فصل: ست وخمسين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 ثمان وأربعين ومائتين

فيها توفي الإمام العالم أبو جعفر أحمد بن صالح الطبري الحافظ‏.‏

قال بعض المحدثين‏:‏ كتبت عن ألف شيخ حجتي فيما بيني وبين الله رجلان أحمد بن صالح وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى‏.‏

وفيها توفي الإمام الفقيه المتكلم الحسين بن علي الكرابيسي البغدادي‏.‏

تفقه على الإمام الشافعي وسمع من إسحاق الأزرق وجماعة وكان متضلعاً من الفقه والأصول والحديث ومعرفة الرجال والكرابيس‏:‏ الثياب الغلاظ‏.‏

وله عدة تصانيف وأخذ عنه الفقه خلق كثير‏.‏

وفيها توفي أمير خراسان طاهر بن عبد الله الخزاعي والمنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله‏.‏

وكانت خلافته سبعة أشهر وعمره ستاً وعشرين سنة وكان مهيباً مليح الصورة كامل العقل محباً في الخير قيل أن أمراء الترك خافوه فلما حم دسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار فقصده بريشة مسمومة وقيل ثم نم في تكثرات وحكي أنه قال لأمه‏:‏ يا أماه

 تسع وأربعين ومائتين

فيها توفي الحسن بن الصباح الإمام أبو علي البرار كان الإمام أحمد يرفع قدراً ويجله ويحترمه‏.‏

وفيها توفي عبد بن حميد الكشي الحافظ أبو محمد صاحب المسند والتفسير‏.‏

وفيها توفي أبو حفص عمرو بن علي الباهلي البصري الصيرفي الفلاس الحافظ أحد الأعلام‏.‏

قال أبو زرعة ذلك من فرسان الحديث‏.‏

 خمسين ومائتين

فيها توفي أبو الحسن أحمد بن محمد البزي المقرىء مؤذن المسجد الحرام وشيخ الإقراء به رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي وقيل في سنة خمس وخمسين ومائتين الإمام أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني النحوي اللغوي المقرىء صاحب المصنفات‏.‏

أخذ العربية عن أبي عبيدة الأصمعي وقرأ القرآن على يعقوب وكتب الحديث على طائفة من المحدثين‏.‏

ولما مات حاتم بلغت قيمة كتبه أربعة عشر ألف دينار فوجه ابن السكيت من اشتراها بدون هذا قليلاً وحابوه فيها‏.‏

قال أبو حاتم المذكور‏:‏ مر رجل براهب فقال له‏:‏ عظني قال‏:‏ أعظكم وفيكم القرآن ومنكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فاتعظ ببيت شعر قاله رجل منكم‏:‏ تجرد من الدنيا فإنك إنما خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد وفيها توفي عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ البصري وقيل بل في سنة خمس وخمسين وهنالك يأتي ترجمته إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها توفي أبو عمرو نصر بن علي الجهضمي البصري الحافظ أحد أوعية العلم‏.‏

كان المستعين قد طلبه ليوليه القضاء فقال لأمير البصرة‏.‏

حتى أرجع فأستخر الله فرجع وصلى ركعتين وقال‏:‏ اللهم إن كان لي عندك خيراً فأقبضني إليك ثم نام فنبهوه فإذا هو ميت‏.‏

وفيها توفي الخليع الحسين بن الضحاك البصري الشاعر‏.‏

كان حسن الإفتنان في ضروب الشعر وأنواعه واتصل في مجالسه الخلفاء ما لم يتصل إليه أحد إلا إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي فإنه قاربه في ذلك وقيل ساواه‏.‏

وأول من صحب منهم الأمين بن هارون الرشيد ثم هلم جراً إلى المستعين‏.‏

وهو في الطبقة الأولى من الشعراء المجيدين بينه وبين أبي نواس مجازاة لطيفة ووقائع ظريفة وسمي خليعاً لكثرة هجوته وخلاعته ومن شعره‏:‏ أطلب بخدي وخديك تلق عجيباً من معان يحار فيها الضمير وله‏:‏ إذا اخنتم بالغيب عهدي تدلون إدلال المقيم على العبد صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الضد وفيها توفي الفضل بن مروان وزير المعتصم وله ديوان شعر ومن كلامه‏:‏ الكتاب كالدولاب إذا تعطل تكسر‏.‏

وكان قد جلس يوماً لقضاء حوائج الناس فرفعت إليه قصص العامة فرأى في جملتها ورقة فيها مكتوب‏:‏ تفرغت يا فضل بن مروان فاعتبر فقبلك كان الفضل والفضل والفضل ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم بأيديهم الإقياد والحبس والقتل فإنك قد أصبحت في الناس ظالماً ستودي كما أودى الثلاثة من قبل أراد بالثلاثة‏:‏ الفضل بن يحيى البرمكي والفضل بن الربيع والفضل بن سهل‏.‏

ثم إن المعتصم تغير على الفضل بن مروان وقبض عليه وقال‏:‏ عصى الله في طاعتي فسلطني عليه‏.‏

ثم خدم بعد ذلك جماعة من الخلفاء‏.‏

 اثنتين خمسين ومائتين

فيها توفي المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي بويع بعد المنتصر وكان أمراء الترك قد استولوا على الأمر وبقي المستعين مقهوراً معهم فتحول من سامراً إلى بغداد غضبان فوجهوا يعتذرون إليه ويسألونه الرجوع فامتنع فعمدوا إلى الحبس وأخرجوا المعتز بالله وخلفوا له‏.‏

وجاء أخوه أبو أحمد لمحاصرة المستعين فتهيأ المستعين ونائب بغداد ابن طاهر للحرب وبنوا سور بغداد ووقع القتال ونصبت المجانيق ودام الحصار أشهراً‏.‏

واشتدت البلاء وكثرت القتلى وجهد أهل بغداد حتى أكلوا الجيف وجرت وقعات عديدة بين الفريقين قتل في وقعة منها نحو الألفين من البغاددة إلى أن كلوا وضعف أمرهم وقوي أمر المعتز بالله‏.‏ثم تخلى ابن طاهر عن المستعين لما رأى من البلاء فكاتب المعتز ثم سعوا في المصالح على خلع المستعين فخلع نفسه على شروط مؤكدة ثم نفذوه إلى واسط فاعتقل تسعة أشهر ثم أحضر إلى سامراء فقتلوه بقادسية سامراء في آخر رمضان وكان مسرفاً في تبذير الجوائز والذخائر‏.‏

وفيها توفي بندار محمد بن بشار البصري الحافظ رحمه الله تعالى‏.‏

فيها وقيل في سنة ست وقيل إحدى وخمسين ومائتين توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير ذو المقامات العلية والأحوال السنية والكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة حب الفضل العديد والعزم السديد والورع الشديد السري السقطي أحد أولاء الطريقة ومعادن أسرار الحقيقة خال الأستاذ أبي القاسم الجنيد وأستاذه وتلميذ الشيخ العارف بالله المقرب المعروف في بغداد بالترياق المجرب معروف القرخي يقال‏:‏ أن السري كان في دكان فجاء معروف يوماً ومعه صبي يتيم فقال‏:‏ اكس هذا قال السري‏:‏ فكسوته ففرح بذلك معروف وقال‏:‏ بغض الله إليك الدنيا‏.‏

وزاد بعضهم في روايته‏:‏ وأراحك مما أنت‏.‏

فقال السري‏:‏ فقمت من الدكان وليس شيء أبغض إلي من الدنيا وكل ما أنا فيه من تركات معروف‏.‏

ويحكى أنه قال‏:‏ منذ ثلاثين سنة أنا في الإستغفار من قولي مرة الحمد لله قيل له‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ وقع ببغداد حريق فاستقبلني إنسان وقال‏:‏ سلم حانوتك فقلت‏:‏ الحمد لله‏.‏

فأنا نادم من ذلك الوقت على ما فعلت حيث أردت لنفسي خيراً من الناس‏.‏وقال أبو قاسم الجنيد‏:‏ دفع إلي السري رقعة وقال‏:‏ هذه خير لك من سبع مائة قصة فإذا فيها‏:‏ ولما ادعيت الحب قالت كذبتني فما لي أرى الأعضاء منك كواشيا فما الحب حتى يلصق الظهر بالحشا وتذبل حتى لا تجيب المناديا وقال أيضاً‏:‏ دخلت على السري يوماً وهو يبكي فقلت‏:‏ ما يبكيك‏.‏

قال‏:‏ جاءتني البارحة الصبية فقالت‏:‏ يا أبت هذه ليلة حارة وهذا الكوز أعلقه ها هنا ثم إني حملتني فنمت فرأيت جارية من أحسن الخلق قد نزلت من السماء فقلت‏:‏ لمن أنت‏.‏

قالت‏:‏ لمن لا يشرب الماء المبرد في الكيزان وتناولت الكوز فضربت به الأرض‏.‏قال الجنيد‏:‏ فرأيت الخزف المكسورة لم يرفعها حتى عفي عليه التراب وفضائل السري ومحاسنه معروفة وأوصافه بالجميل والجمال موصوفة قدس الله أسراره‏.‏

وفيها توفي الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر وصيف التركي وكان من أكبر أمراء الدولة‏.‏

وأبو جعفر أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي السرخسي أحد الفقهاء والأئمة في الأثر رحمة الله عليه‏.‏

 أربع وخمسين ومائتين

فيها توفي العسكري أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بر موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني‏.‏

عاش أربعين سنة وكان متعبداً فقيهاً إماماً استفتاه المتوكل مرة ووصله بأربعة آلاف درهم وهو أحد الأثني عشر الذين تعتظ الشيعة الغلاة عصمتهم‏.‏

وكان قد سعي به إلى المتوكل وقيل له‏:‏ إن في منزله سلاحاً وكتباً وأوهموه أنه يطلب الخلافة فوجه من هجم عليه وعلى منزله فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة وليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل والحصى وهو يترم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد فحمل إليه على الصفة المذكورة فلما رآه عظمه وأجلسه إلى جنبه‏.‏

وكان المتوكل يشرب وفي يده كأس فناوله الكأس الذي في يده فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي وعظمي قط فاعفني عنه‏.‏

فعفاه وقال له‏:‏ أنشدني شعراً أستحسنه فقال‏:‏ إني لقليل الزواية للشعر‏.‏

قال‏:‏ لا بد أن تنشدني فأنشده‏:‏ باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم ينفعهم القلل واستنزلوا بعد إعراض معاقلهم فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعدما قبروا أين الأسرة والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منغمة من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قال‏:‏ فأشفق من حضر على العسكري وظنوا أن بادرة تبدر إليه فبكى المتوكل بكاء طويلاً حتى بلت دموعه لحيته وبكى من حضره ثم أمر برفع الشراب وقال‏:‏ يا أبا الحسن أعليك دين‏.‏

قال‏:‏ نعم أربعة آلاف فأمر بدفعها إليه ورده إلى منزله مكرماً‏.‏

وكانت ولادته في ثالث عشر رجب وقيل في يوم عرفة سنة أربع وقيل ثلاث عشرة ومائتين‏.‏

وقيل له العسكري‏:‏ لأنه لما كثرت السباية في حقه عند المتوكل أحضره من المدينة وكان مولده بها وأقره بسر من رأى وهي تدعى بالعسكر لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره فقيل له‏:‏ العسكر ثم نسب أبو الحسن المذكور إليها لأنه أقام بها عشرين سنة وأشهراً وتوفي بها ودفن في داره رحمة الله عليه‏.‏

وفيها توفي العتبي صاحب العتبة في مذهب مالك وهو محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة الأموي العتبي القطري الأندلسي الفقيه أحد الأعلام ببلده‏.‏

أخذ عن يحيى بن يحيى ورحل فأخذ بالقيروان عن سحنون وبمصر عن أصبغ‏.‏

 خمس وخمسين ومائتين

فيها خرج العلوي بالبصرة ودعا إلى نفسه فبادر إلى إجابة دعوته عبيد أهل البصرة والسودان ومن ثم الزنج والتفت إليه كل صاحب فتنة حتى استفحل أمره وهزم جيوش الخليفة واستباح البصرة وغيرها وفعل الأفاعيل وامتدت أيامه إلى أن قتل في سنة سبع وفيها توفي الإمام الحبر أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن التميمي الدارمي صاحب المسند المشهور ورحل وطوف وسمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وطبقتهما‏.‏

وفيها قتل المعتز بالله أبو عبد الله محمد بن المتوكل خلعوه وأشهد على نفسه كرهاً ثم أدخلوه بعد خمسة أيام حماماً فعطس حتى عاين الموت وهو يطلب الماء بمنع ثم أعطوه ماء بثلج فشربه‏.‏

فسقط ميتاً‏.‏

واختفت أمه وكانت ذات أموال عظيمة منها ياقوت وزمرد وغيرهما من الجواهر قوموها بألفي ألف دينار ولم يكن في خزاين خلافة شيء فطلبوا من أمه مالاً فلم تعطهم فأجمعوا على خلعه ولبسوا السلاح أحاطوا بدار الخلافة وهجم على المعتز طائفة منهم فضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس حافياً ليخلع فيه نفسه فأجاب وأحضروا محمد بن الواثق من بغداد فأول من بايعه معتز بالله ولقبوا محمداً بالمهدي بالله‏.‏وفيها توفي ذو النوادر والغرائب والظرف والعجائب من حوادث الزمان العوارض أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ الكناني الليثي المعتزلي البصري العالم المشهور صاحب التصانيف المفيدة في فنون عديدة له مقالة في أصول الدين وإليه تنسب الفرقة معروفة بالجاحظية من المعتزلة وهو تلميذ إبراهيم بن سيار البلخي المتكلم المشهور ومن أحسن تصانيفه وأوسعها ‏"‏ كتاب الحيوان ‏"‏ لقد جمع فيه كل غريبة وكذلك ‏"‏ كتاب بيان والتبيين ‏"‏‏.‏

وكان مع فضائله مشوه الخليفة‏.‏

وإنما قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين أي ناتئتين ومن جملة أخباره أنه قال‏:‏ ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني فخرجت من عنده ولقيت محمد بن إبراهيم يعني إبراهيم بن المهدي وهو يريد الإنصراف إلى مدينة السلام فعرض علي الخروج معه والإنحدار في حراقته وكان بسر من رأى فركبنا في الحراقة فلما انتهينا إلى فم نهر القاطوع نصب ستارة وأمر بالغناء فاندفعت عوادة فغنت‏:‏ كل يوم قطيعة وعتاب ينقضي دهرنا ونحن غضاب ليت شعري أنا خصصت بهذا دون ذا الخلق أم كذا الأحباب وسكتت فأمر الطنبور فغنت‏:‏ وارحمنا للعاشقين ما أن أرى لهم مغنيا كم يهجرون ويصرمون ويقطعون ويضربونا قال فقالت لها العوادة‏:‏ فيصنعون ماذا‏.‏

قالت‏:‏ هكذا يصنعون وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها وبرزت كأنها فلقة قمر فألقت نفسها في الماء وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مذبة فأتى الموضع ونظر إليها وهي تصير بين الماء فأنشد‏:‏ وألقى نفسه في الماء في إثرها فأدار الملاح الحراقة فإذا بهما معتنقين ثم غاصاً فلم يريا فاستعظم محمد ذلك وهاله أمره ثم قال‏:‏ يا عمرو لتحدثني ما يسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما قال‏:‏ فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص فمرت به قصة فيها‏:‏ إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلى جارية حتى تغني ثلاثة أصوات فعل‏.‏

فاغتاظ يزيد من ذلك وأمر أن يخرج إليه ويأتيه برأسه أتبع الرسول رسولاً آخر يأمره أن يدخل إليه الرجل فأدخله فلما وقف بين يديه قال له‏:‏ ما الذي حملك على ما صنعت قال‏:‏ الثقة بحلمك والإتكال على عفوك‏.‏

فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج ثم أمر بالجارية فأخرجت ومعها عودها فقال له الفتى‏:‏ غني‏:‏ أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي فغنته فقال له يزيد‏:‏ قل قال‏:‏ غني‏:‏ تألق البرق نجدياً فقلت له يا أيها البرق إني عنك مشغول فغنته قال له يزيد‏:‏ قل قال‏:‏ تأمر لي برطل شراب فأمر له به فما استتم شرابه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد ورمى نفسه على دماغه فمات‏.‏

فقال يزيد‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون أتراه الأحمق الجاهلي ظن أني أخرج إليه جاريتى‏.‏وأردها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها عنه‏.‏

فانطلقوا بها إلى أهله فلما توسطت الدار نظرت إلى حفرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت‏:‏ من مات عشقاً فليمت هكذا لا خير في عشق بلا موت فألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت فسري عن محمد وأجزل صلتي وقال أبو القاسم السيرافي‏:‏ حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد فجرى ذكر جاحظ فقص عنه بعض الحاضرين وأزرى به وسكت الوزير عنه فلما خرج الرجل قلت‏:‏ اسكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله فقال‏:‏ لم أجد في مقابلة مقالته أبلغ من تركه على جهله ولو وافيته وبينت له النظر في كتبه صار لك إنساناً يا أبا القاسم‏.‏

فكتب الجاحظ‏:‏ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً‏.‏

ولم أستصلحه لذلك قلت‏:‏ يعني لم أره أهلاً لذلك‏.‏

وكان الجاحظ في أواخر عمره قد أصابه الفالج وكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته والنصف الأيسر لو قرض مقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده‏.‏

وكان يقول في مرضه‏:‏ اصطلحت على جسدي الأضداد‏:‏ إن أكلت بارداً أخذ برجلي وإن أكلت حاراً أخذ برأسي‏.‏

أنا من جانبي الأيسر مفلوج لو قرض بالمقاريض ما علمت ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به‏.‏الذباب لتألمت وبي حصاة لا ينشرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة‏.‏

وكان ينشد‏:‏

أترجو أن تكون وأنت شيخ ** كما قد كنت أيام الشباب

لقد كربتك نفس لبس ثوب ** دريس كالجديد من الثياب

وحكى بعض البرامكة قال‏:‏ كنت توليت السند فأقمت بها ما شاء الله ثم اتصل بي انصرفت عنها وكنت قد كسبت ثلاثين ألف دينار فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه فصنعته عشرة آلاف أهليلجة وكل أهليلجة ثلاثة مثاقيل‏.‏

ولم يمكث الصارف أن أتى فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة فخبرت أن الجاحظ بها أنه عليل بالفالج فأحببت أن أراه قبل وفاته فصرت إليه فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته فخرجت إلي خادمة صفراء فقالت‏:‏ من أنت‏.‏

فقلت رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادمة ما قلته فسمعته يقول‏:‏ قولي له‏:‏ وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حابل فقلت للجارية‏:‏ لا بد من الوصول إليه فلما بلغته قال‏:‏ هذا رجل اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فأراد الإجتماع بي ليقول‏:‏ قد رأيت الجاحظ‏.‏

ثم أذن لي فدخلت فسلمت عليه فرد علي رداً جميلاً وقال‏:‏ من تكون أعزك الله تعالى فانتسبت له فقال‏:‏ رحم الله أسلافك وآباءك السمحاء فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة ولقد انجيز بهم خلق كثير فسقياً لهم ورعياً‏.‏

فدعوت له وقلت له‏:‏ أسألك أن تنشدني شيئاً من الشعر فأنشدني‏:‏ لئن قدمت قبلي رجال فطالما شئت على رسلي فكنت المقدما ولكن هذا الدهر تأتي صروفه فتبرم منقوضاً وتنقض مبرما ثم نهضت فلما قاربت الدهليز قال‏:‏ يا فتى أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج قلت لا قال‏:‏ إن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه فقلت‏:‏ نعم وخرجت متعجباً من وقوفه على خبري مع كتماني‏.‏

وبعثت إليه مائة إهليلجة وقال أبو الحسن البرمكي أنشدني الجاحظ‏:‏ وكان لنا أصدقاء مضوا تفانوا جميعاً فما خلدوا سقاهم جميعاً كؤوس المنون فمات الصديق ومات العدو قلت‏:‏ كان المناسب لقوله‏:‏ ‏"‏ فمات الصديق ومات العدو ‏"‏ أن يذكر الأعداء الأصدقاء في البيت الأول فيقال لنا‏:‏ أصدقاء مضوا مع أعداء فيكون قوله في آخر البيت الأخير‏:‏ فمات الصديق ومات العدو مطابقاً لأول الأول‏.‏

 ست وخمسين ومائتين

كان صالح بن وصيف التركي قد ارتفعت منزلته وقتل المعتز وظفر بأمه فصادر حتى استصفى نعمتها وأخذ منها نحو ثلاثة آلاف ألف دينار ونفاها إلى مكة ثم صادر خاصة المعتز وكتابه وقتل بعضهم‏.‏

فلما دخلت السنة المذكور أقبل موسى بن بغا وعبأ جيشه ودخلوا سامراء ملبسين مجمعين على قتل صالح بن وصيف وهم يقولون‏:‏ قتل المعتز وأخذ أموال أمه وأموال الكتاب‏.‏

وصاحت العامة‏:‏ يا فرعون جاءك موسى‏.‏

ثم هجم بمن معه على المهتدي وأركبوه فرساً وانتهبوا القصر ثم أدخلوا المهتدي دار ناجور ‏"‏ بالنون والجيم والراء على ما ضبطه في الأصل المنقول منه ‏"‏ وهو يقول‏:‏ يا موسى ويحك ما تريد فيقول‏:‏ وتربة المتوكل لا ينالك سوء‏.‏

ثم حلفوه لا يمالىء صالح ابن وصيف عليهم وبايعوه فطلبوا صالحاً ليناً ظروه على أفعاله فأخرج وردوا المهتدي إلى داره وبعد شهر قتل صالح‏.‏

وفي رجب قتل المهتدي بالله أمير المؤمنين محمد بن الواثق بالله هارون بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي‏.‏

وكانت دولته سنة وعمره نحو ثمان وثلاثين سنة‏.‏

وكان مليح الصورة ورعاً تقياً متعبداً عادلاً شجاعاً قوياً في أمر الله تعالى خليقاً للإمارة لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الخير‏.‏

وقيل‏:‏ إنه سرد الصوم مدة أمرته وكان يقنع بعض الليالي بخبز وخل وزيت وكان يشبه بعمر بن عبد العزيز وورد أنه كان له جبة صوف وكساء يتعبد فيهما لله وكان قد سد باب الملاهي والغناء وحسم الأمراء عن الظلم‏.‏

وكان يجلس بنفسه لعمل حساب الدواوين ثم إن الأتراك خرجوا عليه فلبس السلاح وشهر سيفه وحمل عليهم فأسروه وخلعوه ثم قتلوه إلى رحمة الله وأقاموا بعده المعتمد على الله‏.‏

وفيها توفي أبو عبد الله الزبير المعروف بابن بكار القرشي الأسدي الزبيري كان من أعيان العلماء تولى قضاء مكة وصنف الكتب النافعة منها ‏"‏ كتاب أنساب قريش ‏"‏ جمع فيه كثيراً وعليه إعتماد الناس في معرفة أنساب القرشيين‏.‏

وله مصنفات غيره دلت على فضله واطلاعه‏.‏

روى عن ابن عيينة ومن في طبقته وروى عنه ابن ماجة القزويني وابن أبي الدنيا وغيرهما وتوفي بمكة وهو قاض عليها وعمره أربع وثمانون سنة‏.‏

وفي ليلة عيد الفطر منها توفي البخاري الحافظ الإمام قدوة الأنام وعالي المقام جامع أصح الكتب المصنفة في السنن والأحكام إمام المحدثين وشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزية البخاري مولى الجعفيين صاحب الجامع الصحيح وغيره من التصانيف ولد سنة أربع وتسعين ومائة ورحل سنة عشرة ومائتين فسمع مكي بن إبراهيم وأبا عاصم النبيل وخلائق عدتهم ألف شيخ وكتب بخراسان والجبال والعراق والحجاز والشام ومصر وقدم بغداد فاجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله بفضله وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية‏.‏

وحكى أبو عبد الله الحميدي في كتاب ‏"‏ جذوة المقتبس ‏"‏ والخطيب في ‏"‏ تاريخ بغداد ‏"‏ البخاري لما قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأعدوا له مائة حديث متونها وأسانيدها وجعلوا متن كل واحد لإسناد آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل واحد عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري وعين الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خرسان وغيرها‏.‏

ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب أو قال‏:‏ ابتدر واحد لعشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري‏:‏ لا أعرفه فسأله عن آخر فقال‏:‏ لا أعرفه فما زال يلقي عليه واحد بعد واحد حتى فرغ من عشرة ثم كذلك كل واحد من العشرة جعلوا يسألونه عن الأحاديث المذكورة واحد بعد واحد والبخاري يقول‏:‏ لا أعرفه‏.‏

وكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعضهم ويقولون‏:‏ الرجل منهم‏.‏

وما كان منهم ضد ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم وقال‏:‏ أما حديثك الأول فهو كذا وأما الثاني فهو كذا وكذلك الثالث والرابع وباقي أحاديثه إلى تمام العشرة على الولاء يرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه‏.‏

ثم كذلك فعل بكل واحد من التسعة حتى رتب المائة جميعها كل واحد منها في موضعه إسناداً ومتناً فأقر له الناس بالحفظ فاعترفوا له بالفضل‏.‏

وكان ابن صاعد إذا ذكره يقول‏:‏ الكيس النطاح‏.‏ونقل الفربري عنه أنه قال‏:‏ ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين‏.‏

وعنه أنه قال‏:‏ صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة خرجته من ست مائة ألف حديث وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى أن سنن أبي داود خرجها من خمس مائة ألف حديث‏.‏

وقال الفربري‏:‏ سمع صحيح البخاري يعني عليه تسعون ألف رجل فما بقي أحد يروي عنه غيري‏.‏وممن روى عنه أبو عيسى الترمذي‏.‏

وكانت ولادة البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة وقيل اثنتي عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة‏.‏وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر رحمة الله عليه ورضوانه‏.‏