فصل: ست وعشرين مائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 ست وعشرين مائتين

فيها غضب المعتصم على أفشين وسجنه وضيق عليه ومنع من الطعام حتى مات أو خنق ثم صلب إلى جانب بابك قيل‏:‏ أتي بأصنام من داره أتهم بعبادتها فأحرقت وكان أقلف متهماً في دينه وخاف المعتصم منه أيضاً وكان من أولاد الملوك الأكاسرة واسمه حيدر بن كاؤس وكان بطلاً شجاعاً مقداماً مطاعاً ليس في الأمراء أكبر منه وظفر المعتصم أيضاً بمازيار الذي فعل الأفاعيل بطبرستان وصلبه أيضاً إلى جانب بابك‏.‏

وفيها توفي سعيد بن كثير أبو عثمان المصري الحافظ العلامة قاضي الديار المصرية وكان فقيها أخبارياً نسابة شاعراً كثير الإطلاع قليل المثل شهير الفضل‏.‏

وفيها توفي شيخ خراسان الإمام يحيى بن يحيى بن بكير التميمي النيسابوري كان يشبه بابن المبارك في وقته طرفاً وروى عن مالك والليث وطبقته‏.‏

قال ابن راهويه‏:‏ ما رأيت مثل يحيى بن يحيى ولا أحسبه رأى مثل نفسه ومات وهو إمام لأهل الدنيا‏.‏

 سبع وعشرين ومائتين

وفيها قدم أبو المغيث أميراً على دمشق فخرجت عليه قيس وأخذوا خيل الدولة من المرج لكونه صلب منه خمسة عشر رجلاً فوجه إليهم جيشاً فهزموه وحاصروا دمشق وجاءهم جيش من العراق مع أمير فأنذرهم القتال يوم الأثنين ثم كبسهم يوم الأحد وقتل منهم ألفاً وخمسمائة‏.‏

وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف الرباني معدن الأسرار والمعارف الموفق في الورع والزهد المعروف بالحافي أبو نصر بشر بن الحارث ذكروا أنه سمع من حماد بن زيد وإبراهيم بن سعد واعتنى بالعلم ثم أقبل على شأنه ودفن كتبه وحدث بشيء يسير وكان في الفقه على مذهب الثوري وقد صنف العلماء في مناقبه وكراماته تصانيف وهو مروزي الأصل من أولاد الرؤساء والكتاب‏.‏

وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة فيها اسم الله مكتوب وقد وطيها الأقدام فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط فرأى في النوم كأن قائلاً يقول‏:‏ يا بشر طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة فلما انتبه من نومه تاب‏.‏

ويحكى أنه كان في داره مع جماعة ندماء له في اللعب واللهو فدق عليه الباب داق فقال للجارية اذهبي فانظري من بالباب فذهبت وفتحت وإذا فقير على الباب فقال لها‏:‏ سيدك حرام عبد فقالت‏:‏ بل حر فقال‏:‏ صدقت لو كان عبداً لاستعمل داب العبيد ثم ذهب وخلاها فرجعت فسألها بشر عمن وجدت بالباب وما قال لها فأخبرته فخرج يعدو حافياً وهو يقول‏:‏ بل عبد فلم يلحقه فرجع ولم يزل حافياً فسئل عن ذلك فقال‏:‏ الحالة التي صولحت وأبا عليها لا أحب أن أغيرها‏.‏

ويحكى أنه أتى باب المعافي بن عمران فدق عليه فقيل‏:‏ من هذا‏.‏

فقال‏:‏ بشر الحافي فقالت بنت من داخل الدار لو اشتريت نعلاً بدانقين لذهب عنك اسم الحافي‏.‏

قيل‏:‏ وإنما لقب بالحافي لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعاً لإحدى نعليه وكان قد انقطع فقال له الإسكاف‏:‏ ما أكثر كلفتكم على الناس فألقى النعل من يده والأخرى من رجله وحلف لا يلبس بعدها نعلاً وقيل له‏:‏ بأي شيء تأكل الخبز‏.‏

فقال‏:‏ اذكر العافية فأجعلها إداماً ومن دعائه‏.‏

‏"‏ اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلب ذلك عني ‏"‏ ‏"‏ ومن كلامه ‏"‏ عقوبة العالم في الدنيا أن ينمي بصر قلبه وقال‏:‏ من طلب الدنيا فتهيأ للذل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بعث بشر يقول لأصحاب الحديث‏:‏ ما زكاة هذا الحديث فقالوا‏:‏ وما زكاته‏.‏

قال‏:‏ اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث وقيل له‏:‏ لم لا تحدث فقال‏:‏ أني أحب أن أحدث ولو أحببت أن اسكت لحدثت يعني أخاف نفسي في هواها وكان له رضي الله تعالى عنه ثلاث أخوات كلهن زاهدات عابدات ورعات مصنفة وهي الكبرى ومنحة وزبدة‏.‏

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل‏:‏ دخلت امرأة على أبي وقالت له‏:‏ يا أبا عبد الله إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج وربما طفىء السراج فأغزل على ضوء القمر فهل علي أن أبين غزل السراج من غزل القمر فقال لها‏:‏ إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك فقالت‏:‏ يا أبا عبد الله أتبين المريض هل هو شكوى فقال لها‏:‏ إني لأرجو أن لا يكون شكوى ولكن هو اشتكى وإلى الله قال عبد الله فقال لي أبي‏:‏ يا بني ما سمعت قط إنساناً يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة فاتبعها قال عبد الله‏:‏ فتبعتها إلى أن دخلت دار بشر الحافي فعرفت إنها أخت بشر فأتيت أبي فقلت‏:‏ إن المرأة أخت بشر الحافي فقيل‏:‏ اتق الله هذا هو الصحيح محال أن يكون هذه إلا أخت بشر‏.‏

وقال عبد الله أيضاً‏:‏ جاءت ‏"‏ منحة ‏"‏ أخت بشر الحافي إلى أبي فقالت‏:‏ يا أبا عبد الله رأس مالي دانقان أشتري بها قطناً فأغزله وأبيعه بنصف درهم فأنفق دانقاً من الجمعة إلى الجمعة وقد مر الطائف ليلة ومعه مشعل فاغتنمت ضوء المشعل وغزلت طاقين في ضوء فعلمت أن الله سبحانه مطالب لي فخلصني من هذا خلصك الله فقال‏:‏ تخرجين الدانقين ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوضك الله خيراً منه فقال عبد الله فقلت لأمي‏:‏ لو قلت لها حتى تخرج رأس مالها قال‏:‏ يا بني سؤالها لا يحتمل التأويل فمن هذه المرأة قلت‏:‏ هي منحة أخت بشر فقال‏:‏ من ها هنا أنت قلت‏:‏ وفي رواية أخرى‏:‏ إن أخت بشر قالت له‏:‏ إن مشاعيل الولاة تمر بنا ونحن على سطوحنا أفيحل لنا أن نغزل في شعاعها‏.‏

فقال‏:‏ من أنت رحمك الله فقالت‏:‏ أخت بشر الحافي فقال‏:‏ صدقت من بينكم يخرج الورع الصافي قال‏:‏ الصادق لا تغزلي في شعاعها‏.‏

وتكلم بشر في الورع وعدم طيب المطاعم فقيل له‏:‏ ما نراك تكل إلا من حيث تأكل‏.‏

فقال‏:‏ ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك وفي رواية‏:‏ أكلتموها كباراً وأكلتها صغاراً‏.‏

وفي السنة المذكور توقني أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني الحافظ صاحب السنن‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الخليفة المعتصم محمد بن هارون الرشيد بن المهدي بن منصور العباسي عهد إليه بالخلافة المأمون وكان شجاعاً شهماً مهيباً لكنه كثير اللهو مسرف على نفسه وهو الذي افتتح عمورية من أرض الروم‏.‏

ويقال له المثمن لإنه ولد سنة ثمانين ومائة في ثامن عشر منها وهو ثامن الخلفاء من بني العباس وفتح ثمان فتوحات ووقف في خدمته ثمانية ملوك من العجم ثم قتل ستة منهم واستخلف ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام وخلف ثمانية بنين وثماني بنات وخلف من الذهب ثمانية آلاف دينار ومن الدراهم ثمانية عشر ألف ألف درهم ومن الخيل ثمانين ألف فرس ومن الجمال والبغال مثل ذلك ومن الممالك ثمانية آلاف مملوك وثمانية آلاف جارية وبنى ثمانية قصور هكذا قيل في التواريخ فان صحح هذا فهو من جملة العجائب‏.‏

قالوا وكانت له نفس سبعية إذا غضب لم يبال بمن قتل ولا بما فعل وعمره سبع وأربعون سنة وأقام بعده ابنه الواثق‏.‏

 ثمان وعشرين ومائتين

فيها توفي عبد الله وقيل‏:‏ عبيد الله بن محقد بن حفص القريشي التيمي العائشي البصري الأخباري أحد الفصحاء الأجواد أمه عائشة بنت طلحة‏.‏وقال مصعب بن عبد الله الزبيري‏:‏ هي بنت عبد الله بن عبيد الله بن مغمر التيمي قال يعقوب بن شبة‏:‏ أنفق ابن عائشة على أخواته أربع مائة ألف دينار في الله وقيل‏:‏ جاءه وكيله يوماً يثمن له مائة دينار وثلاث مائة درهم وهو في المسجد فوافاه سائل فأدخل يده في كم الوكيل فأخرج منها شيئاً فدفعه إليه فلم يزل السؤال يوافونه وهو يرفع إليهم حتى أفنى الدنانير والدراهم وقال عبد الله بن شبة‏:‏ رأيت ابن عائشة وقف على قبر ابن له قد دفن إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكاء أجاب البكاء طوعاً ولم يجب الصبر فإن ينقطع منك الرجاء فإنه سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر وكان يقول‏:‏ أو روي عن أبيه أنه كان يقول‏:‏ جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك وكذلك روي عنه أنه قال‏:‏ لا يعرف كلمة بعد كلام الله وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخصر لفظاً ولا أكمل وضعاً ولا أعم نفعاً من قول أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ قيمة كل امرىء ما يحسن وقال ابن عائشة المذكور لرجل من العرب أعجبه‏:‏ أنت والله كما قال الشاعر‏:‏ لسنا وإن أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ونفعل مثل ما فعلوا وقال العايشي‏:‏ أول الفراعنة سنان بن غلوان بن عبيد بن عوج بن عمليق وهو الذي نزل به البلاء لما مد يده إلى سارة زوجة إبراهيم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم فوهب لها هاجر أم إسماعيل عليهما السلام‏.‏

والفرعون الثاني فرعون يوسف صلى الله عليه وآله وسلم وهو خير الفراعنة واسمه الريان بن الوليد ويرجع في نسبه إلى عمرو بن عمليق ويقال أنه أسلم على يده صلى الله عليه وآله والفرعون الثالث فرعون موسى صلى الله عليه وآله وسلم وهو أخبث الفراعنة واسمه الوليد بن مصعب بن معاوية يرجع إلى عمرو بن عمليق‏.‏

والفرعون الرابع نويفل الذي قتله بخت نصر حين غزا‏.‏

والفرعون الخامس كان طوله ألفي ذراع وكانت قصيراه جسراً لنيل مصر دهراً طويلاً‏.‏

وقال ابن عائشة‏:‏ دخل خالد بن صفوان مسجد الجامع فإذا هو بالفرزدق جالساً في الشمس فقال‏:‏ يا أبا فراس والله لو أن نسوة يوسف رأينك لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن فقال‏:‏ وأنت والله لو أن نسوة مدين رأينك‏:‏ لما قلن‏:‏ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين وأنشد ابن أبي عائشة للزبير بن بكار‏:‏

ولو كان يستغني عن الشكر ماجد ** لغزة قدر أو علو مكان

لما أمر الله العباد بشكره ** فقال اشكروني أيها الثقلان

قلت‏:‏ وهذا القول غير لائق بجلال الله تعالى ولا جائز في صفاته فإنه يفهم أن الله سبحانه غير مستغن عن شكر العباد وهو باطل تعالى الله عن ذلك بل غني عن كل شيء كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ‏"‏ ‏"‏ عمران‏:‏ 97 ‏"‏ ولما قد علم عند العقلاء العالمين أنه متصف تعالى بالكمال المطلق دلت على ذلك قواطع البراهين‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي المعروف بالعتبي الأخباري الفصيح الأديب‏.‏قال الأصمعي‏:‏ الخطباء من بني أمية‏:‏ عبد الملك بن مروان وعتبة بن أبي سفيان‏.‏

قال العتبي محمد بن عبد الله المذكور‏:‏ حججت فمررت بنسوة وإذا فيهن جارية تشتهي ما رأيت أجمل منها فقلت لها‏:‏ ممن الجارية‏.‏

فقالت‏:‏ أما الأعمام فسليم وأما الأخوال فعامر فقلت‏:‏ رأيت غزالاً من سليم وعامر فهل لي إلى ذاك الغزال سبيل فضحكت ثم قالت‏:‏ وماذا يرجى من غزال رأيته وحطك من ذاك الغزال قليل ولو قالت‏:‏ وليس إلى ذلك الغزال وصول كان أبلغ في نفي مرامه إلا أن تكون أرادت بالقلة المحادثة والنظر فقولها في هذا الوجه معتبر‏.‏

وقال بعض المؤرخين‏:‏ كان أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً راوياً للأخبار وأيام العرب روى عن ابن عيينة وغيره وروى عنه أبو حاتم السجستاني وأبو الفضل الرياشي وإسحاق بن محمد النخغي وله عدة تصانيف وروى له ابن قتيبة في كتاب المعارف‏:‏ وكن متى أبصرنني أو سمعن بي سعين فرفعن بالكوايا المحاجر فإن عطفت عني أعنة أعين نظرن بأحداق المهاوي الأجازر فإني من قوم كريم ثناؤهم لأقوامهم صيغت رؤوس المنابر خلايف في الإسلام في الشرك سادة بهم وإليهم فخر كل مفاخر وله أيضا‏:‏ لما رأتني سليماً قاصر البصر عنها وفي الطرف عن أمثالها زور قالت‏:‏ عهدتك مجنوناً فقلت لها إن الشباب جنون برؤه الكبر وله أيضا يرثي بعض أولاده‏:‏ أصبحت خدي للدموع رسوم أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم وفيها توفي مسدد بن مسرهد الحافظ أبو الحسن البصري‏.‏

 تسع وعشرين ومائتين

فيها توفي الإمام أبو محمد خلف بن هشام شيخ القراء والمحدثين رحمهم الله‏.‏

وفيها توفي يزيد بن صالح الفراء النيسابوري العبد الصالح وكان ورعاً قانتاً مجتهداً في العبادة رحمة الله عليه‏.‏

 ثلاثين ومائتين

فيها توفي إبراهيم بن حمزة الزبيري المدني الحافظ ‏"‏ وأمير المشرق ‏"‏ عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي‏.‏

وكان شجاعاً مهيباً عاقلاً جواداً كريماً يقال أنه دفع على قصص صلات بلغت أربعة آلاف ألف درهم وخلف من الدراهم خصوصاً أربعين ألف درهم وكان قد تاب قبل موته وكسر آلات الملاهي وبعثه المأمون إلى خراسان فلما دخلها مطرت مطراً كثيراً وكان المطر قد انقطع عنها تلك السنة فقام إليه رجل بزاز من حانوته وأنشد‏:‏ قد قحط الناس في زمانهم حتى إذا جئت جئت بالدرر غيثان في ساعة لنا قدماً فمرحباً بالأمير والمطر فاستفك أسارى بألفي درهم وتصدق بأموال كثيرة وكان أبو تمام الطائي قد قصده من العراق فلما انتهى إلى قومس وطالت به الشقة وعظمت عليه المشقة قال‏:‏ تقول في قومس صحبي وقد أخذت مني السرى وخطا المهرية القود وقيل‏:‏ هذان البيتان أخذهما أبو تمام من أبي الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور حيث يقول‏:‏

يقول صحبي وقد جدوا على عجل ** والخيل يفتن بالركبان في اللحم أمغرب الشمس تنوي أن توم بنا ** فقلت‏:‏ كلا ولكن مطلع الكرم

فإنه أغار على اللفظ والمعنى جميعاً ولما وصل أبو تمام إليه أنشده قصيدته الثانية البديعة التي يقول فيها‏:‏ وركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها والليل تستر غياهبه وفي هذه السفرة ألف أبو تمام ‏"‏ كتاب الحماسة ‏"‏ وكان سبب ذلك أنه لما وصل إلى همدان أشتد البرد فأقام ينتظر زواله وكان نزوله عند بعض الرؤساء بها وفي دار ذلك الرئيس خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها فتفرغ لها أبو تمام وطالعها واختار منها ما ضمنه كتاب الحماسة وكان ابن طاهر المذكور مع أوصافه المتقدمة أديباً ظريفاً وله شعر مليح ورسائل ظريفة ومما قال فيه بعض الشعراء‏:‏ يقول الورى لي أن مصر بعيده وما بعدت مصر وفيها ابن طاهر وأبعد من مصر رجال تراهم بحضرتنا معروفهم غير حاضر قلت‏:‏ والمصراع الأول من البيت الأول غيرته بعض الفضلاء لخلل الوزن في الأصل المنقول منه‏.‏

وذكر بعض المؤرخين أن البطيخ المسقى بعبد اللاوي الموجود في الديار المصرية منسوب إلى عبد الله المذكور قيل ليلة كان يستطيبه أو أنه أول من زرعه هناك وقيل أنه وقومه خزاعيون بالولاء فإن جدهم رزيق مولى أبي محمد طلحة بن عبد الله المعروف بطلحة الطلحات الخزاعي المتولي على سجستان من قبل سالم بن زياد بن أبيه وفيه يقول ابن الرقتات‏:‏ رحم الله أعظماً دفنوها بسجستان طلحة الطلحات وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحبر الحافظ أبو عبد الله محمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات والتواريخ‏.‏

وفيها توفي الحافظ محدث بغداد أبو الحسن علي بن الجعد الهاشمي مولاهم روى عن شعبة وابن أبي ذيب والكبار وقيل‏:‏ مكث سنين يصوم يوماً ويفطر يوماً‏.‏

 إحدى وثلاثين ومائتين

فيها ورد كتاب الواثق على أمير البصرة يأمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن وكان قد تبع أباه في امتحان الناس‏.‏

وفيها قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد من أولاده أمراء الدولة نشأ في علم وصلاح وكتب عن مالك وجماعة وحمل عن هشيم مصنفاته قتله الواثق بيده لإمتناعه عن القول بخلق القرآن لكونه أغلظ للواثق في الخطاب وقال له‏:‏ يا صبي وكان رأساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقام معه خلق من المطوعة واستفحل أمره فخافت الدولة من فتن تحصل بذلك‏.‏

وروي أنه صلبه فاسود وجهه فتغيرت قلوب من راه بهذا الوصف ثم ابيض وجهه بعد ذلك فراه بعضهم في النوم فسأله عن ذلك فقال‏:‏ لما صلبت رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أعرض عني بوجهه فاسود وجهي من ذلك فسألته صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك أي سبب إعراضه عني فقال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ إنما أعرضت حياء منك إذا كان قتلك على يد واحد من أهل بيتي فعندها زال ذلك السواد الذي رأيتم عني وهذا معنى ما قيل في ذلك والله أعلم‏.‏

وفيها توفي الإمام العلامة أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه صاحب الشافعي مات في السجن والقيد ببغداد ممتحناً بخلق القرآن وكان عابداً دائم الذكر كبير القدر‏.‏

قال الشافعي‏:‏ ليس في أصحابي أعلم من البويطي حمل من مصر في أيام الواثق فني زمن الفتنة فامتنع من القول بخلق القرآن فحبس حتى مات وكان صالحاً متنسكاً رحمة الله عليه‏.‏

قال الربيع بن سليمان‏:‏ رأيت البويطي على بغلة وفي عنقه غل وفي رجليه قيد وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوية وزنها أربعون رطلاً‏.‏

وقال الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء‏:‏ وكان أبو يعقوب البويطى إذا سمع المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشي حتى يبلغ باب السجن فيقول السجان‏:‏ أين تريد‏.‏

فيقول‏:‏ أجيب داعي الله فيقول‏:‏ ارجع عفاك الله فيقول‏:‏ اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني‏.‏

وقال الربيع‏:‏ كان الرجل ربما يسأل الشافعي عن المسألة فيقول‏:‏ سل أبا يعقوب فإذا أجابه أخبره فيقول‏:‏ هو كما قال‏:‏ وقال الخطيب البغدادي‏:‏ قال الشافعي‏:‏ ليس أحد أحق بمجلس من يوسف بن يحيى وقال الربيع‏:‏ كنت عند الشافعي أنا والمزني وأبو يعقوب البويطي قال للبويطي‏:‏ أنت تموت في الحديث وقال لي‏:‏ موتك في الحديث وقال للمزني‏:‏ هذا النواظر الشياطين تطيعه‏.‏

وفيها توفي أبو تمام الطائي‏:‏ حبيب بن أوس الحوراني متقدم شعراء عصره في ديباجة لفظه وصناعة شعره وحسن أسلوبه وله‏:‏ كتاب الحماسة الدال على غزارة فضله واتقان معرفته وحسن اختياره وله مجموع آخر سماه ‏"‏ فحول الشعراء ‏"‏ جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين و ‏"‏ كتاب اختيارات من شعر الشعراء ‏"‏ كان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره قبل كان يحفظ أربعة آلاف ديوان الشعر غير ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع ومدح الخلفاء وأخذ جوائزهم وجاب البلاد وقصد البصرة وبها عبد الصمد بن المعدل الشاعر فلما سمع بوصوله وكان في جماعة من غلمانه وأتباعه خاف من قدومه أن يميل الناس إليه ويعرضوا عنه فكتب إليه قبل دخوله البلد‏:‏ أنت بين اثنين تبرز للناس وكلتاهما بوجه مذال أيما يبقى لوجهك هذا بين ذل الهوى وذل السؤال فلما وقف على هذا النظم أضرب عن مقصده ورجع وقال‏:‏ قد شغل هذا ما يليه فلا حاجة لنا فيه ولما قال ابن المعدل هذا النظم كتبه ودفعه إلى وراق وكان هو وأبو تمام يجلسان إليه ولا يعرف أحدهما الآخر وأمره أن يدفعه إلى أبي تمام فلما قرأ الورقة أبو تمام قال‏:‏ أتى ينظم قول الزور والفند وأنت أنقص من لا شيء في العدد أسرجت قلبك من غيظ على خنق كأنها حركات الروح في الجسد أقدمت ويلك من هجوي على خطر كالعير يقدم من خوف على الأسد وحضر عبد الصمد فلما قرأ البيت الأول قال‏:‏ ما أحسن علم بالجدل أوجب زيادة ونقصاناً على معدوم ولما نظر إلى البيت الثاني قال‏:‏ الإسراج من عمل الفراشين ولا مدخل له ها هنا ولما قرأ البيت الثالث عض ‏"‏ على شفته وقال‏:‏ فيك قلت يعني بقوله فيك‏:‏ إشارة إلى قوله‏:‏ ‏"‏ كالعير تقدم من خوف على الأسد ‏"‏ لأنهم قد ذكروا في باب انقياد بعض المكولات لبعض الأكلات أن الحمار يرمي بنفسه على الأسد إذا شم ريحه‏.‏وقال بعض العلماء‏:‏ خرج من قبيلة طيىء ثلاثة كل مجيد في بابه‏:‏ حاتم الطائي في جوده وداود بن نصير الطائي في زهده وأبو تمام حبيب بن أوس في شعره وقد اشتهر أنه لما قال في مدح بعض الخلفاء‏:‏ إقدام عمرو في سماحة حاتم في علم أحنف في ذكاء إياس قال له الوزير‏:‏ أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وأنشد‏:‏ لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً سروداً في الندى والناس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس الفتيلة‏:‏ للمصباح والمعنى‏:‏ يعني قوله‏:‏ ‏"‏ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ‏"‏ ‏"‏ النور‏:‏ 35 ‏"‏ الآية والنبراس‏:‏ الفتيلة للمصباح والمعنى أنه لما أنكر عليه في تشبيه الخليفة بعمرو بن معد يكرب وبحاتم استشعر منهم اللوم في ذلك وعدم الجائزة وانحطاطها فافتتح التفكر ملتمساً عذراً في كلام العرب وأشعارهم وأمثالهم فلم يجد ما يشفي ولا ما يكفي فضرب عنان فكرته إلى كتاب الله تعالى وجواهر آية من فاتحته إلى أن وجد ما دفع عنه المحذور في سورة النور وظفر من الدليل بما يشفي الغليل فأعجب من حضره بانفاذ قريحته وسرعة‏.‏قدح زناد فكرته فقال الوزير للخليفة أي شيء طلبه أعطيه إياه فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوماً لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكرة وصاحب هذا لا يعيش إلا هذا القدر فقال الخليفة‏:‏ ما تشتهي قال‏:‏ الموصل فأعطاه إياها فتوجه إليها وبقي هذه المدة المذكورة ومات هكذا قيل‏:‏ وقال بعض أصحاب التواريخ‏:‏ هذه القصة لا صحة لها أصلاً فقد ذكر أبو بكر الصولي في ‏"‏ كتاب أخبار أبي تمام ‏"‏ أنه لما أنشد هذه القصيدة لأحمد بن المعتصم وانتهى إلى قوله إقدام عمر والبيت المذكور قال أبو يوسف يعقوب بن صباح الكندي الفيلسوف وكان حاضراً لأمر فوق من وصفت‏.‏

فأطرق قليلاً ثم زاد البيتين المذكورين‏.‏ولما أخذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين فعجبوا من سرعة فطنته قال أبو يوسف وكان فيلسوف العرب‏:‏ هذا الفتى يموت قريباً ثم قال بعد ذلك‏:‏ وقد روي على خلاف ما ذكرته وليس بشيء والصحح هو هذا قال‏:‏ وقد تبعتها وحققت صورة ولاية الموصل فلم أجد سوى أن الحسن بن وهب ولآه يعني الموصل فأقام أقل من سنتين ثم مات بها‏.‏

وذكر الصولحي‏:‏ قال له ابن الزيات‏:‏ يا أبا تمام إنك لتجلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسناتها على الجوهر في أجياد الكواعب وما يدخر لك شيء من جزيل المكافآت إلا ويقصر عن شعرك في المواساة وكان بحضرته فيلسوف فقال له‏:‏ إن هذا الفتى يموت شاباً فقيل له‏:‏ ومن أين حكمت عليه بذلك‏.‏

فقال‏:‏ رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت أن النفس والروحانية تأكل جسمه كما يأكل السيف المهند غمده قالوا‏:‏ وكذا كان‏.‏

لأنه مات وقد نيف على ثلاثين سنة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هذا يخالف ما سيأتي في تاريخ مولده ووفاته وذلك أن ولادته كانت في تسعين ومائة وقيل ثمان وثمانين ومائة وقيل اثنتين وسبعين ومائة وقيل اثنتين وتسعين ومائة في قرية من بلد الجيد بين دمشق وطبرية ونشأ بمصر وتوفي بالموصل في سنة إحدى وثلاثين ومائتين وقيل سنة ثمان وعشرين وقيل تسع وعشرين سنة وقيل اثنتين وثلاثين ومائتين‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الإعتراض ليس بصحيح فإنه يصدق كونه نيف على ثلاثين على بعض هذه الروايات فإنه على رواية ولادته في سنة اثنتين وتسعين وموته في سنة ثمان وعشرين يكون عمره قال ابن خلكان‏:‏ رأيت قبره في الموصل وإليه الإشارة بقول ابن عنين‏:‏ سقى الله روح الغوطتين ولا أرى من الموصلي الفيحاء إلا قبورها قال البحتري‏:‏ وبنى عليه أبو نهشل بن حميد الطوسي قبة وممن رثاه الحسن بن وهب بقوله‏:‏ فجع القريض بخاتم الشعراء وغريد روضها حبيب الطائي ماتا معاً فتجاورا في حفرة وكذاك كانا قبل في الأخباء ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم بقوله‏:‏ نبأ أتى من أعظم الأنباء لما ألم مقلقل الأحشاء قالوا‏:‏ حبيب قد توى فأجبتهم ناشدتكم لا تجعلوه الطائي وفيها توفي إمام اللغة محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي من موالي بني العباس وقيل‏:‏ من موالي بني شيبان والأول أصح وكان راوية الأشعار واللغة أخذ الأدب عن أبي معاوية الضرير والمفضل الضبي والكسائي وأخذ عنه من الأئمة‏:‏ إبراهيم الحربي وثعلب وابن السكيت‏.‏

وغيرهم وناقش العلماء واستدرك عليهم وخطأ كثيراً من نقلة اللغة وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان شيئاً وكان يحضر مجلسه خلق كثير من المستفيدين‏.‏

قال ثعلب‏:‏ كان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان وكان يسأل ويقرأ عليه فيجيب من غير كتاب ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتاباً قط ولقد أملى على الناس ما يحمل على أحمال ولم ير أحد في علم الشعر أغزر منه وله من التصانيف بضع عشر مصنفاً منها كتاب النوادر وكتاب الخيل وكتاب تفسير الأمثال وكتاب معاني الشعر‏.‏

ورأى يوماً في مجلسه رجلين يتحادثان فقال لأحدهما‏:‏ من أين أنت‏.‏

فقال‏:‏ من اسبيجاب ‏"‏ بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وقبل الألف جيم وبعدها موحدة ‏"‏ مدينة في أقصى بلاد الشرق وسأل الآخر فقال‏:‏ من الأندلس وهي معروفة في أقصى بلاد المغرب فتعجب من ذلك وأنشأ‏:‏ رفيقان شتى ألف الدهر بيننا وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان ثم أملى على من حضر مجلسه بقية الأبيات وهي‏:‏ نزلنا على قيسية يمنية لها نسب في الصالحين هجان فقالت وأرخت جانب الستر بيننا من أية أرضي أمنا الرجلان فقلت لها‏:‏ أما رفيقي فقوم تميم وأما أسرتي فيمان رفيقان شتى ألف بيننا وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان فيها توفي الواثق بالله أبو جعفر وقيل أبو القاسم هارون بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي العباسي وكان أديباً شاعراً أبيض تعلوه صفرة حسن اللحية دخل في القول بخلق القرآن وامتحن الناس وقوى عزمه القاضي أحمد بن أبي داود ولما احتضر ألصق وجهه بالأرض وجعل يقول‏:‏ يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه‏.‏

واستخلف بعده أخوه المتوكل وأظهر السنة ودفع المحنة وأمر بنشر أحاديث الروية والصفات‏.‏

وفيها وقيل‏:‏ في سنة ستين توفي الشريف العسكري الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أحد الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية وهو والد المنتظر صاحب السرداب‏.‏

وفيها توفي عبد الله بن عوف الخزاز الزاهد البغدادي المحدث وكان يقال‏:‏ إنه من الأبدال‏.‏وتوفي الإمام أبو يحيى هارون بن عبد الله الزهري العوفي المالكي وقال أبو إسحاق الشيرازي‏:‏ هو أعلم من صنف الكتب في مختلف قول مالك‏.‏

 ثلاث وثلاثين ومائتين

فيها كانت الزلزلة المهولة بدمشق ودامت ثلاث ساعات وسقطت الجدران وهرب الخلق إلى المصلى يجأرون إلى الله ومات كثير من الناس تحت الردم وامتدت إلى أنطاكية وذكروا أنه هلك من أهلها عشرون ألفاً ثم امتدت إلى الموصل وزعم بعضهم أنه هلك بها تحت الردم خمسون ألفاً‏.‏

وفيها توفي سهل بن عثمان العسكري الحافظ أحد الأئمة ‏"‏ والإمام ‏"‏ أبو زكريا يحيى بن معين الحافظ أحد الأعلام توفي بمدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجهاً إلى الحج وغسل على الأعواد التي غسل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل‏:‏ كم كتبت من الحديث‏.‏

فقال‏:‏ كتبت بيدي هذه ست مائة ألف حديث روى عنه كبار أئمة الحديث منهم البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم وكان بينه وبين الإمام أحمد صحبة وإلفة واشتراك في الإشتغال بعلوم الحديث وكان ينشد‏:‏ المال يذهب حله وحرامه طراً ويبقى في غد آثامه ليس التقي بمتق لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي ويكتب كفه ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبي كتابه عن ربه فعلى النبي صلاته وسلامه وقد ذكره الدارقطني فيمن روى عن الإمام الشافعي وقد سبق في ترجمة الشافعي ما جرى منه في حقه بينه وبين الإمام أحمد في مشية تحت ركاب بغلة الشافعي وقول الإمام أحمد له‏:‏ لو لزمت البغلة لانتفعت وقيل‏:‏ إنه لما خرج من المدينة سمع في النوم هاتفاً يقول‏:‏ يا أبا زكريا أترغب عن جواري‏.‏فرجع وأقام بها ثلاثة ثم توفي رحمة الله عليه‏.‏

وفي السنة المذكورة وقيل في سنة سبع وأربعين وهو اختيار الذهبي توفي الإمام النحوي أبو عثمان بكر بن محمد المازني البصري وكان إمام عصره في النحو والأدب أخذ الأدب من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهم وأخذ عنه أبو العباس المبرد وانتفع به وله تصانيف في فنون من العربية‏.‏

قال أبو جعفر الطحاوي‏:‏ سمعت القاضي بكار بن قتيبة قاضي مصر يقول‏:‏ ما رأيت نحوياً يشبه الفقهاء إلا حيان بن هرمة المازني وكان في غاية الورع بما روى عنه المبرد‏:‏ أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه كتاب سيبويه وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه فامتنع أبو عثمان من ذلك قال‏:‏ فقلت‏:‏ جعلت فداك أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة حاجتك‏.‏

فقال‏:‏ إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاث مائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل ولست أرى أن أمكن منها ذمياً غيرة على كتاب الله عز وجل وحمية له‏.‏

قال فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي ‏"‏ بفتح العين المهملة وسكون الراء وقيل أظلوم أن مصابكم رجلاً رد السلام تحية ظليم فاختلف من في الحضرة في إعراب ‏"‏ رجل ‏"‏ فمنهم من نصبه وجعله اسم إن ومنهم رفعه على أنه خبرها والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب فأمر الواثق بإشخاصه قال أبو عثمان‏:‏ فلما مثلت بين يديه قال‏:‏ ممن الرجل قلت‏:‏ من بني مازن قال‏:‏ أي الموازن‏.‏أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة‏.‏

ولم يذكر في الأصل مازن اليمن وهو مازن ابن الأزد بن الغوث ونسبه معروف إلى قحطان قال‏:‏ قلت من مازن ربيعة فكلمني بكلام قوم فقال‏:‏ ما إسمك لأنهم كانوا يقلبون الميم باء والعكس قال‏:‏ فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر فقلت‏:‏ بكر يا أمير المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجب به ثم قال‏:‏ ما تقول في قول الشاعر ‏"‏ أظلوم إن مصابكم رجلاً ‏"‏ أترفع رجلاً أم تنصبه فقلت‏:‏ بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ ولم ذلك فقلت‏:‏ لأن مصابكم مصدر بمعنى أصابتكم فأخذ اليزيدي في معارضتي فقلت‏:‏ هو بمنزلة قولك إن ضربك زيداً الظلم فالرجل مفعول مصابكم وهو منصوب به والدليل على أنه معلق إلى أن يقول‏:‏ ظلم فيتم قال‏:‏ فاستحسنه الواثق وقال‏:‏ هل لك من ولد فقلت بنية لا غير قال‏:‏ ما قالت لك حين ودعتها قلت‏:‏ أنشدت قول الأعشى‏:‏ أدانا إذا أضمرتك البلاد يخفى ويقطع منا الرحم قال‏:‏ فما قلت لها‏.‏

قال‏:‏ قلت قول جرير‏:‏ ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى وأمر لي بألف دينار وردني مكرماً ويروي أول البيت الأول شعر‏:‏ ‏"‏ أبانا فلا رمت من عندنا ‏"‏ ويروي أيضاً ‏"‏ أبانا إلا لا ترم عندنا ‏"‏ يقال‏:‏ رام يريم ريماً أي برح يبرح وقولها‏:‏ فلا رمت أي‏:‏ فلا برحت وعلى رواية لا ترم بكسر الراء‏:‏ لا تبرح هذا من رام يريم ريماً وأما رام يروم روماً‏.‏

فإن معناه طلب يطلب طلباً قال المبرد‏:‏ فلما عاد إلى البصرة قال لي‏:‏ كيف رأيت يا أبا العباس رددنا لله مائة فعوضنا ألفاً‏.‏

قلت‏:‏ هذا مختصر القصة وفيها كلام طويل أنشد في آخره‏:‏ إن المعلم لا يزال مضعفاً ولرأيتني فوق السماء بناء من علم الصبيان صبوا عقله حتى الخلفاء والأمراء فقال لي‏:‏ لله درك كف لي بك‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الغنم والفوز في قربك والنظر إليك ولكني ألفت الوحدة وأنست بالإنفراد ولي أهل يوحشني البعد عنهم ويضربهم ذلك ومطالبة العادة أشد منه مطالبة الطبع فأمر لي بألف دينار وكسوة وطيب وقال‏:‏ لا تقطعنا‏.‏

وفي السنة المذكورة مات وزير المعتصم المعروف بابن الزيات أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان كان جده أبان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد فدعي بابن الزيات وكان من أهل الأدب الظاهر والفضل الباهر أديباً فاضلاً بليغاً عالماً بالنحو واللغة وكان أبو عثمان المازني إذا اختلف أصحابه في مسألة يأمرهم أن يسألوه ويعرفوا جوابه فيجيب‏:‏ إن الصواب الذي يرضاه أبو عثمان‏.‏وقد ذكر فضله غير واحد من المؤرخين وأوردوا له من شعره عدة مقاطيع وكان في أول أمره من جملة الكتاب فسأل المعتصم وزيره أحمد بن عمار البصري يوماً عن الكلأ ما هو قال‏:‏ لا أعلم وكان قليل المعرفة بالأدب فقال المعتصم‏:‏ خليفة أمي ووزير كلامي وكان المعتصم ضعيف الكتابة ثم قال‏:‏ أبصروا من بالباب من الكتاب فوجدوا ابن الزيات المذكور فأدخلوا إليه فقال‏:‏ ما الكلأ‏.‏

فقال‏:‏ الكلأ العشب على الإطلاق فإن كان رطباً فهو الخلا وإن كان يابساً فهو الحشيش‏.‏

وشرع في تقسيم أنواع النبات فعلم المعتصم فضله فاستوزره وحكمه وبسط يده وجرت بينه وبين القاضي أحمد بن أبي داود أشياء مذكورة في ترجمة ابن أبي داود المذكور‏.‏

وحكي أن أبا حفص الكرماني كاتب عمرو بن مسعدة كتب إلى ابن الزيات‏:‏ أما بعد‏:‏ فإنك ممن إذا غرس سقى وإذا أسس بنى وبناؤك في وذي قد شارف الدروس وغرسك عندي قد عطش وأشفى على البؤس فتدارك بناء ما أسست وسقي ما غرست‏.‏

فبلغ ذلك أبا عبد الرحمن العطوي فقال‏:‏ في هذا المعنى يمدح محمد بن عمران بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك‏.‏إن البرامكة الكرام تعلموا فعل الجميل وعلموه أناساً كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا لا يهدمون لما بنوه أساساً وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى جعلوا لها طول البقاء لباساً فعلام تسقيني وأنت سقيتني كأس المودة من جفائك كأساً آنسني منفصلاً أفلا ترى أن القطيعة توحش الإيناسا قلت‏:‏ يعني بالبيت الذي قبل الأخير‏:‏ فعلام تسقيني من جفائك كأساً وأنت تسقيني كأس المودة‏.‏

ولإبن الزيات المذكور أشعار رائقة فمن ذلك قوله‏:‏ سماعاً يا عباد الله مني وكفوا عن ملاحظة الملاح فإن الحب آخره المنايا وأوله يهيج بالمزاح فقلت وهل أفاق القلب حتى أفرق بين ليلي والصباح وله ديوان رسائل جيدة ولأبي تمام وجماعة من الشعراء في عصره فيه مدائح فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس الصولي‏:‏ أخ كنت آوي منه عند ذكاره إلى ظل آياء من العز شامخ سمعت نوب الأيام بيني وبينه فاقلعي منه عن ظلوم وصارخ وكان ابن الزيات المذكور قد اتخذ تنوراً من حديد وأطرافه مساميره المحددة إلى داخل يعذب به المصادرين وأرباب الدواوين المظلومين فكلما تحرك واحد منهم من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجد لذلك أشد الألم ولم يسبقه أحد إلى مثل ذلك وكان إذا قال له أحد منهم‏:‏ أيها الوزير ارحمني يقول‏:‏ الرحمة خور في الطبيعة فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد فقال يا أمير المؤمنين ارحمني فقال‏:‏ الرحمة خور في الطبيعة كما كان هو يقول للناس فطلب دواة وبطاقة فأحضر إليه فكتب‏:‏ هي السبيل فمن يوم إلى يوم كأنه ما تريك العين في النوم لا تجزعن رويداً إنها دول دينا تنقل من قوم إلى قوم وسيرها إلى المتوكل واشتغل عنها ولم يقف عليها إلا في الغد فلما قرأها أمر بإخراجه فجاؤوا إليه فوجدوه ميتاً وكانت مدة إقامته في ذلك التنور أربعين يوماً‏.‏

ولما جعل في التنور قال له خادمه‏:‏ يا سدي قد صرت إلى ما صرت إليه وليس لك حامد فقال‏:‏ وما نفع البرامكة صنيعهم فقال له‏:‏ ذكراهم هذه الساعة‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ فهذا ما لخصته مختصراً من ترجمة ابن خلكان له كما هو عادتي في تراجمة لغيره‏.‏

 أربع وثلاثين ومائتين

فيها توفي الحافظ أبو خيثمة زهير بن حرب والحافظ‏:‏ أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني والحافظ أبو الحسن علي بن بحر القطان ويحيى بن يحيى الليثي الإمام المالكي المعتمد عليه في رواية الموطأ من الإمام مالك وكان مالك يسميه عاقل الأندلس‏.‏

وسبب ذلك ما روي أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه فقال قائل‏:‏ جاء الفيل فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه ولم يخرج يحيى فقال له مالك‏:‏ لم لا تخرج فتراه لإنه لا يكون بالأندلس‏.‏

فقال‏:‏ إنما جنت من بلدي لأنظر إليك وأعلم من هديك وعلمك‏.‏فأعجب به مالك فسماه عاقل الأندلس‏.‏

ثم عاد إلى الأندلس وانتهت الرئاسة إليه فيها وبه انتشر مذهب مالك‏.‏

فيها ألزم المتوكل جميع النصارى لبس الحلي فيميزوا به‏.‏

وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مالك التيمي الموصلي النديم‏.‏

وكان رأساً في صناعة الطرب والموسيقى أديباً شاعراً أخبارياً عالماً ظريفاً نافق السوق عند الخلفاء إلى الغاية وأول من سمعه المهدي ولم يكن في زمانه مثله في الغناء واختراع الألحان وكان من العلماء باللغة والأشعار وأخبار العرب والشعراء وأيام الناس‏.‏

ذو فضائل جمة وكان له يد طولى في الفقه والحديث وعلم الكلام‏.‏

قال محمد بن عطية الشاعر‏:‏ كنت في مجلس القاضي يحيى بن كثم فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي وأخذ يناظر أهل الكلام حتى اتصف منهم ثم تكلم في الفقه فأحسن وقاس واحتج وتكلم في الشعر واللغة ففاق من حضر ثم أقبل على القاضي يحيى بن كثم فقال له‏:‏ أعز الله القاضي في شيء مما ناظرت فيه وحكيت نقص أو مطعن‏.‏

قال‏:‏ لا قال‏:‏ فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه يعني الغناء‏!‏ قال ابن عطية المذكور‏:‏ فالتفت إلي القاضي يحيى وقال‏:‏ الجواب في هذا عليك وكان الراوي المذكور من أهل الجدل فقال للقاضي يحيى‏:‏ نعم أعز الله القاضي الجواب علي‏.‏

ثم أقبل على إسحاق وقال‏:‏ يا أبا محمد أنت كالفراء والأخفش‏.‏

فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ أنت في اللغة ومعرفة الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة‏.‏

قال‏:‏ لا قال‏:‏ فأنت في علم الكلام كأبي يزيد العلاف والنظام البلخي قال‏:‏ لا قال‏:‏ أنت في الفقه كالقاضي وأشار إلى القاضي يحيى قال‏:‏ لا قال فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس قال‏:‏ لا قال‏:‏ فمن ها هنا مشيت إلى ما مشيت إليه لأنه لا نظير لك فيه وأنت في غيره دون رؤساء أهله فضحك وقام وانصرف فقال القاضي لابن عطية‏:‏ لقد وفيت الحجة حقها‏.‏

وفيها ظلم قليل لإسحاق وإنه ممن يقل في الزمان نظيره‏.‏وذكر أبو المجد الموصلي أن إسحاق بن إبراهيم المذكور كان مليح المحاورة والنادرة ظريفاً فاضلاً كتب الحديث عن سفيان بن عيينة ومالك بن أنس وهشيم بن بشير وأبي معاوية الضرير وأخذ الأدب عن الأصمعي وأبي عبيدة وبرع في علم الغناء فغلب عليه ونسب إليه وكان الخلفاء يكرمونه ويقربونه وكان المأمون يقول‏:‏ لولا سبق لإسحاق على ألسنة الناس‏.‏

واشتهر بالغناء لوليته القضاء فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة لكنه اشتهر بالغناء وغلب على جمع علوم مع صغرها عنده ولم يكن له فيه نظير‏.‏

وله نظم جيد وديوان شعر فمن شعره ما كتبه إلى هارون الرشيد‏.‏

وآمرة بالبخل قلت لها اقصري فليس إلى ما تأمرين سبيل أرى الناس خلال الجواد ولا أرى بخيلاً في العالمين خليل ومن خير حالات الفتى لو علمت إذا نال خيراً أن يكون سبيل عطائي عطاء المكثرين تكرماً ومالي كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنا ورأي أمير المؤمنين جميل وكان كثير الكتب حتى قال أبو العباس ثعلب‏:‏ رأيت الإسحاق الموصلي ألف جزء من لغات العرب كلها سماعه وما رأيت اللغة في منزل أحد قط كثر منها في منزل إسحاق منزل ابن الأعرابي‏.‏

وكان المعتصم يقول‏:‏ ما أغنى في إسحاق بن إبراهيم قط إلا خيل إلا أنه قد زيد في ملكي وأخباره كثيرة وحكاياته شهيرة وكان قد عمي آخر عمره‏.‏

وفيها توفي الإمام أحد الأعلام أبو بكر بن أبي شيبة صاحب التصانيف الكبار‏.‏

قال أبو زرعة‏:‏ ما رأيت أحفظ منه وقال أبو عبيد‏:‏ فانتهى علم الحديث إلى أربعة‏:‏ أبي بكر بن أبي شيبة وهو أسردهم له وابن معين وهو أجمعهم له‏.‏

وابن المديني وهو أعلمهم به وأحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه‏.‏

وقال نفطويه‏:‏ لما قدم أبو بكر بن أبي شيبة بغداد في أيام المتوكل حذروا مجلسه بثلاثين ألفاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقيل في سنة سبع وعشرين توفي أبو الهذيل شيخ المعتزلة البصريين المعروف بالعلاف مولى عبد القيس صاحب مقالات في مذهبهم ومجالس ومناظرات حسن الجدال قوي وفيها توفي سريج بن يونس البغدادي العابد المشهور بالصلاح والأوصاف الملاح أجد أئمة الحديث جد أبي العباس سريج‏.‏

 ست وثلاثين ومائتين

فيها توفي الحافظ محدث المدينة إبراهيم بن المنذر والحافظ النسابة الأخبار مصعب بن عبد الله بن مصعب الأسدي الزبيري‏.‏

قال الزبير‏:‏ كان عمي مصعب وجه قريش مروءة وعلماً وشرفاً وديناً وقدراً وجاهاً وكان نسابة قريش‏.‏

وفيها توفي وزير المأمون الحسن بن سهل وقد تقدم دخول المأمون بابنته بوران الكلفة التي احتملها والدها وكان أخوه الفضل وزيراً قبله وكان الحسن عالي الهمة كثير فعطاء للشعراء وغيرهم قصده بعض الشعراء وأنشده‏:‏ تقول خليلي لما رأيتني أشد مطيتي من حلل أبو الفضل أين ترتحل المطايا فقلت نعم إلى الحسن بن سهل قلت‏:‏ لقد تناسب لفظ هذا البيت ومعناه أعني لفظ سهل مع سهولة النظم سلاسته وسهولة الخلق المذكور في نيل المقصود منه مناسبة هذه السهولة لفظ اسمه اجتمعت السهولة في ثلاث‏:‏ في المدح واسم الممدوح وخلقه فأعطى قائلها المذكور عطاء جزيلاً وخرج يوماً مع المأمون يشيعه فلما عزم على مفارقته قال له المأمون‏:‏ يا أبا محمد ألك حاجة قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين تحفظه علي من قلبك ما لا أستطيع حفظه إلا بك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ حضرت مجلس الحسن بن سهل وقد كتب لرجل شفاعة فجعل رجل يشكر فقال الحسن‏:‏ يا هذا علام تشكرنا‏.‏

إنا نريد الشفاعات زكوة مروءتنا بلغني أن الرجل يسأل في القيامة عن فضل جاهه كما يسأل عن فضل ماله ولم يزل على وزارة مأمون إلى أن ثارت عليه المرأة السوداء لكثرة خدمة أخيه الفضل لما قيل كما تقدم في ترجمته سنة اثنتين ومائتين‏.‏

وفي سنة ست وثلاثين أيضاً توفي هدبة ‏"‏ بالموحدة ‏"‏ ابن خالد العبسي البصري حافظ قال عبدان‏:‏ كنا لا نصلي خلف هدبة مما يطول كان يسبح في الركوع والسجود نيفاً وثلاثين تسبيحة‏.‏

 سبع وثلاثين ومائتين

فيها غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد القاضي وأهله وصادرهم وأخذ منهم ستة عشر ألف درهم‏.‏

وفيها توفي الشيخ الجليل المكرم العارف بالله حاتم الأصم الناطق بالمعارف المواعظ والحكم المكنى والملقب حين انفجرت فيه ينابيع الحكمة بأبي عبد الرحمن لقمان هذه الأمة‏.‏

قلت‏:‏ وقضته في الوعظ مع قاضي الري محمد بن مقاتل مشهورة واستحسان الإمام أحمد كلامه ومدحه له‏.‏وإنما سمي الأصم ولم يكن به صمم لأن امرأة جاءت تكلمه في شيء فسمع منها صوتاً فخجلت فقال‏:‏ أسمعيني ما تقولين فإني أصم فذهب عنها ما بها نزل من شدة الخجل‏.‏

وفيها توفي وثيمة ‏"‏ بفتح الواو وكسر المثلثة وسكون المثناة من تحت وفتح الميم في أخره هاء ‏"‏ ابن موسى الوشاء الفارسي‏.‏

كان يتخير في الوشي وصنف كتاباً في أخبار الرقة وذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسرايا التي سيرها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وصورة مقاتلتهم وما جرى بينهم وبين المسلمين في ذلك ومن عاد منهم إلى الإسلام وقتال مانعي الزكاة وما جرى لخالد بن الوليد المخزومي مع مالك بن نويرة اليربوعي أخي متمم بن نويرة الشاعر صاحب المراثي المشهورة في أخيه مالك وصورة قتله وما قاله متمم وغيره من الشعر في ذلك وهو كتاب جيد يشتمل على فوائد كثيرة‏.‏

وذكر الواقدي أنه صنف كتاباً في الردة أيضاً أجاده في ذكر جماعة من أجلاء المؤرخين وقالوا‏:‏ كان يتخير في الوشي وهو نوع من الثياب المعموله من الإبريسم وبه عرف جماعة منها وثيمة المذكور وإذا كان مالك المذكور رجلاً ثرثاً نبيلاً يردف الملوك والإرداف إردافان فإن ردف يركب بعدهم على مركوبهم وردف بخلفهم في الحكم إذا قاموا من مجالسهم‏.‏

ومالك المذكور هو الذي يضرب به المثل فيقال‏:‏ مرعى ولا كالسعدان وماء ولا كصداء وفتى ولا كمالك‏.‏

كان فارساً شاعراً مطاعاً في قومه وكان فيه خيلاء وتقدم ذاملة كبيرة وكان يقال له الحفول قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوم من العرب وأسلم فولاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة قومه‏.‏

ولما ارتدت العرب بعد موته عليه السلام بمنع الزكاة كان مالك المذكور في جملتهم ولما خرج خالد بن الوليد لقتالهم في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه نزل على مالك وهو يقدم قومه بني يربوع وقد أخذ مركوبهم وتصرف فيها فكلمه خالد في فقال‏:‏ أنا آتي الصلاة دون الزكاة فقال له خالد‏:‏ أما علمت‏:‏ الصلاة والزكاة معاً لا يلب واحد دون أخرى‏.‏

فقال مالك‏:‏ قد كان صاحبك يقول ذلك قال خالد‏:‏ وما تراه لا صاحباً والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تحاولا في الكلام طويلاً فقال له خالد إني قاتلك قال أو بذلك أمرك صاحبك‏.‏

قال‏:‏ وهذه بعد تلك والله لأقتلنك‏.‏

وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وأبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلما خالداً في أمره فكره كلامهما فقال مالك‏:‏ يا خالداً بعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا فقد بعث إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا فقال خالد‏:‏ لا أقالني الله إن لم أقتلك‏.‏

وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه فالتفت مالك إلى زوجته أم متمم وقال لخالد‏:‏ هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال له خالد‏:‏ بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام فمال مالك‏:‏ أنا على الإسلام فقال خالد‏:‏ لا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه وجعل رأسه أثفية لقدر وكان من أكثر الناس شعراً وكان القدر على رأسه تطبخ الطعام وما خلصت النار إلى سواه من كثرة شعره‏.‏هكذا قيل وقبض خالد إمرأته وقيل إنه اشتراها من الفيء وتزوجها وقيل‏:‏ إنها اعتدت بثلاث حيضات ثم خطبها إلى نفسها فأجابته‏.‏

وقال لإبن عمر وأبي قتادة‏:‏ تحضران النكاح فأبيا وقال له ابن عمر‏:‏ تكتب إلى أبي بكر وتذكر له أمرها فأبى وتزوجها فقال في ذلك أبو زهير السعدي أبياتاً نسب فيها خالداً إلى البغي‏.‏

قلت‏:‏ ومنصب الصحابة منزه عن ذلك يلتمس لهم أحسن المخارج كما ذكر العلماء في قتال بعضهم بعضاً وكما سيأتي من إعتذار أبي بكر رضي الله تعالى عنه لخالد في القضية على ما ذكر بعض المؤرخين‏.‏

ومن أبيات أبي زهير المذكور‏:‏

ألا قل لحي أوطئوا بالسنابك ** تطاول هذا الليل من بعد مالك

فأمضى خالد غير عاطف ** عنان الهوى عنها ولا متمالك

وأصبح ذا أهل وأصبح مالك ** إلى غير شيء هالك في الهوالك

فمن لليتامى والأرامل بعده ** ومن للرجال المعدمين الصعالك

أصيبت تميم عنها وسميتها ** بفارسها المرجو سحت الحوارك

قلت‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ وكان له في ما هو قبل ذلك ‏"‏‏:‏ هكذا هو في الأصل المنقول فيه والصواب فيك التفاتا إلى المرأة لمصبح كسر الكاف من ذلك‏.‏

والحوارك تطلق على كواهل الخيل‏.‏قالوا‏:‏ ولما بلغ الخبر أبا بكر وعمر قال عمر‏:‏ إن خالداً قد زنى فارجمته قال‏:‏ ما كنت لأرجمه فإنه تأول فأخطأ قال‏:‏ فإنه قتل مسلماً فاقتله قال‏:‏ ما كنت لأقتله به إنه فأخطأ قال‏:‏ فاعز له قال‏:‏ ما كنت لأشيم سيفاً سله الله عليهم أبداً‏.‏

يعني ما كنت لأغمده‏.‏

هكذا ذكر هذه الواقعه الواقدي والله أعلم وممن رثاه به أخوه متمم قوله‏:‏ لقد لامني عند القبور على البكاء فبقي لتذراق الدموع السوافك فقالوا‏:‏ أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى والدكادك فقلت له‏:‏ إن الشجي يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبر مالك قلت‏:‏ وقد تقدمت الإشارة إلى أن هذه الأبيات يستشهد بها المجنون وأرباب الشجون على أن الشجى يبعث الشجي وكان قبر كل هالك قبر مالك وكأن سائر الأشجان على بابه شجون كل إنسان‏.‏

 ثمان وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ أقبلت الروم في البحر في ثلاث مائة مركب واهبة عظيمة فكبسوا دمياط وسبوا وأحرقوا وأسرعوا الكرة في البحر فأسروا ست مائة امرأة‏.‏

وفيها توفي الإمام عالم المشرق المحدث إسحاق بن راهويه الحنظلي المروزي النيسابوري الحافظ‏.‏

روي أنه كان يحفظ سبعين ألف حديث ويذاكر بمائة ألف ألف حديث وقال‏:‏ ما سمعت شيئاً قط إلا حفظته ولا حفظت شيئاً فنسيته وجمع بين الحديث والفقه والورع‏.‏

وذكره الدارقطني فيمن روى عن الشافعي وعده البيقهي في أصحاب الشافعي وقد ناظر الشافعي في جواز بيع دور مكة وقد استوفى فخر الدين الرازي صورة ذلك المجلس في كتابه ‏"‏ مناقب الشافعي ‏"‏ فلما عرف إسحاق فضله نسخ كتبه وجميع مصنفاته بمصر‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ إسحاق عندنا من أئمه المسلمين وكان قد رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام وسمع من سفيان بن عيينة وطبقته ومنه سمع البخاري ومسلم والترمذي وعمر قريباً من ثمانين سنة ولقب أبوه براهويه لأنه ولد في طريق مكة والطريق بالفارسية ‏"‏ راه ويه ‏"‏ معناه‏:‏ وجده فكأنه وجده في الطريق‏.‏

وفيها توقي أبو علي النيسابوري الحافظ رحل وأكثر عن أبي بكر بن عياش وابن عيينة وطبقتهما وعرض عليه قضاء نيسابور فاختفى ودعا الله فمات في اليوم الثالث رحمة الله عليه‏.‏

وفيها توفي عبد الملك بن حبيب مفتي الأندلس مصنف ‏"‏ الواضحة ‏"‏‏.‏

وفيها توفني عبد الرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس وقد نيف على الستين وكانت أسامه إثنتين وثلاثين سنة وكان محمود السيرة عادلاً جواداً مفضلاً له نظر في العقليات ويهتم بالجهاد ويقيم للناس الصلاة‏.‏

وفيها توفي أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفي الكوفي المقرىء الحافظ نزيل مصر وقيل في السنة التي قبلها‏.‏

 تسع وثلاثين ومائتين

فيها غزا المسلمون حتى شارفوا القسطنطينية فأغاروا وأحرقوا ألف قرية وقتلوا وسبوا‏.‏

وفيها عزل يحيى بن أكثم من القضاء وصودر وأخذ منه ألف دينار وفيها توفي الحافظ عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي وكان أسن من أخيه أبي بكر رحل وطوف وصنف التفسير والمسند وحضر مجلسه ثلاثون ألفاً‏.‏