحو وكذلك يكثرون البحث والتكلم بما هم مترسمون به من بعض فنون العلم ويضرب لهم مثل في ذلك فيقال الإناء إذا كان ملآن كان عند حمله ساكناً وإذا‏.‏

كان ناقصاً اضطرب وتخضخض بما فيه‏.‏

وحكى الخطيب‏:‏ أن المأمون أمر الفراء أن يؤلف ما يجمع أصول النحو وما سمع من العربية وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار وأن يوصل إليه كل ما يحتاج إليه فأخذ في جمع ذلك والوراقون يكتبون حتى فرغ من ذلك في سنتين وسماه ‏"‏ كتاب الحدود ‏"‏ وأمر المأمون بكتبه في الخزائن وبعد الفراغ خرج من ذلك إلى الناس وابتدأ ‏"‏ بكتاب المعاني ‏"‏‏.‏

قال الراوي‏:‏ فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم يضبطهم ولما فرغ من ‏"‏ كتاب المعاني ‏"‏ خزنه الوراقون عن الناس ليكتبوا وقالوا‏:‏ لا نخرجه إلا من أراد أن ينسخه على خمس أوراق بدرهم فشكا الناس إلى الفراء فدعا الوراقين فقال لهم في ذلك فقالوا‏:‏ إنا صحبناك لننتفع بك وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب فدعنا نعيش به قال‏:‏ فقاربوهم ينتفعوا وتنتفعوا فأبوا عليه فأراد أن ينشىء للناس كتاباً أحسن من ذلك فجاء الورقون إليه ورضوا بإن يكتبوا للناس كل عشرة أوراق بدرهم وقال لأصحابه‏:‏ اجتمعوا حتى أملي عليكم كتاباً في القرآن فلما حضروا أمر قارئاً أن يقرأ فاتحة الكتاب فقرأها ففسرها حتى مر في القرآن كله على ذلك‏.‏

وكتابه المذكور نحو ألف ورقة وهو كتاب لم يعمل مثله‏.‏وكان المأمون قد وكله يلقن ابنيه النحو فلما كان يوما أراد النهوض لبعض حوائجه فابتدرا إلى نعليه أيهما يسبق بتقديم النعلين إليه فتنازعا ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما نعل إحدى رجليه وكان للمأمون على كل شيء صاحب خبر برفع الخبر إليه فأعلمه بذلك فاستدعى بالفراء وقال له‏:‏ من أعز الناس قال ما أعز من أمير المؤمنين قال‏:‏ بلى من إذا نهض يقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين قال‏:‏ يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما عن ذلك ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو كسر نفوسهما عن شريعة حرصًا عليها‏.‏

وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسير رضي الله تعالى عنهم ركابيهما حين خرجا من عنده فقيل له في ذلك فقال‏:‏ لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل فقال المأمون لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً وألزمتك ذنباً وما وضع ما فعلاه من شرفهما بل رفع من قدرهما وبين عن جوهرهما فليس يكسر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث‏:‏ عن تواضعه بسلطانه ووالده ومعلمه وقد عوضتهما مما فعلاه عشرين ألف دينار ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ كان محمد بن الحسن الفقيه ابن خالة الفراء فقال الفراء يوماً له قل رجل أمعن النظر في باب من العلم فأراد غيره إلا سهل عليه فقال له محمد‏:‏ يا أبا زكريا قد أمعنت النظر في العربية فنسألك في باب من الفقه فقال‏:‏ هات على بركة الله قال‏:‏ ما تقول في رجل سها في السجود السهو ففكر الفراء ساعة ثم قال‏:‏ لا شيء عليه فقال له‏:‏ ولم فقال‏:‏ لأن المصغر لا يصغر ثانياً وإنما السجدتان تمام الصلاة فليس للتمام تمام فقال محمد‏:‏ ما ظننت آدمياً يلد مثلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الحكاية مذكورة في ترجمة الكسائي وإنه هو صاحب هذا الجواب والله تعالى أعلم‏.‏

وقال سلمة بن عاصم‏:‏ إني لأعجب من الفراء كيف كان يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه وقال الفراء‏:‏ أموت وفي نفسي شيء من ‏"‏ حتى ‏"‏ لأنها تخفض وترفع وتنصب وله من التصانيف كتاب الحدود وكتاب المعاني وكتابان في المشكل وكتاب اللغات وكتاب المصادر في القرآن وكتاب الوقف والإبتداء وكتاب النوادر وكتب أخرى‏.‏

وقال سلمة بن عاصم‏:‏ أملى الفراء كتبه كلها حفظاً لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين‏:‏ كتاب ملازم وكتاب نافع وإنما قيل له الفراء ولم يكن يعمل الفراء ولا يبيعها لأنه كان يفري الكلام ذكر ذلك الحافظ السمعاني في كتاب الأنساب‏.‏

وذكر أبو عبيد الله المرزباني أن والد الفراء كان أقطع لأنه حضر وقعة الحسين بن علي رضي الله عنهما فقطعت يده في تلك الحرب‏.‏ ثمان ومائتين

فيها توفي أبو عبد الله هارون بن علي بن يحيى بن أبى منصور المنجم البغدادي الأديب الفاضل كان حافظاً راوية الأشعار وحسن المنادمة لطيف المجالسة صنف ‏"‏ كتاب البارع ‏"‏ في أخبار الشعراء والذي جمع فيه مائة وإحدى وستين شاعراً وافتتحه بذكر بشار وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح واختار في من شعر كل واحد عيوبه وأثبت منها الزبد دون وفيها توفي سعيد بن عامر الضبعي البصري أحد الأعلام في العلم والعمل‏.‏

وفيها توفي الأمير الفضل بن الربيع صاحب الرشيد لما أراد أن يروم التشبه بهم ومعارضتهم ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم وكان في نفسه منهم أحناء وشحناء‏.‏

ويحكى أن الفضل بن الربيع دخل يوماً على يحيى بن خالد البرمكي وقد جلس لقضاء حوائج الناس وبين يديه ولده جعفر يوقع في القصص فعرض عليه الفضل عشر رقاع للناس فتعلل يحيى في كل رقعة بعلة ولم يوقع في شيء منها البتة فجمع الفضل الرقاع وقال‏:‏ ارجعن خائبات خاسئات ثم خرج وهو يقول‏:‏ وعسى يثني الزمان عنانه بتصريف حال والزمان عبور فتقضى لبانات وتسعى حسائف ويحدث من بعد الأمور أمور قوله حسائف‏:‏ جمع حسيفة ‏"‏ بالحاء والسين المهملتين والفاء ‏"‏ وهي‏:‏ الطفيفة‏.‏

فسمعه يحيى وهو ينشد ذلك فقال له‏:‏ عزمت عليك يا أبا العباس إلا رجعت فرجع فوقع له في جميع الرقع ثم ما كان إلا قليلاً حتى نكبوا على يديه وكان أبوه وزيراً للمنصور وتولى هو بعد البرامكه وزاره الرشيد وفي ذلك يقول أبو نواس‏:‏ ما دعى الدهر آل برمك لما أن رمى ملكهم بأمر فظيع ومات الرشيد والفضل مستمر على وزارته فكتب إليه أبو نواس يعزيه بالرشيد ويهنئة بولاية ولده الأمين‏:‏ تعز أبا العباس عن خير هالك بأكرم حي كان أو هو كائن حوادث أيام يدور صروفها لهن مساوي مرة ومحاسن وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى فلا أنت مغبون ولا الموت غابن وفي السنة المذكورة توفيت السيدة الكريمه صاحبة المناقب الجسيمة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم صاحبة المشهد الكبير المفخم الشهير بمصر دخلت إليها مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وعن الجميع وقيل‏:‏ بل مع أبيها الحسن وكانت نفيسة من النساء الصالحات‏.‏

ويروى أن الإمام الشافعي لما دخل مصر حضر عندها وسمع عنها الحديث ولما توفي أدخلت جنازته إليها فصلت عليه في دارها وكانت في موضع مشهدها اليوم ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان من السنة المذكورة ولما ماتت عزم زوجها إسحاق بن جعفر على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك فسأله المصريون بقاءها عندهم فدفنت في الموضع المعروف بها اليوم بين القاهرة ومصر وكان يعرف ذلك المكان بدرب السباع فخرب الدرب ولم يبق هناك سوى المشهد وقبرها معروف قلت‏:‏ وقد قصدت زيارة مشهدها فوجدت عنده عالماً من الرجال والنسوان والصحاح والعميان ووجدت الناظر جالساً على الكرسي ققام لي وأنا لا أعرفه فمضيت للزيارة ولم ألتفت إليه ثم بلغني أنه عتب علي فأجبته بما معناه‏:‏ إني غير راغب في الميل إلى أولي الحشمة والمناصب‏.‏

 تسع ومائتين

فيها توفي عثمان بن عمر بن فارس العبدي البصري الرجل الصالح ويعلى بن عبيد الطنافسي والحسن بن موسى الأشيب بالشين المعجمة وبعدها مثناة من تحت ثم وفي السنة المذكورة وقيل في سنة إحدى عشرة وقيل ثلاث عشرة وقيل ست عشرة مائتين توفي الإمام العلامة معمر بن المثنى التيمي تيم قريش مولاهم أبو عبيدة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه وقال ابن قتيبة في العوارف‏:‏ كان الغريب وأخبار العرب وأيامها أغلب عليه وكان مع معرفته ربما لم يقم لبيت من الشعر بل يكسره وذكر فيه أشياء مما تقدح فيه قال‏:‏ وكان يرى رأي الخوارج‏.‏

وذكر غيره أن هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائة وقرأ عليه بها شيئاً من كتبه وأسند الحديث إلى هشام بن عررة وغيره وروى عن علي بن المغيرة وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو عثمان المازني وأبو حاتم السجستاني وعمر بن شعبة النميري وغيرهم وقال أبو عبيدة‏:‏ أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه فقدمت عليه وكنت أخبر عن تحيره فأذن لي فدخلت عليه وهو في جلس طويل عريض فيه بساط واحد قد ملىء وفي صدره فرش عالية لا يرتقى عليها إلا كرسي وهو جالس على الفرش فسلمت عليه بالوزارة فرد وضحك إلي واستدناني من فرشه ثم سألني وبسطني وتلطف بي وقال‏:‏ فأنشدني فأنشدته من عيون أشعار جاهلية أحفظها فقال‏:‏ قد عرفت أكثر هذه وأريد من مليح الشعر فأنشدته فطرب وضحك وزاد شاطاً ثم دخل رجل في زي الكتاب وله هيئة حسنة فأجلسه إلى جانبي وقال‏:‏ أتعرف هذا قلت‏:‏ لا فقال‏:‏ هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة قدمنا لنستفيد من علمه فدعا له لرجل ثم التفت إلي وقال لي‏:‏ كنت إليك مشتاقاً وقد سألت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها‏.‏قلت‏:‏ هات فقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ‏"‏‏:‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 65‏]‏ وإنما وقع الوعد والإيعاد بما قد عرف وهذا لم يعرف قال فقلت‏:‏ إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول امرىء القيس‏:‏ أتقتلني والشر في مضاجعي ومسنونه زرق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط ولكنه لما أمر الغول بهولهم أو عدوا به فاستحسن الفضل والسائل في ذلك وأزمعت منذ ذلك اليوم أن ضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته ‏"‏ المجاز ‏"‏ وسألت عن الرجل فقيل لي‏:‏ هو من كتاب الوزير وجلسائه‏.‏

وبلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز وقال يتكلم في كتاب الله برأيه فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو فركب حماره في ذلك اليوم ومر بحلقته فنزل عن حماره وسلم عليه وجلس عنده وحادثه ثم قال له‏:‏ يا أبا سعيد ما تقول في الخبز أي شيء هو‏.‏

فقال‏:‏ هو الذي نخبزه ونأكله فقال أبو عبيدة‏:‏ فقد فسرت كتاب الله برأيك فإن الله تعالى قال حكاية ‏"‏ أحمل فوق رأسي خبزاً ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏ فقال الأصمعي‏:‏ هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسر برأي فقال أبو عبيدة والذي تغيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا وقام يركب حماره وانصرف‏.‏

وزعم الباهلي صاحب كتاب المعاني أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر لأن الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة لردي الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبيح والفائده عنده مع قال المبرد‏:‏ كان أبو زيد الأنصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو وكانا بعده يتقاربان‏.‏

وكان أبو عبيدة كمل القوم لا يحكي عن العرب إلا الشيء الصحيح وحمل أبو عبيدة الأصمعي إلى مجلس هارون للمجالسة فاختار الأصمعي لأنه كان أصلح للمنادمة‏.‏

وقيل لأبي نواس‏:‏ ما تقول في الأصمعي‏.‏

فقال‏:‏ بلبل في قفص قيل‏:‏ فما تقول في أبي عبيدة‏.‏

قال‏:‏ ذاك أديم وطغوى علم قيل‏:‏ فما تقول في خلف الأحمر قال‏:‏ جمع علوم الناس وفهمها‏.‏

ولما قدم أبو عبيده على موسى بن عبد الرحمن الهلالي وطعم من طعامه صب بعض الغلمان على ذيله مرقة فقال موسى‏:‏ قد أصاب ثوبك مرق وأنا أعطيك عوضه عشرة ثياب فقال أبو عبيدة‏:‏ لا عليك فإن مرقكم لا يؤذي أي‏:‏ ما فيه دهن ففطن لها موسى وسكت‏.‏

وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال‏:‏ انظروا لا يكون فيه ذاك يعني أبا عبيدة خوفاً من لسانه وقيل‏:‏ كان مدخول النسب مدخول الدين يميل إلي مذهب الخوارج وإلى بعض الأمور القبيحة والله أعلم وكانت تصانيفه تقارب مائتي مصنف‏.‏

 عشرة ومائتين

في السنة المذكورة كان بني المأمون ببوران بواسط فقام بضعة عشر يوماً فقام أبوها الحسن بن سهل فقام أمير المؤمنين بمصالح الجيش تلك الأيام وغرم خمسين ألف ألف درهم وكان العسكر خلقاً لا يحصى فلم يكن فيهم من اشترى لنفسه ولا لدوائه حتى على الحمالين والمكارية والملاحين وكل من حضر في ذلك العسكر فأمر له عند منصرفه بعشرة آلاف درهم وكان عرساً لم يسمع بمثله في الدنيا نثر فيه على الهاشميين والقواد والوجوه والكتاب بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار ودواب وغير ذلك وكل من وقع في حجره شيء منها ملك ما هو مكتوب فيها من هذه المذكورات سواء كانت ضيعة أو فرساً أو جارية أو مملوكاً أو ملكاً أو غير ذلك ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر وفرش للمأمون حصير منسوج بالذهب فلقا وقف عليه نثرت على قدميه لالىء كثيرة فلقا رأى تساقط اللآلىء المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب قال‏:‏ قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحالة حين قال في صفة الخمر والحباب الذي تعلوها عند المزج‏:‏ كأن صغرى وكبرى من مواقعها حصباء در على أرض من الذهب وقد غلطوا أبا نواس في هذا البيت المذكور لكونه ذكر فعلي أفعل التفضيل من غير إضافة ولا تعريف‏.‏

ثم إن المأمون أطلق له خراج فارس والأهواز مئة سنة وقالت الشعراء والخطباء فأطنبوا في ذلك‏.‏ومما يستطرف فيه قول محمد بن حازم الباهلي‏:‏ بارك الله للحسن ولبوران في الختن يا ابن هارون قد ظفر ت ولكن ينت من فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال‏:‏ والله ما ندري خيراً أراد أم شراً‏.‏

قال الطبري‏:‏ دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله فلما جلس نثرت عليها جدتها ألف درة وكانت في طبقة ذهب فأمر المأمون أن يجمع وسألها عن عدد الدر كم هو‏.‏فقالت ألف حبة فوضعها في حجرها فقال لها‏:‏ هذه تحيتك وسلي حوائجك قالت لها جدتها كلمي سيدك فقد أمرك فسألته الرضى عن إبراهيم بن المهدي فقال‏:‏ قد فعلت وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عنبر وزنها أربعون مناً في تور من ذهب فأنكر المأمون عليهم ذلك وقال‏:‏ هذا سرف‏.‏

وقال غير الطبري‏:‏ لما طلب المأمون الدخول عليها دافعوه لعذرها فلم يندفع فلما أدنيت إليه وجدها حائضاً فتركها فلما قعد للناس من الغد دخل عليه أحمد بن يوسف الكاتب وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هناك الله بما أخذت من الأمير باليمن والبركة وشدة الحركة والظفر بالمعركة فارس ماض بحرمته صادق بالطعن في الظلم رام أن يدمي فريسته فأتقته من دم بدم تعرض محيضها وهو من أحسن الكنايات حكى ذلك أبو العباس الجرجاني في كتاب الكنايات‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو عمرو الشيباني إسحاق بن مرار الكوفي اللغوي صاحب التصانيف وله تسعون سنة وكان ثقة خيراً فاضلاً‏.‏وفيها توفي علي بن جعفر الصادق وكان من جلة السادة الأشراف ومحمد بن صالح الكلابي أمير عرب الشام وسيد قيس وفارسها وشاعرها والمقاوم للسفياني والمحارب له حتى شتت جموعه فولاه المأمون دمشق وفيها توفي مروان بن محمد الدمشقي صاحب سعيد بن عبد العزيز كان إماماً صالحاً خاشعاً من جلة الشاميين‏.‏

وفيها توفي أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري اللغوي العلامة الأخباري صاحب التصانيف روى عن هشام بن عروة وأبي عمرو بن العلاء وكان أحد أوعية العلم وقيل توفي في سنة إحدى عشرة‏.‏

فيها توفي أبو العتاهيه إسماعيل بن هشام العنزي الشاعر المشهور ومن شعره ما حكى أشجع الشاعر المشهور قال‏:‏ أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه فدخلنا وأمرنا بالجلوس فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد ‏"‏ بضم الموحدة ‏"‏ يعني الشاعر المشهور قال‏:‏ وسكت المهدي فسكت الناس فسمع بشاراً فقال لي‏:‏ من هذا فقلت‏:‏ أبو العتاهية قال‏:‏ أتراه ينشد في هذا المحفل فقلت‏:‏ أحسبه سيفعل قال‏:‏ فأمره المهدي أن ينشد فأنشد‏:‏ ألا ما لسيدتي ما لها أدلت فأحمل إدلالها قال‏:‏ فنخشني بشار بمرفقه وقال‏:‏ ويحك أرأيت من ينشد مثل هذا الشعر في هذا الموضع حتى بلغ إلى قوله‏:‏ أتته الخلافة منقادة إليه تجر جرأ ذيالها فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها ولو رامها أحد غيره لزلزلت الأرض زلزالها قال فقال لي بشار‏:‏ انظر ويحك يا أشجع هل طار الخليفة عن فرشه‏.‏

قال‏:‏ فو الله ما انصرف من ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية ومن شعره أيضاً هذه الأبيات في عمرو بن العلاء‏.‏

لو بست طبع الناس من إجلاله تحذو له خشية الحدود فعالاً إن المطايا تشتكيك لأنها قطعت إليك أسبابها ورمالاً فإذا وردن بنا وردن خفائفاً وإذا صدرن بنا صدرن ثفالاً قال‏:‏ فأعطاه سبعين ألفاً وخلع عليه فغار الشعراء لذلك فجمعهم وقال‏:‏ يا معشر الشعرا عجباً لكم ما أشد حسدكم بعضكم بعضا إن أحدكم يأتينا يمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقه بخمسين بيتاً فما يبلغها حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره وقد أتى أبو العتاهية يشبب بأبيات يسيرة ثم قال كذا وكذا وأنشد الأبيات المذكورة فما لكم منه تغارون‏.‏

انتهى الكلام وهو من مقدمي المولدين في طبقة بشار وأبي نواس وتلك الطائفة‏.‏

ويحكى أنه لقي أبا نواس فقال له‏:‏ كم تعمل في يومك من الشعر‏.‏

فقال البيت والبيتين فقال أبو العتاهية‏:‏ لكني أعمل في اليوم المائة والمائتين فقال أبو نواس‏:‏ لأنك تعمل مثل قولك‏.‏

يا عتب مالي ولك يا ليتني لم أرك ولو أردت مثل هذا الألف والألفين لقدرت عليه وإنما أعمل مثل قولي ثم أنشد شيئاً أبدع فيه وقال‏:‏ لو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر قلت‏:‏ والذي أنشده كرهت ذكره ولا شتماً له على خلاعة وضيعة‏.‏

وحكى صاحب النصوص في اللغة أن أبا العتاهية زار يوماً بشار بن برد فقال له أبو العتاهية‏:‏ إني لا أستحسن قولك إعتذراً من البكاء إذ تقول‏:‏ كم من صديق سار لي فيه البكاء من الحياء فإذا اتعظن لا منى فأقول ما بي من بكاء لكن ذهبت لأرتدي فطرقت عيني بالرداء فقال له‏:‏ أيها الشيخ ما عرفته إلا من بحرك ولا يحبه إلا من دخل وأنت السابق حيث تقول‏:‏ وقالوا قد بليت قلت كلا وهل يبلى من الجزع الخليل فقالوا ما ولد معها سواء أقلت مقلتيك أصاب عود‏.‏

وحكي أن أبا العتاهية كان قد امتنع من الشعر فأمر المدي بحبسه في سجن الجرائم فلما دخل دهش ورأى فنظر ما أهاله فطلب موضعاً يأوي إليه فإذا هو يلهك حسن البزة والوجه عليه سيماء الخير فقصده وجلس إليه من غير سلام عليه شغلاً بما هو فيه من الجزع والحيرة فمكث كذلك ليالي وإذا بالرجل ينشده‏:‏ تعود في الضر حتى ألقته أسلمني حسن العزاء إلى الصبر وصرت في بأسي من الناس واثقاً بحسن صنع الله من حيث لا أدري قال‏:‏ فاستحسنت البيتين وتبركت بهما وثاب إلي عقلي فقلت له‏:‏ تفضل أعزك الله علي بإعادتهما فقال‏:‏ يا إسماعيل ويحك ما أسوأ دبك وأقل عقلك ومروءتك دخلت فلم تسلم علي تسليم المسلم على المسلم ولا سألتني مسألة الراد على المقيم حتى سمعت مني بيتين من الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيراً ولا أدباً ولا معاشاً غيره فطفقت تستنشدني ابتداء كان بيتاً لأنسها وسالف مودة توجب بسط القبض ولم تذكر ما كان منك ولا اعتذرت غير ما ترى بدا من إساءة أدبك فقلت‏:‏ اعذرني متفضلاً فدون ما أنا فيه مدهش قال‏:‏ وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم وسبيلك إليهم لا يدرون بقوله فتطلق وأنا يدعى الشفاعة بي فأطلب بعيسى بن زيد ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن ذللت لقيت الله بدمه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصمي فيه وإلا قتلت فأنا أولى بالحيرة منك‏.‏

وأنت ترى صبري فقلت‏:‏ يكفيك الله وخجلت منه فقال‏:‏ لا أجمع عليك التوبيخ والمنع اسمع البيتين ثم أعادهما علي مراراً حتى حفظتهما ثم دعي به وبي فقلت له‏:‏ من أنت أعزك الله قال‏:‏ أنا حاضن صاحب عيسى بن زيد فأدخلنا على المهدى فلما وقفنا بين يديه قال للرجل‏:‏ أين عيسى بن زيد‏.‏

فقال‏:‏ وما أدري أين عيسى بن زيد طلبته فهرب منك في البلاد وحبستني فمن أين أقف على خبره قال له‏:‏ أين كان متوارياً‏.‏

ومتى آخر عهدك به‏.‏

وعند من لقيته‏.‏

منذ توارى ولا عرفت له خبراً قال‏:‏ والله لتدلن عليه أو لأضربن عنقك الساعة قال‏:‏ اصنع ما بدا لك فو الله لا أدلك على ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فألقى الله ورسوله بدمه ولو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك عنه قال‏:‏ اضربوا عنقه فأمر به فضربت عنقه ثم دعاني وقال‏:‏ أتقول الشعر أو ألحقك به فقلت‏:‏ بل أقول قال‏:‏ أطلقوه فأطلقت‏.‏

ولما حضرت وفاة أبي العتاهية قال‏:‏ أشتهي أن يجيء فلان المغني ويغني عند رأسي‏.‏

إذا ما انقضت علي من الدهر مدتي فإن عزاء الباكيات قليل سيعرض عن ذكري وينسى مودتي ويحدث بعدي للخليل خليل وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العلامة المرتحل إليه من الآفاق الشيخ الإمام عبد الرزاق بن همام اليمني الصنعاني الحميري صاحب المصنفات عن ست وثمانين روى عن معمر وابن جريج والأوزاعي وطبقتهم ورحل إليه الأئمة إلى اليمن قيل‏:‏ ما رحل إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلما دخل الناس إليه روى عنه خلائق من أئمة الإسلام منهم‏:‏ الإمام سفيان بن عيينة والإمام أحمد ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمود بن غيلان‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن صالح العجلي الكوفي المقرىء المحدث والد الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي نزيل المغرب‏.‏