فصل: سبع وتسعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 ست وتسعين ومائتين

فيها مات ابن المعتز مات مخنوقاً وذلك أنه لما دخلت هذه السنة والملأ يستصعبون المقتدر ويتكلمون في خلافته فاتفق طائفة على خلعه وخاطبوا عبد الله بن المعتز فأجاب بشرط أن لا يكون فيها حرب‏.‏

وكان رأسهم محمد بن داود الجراح وأحمد بن يعقوب القاضي والحسين بن حمدان واتفقوا على قتل المقتدر ووزيره العباس بن الحسين وفاتك الأمير‏.‏

فلما كان عاشر ربيع الأول ركب الحسين بن حمدان والوزير والأمراء فشد ابن حمدان على الوزير فقتله فأنكر قتله فعطف على فاتك فألحقه بالوزير ثم ساق ليثلث بالمقتدر وهو يلعب بالصوالجة فسمع الهيعة فدخل الدار وأغلقت الأبواب‏.‏

ثم نزل ابن حمدان بدار سليمان بن وهب واستدعى ابن المعتز وحضر الأمراء والقضاة سوى خواص المقتدر فبايعوه ولقبوه ‏"‏ الغالب بالله ‏"‏ وقيل‏:‏ الراضي بالله المرتضي بالله فاستوزر ابن الجراح واستحجب عن الخادم ونفذت الكتب لخلافته إلى البلاد وأرسلوا إلى المقتدر ليتحول من دار الخلافة ولم يكن معه غير مؤنس الخادم ومؤنس الخازن وخاله الأمير وتحضنوا وأصبح الحسين بن حمدان على محاصرتهم فرموه بالنشاب وتناحوا ونزلوا على خيمته وقصدوا ابن المعتز فانهزم كل من حوله وركب ابن المعتز فرساً ومعه وزيره وصاحبه وقد شهر سيفه وهو ينادي‏:‏ معاشر العامة ادعوا لخليفتكم‏.‏

وقصد سامراء ليثبت بها أمره فلم يتبعه كثير أحد وخذل فنزل عن فرسه فدخل دار ابن الجصاص واختفى وزيره ووقع النهب والقتل في بغداد وقتل جماعة من الكبار واستقام الأمر للمقتدر‏.‏

ثم أخذ ابن المعتز وقتل سراً سلمه المقتدر إلى مؤنس الخادم فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفاً في كساء وصودر ابن الجصاص‏.‏

وقام بأعباء الخلافة الوزير ابن وأما الحسين بن حمدان فأصلح أمره وبعث إلى بعض الولايات وابن المعتز المذكور وهو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي‏.‏

أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما وكان أديباً بليغاً شاعراً مطبوعاً مقتدراً على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة حسن الإبداع للمعاني مخالطاً للعلماء والأدباء معدوداً من جملتهم إلى أن جرت له الكاتبة المذكور في خلافة المقتدر وله من التصانيف ‏"‏ كتاب الزهرة والرياض ‏"‏ و ‏"‏ كتاب مكاتبات الشعر ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الجوارح ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الصيد ‏"‏ و ‏"‏ كتاب السرقات ‏"‏ و ‏"‏ كتاب أشعار الملوك ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الآداب ‏"‏ و ‏"‏ كتاب حلي الأخبار ‏"‏ و ‏"‏ كتاب طبقات الشعراء ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الجامع في العلم ‏"‏ و ‏"‏ كتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح ‏"‏‏.‏

ومن كلامه‏:‏ البلاغة البلوغ إلى المعنى وكان يقول‏:‏ لو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه‏.‏

لقلت‏:‏ قول العباس ابن الأحنف‏:‏ قد سحب الناس أذيال الطنون بنا وفرق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظن غيركم وصادق ليس يدري أنه صدقا ورثاه علي بن محمد بن بسام يقول‏:‏ لله دره من ميت بمضيقة ناهيك في العلم والآداب والحسب ولإبن المعتز أشعار رائقة وتشبيهات فائقة من ذلك قوله‏:‏ كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى نظير غراباً ذا قوادم جون يعني بالجون بفتح الجيم الأبيض ويطلق على الأسود أيضاً لأنه من أسماء الأضداد فشبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصباح بأشخاص الغربان ثم شرط أن يكون قوادم ريشها بيضاً لأن ذلك البياض يقع من الظلمة في حواشيها من حيث يلي معظم الصبح‏.‏وعموده ولمع نوره يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض وجعل ضوء الصبح لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل كأنه يدفع الدجى ويستعجله ولا يرضى بأن يتمهل في حركته‏.‏وفيها السنة المذكورة توفي المحدث أبو جعفر محمد بن حماد‏.‏

وفيها توفي أحمد بن يعقوب القاضي أحد من قام في خلع المقتدر احتساباً ذبح صبراً‏.‏

وفيها توفي محمد بن داود بن الجراح الإخباري العلامة صاحب المصنفات وكان أوحد زمانه في معرفة أيام الناس‏.‏

 سبع وتسعين ومائتين

فيها توفي الحافظ ابن الحافظ ابن الحافظ‏:‏ محمد بن أحمد بن زهير بن حرب كان أبوه يستعين وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير إمام السالكين وقدوة العارفين أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي شيخ الصوفية أحد الخمسة المقتدى بهم في زمانهم الجامعين بين علم الباطن والظاهر صاحب التصانيف في الطريقة كبير الشأن في أسرار الحقيقة‏.‏

وفيها توفي الإمام البارع محمد بن داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري الفقيه أبو بكر أحد أذكياء زمانه صاحب ‏"‏ كتاب الزهرة ‏"‏‏.‏

تصدر للإشتغال والفتوى‏.‏

كان فقيها أديباً شاعراً ظريفاً وكان يناظر أبا العباس بن شريح‏.‏

وسيأتي ذكر شيء من ذلك في ترجمة ابن شريح‏.‏

ولما توفي أبوه داود جلس في حلقته وكان على مذهبه فاستصغروه فدشوا إليه رجلاً وقالوا‏:‏ سله عن حد الشكر فسأله‏:‏ متى يكون الإنسان في داخلاً في حد السكران فقال‏:‏ إذا ضربت عنه الهموم وباح بسره المكتوم فاستحسن منه ذلك وعلم موضعه العلم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذي ذكره في حد السكر هو الذي نقله أصحابنا عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وإن اختلفا في بعض اللفظ والعبارة فعبارة الشافعي‏:‏ إنه الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم‏.‏

وروى الشيخ الإمام أبو إسحاق بسنده في الطبقات‏:‏ إن ابن داؤد المذكور جاءته امرأة فقالت له‏:‏ ما تقول في رجل له زوجة لا هو يمسكها ولا هو يطلقها‏.‏

فقال‏:‏ اختلف في ذلك أهل العلم فقال قائلون‏:‏ يؤمر بالصبر والإحتساب وتبعث على التطلب والإكتساب وقال قائلون‏:‏ تؤمر بالإتفاق ولا يحمل على الطلاق‏.‏

فلم تفهم المرأة قوله وأعاد مسألتها فقال لها‏:‏ يا هذه قد أجبتك عن مسألتك وأرشدتك إلى طلبتك ولست بسلطان فأمضي ولا قاض فأقضي ولا زوج فأرضي فانصرفت ولم تفهم جوابه‏.‏

وصنف ابن داود كتابه ‏"‏ الزهرة ‏"‏ المذكور في عنفوان شبابه وهو مجموع أدب أتى فيه‏.‏

بكل غريبة ونادرة وشعر رائق‏.‏

واجتمع يوماً هو وأبو العباس بن شريح في مجلس الوزير ابن الجراح فتناظرا في الإيلاء فقال له ابن شريح‏:‏ أنت تقول‏:‏ من كثرت لحظاته دامت حسراته أبصر منك بالكلام في الإيلاء‏.‏

فقال له ابن داود‏:‏ لئن قلت ذلك فإني أقول‏.‏

أنزه في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي أن تنال محرما وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه يصب على الصخر الأصم تهدما وينطق طرفي عن مترجم خاطري فلولا اختلاسي ورده لتكلما رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم فما أن حيا صحيحاً مسلماً فقال له ابن شريح‏:‏ ولم تفخر علي‏.‏

ولو شئت أنا أيضاً لقلت‏:‏ ظناً بحسن حديثه وغنائه وأكدر اللحظات في وجناته حتى إذا ما الصبح لاح عموده ولي بخاتم ربه وبراته فقال ابن داود‏:‏ نحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل أنه ولي بخاتم ربه فقال ابن شريح‏:‏ يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك‏.‏

أنزه في روض المحاسن مقلتي وأمنع نفسي أن تنال محرما فضحك الوزير وقال‏:‏ لقد جمعتم ظرفا ولطفاً وفهماً وعلماً‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ فإن اعترض معتوض وقال‏:‏ لا يلزم ابن داود ما ادعاه ابن شريح في قول ابن داود‏:‏ ‏"‏ أنزه في روض المحاسن مقلتي ‏"‏ البيت لأن الروض الحقيقي لا يلزم بالنظر إليه ارتكاب محرم‏.‏قلت‏:‏ القرينة دالة من لفظه على أنه لم يرد بالروض حقيقته وإنما أراد الإستعارة المجازية‏.‏

والشاهد عليه قوله في عجز البيت‏:‏ ‏"‏ وأمنع نفسي أن تنال محرما ‏"‏ وهو مفهوم أيضاً من صدر البيت أعني قوله‏:‏ روض المحاسن فأضاف الروض إلى المحاسن‏.‏

وكان ابن داود المذكور عالماً في الفقه وله تصانيف عديدة منها‏:‏ ‏"‏ كتاب الوصول إلى المعرفة الأصول ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الإنذار ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الأعذار ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الإنتصار ‏"‏ على محمد بن جرير وعبد الله بن سرسير وعيسى بن إبراهيم الضرير وغير ذلك‏.‏

توفي رحمه الله يوم الإثنين تاسع شهر رمضان من السنة المذكورة وعمره إثنان وأربعون سنة‏.‏

وفي يوم وفاته توفي القاضي يوسف بن يعقوب الأزدي‏.‏

قلت‏:‏ ونقل ابن خلكان عنه حكاية لا تصح فإنه قال‏:‏ ويحكى أنه لما بلغته وفاة ابن شريح كان يكتب شيئاً فألقى الكراسة من يده وقال‏:‏ ما كنت أحث نفسي وأجهزها على الإشتغال لمناظرته ومقاومته‏.‏

فإن ظاهر هذا اللفظ أن ابن داود هو الذي بلغته وفاة ابن شريح فقال هذا القول وهذا لا يصح لأن ابن شريح مات بعده في سنة ست وثلاثمائة اللهم إلا أن يكون أسقط الكاتب من اللفظ شيئاً أعني‏:‏ قال‏:‏ بلغت وفاته بإثبات التاء قبل الهاء فأسقطها الكاتب‏.‏

ومع هذا فهو بعيد أيضاً لكونه يقتضي أن الإمام المنتجب الملقب بالباز الأشهب أبا العباس بن شريح ما كان يصنف إلا لمناظرة ابن داود الظاهري‏.‏

نعم يحكى عنه أنه لما مات تأسف كيف تأكل الأرض مثله‏.‏

والله أعلم بذلك‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الحافظ ابن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة‏.‏

وفيها توفي القاضي يوسف بن يعقوب كما تقدم‏.‏

 ثمان وتسعين ومائتين

وفيها توفي أستاذ الطريقة وحامل لواء الحقيقة سيد الطائفة تاج العارفين قطب العلوم أبو القاسم الجنيد بن محمد القواريري الخزاز ‏"‏ بالخاء المعجمة والزاي المشددة المكررة ‏"‏ قدس الله تعالى روحه‏.‏

وقيل‏:‏ سنة سبع وقيل‏:‏ ست صحب خاله السري السقطي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهما من جلة المشايخ‏.‏

وممن صحبه من جلة الأئمة وأعلام الأئمة أبو العباس بن شريح الفقيه الشافعي المنتخب في العلوم المقتحم للخصوم‏.‏

كان إذا تكلم في الأصول والفروع بكلام يعجب الحاضرين يقول لهم‏:‏ أتدرون من أين لي هذا‏.‏

هذا من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد‏.‏

وأصل الجنيد من نهاوند ومولده ومنشأه العراق‏.‏

وكان شيخ وقته وفريد عصره وكلامه في الطريقة وأسرار الحقيقة مشهور مدون تفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي وقيل بل كان فقيهاً على مذهب سفيان الثوري‏.‏

وسئل عن العارف من هو‏.‏

فقال من نطق عن شركه وأنت ساكت وكان يقول‏:‏ مذهبنا هذا مقيد بالأصول والكتاب والسنة‏.‏

وروي يوماً وفي يده سبحة فقيل له‏:‏ أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة‏.‏

فقال طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه‏.‏

وقال‏:‏ قال لي خالي السري‏:‏ تكلم على الناس وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك فرأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت ليلة الجمعة‏.‏

فقال لي‏:‏ تكلم عل الناس وأتيت باب السري قبل أن أصبح فدققت الباب فقال لي‏:‏ لم تصدق حتى قيل لك فقعدت في غد للناس بالجامع وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس فوقف علي غلام نصراني متنكراً وقال‏:‏ أيها الشيخ ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ‏"‏ فأطرقت ساعة ثم رفعت رأسي وقلت له أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام‏.‏قلت‏:‏ والناس يعتقدون أن في هذا للجنيد كرامة وأقول‏:‏ فيه كرامتان‏:‏ إحداهما‏:‏ اطلاعه على كفر الغلام‏.‏والثانية‏:‏ اطلاعه على أنه سيسلم في الحال‏.‏

وكل ذلك باطلاع الله تعالى له تفضيلاً وإكراماً وتخصيصاً وإنعاماً وإن لم يكن ذلك مطرداً فقد يعطي الكرامة المفضول ويمنع الفاضل وعن أبي القاسم الجنيد أنه قال‏:‏ ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها قيل له‏:‏ وما هي قال‏:‏ مررت بدرب القراطين فسمعت جارية تغني من دار فأنصت لها فسمعتها تقول‏:‏ إذا قلت أبدى الهجر لي حلل البلا تقولين‏:‏ لولا الهجر لم يطب الحب فصفقت وصيحت فبينا أنا كذلك إذا أنا بصاحب الدار قد خرج فقال‏:‏ ما هذا يا سيدي فقلت‏:‏ ما سمعت فقال‏:‏ أشهد أنها هبة مني لك فقلت‏:‏ وقد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى‏.‏

ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرباط فولدت له ولداً نبيلاً ونشأ أحسن نشوء وحج على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة‏.‏

وأخبار الجنيد كثيرة ومناقبه شهيرة وسيرته حميدة وكراماته عديدة‏.‏

قيل‏:‏ توفي آخر ساعة من نهار الجمعة وقيل غير ذلك ودفن بالشونيزية عند خاله السري‏.‏وكان عند موته قد ختم القرآن ثم ابتدأ بقراءته فقرأ سبعين آية من البقرة ثم مات‏.‏

وإنما قيل له الخزاز لأنه كان يعمل الخز وإنما قيل له القواريري‏:‏ لأن أباه كان قواريرياً‏.‏

قلت‏:‏ وذكر بعض المشايخ أنه لما صنف عبد الله بن سعيد بن كلاب كتابه الذي رد فيه على جميع المذاهب قال‏:‏ هل بقي أحد قيل له‏:‏ نعم بقي طائفة يقال لها الصوفية قال‏:‏ فهل لهم من إمام يرجعون إليه‏.‏

قيل‏:‏ نعم الأستاذ أبو القاسم الجنيد‏.‏

فأرسل إليه فسأله عن حقيقة مذهبه فرد عليه الجنيد الجواب بأن مذهبنا إفراد القدم عن الحدث وهجران الإخوان والأوطان ونسيان ما يكون وما كان‏.‏

فلما سمع ابن كلاب هذا الجواب تعجب من ذلك وقال‏:‏ هذا شيء أو قال‏:‏ كلام لا يمكن فيه المناظرة‏.‏

ثم حضر مجلس الجنيد وسأله عن التوحيد فأجابه بعبارة مشتملة على معارف الأسرار والحكم فقال‏:‏ أعد علي ما قلت فأعاده لا بتلك العبارة فقال‏:‏ هذا شيء آخر‏.‏

فأعده علي فأعاده بعبارة أخرى فقال‏:‏ ما يمكننا حفظ ما تقول فأمله علينا فقال‏:‏ لو كنت أجريه كنت أمليه فقال بفضله واعترف بعلو شأنه‏.‏

قلت‏:‏ وإلى قوله‏:‏ لو كنت أجريه كنت أمليه أشرت على لسان صاحب الحال الجاري على لسانه كلام بغير اختيار على طريق التغزل بسلمى ويشبهها حيث أقول حاكياً لكلام شيخنا قدس الله تعالى روحه‏.‏

في حال غيبته بالحال الوارد عليه‏:‏ وما قلت قولاً غير أني أعرتها لساني فأومت للهوى يتكلم فأسرارها منها علمت وعندما شكرت جليسي شرها منه يعلم أعني‏:‏ يعلم الجليس السر الجاري على لسان المتكلم بواسطة الهوى المشار إليه بالتكلم من جهة المحبوب المكنى عنه سلمى تستر‏.‏

وروي عن بعض المشايخ الصوفية الجلة أنه قال‏:‏ قال لي الكعبي من كبار أئمة المعتزلة رأيت لكم شيخاً ببغداد يقال له الجنيد ما رأت عيني مثله كانت الكتبة يحضرونه لألفاظه والفلاسفة لدقة كلامه والشعراء لفصاحته والمتكلمون لمعانيه وكلامه ناء عن فهمهم وكان رضي الله تعالى عنه من صغره منطقاً بالمعارف والحكم حتى أن خاله السري سئل عن الشكر والجنيد يلعب مع الصفار فقال له‏:‏ ما تقول يا غلام‏.‏

فقال‏:‏ الشكر أن لا تستعين بنعمة على معاصيه فقال السري‏:‏ ما أخوفني عليك أن يكون حظك في لسانك‏.‏

قال الجنيد‏:‏ فلم أزل خائفاً من قوله هذا حتى دخلت عليه يوماً وجئته بشيء كان محتاجاً إليه فقال لي‏:‏ أبشر فإني دعوت الله عز وجل أن يسوق لي ذلك على يد مفلح أو قال‏:‏ موفق اللهم إنا نسألك التوفيق ونعوذ بك من الخذلان والتعويق بجاه نبيك الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم‏.‏

وعن الأستاذ أبي القاسم المذكور أنه قال‏:‏ دخلت الكوفة في بعض أسفاري فرأيت داراً لبعض الرؤساء وقد سف عليها النعيم وعلى بابها عبيد وغلمان وفي بعض رواشتها جارية تغني وتقول‏:‏ ألا يا دار لا يدخلك حزن ولا يعبث بساكنك الزمان فنعم الدار أنت لكل ضيف إذا ما الضيف أعوزه المكان قال‏:‏ ثم مررت بعد مدة فإذا الباب مسود والجمع مبدد وقد ظهر عليها كآبة الذل والهوان وأنشد لسان الحال‏:‏ ذهبت محاسنها وبان شجونها والدهر لا يبقي مكاناً سالماً فاستبدلت من أنسها بتوحش ومن السرور بها عزاء وغما قال‏:‏ فسألت عن خبرها فقيل لي‏:‏ مات صاحبها فآل أمرها إلى ما ترى‏.‏

فقرعت الباب الذي كان لا يقرع فكلمتني جارية بكلام ضعيف فقال لها‏:‏ يا جارية أين بهجة هذا المكان‏.‏

وأين أنواره وأين شموسه وأين أقماره‏.‏

وأين قصاده‏.‏

وأين زواره فبكت ثم قالت‏:‏ يا شيخ كانوا فيه على سبيل العلوية ثم نقلتهم الأقدار إلى دار القرار وهذه عادة الدنيا ترحل من سكن فيها وتسيء إلى من أحسن إليها‏.‏

فقلت لها‏:‏ يا جارية مررت بها في بعض الأعوام وفي هذا الروشن جارية تغني‏:‏ ‏"‏ ألا يا دار لا يدخلك حزن ‏"‏ فبكت وقالت‏:‏ أنا والله تلك الجارية لم يبق من أهل هذه الدار أحد غيري فالويل لمن غرته دنياه‏.‏

فقلت لها‏:‏ فكيف قربك القرار في هذا الموضع الخراب فقالت لي‏:‏ ما أعظم جفاءك أما كان هذا منزل الأحباب ثم أنشأت‏:‏

قالوا اتغتي وقوفاً في منازلهم ** وليس مثلك لا يغني بحملها

فقلت والقلب قد ضجت أضالعه ** والروح تنزع والأشواق تبدلها

منازل الحب في قلبي معظمة ** وإن خلا من نعيم الوصل منزلها

فكيف أتركها والقلب يتبعها ** حباً لمن كان قبل اليوم ينزلها

قال‏:‏ فتركتها ومضيت وقد وقع شعرها من قلبي موقعاً وأزاد قلبي تولعاً‏.‏

هذه الترجمة لأبي القاسم الجنيد في منزلي في بعض الليالي وأنا حينئذ في المدينة الشريفة وكانت زوجتي زينب بنت القاضي نجم الدين الطبري تسمع قراءتها فذكرت في تلك الليلة شيئاً من هذه الحكاية مما كان على ذهني منها‏.‏

ثم أردت أن أكتبها وألحقها بالترجمة المذكورة لنسمعها في ليلة أخرى زوجتي المشار إليها فما تيسرت كتابتها إلا اليوم الثالث من موتها ولا قرأنا شيئاً من هذا التاريخ في بيتها سوى ليلة وقد نزل مرض الموت بها رحمها الله تعالى وأنزلها‏.‏

داراً خيراً من دارها‏.‏وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله تعالى الشهير أبو عثمان الحيري ‏"‏ بكسر الحاء المهملة والراء وسكون الياء المثناة من تحت بينهما ‏"‏ سعيد بن إسماعيل شيخ نيسابور في زمانه وواعظها وكبير الصوفية بها‏.‏

صحب الشيخ الكبير الجليل أبا حفص النيسابوري وكان كبير الشأن مجاب الدعوة‏.‏

 تسع وتسعين ومائتين

فيها توفي شيخ نيسابور أبو عمرو الخفاف أحمد بن نصر الحافظ الزاهد‏.‏

سمع إسحاق بن راهويه‏.‏وقال ابن خزيمة يوم وفاته‏:‏ لم يكن بخراسان أحفظ للحديث منه‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان البغدادي النحوي صاحب التصانيف في القراءة والجريب والنحو‏.‏

وكان أبو بكر بن مجاهد يعظمه ويطريه ويقول‏:‏ هو أنحى من الشيخين‏.‏

يعني ثعلباً والمبرد‏.‏

 ثلاث مائة

فيها توفي صاحب الأندلس‏:‏ أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأموي‏.‏

وكانت دولته خمساً وعشرين سنة‏.‏

ولي بعد أخيه المنذر وكان ذا صلاح وعبادة وعدل وجهاد يلتزم الصلوات في الجامع وله غزوات كبار أشهرها غزوة ابن حفصون وكان ابن حفصون في ثلاثين ألفاً وهو في أربعة عشر ألفاً فالتقيا فانكسر ابن حفصون وتبعه عبد الله يأسر ويقتل حتى لم ينج منهم أحد‏.‏

وكان ابن حفصون من الخوارج‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن سعيد العسكري أحد أركان الحديث‏.‏

وأبو الحسين مسدد بن قطن النيسابوري‏.‏

قال الحاكم‏:‏ كان مربي عصره والمقدم في الزهد والورع‏.‏

وفيها توفي أبو أحمد يحيى بن علي المعروف بابن المنجم‏.‏

كان أول أمره نديم الموفق طلحة بن المتوكل على الله وكان الموفق نائباً عن أخيه المعتمد على الله ولم يل الخلافة ثم نادم يحيى المذكور الخلفاء بعد الموفق واختص بمنادمة المكتفي بالله وعلت رتبته عنده وتقدم على خواصه وجلسائه‏.‏

وكان متكلماً معتزلي الإعتقاد وله في ذلك كتب كثيرة‏.‏

وكان له مجلس يحضره جماعة من المتكلمين بحضره المكتفي وله مع المعتضد وقائع ونوادر‏.‏

من ذلك أنه قال‏:‏ كنت يوماً بين يدي المعتضد وهو مغضب فأقبل بدر مولاه وهو شديد الغرام به فلما رآه من بعيد ضحك وقال‏:‏ يا يحيى من الذي يقول من الشعراء‏:‏ في وجهه شافع يمحو إساءته من القلوب وجيه حيث ما شفعا فقلت‏:‏ يقوله الحكم بن عمر والشاري‏.‏

فقال‏:‏ لله دره أنشدني هذا الشعر فأنشدته‏:‏ ويلي على من أطار النوم فامتنعا وزاد قلبي على أوداجه وجعا كأنما الشمس في أعطافه لمعت حسناً أو البدر من أزراره طلعا مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت منه الذنوب ومعذور متى صنعا في وجهه شافع يمحو إساءته من القلوب وجيه حيث ما شفعا وفي حدود الثلاث مائة توفي أحمد بن يحيى الراوندي الملحد‏.‏

وكان يلازم الرافضة والزنادقة قال ابن الجوزي‏:‏ كنت أسمع عنه العظائم حتى رأيت في كتبه ما يخطر على قلب أن يقوله عاقل فمن كتبه‏:‏ ‏"‏ كتاب نعت الحكمة ‏"‏ و ‏"‏ كتاب قضب الذهب ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الزمرد ‏"‏ وقال ابن عقيل‏:‏ عجبي كيف لم يقتل وقد صنف ‏"‏ الدامغ ‏"‏ يدمغ به على القرآن و ‏"‏ الزمردة ‏"‏ يزري به عيب النبوات‏.‏

وذكر بعضهم أن له من التصانيف ما ينيف على مائة مصنف‏.‏

قلت‏:‏ والمشاهير من أهل الحق ينقلون عنه في كتب الأصول أشياء ينسبونه فيها إلى الزندقة والإلحاد فلا اعتبار لمن يمدحه بالفضائل كابن خلكان وغيره‏.‏

 إحدى وثلاث مائة

فيها قتل أبو سعيد القرمطي صاحب هجر قتله خادم في الحمام ‏"‏ روادة ‏"‏ ثم خرج فاستدعى رئيساً من خواض أبي سعيد القرمطي فقال‏:‏ السيد يطلبك فلما دخل قتله ثم آخر ثم آخر كذلك حتى قتل أربعة يستدعيهم واحدا بعد واحد ثم صاح النساء فتكاثر الناس على الخادم فقتلوه‏.‏

وكان هذا الملحد قد تمكن وهزم الجيوش ثم هادنه الخليفة واسمه الحسن بن بهرام‏.‏

وفيها سار عبد الله المهدي المتغلب على المغرب على أربعين ألفاً ليأخذ مصر حتى بقي بينه وبين مصر مسيرة أتام فحجز أمير مصر النيل وحال الماء بينه وبين مصر ثم جرت بينهم وبين جيش المقتدر حروب فرجع المهدي إلى برقة بعد أن ملك الإسكندرية والفيوم‏.‏

وفيها توفي الحافظ العلامة جعفر بن محمد أبو بكر صاحب التصانيف‏.‏

وكان من أوعية العلم‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني جد الحافظ الكبير محمد بن إسحاق بن منده‏.‏

وفيها توفي الأمير علي بن أحمد الراسي أمير جند نيسابور وخلف ألف فرس وألف ألف دينار أو نحو ذلك‏.‏

وفيها توفي البشامي علي بن محمد الشاعر المشهور‏.‏

كان من أعيان الشعراء ومحاسن الظرفاء لسناً مطبوعاً في الهجاء‏.‏

قالوا‏:‏ لم يسلم منه أمير ولا وزير ولا صغير ولا كبير حتى وقع ذلك منه في أبيه وإخوته وسائر أهل بيته‏.‏

ونقلوا في ذلك أشعاراً ومن شعره في غير الهجاء قوله‏:‏ وكانت بالسراة لنا ليال سرقناهن من ريب الزمان جعلناهن تاريخ الليالي وعنوان المسرة والأمان ومن قوله في هجاء بعض الكتاب‏:‏ وأتى بكتاب لو انبسطت يدي فيهم رددتهم إلى الكتاب ودخل وزير المعتضد والمعتضد ينشد هجاء فيه فلما رآه المعتضد استحيى منه وقال‏:‏ اقطع لسان ابن بشام‏.‏

فخرج الوزير مبادراً لقطع لسانه فاستدعاه المعتضد وقال‏:‏ اقطع لسانه بالبر والشغل ولا تعرض له بسوء فولاه البريد وبعض الأعمال والبشامي نسبة إلى الجد والهجاء الذي دخل الوزير والمعتضد ينشده هو‏:‏ قل لأبي القاسم المروزي قابلك الدهر بالعجائب مات لك ابن وكان زيناً وعاش ذو الشين والمعائب حياة هذا كموت هذا فليس تخلو من المصائب يعني بأبي القاسم‏:‏ أبا الوزير المذكور وكان قد مات له ابن هو أخو الوزير‏.‏

والمعنى أن حياة الوزير مصيبة كما أن موت أخيه مصيبة‏.‏

وفيها توفي الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر المعروف بابن الفرات وكان وزير بني الأختل بمصر مدة إمارة كافور وبعد وفاة كافور‏.‏

وكان عالماً ومحباً للعلماء وحدث عن محمد بن هارون الحضرمي وطبقته وعن جماعة آخرين وكان يملي الحديث بمصر وهو وزيره وقصده الأفاضل من البلدان الشاسعة وبسببه سار الحافظ الحسن الدارقطني من العراق إلى مصر ولم يزل عنده حتى فرغ من تأليف مسند وله تأليف في أسماء الرجال والأنساب وغير ذلك‏.‏

ومدحه المتنبي مع كافور وكان كثير الخير أهل الحرمين‏.‏

واشترى بالمدينة داراً ليس بينها وبين الضريح النبوي سوى جدار واحد وأوصى أن يدفن فيها وقرر مع الأشراف ذلك ولما مات حمل تابوته وخرجت الأشراف إلى لقائه وفاء بما أحسن إليهم وحجوا به وطافوا ووقفوا ثم ردوه إلى المدينة ودفنوه بالدار المذكور وقيل‏:‏ دفن بالقرافة وعلى قبره مكتوب اسمه‏.‏

 أثنتين وثلاث مائة

فيها عاد المهدي إلى الإسكندرية فوقعت وقعة كبيرة قتل فيها نائبه فرداً إلى القيروان‏.‏

وفيها أخذت طيىء الركب العراقي وتمشرق الوفد في البرية وأسروا من النساء مائتين وثمانين ‏.‏

وفيها توفي العلامة فقيه المغرب أبو عثمان بن حداد الإفريقي المالكي‏.‏

أخذ عن سحنون وغيره‏.‏

برع في العربية والنظر‏.‏

ومال إلى مذهب الشافعي وجعل يسمي المدونة المزورة فهجره المالكية ثم أحبوه لما قام على أبي عبد الله السيفي وناظره ونصر السنة‏.‏

وفيها توفي العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأصبهاني إمام جامع أصبهان أحد العباد والحفاظ‏.‏

 ثلاث وثلاث مائة

فيها توفي الحافظ أحد الأئمة الأعلام صاحب المصنفات أبو عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي إمام عصره في الحديث وله كتاب السنن وغيره سكن مصر وانتشرت بها تصانيفه وأخذ عنه الناس وخرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روى من فضائله فقال‏:‏ أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس حتى يفضل‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ ما أعرف له فضيلة إلا‏:‏ لا أشبع بطنك‏.‏

وكان يتشيع فما زالوا يدفعون في خطبته حتى أخرجوه من المسجد‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ يدفعون في خطبته وداسوه ثم حمل إلى الرملة فمات بها‏.‏

وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني‏:‏ لما امتحن النسائي بدمشق قال‏:‏ احملوني إلى مكة فحمل إليها فتوفي بها‏.‏

وهو مدفون بين الصفا والمروة وقال الحافظ أبو نعيم‏:‏ لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو مقتول‏.‏

قال‏:‏ وكان قد صنف ‏"‏ كتاب الخصائص ‏"‏ في فضل علي رضي الله تعالى عنه وأهل البيت‏.‏

فقيل له‏:‏ ألا تصنف كتاباً في فضائل الصحابة‏.‏

فقال‏:‏ دخلت دمشق والمتحرف عن علي كثير فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان موصوفاً بكثرة الجماع‏.‏قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ كان له أربع زوجات يقسم لهن وجواري وقال الدارقطني‏:‏ أدرك الشهادة وتوفي بمكة ونسبته إلى نسا مدينة بخراسان‏.‏

وفيها توفي الحافظ الكبير أبو العباس الحسين بن سفيان الشيباني بفقه على أبي ثور‏.‏

وكان يفتي بمذهبه قال الحاكم‏:‏ كان محدث خراسان في عصره مقدماً بالثبت والكثرة والفهم والأدب‏.‏

وفيها توفي أبو علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب شيخ المعتزلة‏.‏

وفيها توفي يموت بن المزرع بن يموت العبدي البصري قال الخطيب هو ابن أخت أبي عثمان الجاحظ قدم يموت المذكور بغداد في سنة إحدى وثلاث مائة وهو شيخ كبير وحدث بها عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني وجماعة كثيرة‏.‏

وروى عنه أبو بكر الخرائطي وأبو بكر بن مجاهد المقرىء وأبو بكر الأنباري وغيرهم‏.‏

وكان أديباً أخبارياً وله ملح ونوادر وكان لا يعود مريضاً خوفاً من أن يتطير من اسمه و يقول‏:‏ بليت بالأسم الذي سماني به أبي فإذا عدت مريضاً فاستأذنت عليه فقيل‏:‏ من هذا قلت‏:‏ أنا ابن المزرع وأسقطت اسمي‏.‏

أنت تجيء والذي يكره أن تجيء يموت أنت ضوء النفس بل أنت لروح النفس قوت أنت للحكمة بيت لا خلت منك البيوت ومن أخباره ما رووه عن الأصمعي قال‏:‏ كنت عند الرشيد وقد أتي بعبد الملك صالح الباسي وهو يرفل في قيوده‏.‏

فلما نظر الرشيد إليه قال‏:‏ هيه يا عبد الملك كأني والله أنظر إلى شؤبوبها قد همع وإلى عارضها قد تبلع وكأني بالوعيد أقلع عن براجم بلا عاصم ورؤوس بلا عاصم مهلاً مهلاً بني هاشم فتى والله سهل لكم الوعر وصفى الكدر وألقت إليكم الأمور أزمتها فخذوا حذاركم مني قبل حلول داهية خيوط باليد والرجل‏.‏

قال عبد الملك‏:‏ أفرداً أتكلم أم توأماً فقال‏:‏ بل توأماً فقال‏:‏ اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولآك وراقبه في رعاياك التي استرعاك فقد سهلت والله لك الوعور وجمعت على خوور ورجا بك الصدور‏.‏

وكنت كما قال أخو جعفر بن كلاب‏:‏ ومقام ضيق فرجته بلسان وبيان وجدل لو يقوم القيل أو قياك في مقام كمقامي لرجل أو قال‏:‏ نفسك فأراد يحيى بن خالد البرامكي أن يضع مقدار عبد الملك عند الرشيد فقال له‏:‏ بلغني أنك حقود فقال عبد الملك‏:‏ إن يكن الحقد هو بقاء الخير والشر عندي فإنهما لباقيان في قلبي قال‏.‏الأصمعي‏:‏ فالتفت الرشيد إلي وقال‏:‏ يا أصمعي والله لو نظرت إلى موضع السيف من عنقه مراراً يمنعني من ذلك إبقائي على قومي في مثله‏.‏

ومما روى يموت أيضاً أن أحمد بن محمد بن عبد الله المعروف بابن المدبر الكاتب أن إذا مدحه شاعر ولم يرض شعره قال لغلامه‏:‏ امض به إلى المسجد ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة ثم أطلقه‏.‏

فتحاماه الشعراء من الأفراد المجيدين فجاءه أبو عبد الله الحسن بن عبد السلام المعروف بالجمل فاستأذنه في النشيد فقال‏:‏ قد عرفت الشرط

قال‏:‏ نعم ثم أنشده‏.‏

أردنا في أبي حسن مديحاً كما بالمدح ينتجع الولاة فقلنا‏:‏ أكرم الثقلين طراً ومن كفاه دجلة والفرات فقالوا‏:‏ يقبل المدحات لكن جوائزه عليهن الصلاة فقلت لهم‏:‏ وما تغني صلاتي عيالي إنما الشأن الزكاة فتأمرني بكسر الصاد منها وتصبح لي الصلاة هي الصلات فضحك ابن المدبر واستطرفه وقال‏:‏ من أين أخذت هذا فقال‏:‏ من قول أبي تمام الطائي‏:‏ هن الحمام وإن كسرت عناقه من جابهن فإنهن حمام فاستحسن ذلك وأحسن صلته وحدث ابن المزرع أيضاً عن خاله أبي عثمان الجاحظ أنه قال‏:‏ طلب المعتصم جارية كانت لمحمود بن الحسن الشاعر المعروف بالوراق وكانت تسمى بشنوى وكان شديد الغرام بها وبذل في ثمنها سبعة آلاف دينار فامتنع محمود من بيعها لأنه كان يهواها أيضاً‏.‏

فلما مات محمود بيعت الجارية للمعتصم تركته بسبعمائة دينار فلما دخلت عليه قال لها‏:‏ كيف رأيت تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف دينار بسبعمائة دينار‏.‏

فقالت‏:‏ أجل‏.‏

إذا كان الخليفة ينتظر لشهواته المواريث فإن سبعين ديناراً لكثيرة في ثمني فضلاً عن سبعمائة فخجل المعتصم‏.‏

وقال ابن المزرع‏:‏ حدثني من رأى قبراً بالشام عليه مكتوب‏:‏ لا يغترن أحد بالدنيا فإني ابن من كان يطلق الريح إذا شاء ويحبسها‏.‏

وبحذائه قبر عليه مكتوب‏:‏ كذب الماص بظر أمه‏.‏

لا يظن أحد أنه ابن سليمان بن داود عليه السلام إنما هو حداد يجمع الريح في الزق ثم ينفخ بها الجمر‏.‏

قال‏:‏ فما رأيت قبرين قبلهما يتشابهان‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا المعنى خطر لي وقت وقوفي عليه إنشاء بيت على طريق اللغز معيراً بارتحاله عن لسان حاله نائباً عنه في مقاله‏:‏ أنا ابن الذي للريح يمسك إن يشا ويرسلها إن شاء للنفع ثارها ومما يناسب هذا مقال اثنين مشهور لغزهما ضمنته نظماً وآخرين اخترتهما لغزاً لفظاً ومعنى وعن لغز الأربعة أشرت في بعض القصيدات بهذه الأبيات‏.‏

أنا ابن الذي ذلت رقاب الورى له ومخزومها منهم وهاشمها معا إلى نحوها تأتي لأمر مطيعة فمرد بها والمال يأخذ خضعا وقال الفتى الثاني له في جوابه وقد شام برق المجد من ذاك شعشعا أنا ابن الذي لا ينزل الأرض قدره وإن نزلت تغلو وتعلا بمشبعا ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره وقد ملؤوا الرحب الفسيح الموسعا وخذ ثالثاً قال اعتز متفاخراً لمجد وجد كي يصان ويرفعا أنا ابن الفتى دباج كل سمينة ومزهق أرواح تماض مصرعا ومفن بشجعان القرون محصنا لسفرك أقران التسفك ضجعا ورابعهم قال افتخار أمنا هيا بأصل وفصل للسناء متطلعا أنا ابن الذي يكسو الأنام صنيعه بها وزينا من له الغير صنعا يوصل وقطع مبرم في فعاله لما لم يصل في الدهر غير ويقطعا عن الأولين استنجزوا وترحلوا وقد سمعوا المجد الأثيل المرفعا أعني أن الأولين وردا على بعض الولاة فسألهما عن أصلهما فأجابا بالجوابين المذكورين اللذين بين كثير من الناس مشهورين‏.‏ثم عبرت عن مقالهما بنظمي المذكور ثم أنشأت على وجه الإختراع لغزاً لإثنين آخرين ليس له عند أحد من الناس سماع وأشرت إلى ذلك بقولي‏:‏ ‏"‏ وخذ ثالثاً إلى الآخر ‏"‏ ثم أوضحت وصف الأربعة يكون الأولين ابني حجام وطباخ والآخرين ابني جزار وحائك‏.‏

وقصيدتي المذكورة هي الموسومة بنزهة النطار مشتملة على ستة من العلوم ثم شرحتها شرحاً موسوماً بمنهل الفهوم المروي من صدى الجهل المذموم في شرح ألسنة العلوم وهي المعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والسلوك أعني سلوك منازل الطريقة للسائرين إلى الحضرة من أولي الحقيقة‏.‏

 خمس وثلاث مائة

فيها قدم رسول ملك الروم يطلب الهدنة فاحتفل للمقتدر بجلوسه له وأقام الجيش بالسلاح وكانوا عامة وستين ألفاً‏.‏

ثم الغلمان وكانوا سبعة آلاف وكانت الحجاب سبع مائة‏.‏

وعلقت ستور الديباج وكانت ثمانية وثلاثين ألف ستر من البسط وغيرها ومما كان في الدار سبعمائة سلسلة‏.‏

ثم أدخل الرسول دار الشجرة وفيها بركة وفيها شجرة لها أغصان عليها طيور مذهبة وورقه ألوان مختلفة وكل طائر يصفر لوناً بحركات مصنوعة ثم أدخل الفردوس وفيها من الفرش والآلات ما لا يقوم‏.‏

قلت‏:‏ هذه التسمية بالفردوس تشبيهاً بما سماه الملك القدوس من الضلال وطغيان النفوس‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي مسند العصر أبو حنيفة البصري الجمحي الفضل بن الحباب وكان محدثاً متقناً أخبارياً عالماً‏.‏