فصل: خمس وثمانين وثلاثمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 ثمانين وثلاثمائة

فيها توفي الحافظ المحدث الأندلسي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأموي مولاهم القرطبي‏.‏

سمع وصنف ومن مصنفاته ‏"‏ فقه الحسن البصري ‏"‏ في سبع مجلدات و ‏"‏ فقه الزهري ‏"‏ في أجزاء عديدة‏.‏

وفيها توفي الوزير أبو الفرج وزير صاحب مصر العزيز بالله وكان يهودياً بغدادياً عجباً في الدهاء والفطنة والمكر يتوكل للتجارة بالرملة فانكسر وهرب إلى مصر فأسلم بها واتصل بالأستاذ كافور ثم دخل المغرب وأنفق عند المعز وتقدم ولم يزل في الارتقاء إلى أن مات‏.‏

وكان عظيم الهيبة وافر الحشمة عالي الهمة وكان معلومه على مخدومه في السنة مائة ألف دينار وقيل إنه خلف أربعة آلاف مملوك ويقال أنه حسن إسلامه‏.‏

إحدى وثمانين وثلاثمائة فيها أمر الخليفة الطائع بحبس الحسين بن المعلم وكان عن خواص بهاء الدولة فعظم عليه ذلك ثم دخل على الطائع وفيه هيبة دخلوا للخدمة فلما قرب منه قبل الأرض وجلس على الكرسي وتقدم أصحابه فجذبوا الطائع بحمائل سيفه من السرير ولفو في كساء حتى أتوا به دار السلطنة واختبطت بغداد وظن الأجناد أن القبض على بهاء الدولة من جهة الطائع فوقعوا من النهب ثم إن بهاء الدولة أمر بالنداء بخلافة القادر بالله فأكره الطائع على خلع نفسه وعمل بذلك سجل ونفد إلى القادر وهو بالبطايح وأخذوا جميع ما في دار الخلافة حتى الرخام والأبواب واستباحت الرعاع قلع الشبابيك وأقبل القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله وله يومئذ أربع وأربعون سنة وكان كثير التهجد والخير والبر صاحب سنة وجماعة‏.‏

وفيها توفي العبد الصالح المقرىء مصنف ‏"‏ كتاب الغاية ‏"‏ والشامل في القراءات‏:‏ الأستاذ أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني ثم النيسابوري‏.‏

قال الحاكم‏:‏ كان إمام عصره في القراءات وأعبد من رأينا من القراء وكان مجاب الدعوه‏.‏

وفيها توفي القائد أبو الحسن جوهر بن عبد الله المعروف بالكاتب الرومي كان من موالي المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي صاحب الإفريقية‏.‏

جهزه في جيش كثيف ليفتتح ما استعصى من بلاد المغرب فسار إلى فاس ثم إلى سجلماسة ثم توجه إلى البحر المحيط فاتحاً للبلاد وصاد من سمك البحر وجعله في قلال الماء وأرسله إلى المعز ثم رجع ومعه صاحب فاس أسير في قفص حديد‏.‏

وقد مهد البلاد وحكم على أهل الزيغ والعناد من إفريقية إلى البحر المحيط من جهة المغرب وفي جهة المغرب مر إفريقية إلى أعمال مصر ولم يبق بلد من هذه البلاد إلا أقيمت فيه دعوته وخطب له في جميعه جمعيه وجماعية إلا مدينة سبتة فإئها بقيت لبني أمية أصحاب الأندلس‏.‏

ولما وصل الخبر إلى المعز بموت كافور الإخشيذي صاحب مصر بعث المعز القائد جوهراً المذكور إلى جهة المغرب لإصلاح أموره وجميع قبائل العرب وجنى القطائع التي كانت على البربر وكانت خمسمائة ألف دينار وخرج المعز بنفسه إلى المهدية فأخرج من قصور آبائه خمسمائة حمل دنانير وعاد إلى قصره وعاد جوهر بالرجال والأموال فجهزه إلى الديار المصرية ليأخذها وسير معه العساكر في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة فتسلم مصر وصعد المنبر خطيباً ودعا لمولاه المعز ووصلت البشائر إلى المعز بأخذ البلاد وأقام بها حتى وصل إليه المعز وهو نافذ الأمر واستمر على علو منزلته وارتفاع درجته متولياً للأمور إلى سابع عشر المحرم سنة أربع وستين فعزله المعز وكان محسناً إلى الناس ولما توفي لم يبق شاعر إلا رثاه‏.‏

وكان سب انفاذ مولاه المعز إلى مصر أن كافورا الإخشيذي كما تقدم بسكون الخاء وكسر الشين والذال المعجمات وسكون المثناة من تحت بين الشين والذال الخادم المشهور لما توفي دعا لأحمد بن علي الإخشيذي على المنابر بمصر وأعمالها والبلدان الشاميات والحرمين وبعده الحسن بن عبد الله فاضطرب الجند لقلة الأموال وعدم الانفاق فيهم وكان تدبير الأموال إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفرات فكتب جماعة من وجوههم إلى المعز بإفريقية ويطلبون إنفاذ العساكر ليسلموا له مصر فأمر القائد جوهر المذكور بالتجهيز إلى الديار المصرية وجهز له ما يحتاج إليه من المال والسلاح والرجال فبرز بالعساكر ومعه أكثر من مائة ألف فارس وأكثر من ألف ومائتي صندوق من المال وخرج المعز لوداعه ثم قال لأولاده‏:‏ انزلوا لوداعه فنزلوا عن خيولهم ونزل أهل الدولة لنزولهم والمعز متكىء على فرسه وجوهر واقف بين يديه ثم قبل جوهر يد المعز وحافر فرسه فقال له‏:‏ اركب فركب وسار بالعساكر‏.‏

ولما رجع المعز إلى قصره أنفذ إلى جوهر ملبوسه وكل ما كان عليه سوى خاتمه وسراويله وكتب المعز إلى عبده أفلح صاحب برقة أن يرتحل للقائد جوهر ويقبل يده عند لقائه فبذل أفلح مائة ألف دينار على أن يعفي من ذلك فلم يعف وفعل ما أمر به عند لقائه ووصل الخبر إلى مصر بوصوله مع العساكر فاضطرب أهلها واتفقوا مع الوزير ابن الفرات على المراسلة في الصلح وطلب الأمان وأرسلوا بذلك أبا جعفر مسلم بن عبيد الله الحسني بعد أن التمسوا منه أن يكون سفيرهم فأجابهم وشرط أن يكون معه جماعة من البلد‏.‏

وكتب الوزير معهم كتاباً بما يريد فتوجهوا نحو القائد جوهر وكان قد نزل في بالقرب من الإسكندرية فوصل إليه الشريف بمن معه وأدى إليه الرسالة فأجابه إلى ما التمسوه وكتب له جوهر عهداً بما طلبوه فاضطرب البلد اضطراباً شديداً وأخذت الإخشيذية والكافورية وجماعة العسكر الأهبة للقتال ورجعوا عن الصلح فبلغ ذلك جوهراً فرحل إليهم فتهيأ للقتال وساروا بالعساكر نحو الجيزة ونزلوا بها وحفظوا الجسر‏.‏

ووصل القائد جوهر وابتدأ بالقتال وأسرت رجال وأخذت خيل ومضى جوهر إلى ميتة الصيادين وأخذ المخاضة يمنة سلفان واستأمن إلى جوهر جماعة من العسكر في مراكب وجعل أهل مصر على المخاضة من يحفظها فلما رأى ذلك جوهر قال لجعفر بن فلاح لهذا اليوم أرادك المعز فعبر عرياناً في سراويل وهو في مركب ومعه الرجال خوضاً حتى خرجوا إليهم ووقع القتال فقتل خلق كثير من الإخشيذية وأتباعهم وانهزموا في الليل ودخلوا مصر وأخذوا من دورهم ما قدروا عليه‏.‏وخرجت حرمهم ماشيات ودخلن على الشريف أبي جعفر في مكاتبة القائد بإعادة الأمان‏.‏

فكتب إليه يهنئه بالفتح ويسأله إعادة الأمان فعاد الجواب بأمانهم ثم ورد رسوله إلى جعفر بأن يجتمع به مع جماعة من الأشراف والعلماء ووجوه البلد فاجتمعوا به في الجيزة ونادى مناد‏:‏ ينزل الناس كلهم إلا الوزير والشريف‏.‏

فنزلوا وسلموا عليه واحداً بعد واحد والوزير عن شماله والشريف عن يمينه ولما فرغوا من السلام ابتدؤوا بدخول البلد فدخلوا وقت زوال الشمس وعليهم السلام والعدد ودخل جوهر بعد العصر وخيوله وجنوده بين يديه وعليه ثوب ديباج وتحته فرس أصفر ونزل في موضع القاهرة اليوم واختط موضع القاهرة ولما أصبح المصريون حضروا عند القائد للتهنئة فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل وكان فيه دورات جاءت غير معتدلة لم تعجبه ثم قال‏:‏ حفرت في ساعة سعيدة لا أغيرها‏.‏

وأقام عسكره يدخل البلد سبعة أيام وبادر جوهر بالكتاب إلى مولاه يبشره بالفتح وأنفذ إليه رؤوس القتلى في الوقعة وقطع خطبة بني العباس عن منابر الديار المصرية وكذلك أسمهم على السكة وجعل ذلك كله باسم مولاه المعز وزال الشعار الأسود وألبس الخطباء الثياب البيض وفي يوم الجمعة أمر جوهر بزيادة عقب الخطبة‏:‏ اللهم صل على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول اللذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً اللهم صل على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين‏.‏

وعاد في الجمعة الأخرى وأذن بحي على خير العمل‏.‏

ودعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر فأنكر جوهر عليه وقال‏:‏ ليس هذا رسم موالينا‏.‏

وشرع في عمارة الجامع بالقاهرة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأظن هذا الجامع هو المعروف بجامع الأزهر فإن الجامع الآخر بالقاهرة مشهور بجامع الحاكم‏.‏

وأقام جوهر مستقلاً بتدبير مملكة مصر قبل وصول مولاه المعز إليها أربع سنين وعشرين يوماً‏.‏

ولما وصل المعز إلى القاهرة خرج جوهر من القصر إلى القائد ولم يخرج معه شيء إليه سوى ما كان عليه من الثياب ثم لم يعد إليه ونزل في داره بالقاهرة وسيأتي أيضاً طرف من خبره وخبر سيده المعز في ترجمته إن شاء الله تعالى‏.‏

وكان ولده الحسين قائد القواد للحاكم صاحب مصر وكان قد خاف على نفسه من الحاكم وولده وصهره القاضي عبد العزيز زوج أخته فأرسل الحاكم من برهم وطيب قلوبهم وآنسهم مدة مديدة ثم حضروا للخدمة فتقدم الحاكم إلى سيف النقمة وأشد فاستصحب عشرة من الغلمان الأتراك وقتلوا الحسين وصهره القاضي وأحضروا رأسيهما بين يدي الحاكم ‏"‏ في القيامة يكون التحاكم ‏"‏‏.‏

وفيها توفي سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان الثعلبي صاحب حلب وولي بعده ابنه سعد فلما مات ابنه سعد انقرض ملك سيف الدولة من جهة ذريته‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو بكر ابن المقرىء محمد بن إبراهيم الأصفهاني صاحب الرحلة الواسعة وقاضي الجماعة أبو بكر القرطبي المالكي صاحب التصانيف وأحفظ أهل زمانه لمذهبه‏.‏

اثنتين وثمانين وثلاثمائة فيها منع أبو الحسن بن المعلم الكوكبي الرافضة من عمل المآتم يوم عاشوراء الذي كان يعمل من نحو ثلاثين سنة وأسقط طائفة من كبار الشهود الذين ولوا بالشفاعات وقد كان استولى على أمور السلطان بهاء الدولة كلها‏.‏

وفيها شغبت الجند وعسكروا وبعثوا يطلبون من بهاء الدولة أن يسلم إليهم ابن المعلم وصمموا على ذلك إلى أن قال له رسولهم‏:‏ أيها الملك اختر بقاءه أو بقاءك فقبض حينئذ عليه وعلى أصحابه ما زالوا به حتى قتلوه رحمة الله عليه‏.‏

وفيها توفي أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري أحد الأئمة في الأدب والحفظ وهو صاحب أخبار ونوادر واتساع في الرواية وله التصانيف المفيدة‏.‏

وكان الصاحب بن عباد يريد الاجتماع به ولا يجد إليه سبيلاً فقال لمخدومه مريد الدولة‏:‏ إن البلد الفلاني قد اختل حاله وأحتاج إلى كشف فأذن لي في ذلك فأذن فلما أن وصل توقع أن يزوره أبو أحمد ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ضعيف فلم نقدر على الوجدان أتيناكم من بعد أرض نزوركم منزل بكر عندنا وعوان وكتب مع ذلك شيئاً من نثر بحال أبي أحمد‏.‏

والبيت المشهور‏:‏ أهم بأمر الحزم لو أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان فعجب الصاحب من اتفاق هذا البيت له وذكر أنه لو عرف أنه يقع له هذا البيت لغير الروي‏.‏

والبيت المذكور لأخي الخنساء صخر بن عمرو بن الشريد مع أبيات أخرى وكان قد حضر محاربة بني أسد فطعنه ربيعة بن ثور الأسدي فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه وبقي مدة حول في أشد ما يكون من المرض وأمه وزوجته سلمى تمرضانه فضجرت زوجته منه فمرت بها امرأة فسألتها عن حاله فقالت‏:‏ لا هو حي فيرجى ولا هو ميت فينسى فسمعها صخر فأنشد‏:‏

أرى أم صخر لا تمل عيادتي ** وملت سليمى مضجعي ومكاني

وما كنت أخشى أن أكون جنازة ** عليك ومن يغتر بالحدثان

لعمري لقد نبهت من كان نائماً ** وأسمعت من كانت له أذنان

وأي امرىء ساوى بأم جليلة ** فلا عاش إلا في شقى وهوان

فللموت خير من حياة كأنها ** معرس يعسوب برأس سنان

 ثلاث وثمانين وثلاثمائة

فيها توفي أبو محمد بن حزم بن الفرضي‏:‏ كان جليلاً زاهداً شجاعاً مجاهداً ولاه المستنصر القضاء فاستعفاه وكان فقيهاً صلباً ورعاً وكان يشبهونه بسفيان الثوري في زمانه‏.‏وفيها توفي الزاهد الواعظ شيخ الكرامية ورأسهم بنيسابور إسحاق بن حمشاد‏.‏

قال الحاكم‏:‏ كان من العباد المجتهدين يقال أسلم على يديه أكثر من خمسة آلاف قال‏:‏ ولم أر بنيسابور جنازة أكثر جمعاً من جنازته‏.‏

وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر المشهور ابن أخت محمد بن جرير الطبري العلاة المشكور كان إماماً في اللغة والأنساب والأشعار‏.‏

من الشعراء المجيدين الكبار‏.‏

يحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد فلما وصل بابه قال لبعض حجابه‏:‏ قل للصاحب‏:‏ على الباب أحد أرباب الأدب وهو يستأذن في الدخول فدخل الحاجب فأعلمه بما قد تكلمه فقال الصاحب‏:‏ قل له‏:‏ قد ألزمت نفسي ألا يدخل علي من أولي الأدب إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب فخرج إليه الحاجب فأعلمه بما قال فقال ارجع إليه وقل له‏:‏ من شعر النساء أم من شعر الرجال فدخل الحاجب وأعاد عليه ذلك القول فأذن الصاحب له حينئذ في الدخول فدخل عليه فعرفه وانبسط في الكلام معه وله ما حوى من الفضائل ديوان شعر وديوان رسائل‏.‏

من نظمه المشتمل على المعاني الحسان هذان البيتان‏:‏ رأيتك إن أيسرت خيمت عندنا مقيماً وأن أعسرت زرت لماما فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه أغب وإن زاد الضياء أقاما وله ملح شهيرة ونوادر كثيرة وكان قد فارق الصاحب بن عباد غير راض عنه فقال في الإنشاد‏:‏

لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت ** يداه بالجود حتى أخجل الديما

فإنها خطرات من وساوسه يعطي ** ويمنع لا بخلاً ولا كرماً

فبلغ ذلك ابن عباد فلما بلغه خبر موته أنشد‏:‏ أقول لركب من خراسان قافل أمات خويرزميكم قيل لي‏:‏ نعم فقلنا اكتبوا بالجص من فوق قبره ألا لعن الرحمن من كفر النعم فيها اشتد البلاء بالعباد ببغداد وقووا على الدولة وعلى رأسهم عزيزاً التفت عليهم خلق عظيم فنهض السلطان وتفرغ لهم فهربوا‏.‏

ولم يحج أحد الركب المصري‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو الفضل الهمداني السمسار الذي لما أملى الحديث باع طاحوناً له بسبع مائة دينار ونثرها على المحدثين قيل‏:‏ كان ركناً من أركان الحديث ديناً ورعاً لا يخاف في الله لومة لائم وله عدة مصنفات‏.‏

والدعاء عند قبره مستجاب‏.‏

وفيها توفي محمد بن عمران المرزباني البغدادي المولد وصاحب التصانيف المشهورة والمجاميع الغريبة‏.‏

كان راوية للأدب صاحب أخبار وتواليفه كثيرة وكان ثقة في الحديث مائلاً إلى التشيع في المذهب حدث عن عبد الله بن محمد البغوي وأبي بكر بن داد السجستاني وآخرين‏.‏

وهو أول من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وهو صغير الحجم يدخل في مقدار ثلاث كراديس وجمعه جماعة من بعده وزادوا فيه أشياء ليست له‏.‏

وشعره مع قلته في نهاية من الحسن ومن محاسن شعره الأبيات التي منها قوله‏:‏ إذا رمت من ليلى على البعد نظرة لتطفي جوي بين الحشا والأضلع تقول نساء الحي تطمح أن ترى محاسن ليلى من بداء المطامع وكيف ترى ليلى بعين ترى بها سواها وما طهرتها بالمدامع أجلك يا ليلى عن العين إنما أراك بقلب خاشع لك خاضع حزوق بالقاف هو المشهور عند الجمهور ورواه بعضهم بالتاء المثناة من فوق‏.‏

رجعنا إلى ذكر المرزباني‏.‏

روى عن دريد وابن الأنباري وروى عنه أبو عبد الله الضميري وأبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وغيرهم والمرزباني لا يطلق عند العجم إلا على الرجل المقدم المعظم القدر وتفسيره بالعربية حافظ الحد‏.‏

وفيها توفي المحسن بن علي بن محمد التنوخي الذي يقول فيه أبو عبد الله الشاعر‏:‏ إذا ذكر القضاة وهم شيوخ تخيرت الشباب على الشيوخ ومن لم يرض لم اسقمه إلا بحسرة سيدي القاضي التنوخي وله ‏"‏ كتاب الفرج بعد الشدة ‏"‏ و ‏"‏ كتاب نشوار المحاضرة ‏"‏ ‏"‏ كتاب المستجاد من فعالات الأجواد ‏"‏ وديوان شعر أكبر من ديوان أبيه وسمع بالبصرة من أبي العباس الأثرم وأبي بكر الصولي‏.‏

والحسين بن محمد بن يحيى وطبقتهم‏.‏

ونزل بغداد وأقام بها وحدث بها إلى حين وفاته وكان أديباً شاعراً أخبارياً ولاه الإمام المطيع لله القضاء بعسكر المكرم ورامهرمز وتقفد أعمالاً كثيرة في نواحي مختلفة‏.‏

ومن شعره في بعض المشايخ وقد خرج يستقسي وكان في السماء سحاب فلما دعا أصحت السماء فقال التنوخي المذكور‏:‏ فلما ابتدا يدعو تكشفت السما فما تم إلا والغمام قد انقضى ومن الشعر المنسوب إليه‏:‏ قل للمليحة في الخمار المذهب أفسدت نسك أخي التقى المترهب نور الخمار ونور خدك تحته عجباً لوجهك كيف لم يتلهب وجمعت بين المذهبين فلم يكن للحسن عن ذهبيهما من مذهب وإذا أتيت عيني لتسرق نظرة قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي قال ابن خلكان‏:‏ وقد أذكرتني هذه الأبيات في الخمار المذهب حكاية وقفت عليها منذ زمان بالموصل وهي أن بعض التجار قدم مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه حمل من الخمر السود فلم يجد لها طالباً فكسدت عليه وضاق صدره فقيل له‏:‏ ما ينفقها لك إلا المسكين الدارمي وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين بالطواف والخلاعة فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد فأتاه وقص عليه القصة فقال‏:‏ وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحالة‏.‏

فقال له التاجر‏:‏ أنا رجل غريب وليس معي بضاعة سوى هذا الحمل وتضرع إليه فخرج من المسجد وأعاد لباسه الأول وعمل هذين البيتين وشهرهما‏:‏ قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا أردت بناسك متعبد وشاع بين الناس أن المسكين الدارمي قد رجع إلى ما كان عليه وأحب واحدة ذات خماراً أسود فلم يبق بالمدينة ظريفة إلا وطيب خمار أسود فباع التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه لكثرة رغباتهن فيه فلما فرغ منه عاد مسكين إلى تعبده وانقطاعه‏.‏

وللتنوخي المذكور ولد كان أديباً فاضلاً وكان يصحب أبا العلاء المعري وأخذ عنه كثيراً وكان يروي الشعر الكثير وهم أهل بيت كلهم فضلاء أدباء ظرفاء‏.‏‏"‏ والمحسن ‏"‏ بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وبعدها نون‏.‏

وفيها توفي الرماني شيخ العربية أبو الحسن علي بن عيسى النحوي ببغداد‏.‏

وله قريب من مائة مصنف أخذ عن ابن دريد وابن السراج وكان متفنناً في علوم كثيرة من القرآن والفقه والنحو والكلام على مذهب المعتزلة والتفسير واللغة‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو الحسن محمد بن العباس بن أحمد بن الفرات البغدادي‏.‏سمع من أبي عبد الله المحاملي وطبقته وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته‏.‏

قال الخطيب‏:‏ بلغني أنه كان عنده عن علي بن محمد المصري وحده مائة جزء وإنة كتب مائة تفسير ومائة تاريخ وهو حجة ثقة‏.‏

وفيها توفي الإمام أبو الحسين الماسرجسي شيخ الشافعية بخراسان محمد بن علي النيسابوري‏.‏

قال الحاكم‏:‏ كان أعرف الأصحاب بالمذهب وترتيبه وتفقه بخراسان والعراق والحجاز وصحب الإمام أبا إسحاق المروزي مدة وتفقه عليه وصار ببغداد معيد أبي علي بن أبي هريرة وهو صاحب وجه في المذهب وعليه تفقه القاضي أبو الطيب الطبري وسمع من أصحاب المزني ويونس بن عبد الأعلى والمؤمل بن الحسن وعقد له مجلس الإملاء في دار السنة‏.‏

 خمس وثمانين وثلاثمائة

فيها توفي الصاحب المعروف بابن عباد وهو أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني‏.‏

كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه‏.‏

أخذ الأدب من أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة‏.‏

وأخذ عن أبي الفضل بن العميد وغيرهما‏.‏

وقال أبو منصور الثعلبي في كتابه اليتيمة في حقه‏:‏ ليست بحضرتي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم وتفرده بالغايات في المحاسن وجمعه أشتات المفاخر لأن همه قوتي ينخفض عن بلوغ أدنى فواضله ومعاليه وجهد وصفي يقصر عن أيسر فضائله ومساعيه‏.‏

ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله‏.‏

وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه‏:‏ الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها ودب ودرج من وكرها ورضع أفاويق درها وورثها عن آبائه كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه‏:‏ ورث الوزارة كابراً عن كابر موصولة الأسناد بالأسناد وروى عن العباد بن عباد‏:‏ وقال بعضهم رأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب فإنه لما توفي أغلقت مدينة الري واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم‏.‏

قلت إنه لم يسعد واحد بعد موته كما كان في حياته غيره من أرباب ولايات الدنيا وما يفتخرون به من المناصب التي هي إن لم يسلم الله تعالى ما طيب وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد فقيل له‏:‏ صاحب بن العميد ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علماً عليه‏.‏

وذكر الصابي في ‏"‏ كتاب الناجي ‏"‏ أنه إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة منذ الصبا وسماه الصاحب فاستمر هذا اللقب عليه واشتهر به ثم سمي به كل من تولى الوزارة بعده‏.‏

وكان أولاً وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفي آخره هاء ساكنة ابن ركن الدولة الديلمي تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد فلما توفي مؤيد الدولة في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن فأقر الصاحب على وزارته وكان مبجلاً عنده معظماً نافذ الأمر وكان حسن الفطنه‏.‏

كتب بعضهم إليه رقعه أغار فيها على رسائله وسرق جملة من ألفاظه فوقع تحتها هذه‏:‏ ‏"‏ بضاعتنا ردت إلينا ‏"‏‏.‏

وحبس بعض عياله في مكان ضيق بجواره ثم صعد السطح يوماً فأطلع عليه فرآه فناداه المحبوس بأعلى صوته فاطلع فرآه في سواء الجحيم فقال الصاحب‏:‏ اخسؤوا فيها ولا تكلمون ‏"‏ قلت ‏"‏‏:‏ معنى أنك خاطبتنا بخطاب من هو معذب فأجبناك بالجواب الذي يجاب به أهل النار‏.‏

وله نوادر وتصانيف كثيرة منها كتاب ‏"‏ المحيط ‏"‏ في اللغة وهو سبع مجلدات و ‏"‏ كتاب الكشف ‏"‏ عن مساوىء شعر المتنبي و ‏"‏ كتاب أسماء الله تعالى ‏"‏ وصفاته وكتب أخرى وله رسائل بديعة ونظم جيد من جملته قوله‏:‏ رق الزجاج ورضت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر وكأنما خمر قدح وكأنما قدح ولا خمر قلت وهذان البيتان يتمثل بهما في الأمور المحتملة المتشابهة وممن يتمثل بهما شيخ عصره وإمام دهره شهاب الدين السهروردي قدس الله روحه‏.‏

وحكى أبو الحسين الفارسي النحوي أن نوح بن منصور أحد ملوك بني ساسان كتب إليه ورقة يستدعيه ليفوض إليه وزارته وتدبير أهل مملكته فكان من جملة اعتذاره إليه أنه يحتاج لنقل كتبه إلى أربعمائة جمل في الظل لمن يبقى بها من التحمل‏.‏

وقال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر‏:‏ حكى لي من أثق به أن الصاحب بن عباد كان إذا انتهى إلى ذكر الباقلآني وابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني وكانوا متناصرين من أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري قال‏:‏ الباقلآني بحر مغرق وابن فورك جبل مطرق والأسفراييني نار محرق‏.‏قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر‏:‏ وكأن روح القدس نفث في روعه حيث أخبر عن هؤلاء الثلاثة بما هو حقيقة الحال فيهم‏.‏

انتهى‏.‏

وأخبار الصاحب بن عباد كثيرة وفضائله بين أهل هذا الفن شهيرة اقتصرت منها على هذه النبذة اليسيرة‏.‏

وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر من السنة المذكورة بالري ثم نقل إلى أصبهان ودفن بمحلة تعرف بباب درية ولما خرج نعشه صاح الناس بأجمعهم وقيل وقال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني‏:‏ رأيت في المنام قائلاً يقول‏:‏ لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك فقلت‏:‏ ألجمتني كثرة محاسنه فلم أدر بما أبدأ منها وخفت أن أقصر وقد ظن في الاستيفاء لها‏.‏

فقال‏:‏ احفظ واسمع ما أقوله فقلت‏:‏ قل‏.‏

قال‏:‏ ثوى الجود والكافي معاً تحت حفرة فقلت‏:‏ ليأنس كل منهما بأخيه فقال‏:‏ هما اصطحبا حيين ثم تعانقا فقلت‏:‏ ضجيعين في لحدٍ بباب درية فقال‏:‏ إذا ارتحل الثاوون من مستقرهم فقلت‏:‏ أقاما إلى يوم القيامة فيه ومما رثاه الشعراء قول أبي سعيد الرستمي‏:‏ أبعد ابن عباد يهش إلى السرى أخو أهل ويستماح جواد أبى الله إلا أن يموتا بموته فما لهما حتى المعا معاد وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ المشهور صاحب التصانيف الدارقطني أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني‏.‏قال الحاكم‏:‏ صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع وإماماً وقال الخطيب كان فريد عصره وقريع دهره ونسيج وحده‏.‏

وإمام وقته انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بمذاهب العلماء والأدب والشعر قيل إنه يحفظ دواوين جماعة وقال أبو ذر الهروي‏:‏ قلت للحاكم‏:‏ هل رأيت مثل الدارقطني‏.‏

فقال‏:‏ هو لم ير مثل نفسه فكيف أنا وقال البزقاني‏:‏ كان الدارقطني يملي علي العلل من حفظه وقال القاضي أبو الطيب الطبري‏:‏ الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث وقال غيره‏:‏ أخذ الفقه عن أبي سعيد الأصطخري الفقيه الشافعي‏.‏

‏"‏ قلت ‏"‏ يعني الإمام المشهور صاحب الوجوه في المذهب قيل بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد وأخذ القراءات عرضاً وسماعاً عن محمد بن الحسن النقاش وعلي بن سعيد القزاز ومحمد بن الحسين الطبري ومن في طبقتهم وسمع من ابن مجاهد وهو صغير وروى عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وجماعة كثيرة‏.‏

وصنف ‏"‏ كتاب السنن ‏"‏ و ‏"‏ المؤتلف والمختلف ‏"‏ وغيرهما وخرج من بغداد إلى مصر قاصداً أبا الفضل جعفر بن الفرات وزير كافور الأخشيذي فإنه بلغه أن أبا الفضل عازم على تأليف مسند فمضى إليه ليساعده عليه وأقام عنده مدة وبالغ أبو الفضل في إكرامه وأنفق عليه نفقة واسعة وأعطاه شيئاً كثيراً وحصل له بسببه مال جزيل ولم يزل عنده حتى فرغ المسند‏.‏

وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني على تخريج المسند وكتابته إلى أن تبحر‏.‏

وقال الحافظ عبد الغني المذكور‏:‏ أحسن كلاماً على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة‏:‏ علي بن المديني في وقته وموسى بن هارون في وقته والدارقطني في وقته أو كما قال‏.‏

وسأل الدارقطني يوماً أحد أصحابه‏:‏ هل رأى الشيخ مثل نفسه‏.‏

فامتنع من جوابه وقال‏:‏ قال الله تعالى ‏"‏ فلا تزكوا أنفسكم ‏"‏ سورة النجم آية 32 فألح عليه فقال‏:‏ إن كان في فن واحد فقد رأيت من هو أفضل مني وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع في فلان كان متفنناً في علوم كثيرة‏.‏

قلت‏:‏ فهذا ما لخصته من أقوال العلماء في ترجمته وكل ذلك مدح في حقه إلا سفره إلى مصر من أجل الوزير المذكور فإنه وإن كان ظاهره كما قالوا لمساعدة له في تخريج المسند المذكور فلست أرى مثل هذا الإيقاع بأهل العلم ولا بأهل الدين‏.‏

ثم لما كان مثل هذه المساعدة بعض أهل العلم والدين لا يشوبه شيء من أمور الدنيا كان حسناً منه وفضلاً وحرصاً على نشر العلم والمساعدة في الخير‏.‏وبعيد عن تطاوع النفوس لمثل هذا إلا إذا وفق الله وذلك نادر أو معدوم وما على الفاضل المتدين من أرباب الولايات ألفوا أو لم يألفوا نعم لو أرسل إليه بعضهم وقال‏:‏ أرو عني كتابي وكان فيه نفع للمسلمين فلا بأس فقد روينا عن شيخنا رضي الدين أربعين حديثاً تخريج السلطان للملك فظفر صاحب اليمن وتوفي الدارقطني رحمه الله وقد وفي السنة المذكورة ‏"‏ توفي ‏"‏ الحافظ المفسر الواعظ صاحب التصانيف‏:‏ أبو حفص ابن شاهين عمر بن أحمد البغدادي‏.‏

قال الحسين بن المهدي بالله‏:‏ قال لنا ابن شاهين صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفاً منها ‏"‏ التفسير الكبير ‏"‏ ألف جزء و ‏"‏ المسند ‏"‏ ألف وثلاثمائة جزء و ‏"‏ التاريخ ‏"‏ مائة وخمسون جزءاً‏.‏

وقال ابن أبي الفوارس‏:‏ ابن شاهين ثقة مأمون جمع وصنف ما لم يصنفه أحد‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله المعروف بابن سكرة الأديب الهاشمي العباسي البغدادي الشاعر المشهور لا سيما في المزاح والمجون‏.‏

وكان هو وابن نجاح يشبهان في وقتهما بجرير والفرزدق ويقال إن ديوان ابن سكرة يزيد على خمسين ألف بيت‏.‏

قال الثعالبي‏:‏ وهو شاعر متسع العبارة في أنواع الإبداع فاق في قول الظرف والملح على الفحول والأفراد جاد في ميدان المجون والسخف ما أراد‏.‏

قالوا وهو من ولد علي بن المهدي بن أبي جعفر المذكور المنصور الخليفة العباسي ومن بديع تشبيهه ما قاله في غلام رآه وفي يده غصن عليه زهر‏:‏ غصن بان بدا وفي اليد منه غصن فيه لؤلؤ منظوم فتحيرت بين غصنين في ذا قمر طالع وفي ذا نجوم ويقال إن الملحي البغدادي الشاعر كتب إلى ابن سكرة الهاشمي‏:‏ بين شخصي وشخصك بعد غير أن الخيال بالوصل سمح إنما أوجب التباعد منا أنني سكر وأنك ملح فكتب إليه ابن سكرة‏:‏ هل يقول الخليل يوماً لخل شاب منه محض المودة قدح بيننا سكر فلا تفسدنه أم يقول بيني وبينك ملح هكذا صوابه‏.‏

أعني إن الأبيات الأولى لابن سكرة والبيتين الأخيرين للملحي خلاف ما رأيته في بعض التواريخ حيث عكس ذلك وهو غير مناسب لمفهوم نظمهما‏.‏

ولابن سكرة أيضاً في الشباب‏:‏ لقد بان الشباب وكان غصناً له تمر وأوراق تظلك وكان البعض منك فمات فاعلم متى ما مات بعضك مات كلك وله أيضاً من أبيات له في هجاء بعض الرؤساء‏:‏ ولا تقل ليس في عيب قد تقذف الحرة العفيفه والشعر نار بلا دخان وللقوافي رؤى لطيفه كم من ثقيل المحل شام هوت به أحرف خفيفه وله‏:‏ قيل ما أعددت للبر د فقد جاء بشدة قلت‏:‏ دراعة عري تحتها جية رعدة وله في الشتاء الكافات المشهورة‏.‏

وفي إعراضها قلت مشيراً إلى نصحتين‏:‏ الأولى لبني الدنيا الراغبين والثانية لبني الدين الزاهدين‏:‏ وهي كانون مصطل ففصل الشتاء يا صاح بالبرد مقبل وأوله في الفجر سبع لشوكه وشمس تجدي لذي شوى وتوكل بأول كانونين خامس عشرة تكون فإن كنت أنصحت فقل فخذ عشر كافات خلت عن خلاعة على الفسق تغري الفاسقين وتحمل كل الكبش واكتس بالكسافي أريكة للحلا زكت والكبش عندك يكمل ولكن أولى النصح ما فيه قلته وإن لم أكن ممن إذا قال يفعل تمسكن وكن في كن كونك ناسكاً وكل كلما يلقى إليك التوكل بخمس ما بين سابقون بخيرها لهم في علاها فوق رأسك منزل وهذا إذا صادفت سعد عناية وقرب بها باقون من تلك يدخل قصور وحور لا تطاق صفاتها وكل نعيم ما له العقل يعقل إلهي بجاه المصطفى لا حرمتنا نعيماً بها يا نعم مولى مؤمل وصل على تاج العلى سيد الورى رسول كريم لا يساويه مرسل وفي السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة الزاهد الورع الخاشع البكاء المتواضع أبو بكر الأودني شيخ الشافعية ببخارى‏.‏

ومن غرائب وجوهه في المذهب أن الربا حرام في كل شيء فلا يجوز بيع شيء بجنسه متفاضلاً‏.‏

وفيها توفي أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي اللغوي الإخباري الفاضل ابن الفاضل قد تقدم ذكر أبيه في سنة ثمان وستين مع ذكر شيء من فضائله وهو السيرافي المشهور بين النحاة وهذا ابنه كان عالماً بالنحو وتصدر في مجلس أبيه بعد موته وخلفه على ما كان عليه وكمل كتاب أبيه الذي سماه ‏"‏ الإقناع ‏"‏ وهو كتاب جليل نافع في بابه‏.‏

فإن أباه كان قد شرح كتاب سيبويه وظهر له بالإطلاع والبحث في حال التصنيف ما لم يظهر لغيره من المعاني ثم صنف ‏"‏ الإقناع ‏"‏ وكأنه ثمرة استفادته حال البحث والتصنيف ومات قبل إكماله فكمله ولده المذكور‏.‏

وليوسف عدة كتب منها‏:‏ ‏"‏ شرح أبيات كتاب سيبويه ‏"‏ وهو في غاية من الجودة‏.‏

و ‏"‏ شرح أبيات كتاب إصلاح المنطق ‏"‏ وأجاد فيه أيضاً وكذلك ‏"‏ شرح أبيات المجاز ‏"‏ لأبي عبيدة و ‏"‏ أبيات معاني الزجاج ‏"‏ و ‏"‏ أبيات غريب أبي عبيد القاسم بن سلام ‏"‏ وغير ذلك‏.‏

وكانت كتب اللغة تقرأ عليه مرة رواية ومرة دراية و ‏"‏ كتاب البارع ‏"‏ للمفضل بن سلمة في عدة مجلدات هذب ‏"‏ كتاب العين ‏"‏ في اللغة المنسوب إلى الخليل وأضاف إليه من اللغة طرفاً صالحاً وعن عبد السلام البصري خازن دار العلم ببغداد قال‏:‏ كنت في مجلس أبي سعيد السيرافي وبعض أصحابه يقرأ عليه إصلاح المنطق لابن السكيت فمر ببيت جميل‏:‏ ومطوية الأتراب أما نهارها فمكث وأما ليلها فذميل وقال أبو محمد يوسف بومطوية بالخفض أصلح‏.‏

ثم التفت إلينا وقال‏:‏ هذه وأورب فقلت‏:‏ أطال الله بقاء القاضي إن قبله ما يدل على الرفع فقال‏:‏ ما هو‏.‏

قلت‏:‏ إياك في الله الذي أنزل الهدى والنور والإسلام عليك دليل ومطوية الأتراب قال فعاد وأصلحه وكان ابنه أبو محمد حاضر فتغير وجهه لذلك ونهض لساعته إلى دكانه فباعه واشتغل بالعلم إلى أن برع فشرح كتاب المنطق وحدث من وراءه بعمل هذا الشرح وبين يديه أربعمائة ديوان ولم يزل أمره على سداد واشتغال وإفادة إلى أن توفي وكان ديناً صالحاً ورعاً متقشفاً رحمه الله‏.‏