فصل: اثنتين وثلاثين وثلاث مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 إحدى وثلاثين وثلاث مائة

فيها قلل ناصر الدولة ابن حمدان رواتب المتقي وأخذ صناعته وصادر العمال وكرهه الناس وزوج بنته بابن المتقي على مائتي ألف دينار وهاجت الأمراء ‏"‏ بواسط ‏"‏ على سيف الدولة فهرب وسار آخوه ناصر الدولة إلى الموصل فنهبت داره وبرح خلق كثير من بغداد من تتابع الفن والخوف إلى الشام ومصر‏.‏

وفيها توفي أبو علي حسن بن سعد بن إدريس الحافظ القرطبي وكان فقيهاً صالحاً‏.‏

وفيها توفي الشيخ العارف محمد بن إسماعيل الفرغاني الصوفي وكان من العابدين وله نزهة حسنة ومعه مفتاح منقوش يصلي ويضعه بين يديه كأنه تاجر وليس له بيت بل ينطرح في وفيها توفي الشيخ الجليل أبو محمود عبد الله بن محمد بن منازل النيسابوري المجرد على الصدق والتحقيق‏.‏

صحب حمدون القصار وحدث بالمسند الصحيح أحمد بن سلمة النيسابوري وكان له كلام رفيع في الإخلاص والمعرفة‏.‏

وفيها توفي الشيخ الكبير أبو الحسن علي بن محمد بن سهل الدينوري‏.‏

كان صاحب أحوال ومواعظ ومن كلامه‏:‏ من أيقن أنه لغيره فماله أن يبخل بنفسه‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو عبيد الله بن محمد بن مخلد العطار الدوري له تصانيف‏.‏

 اثنتين وثلاثين وثلاث مائة

فيها كاتب المتقي بني حمدان ليحكم توزون ‏"‏ بالمثناة من فوق وبين الواوين زاي ‏"‏ على بغداد‏.‏

فقدم الحسين بن سعيد بن حمدان في جيش كثيف فخرج المتقي والهاً ووزيره وساروا إلى ‏"‏ تكريت ‏"‏ ظنا أن سيف الدولة يراقب قدوم سيف الدولة على المتقي‏.‏

وأشار بأن يصعد إلى الموصل‏.‏

فتألم المتقي وقال‏:‏ ما على هذا عاهدتموني‏.‏

فتقلل أصحابه وبقي في طائفة وجاء توزون فاستعد للحرب ببغداد فجمع ناصر الدولة جيشاً من الأعراب والأكراد وسار إلى تكريت ثم وقع القتال أياماً فانهزم الخليفة والحمدانية إلى الموصل ثم عملوا مصافاً أخرى فانهزم سيف الدولة فتبعه توزون فانهزم بنو حمدان والمتقي إلى نصيبين واستولى توزون على الموصل وأخذ من أهلها مائة ألف دينار مصادرة فراسل الخليفة توزون في الصلح وإعتذر بأنه ما خرج من بغداد إلا لما قيل أنك اتفقت أنت والبريدي علي والان قد آثرت رضاي فصالح ابني حمدان وأنا أرجع إلى داري‏.‏

فأجاب إلى الصلح ولم يحج الركب لموت القرمطي الطاغية أبي طاهر ‏"‏ بهجر ‏"‏ من جدري أهلكه وأراح الله تعالى منه العباد والبلاد‏.‏

وقام بعده أبو القاسم القرمطي‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد الكوفي الشيعي أحد أركان الحديث‏.‏

وكان آية من آيات الله تعالى في الحفظ حتى قال الدارقطني‏:‏ أجمع أهل بغداد أنه لم يرد بالكوفة من زمن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى زمن ابن عقدة أحفظ منه‏.‏

قال‏:‏ وقد سمعته يقول‏:‏ أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم‏.‏

وروي عن ابن عقدة أنه قال‏:‏ أحفظ مائة ألف حديث بأسنادها وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث‏.‏وقال أبو سعيد الماليني‏:‏ تحول ابن عقدة مرة وكانت كتبه ستمائة جمل وقال بعض المحدثين‏:‏ قد ضعفوه واتهمه بعضهم بالكذب وقال بعضهم‏:‏ كان يملي علي مثالب أصحابه فتركته‏.‏

وفيها توفي الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن الوليد التيمي المصري صنف ‏"‏ كتاب الانتصار ‏"‏ لسيبويه على المبرد‏.‏

وكان شيخ الديار المصرية في العربية مع أبي جعفر النحاس‏.‏

 ثلاث وثلاثين وثلاث مائة

فيها حلف توزون أيماناً صعبة للمتقي فسار من ‏"‏ الرقة ‏"‏ واثقاً بأيمانه فلما قرب من الأنبار جاء توزون وتلقاه وقبل الأرض وأنزله في مخيم ضرب له‏.‏

ثم قبض على الوزير أبي الحسن بن علي بن مقلة وكحل المتقي فصاح المسلمون فصرخ النساء فأمر توزون بضرب الرباب حول المخيم وأدخل بغداد مسمولاً مخلوعاً وبويع عبد الله بن المكتفي ولقب بالمستكفي بالله فلم يحل الحول على توزون‏.‏وفيها تملك سيف الدولة بن حمدان ‏"‏ حلب ‏"‏ وأعمالها وهرب متوليها إلى مصر فجهز الإخشيذ ‏"‏ بكسر الهمزة وبالخاء والشين والذال المعجمات والياء المثناة من تحت بعد الشين ‏"‏ ومعناه في لسان الترك ملك الملوك جيشاً فالتقاهم سيف الدولة فهزمهم وأسر منهم ألف نفس ثم سار إلى دمشق فملكها وسار الإخشيذ ونزل على ‏"‏ طبرية ‏"‏ فخامر خلق من عسكر سيف الدولة إلى الإخشيذ فانكسر سيف الدولة وجمعه فقصده الإخشيذ فالتقاه فانهزم سيف الدولة ودخل الاخشيذ حلب‏.‏

وأصاب بغداد قحط لم ير مثله وهرب الخلق وكان النساء يخرجن عشرين عشرين وعشرة عشرة تمسك بعضهم ببعض بصحن الجوع الجوع ثم تسقط الواحدة بعد الواحدة ميته‏.‏

وفيها توفي أبو علي اللؤلؤي محمد بن أحمد البصري راوي السنن عن أبي داود

 أربع وثلاثين وثلاث مائة

فيها دثرت بغداد وتداعت إلى الحراب من شدة القحط والفتن والجور‏.‏

وفيها اصطلح سيف الدولة والإخشيذ وصاهره وتقرر لسيف الدولة حلب وحمص وأنطاكية وقصد معز الدولة بغداد فاختفى الخليفة وتسللت الأتراك إلى الموصل وأقامت الديلم ببغداد ونزل معز الدولة بباب الشماسية وقدم له الخليفة التقاديم والتحف ثم دخل إلى خدمة الخليفة وبايعه فلقبه يومئذ معز الدولة ولقب أخويه‏:‏ علياً‏:‏ عماد الدولة والحسن‏:‏ ركن الدولة وضربت لهم السكة واستوثقت المملكة لمعز الدولة فلما تمكن كحل المستكفي بالله وخلعه من الخلافة لكون ‏"‏ علم القهرمانة ‏"‏ كانت تأمر وتنهي فعملت دعوه عظيمة حضرها خرشيد مقدم الديلم وعدة أمراء فخاف معز الدولة من غائلتها ولأن بعض الشيعة كان يثير الفتن فآذاه الخليفة وكان معز الدولة متشيعاً فلما كان في جمادى الآخرة ودخل الأمراء إلى الخليفة ودخل معز الدولة فتقدم اثنان وطلبا من المستكفي رزقهما فمد لهما يده ليقبلاها فجذباه إلى الأرض وسحباه فوقعت الصيحة فنهبت دور الخلافة وقبضوا على ‏"‏ علم ‏"‏ وخواص الخليفة وساقوا الخليفة ماشياً‏.‏

وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر وصار ثلاثة خلفاء مكحولين‏:‏ هو والذي قبله والقاهر‏.‏

ثم أحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر فبايعه ولقبه المطيع لله وقرر له معز الدولة كل يوم مائة دينار للنفقة وانحطت رتبة الخلافة إلى هذه المنزلة‏.‏

قلت‏:‏ ما صار للخليفة من الخزائن وما يدخل من جميع الدنيا إجراء هذه القدر للنفقه مع شدة الغلاء‏.‏

فإنهم في هذه السنة في شعبان منها كانوا ببغداد يأكلون الميتات والآدميين ومات الناس على الطرق وبيع العقار بالرغيفين واشتروا للمطيع كر دقيق بعشرة آلاف درهم‏.‏

قلت‏:‏ والكر على ما قيل ستة وآلاف رطل بغدادي فعلى هذا يكون قيمة كل رطل درهمين إلا ثلث درهم وهذا الغلاء وإن كان شديداً فقد وقع بمكة ما هو أشد منه بلغ من الرطل الدقيق نحو درهمين في سنة ست وسبعمائة‏.‏

بلغ في الزمن القديم على ما أخبرني من أثق به من شيوخ المجاورين فوق أربعة دراهم وقع ذلك في زمانه‏.‏

وبلغ في تهامة اليمن نحو هذا المبلغ قبيل التاريخ المذكور وقبل التاريخ المذكور إنشاء تاريخي هذا بسنة‏.‏

وفيها توفي الإخشيذ محمد بن طفج ملك مصر والشام ودمشق والحجاز وغيرها التركي الفرغانجي صاحب سرير الذهب وأصله من أولاد ملوك فرغانة ولاه المقتدر دمشق فسار إليها‏.‏

ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهر بالله مصر في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثمائة ثم ضم إليه الراضي بالله الجزيرة والحرمين وغير ذلك من البلاد المذكورة ثم ضم إليه المتقي لله والحجاز وغير ذلك مع ما تقدم‏.‏

والإخشيذ لقب لقبه به الراضي وهو لقب ملوك فرغانة وتفسيره ‏"‏ ملك الملوك ‏"‏ كما تقدم‏.‏

وكل من ملك ملك للناحية لقبوه بهذا اللقب كما لقبوا كل من ملك بلاد فارس ‏"‏ كسرى ‏"‏ وملك الترك ‏"‏ خاقان ‏"‏ وملك الروم ‏"‏ هرقل ‏"‏ وملك الشام ‏"‏ قيصر ‏"‏ وملك اليمن ‏"‏ تبع ‏"‏ وملك مصر ‏"‏ فرعون ‏"‏ وملك الحبشة ‏"‏ النجاشي ‏"‏ وغير ذلك‏.‏

وقيصر‏:‏ كلمة فرنجية تفسيرها بالعربية‏:‏ شق عنه‏.‏

وسببه أن أمه ماتت عنه من المخاض وشق بطنها وأخرج فسمي قيصر‏.‏وكان يفتخر على غيره من الملوك بذلك ودعي لإخشيذ على المنابر بهذا اللقب واشتهر به وصار كالعلم عليه‏.‏

وكان‏.‏

ملكاً حازماً كثير التيقظ في حروبه ومصالح دولته وحسن وذكر بعضهم أن جيشه كان يحتوي على أربعمائة ألف رجل وله ثمانية آلاف مملوك ويحرسه في كل ليلة ألفان منهم ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافر ثم لم يثق ذلك حتى يمضي إلى خيم الفراشين ينام فيها ولم يزل على مملكته إلى أن توفي في الساعة الرابعة من يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة في السنة المذكورة بدمشق‏.‏وحمل تابوته إلى بيت المقدس ودفن فيه‏.‏

وكانت ولادته يوم الاثنين منتصف رجب من سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد وهو أستاذ كافور الأخشيذي المشهور فاتك المجنون ثم قام كافور المذكور بتربية ابني مخدومه أحسن قيام وهما‏:‏ أبو القاسم وأبو الحسن‏.‏

وستأتي ولاية كافور وما يتعلق به‏.‏

وأقام الجند بعد كافور أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيذي وجعل خليفته في تدبير أموره الحسن بن عبد الله وهو ابن عم أبيه وفيه يقول المتنبي‏:‏ إذا صلت لم أترك مصالاً لفاتك وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم وإلا فخانتني القوافي عافني عن ابن عبيد الله ضعف العزائم وفي قصيدة طويلة يقول فيها‏:‏ أرى دون ما بين الفرات وبرقة سراباً لمشي الخيل فوق الجماجم وطعن عصاريف كأن أكفهم عرفن الردينيات قبل العواصم وهم يحسنون العفو عن كل مذنب ويحتملون الغرم عن كل غارم حبيسون إلا أنهم في نزالهم أقل حياء من شفاء الصوارم ولولا احتقار الأشد شبهتها بهم ولكنهم معدودة في البهائم وكان امتداده له في ولايته الرملة وانقراض دولة الإخشيذ في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة‏.‏

ودخل إلى مصر رايات المغاربة الواصلين صحبة القائد جوهر وسيأتي ذكره‏.‏

وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن عبد الله الخرقي‏.‏

وفيها توفي الوزير العدل علي بن عيسى بن داود بن الجراح البغدادي الكاتب وزر مرات للمقتدر ثم للقاهر‏.‏

وكان محدثاً عالماً ديناً خيراً عالي الأسناد روى عن أحمد بن بديل والحسن الزعفراني وطائفة قيل‏:‏ وكان في الوزراء كعمر بن عبد العزيز في الخلفاء‏.‏

قال القاضي أحمد بن كامل‏:‏ سمعت الوزير علي بن عيسى يقول‏:‏ كسبت سبعمائة ألف دينار أخرجت منها في وجوه البر ستمائة ألف دينار وثمانين ألف دينار‏.‏

وآخر من روى عنه ابنه عيسى في أماليه‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على فضله وما خصته به العناية قضيتان ذكرتهما في كتابي روض الرياحين‏:‏ إحداهما‏:‏ أن بعض المضطرين من أهل الخير المشغولين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم في وقت ضرورة وهو يقول له‏:‏ إذا أصبحت اذهب إلى الوزير علي بن عيسى وقل له‏:‏ بإمارة ما صلى علي عند قبري كذا وكذا من مرة يدفع إليك كذا وكذا‏.‏

وعين شيئاً كثيراً من الصلاة عليه ومن المال‏.‏

فلما أصبح ذهب إلى الوزير المذكور ومعه المقرىء بن مجاهد المشهور فقال الوزير لابن مجاهد‏:‏ ما حاجتك يا أبا بكر فقال‏:‏ يدني الوزير هذا الشيخ ويسمع كلامه فسأل ذلك الشيخ عن قصته فأعلمه بضرورته وما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رفعت عينا علي بن عيسى وقال‏:‏ صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدقت أيها الشيخ هذا شيء لم يكن أطلع عليه إلا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

ثم استدعى بالكيس فعدله ألفاً ثم عدد ألفاً آخر وقال‏:‏ هذا شكر ما ذكرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأشك في ألف ثالث دفعه إليه بشارة‏.‏

وأما القضية الثانية‏:‏ فما ذكروا أنه ركب علي بن عيسى الوزير يوماً في موكبه فصار الغرباء يقولون‏:‏ من هذا من هذا‏.‏

فقالت امرأة‏:‏ إلى كم تقولون من هذا من هذا هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه بما ترون‏.‏

فسمعها علي بن عيسى فرجع إلى منزله واستعفى من الوزارة وذهب إلى مكة فجاور بها‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الإخشيذ التركي الفرغاني ملك مصر والشام ودمشق وغيرها‏.‏

وفيها توفي القائم بأمر الله أبو القاسم نذار بن المهدي عبيد الله الداعي الباطني‏.‏

صاحب المغرب وقد سار مرتين إلى مصر ليملكها فما قدر له دخول الإسكندرية في المرتين معاً وتملكها‏.‏

وفي الثانية‏:‏ جاء بعسكر عظيم وبلغ ‏"‏ الجيزة ‏"‏ فوردت الأخبار بذلك إلى بغداد فجهز المقتدر مؤنساً الخادم إلى محاربته بالرجال والأموال فجد في السير فلما وصل إلى مصر التقيا وجرت بين العسكرين حروب لا توصف ووقع في عسكر القائم الوباء والغلاء والأهوال فمات الناس والخيل فرجع إلى إفريقية ومعه عسكر مصر‏.‏

وكان وصوله إلى ‏"‏ المهدية ‏"‏ في رجب سنة سبع وثلاثمائة وفي أيامه خرج أبو يزيد مخلد بن كندار الخارجي وجرت له أمور يطول شرحها ومات في المهدية‏.‏

وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير صاحب المعارف السنية والأحوال القوية‏:‏ أبو بكر الشبلي دلف بن جحدر اشتغل في أول أمره بالفقه وبرع في مذهب مالك ثم سلك وصحب الجنيد وغيره من مشايخ عصره وكان نسيج وحده حالاً وطرفاً وعلماً وقيل‏:‏ تاب في ابتداء أمره في مجلس خير النساح‏.‏

ومجاهداته في أول أمره فوق الحد ويقال أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح لعتاد السهر وكان يبالغ في تعليم الشرع وإذا دخل رمضان جد في الطاعات ويقول‏:‏ ودخل يوماً على شيخه الجنيد فوقف بين يديه وصفق بيديه وأنشد‏:‏ عودوني الوصال والوصل عذب ورموني بالضد والضد أصعب زعموا حين عاتبوا أن ذنبي قر طبعي لهم وما ذاك أذنب ألا وحق الخضوع عند التلاقي ما جزاء من يحب إلا يجب فقال الجنيد‏:‏ نعم يا أبا بكر‏.‏

وكانت امرأة الجنيد عنده حاضرة فأرادت أن تشتري منه فقال لها الجنيد‏:‏ لا عليك وهو غائب لا يراك‏.‏

ثم بكى بعد إنشاده فقال الجنيد‏:‏ اشتري منه الآن فقد حضر‏.‏وقال بعضهم‏:‏ دخلت على الشبلي يوماً في داره وهو يصيح ويقول‏:‏ على بعدك لا يصبر من عادته القرب ولا يقوى على هجرك من يتمه الحب فإن لم ترك العين فقد أبصرك القلب‏.‏

وقال الشبلي‏:‏ رأيت معتوهاً عند جامع الرصافة يقول‏:‏ أنا مجنون أنا مجنون فقلت له‏:‏ لم لا تصلي‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏ يقولون زرنا واقض واجب حقنا وقد أسقطت حالي حقوقهم عني إذا هم رأوا حالي فلم يأنفوا لها ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني وقال بعضهم‏:‏ دخلت على الشبلي فرأيته ينتف شعر حاجبه بالملقاط فقلت له‏:‏ سيدي إنك تفعل هذا وألمه يعود إلي فقال‏:‏ ظهرت لي الحقيقة فلم أستطع حملها فإذا دخل على نفسي الألم لكي يستتر عني فلا وجدت الألم ولا هي استترت عني ولا أنا أطيق حملها‏.‏

وكان أبوه من حجاب الدولة وله مقالات وحكايات وعجيبات ذكرت شيئاً منها في غير هذا الكتاب‏.‏

وقد سأله بعض الفقهاء عن مسألة في الحيض امتحاناً فأجابه وذكر فيها ثمانية عشر قولاً للعلماء وكان قد أراد تخجيله وإظهار جهله في مجلسه بين الخلق لكون خلقتهم بطلت باجتماع الناس على الشبلي ولم يكن عند ذلك الفقيه من الأقوال المذكورة سوى ثلاثة‏.‏

 خمس وثلاثين وثلاث مائة

فيها تملك سيف الدولة دمشق بعد موت الإخشيذ فحاربه به جيوش مصر فدفعته إلى ‏"‏ الرقة ‏"‏ بعد حروب وأمور واصطلح معز الدولة بن بويه وناصر الدولة بن حمدان‏.‏

وفيها توفي الفقيه الإمام أبو العباس ابن القاص الطبري الشافعي وله مصنفات مشهورة تفقه على الإمام أبي العباس بن سريج‏.‏

وفيها توفي العلامة الأخباري الأديب صاحب التصانيف محمد بن يحيى البغدادي الصولي الشطرنجي قال ابن خلكان‏:‏ كان أحد الأدباء الفضلاء المشاهير روى عن أبي داود السجستاني وأبي العباس ثعلب والمبرد وغيرهم‏.‏

وروى عنه الإمام الحافظ أبو الحسن الدارقطني والإمام أبو عبد الله المرزباني وغيرهما ونادم المكتفي ثم المقتدر ثم الراضي وكان أغلب فنونه أخبار الناس وله رواية واسعة ومحفوظات كثيرة وكان حسن الإعتقاد جميل الطريقة مقبول القول وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج لم يكن في عصره مثله في معرفته والناس الأن يضربون به المثل فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه‏:‏ فلان يلعب الشطرنج مثل الصولي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ورأيت خلقاً كثيراً يعتقدون أن الصولي هو الذي وضع الشطرنج وهو غلط فإن الذي وضعه ‏"‏ صصه ‏"‏ بالصاد المهملة المكررة بكسر الأولى منها وفتح الثانية وتشديدها وسكون الهاء في آخره ابن داهر الهندي وضعه للملك ‏"‏ شيرام ‏"‏ بكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والراء المكررة بعد الياء والميم وكان ‏"‏ أزدشير ‏"‏ يفتح الهمزة والدال وسكون الراء بينهما وكسر الشين المعجمة وسكون المثناة من تحت وفي آخره راء ابن بابك أول ملوك الفرس الأخيرة قد وضع ‏"‏ النرد ‏"‏ ولذلك قيل له ‏"‏ النردير ‏"‏ نسبة إلى واضعه المذكور وجعله مثلا للدنيا وأهلها فرتب الرقعة اثني عشر بعدد شهور السنة وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر وجعل الفصوص مثل القدر ويقبله أهل الدنيا فالكلام في هذا يطول ويخرج عما نحن بصدده فافتخرت الفرس بوضع النرد على ملك الهند وكان ملك الهند يومئذ بلهيت ‏"‏ بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح الهاء وسكون المثناة من تحت وبعدها مثناة من فوق على ما ضبطه بعض الناسخين ‏"‏ والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

قلت‏:‏ واسم الملك المذكور مخالف لما تقدم من أن اسم الملك الذي وضع له شيرام ويحتمل أن يكون أحد اللفظين إسماً له والآخر لقباً‏.‏

فلما وضع الشطرنج المذكور قضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد ويقال أن ‏"‏ صصه ‏"‏ لما وضعه وعرضه على الملك المذكور أعجبه وفرح به كثيراً وأمر أن يكون في بيت الديانات ورآها أفضل ما عمل لأنها آلة الحرب وعز الدين والدنيا وأساس لكل عدل وأظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه بها‏.‏

وقال لصصه‏:‏ اقترح علي ما تشتهي فقال‏:‏ اقترحت أن تضع حبة بر في البيت الأول ولا تزال تضعفها في كل بيت حتى تنتهي إلى آخرها فمهما بلغ تعطيني‏.‏

فاستصغر الملك ذلك وأنكر عليه كونه قابله بالبر واليسير التافه الحقير وكان قد أضمر له شيئاً كثيراً فقال‏:‏ ما أريد إلآ هذا وأصر على ذلك فأجابه إلى مطلوبه وتقدم له به فلما قيل لأرباب الديوان أحسبوه قالوا‏:‏ ما عندنا حب يفي بهذا ولا بما يقاربه‏.‏

فلما قيل للملك ذلك استنكر هذه المقالة وأحضر أرباب الديوان وسألهم فقالوا‏:‏ لو جمع كل حب من البر في الدنيا ما بلغ هذا القدر فتعجب من مقالهم وطالبهم بإقامة البرهان على ذلك فقعدوا وحسبوه وظهر لي صدق قولهم فقال الملك‏:‏ لصصه‏:‏ أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالاً من وضعك الشطرنج‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وطريق هذا التضعيف أن يضع الحاسب في البيت الأول حبة وفي الثاني حبتين وفي الثالث أربع حبات وفي الرابع ثماني حبات وهكذا إلى آخره فكلما انتقل إلى بيت أضعف ما قبله وأثبته فيه‏.‏

قال‏:‏ ولقد كان في نفسي شيء من هذه المبالغه حتى اجتمع لي بعض حساب الإسكندرية وذكر لي طريقاً يتبين صحة ما ذكروه وأحضر لي ورقة بصورة ذلك وهو أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر وأثبت فيه وثلاثين ألفاً وسبع مائة وثماني وستين حبة وقال‏:‏ يجعل هذه الجملة مقدار قدح قال‏:‏ فغيرناها فكانت كذلك والعهدة عليه في هذا النقل ثم ضاعف القدح في أبي السابع عشر وهكذا حتى بلغ بيته في البيت العشرين ثم انتقل إلى الوبيات ومنها إلى الأرادب ولم يزل يضاعفها حتى انتهت في الأربعين إلى مائة ألف أردب وأربعة وسبعين ألف أردب وسبع مائة واثنتين وستين أردباً وثلاثين أردباً‏.‏

وقال‏:‏ يجعل هذه الجملة في شونة فقال‏:‏ يجعل هذه مدينة فإن المدينة لا يكون فيها أكثر من هذه الشون وأي مدينة يكون فيها هذه الجملة من الشون‏.‏

ثم ضاعف المدن حتى انتهت إلى بيت الرابع والستين وهو آخر أبياته دفعه الشطرنج إلى ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربع وثمانين مدينة وقال‏:‏ نعلم أن ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة وهو ثمانية آلاف فرسخ بحيث لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بطرف الآخبر إلى ذلك الموضع الأرض والتقى طرف الحبل فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل وهي ثمانية آلاف‏.‏

قال‏:‏ وذلك قطعي لا شك فيه‏.‏

وقد أراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك وكان معروفاً بعلوم الأوائل وتحقيقها ورأى فيها أن دور كرة الأرض عشرون ألف ميل‏.‏

فسأل بني موسى بن شاكر - وكانوا قد اجتهدوا في معرفة علم الهندسة وغيرها من علم الأوائل - فقالوا‏:‏ نعم هذا قطعي فقال‏:‏ أريد منكم أن تعلموا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى يبصر هل ينجز ذلك أم لا‏.‏

فسألوا عن الأراضي المتساوي البلاد فقيل لهم‏:‏ صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطأة الكوفة فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة وخرجوا إلى صحراء سنجار فوقفوا في موضع منها وأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات وضربوا في ذلك الموضع وتداً وربطوا فيه حبلاً طويلاً ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف‏.‏

إلى يمين أو شمال بحسب الإمكان فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً آخر ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول ولم يزل دأبهم ذلك كلما فرغ الحبل ضربوا وتداً وربطوا فيه طرف ذلك الحبل الذي فرغ وطرف حبل آخر ومشوا إلى جهة الشمال حتى انتهوا إلى موضع أخذوا فيه ارتفاع القطب المذكور فوجدوا قد زاد عن الارتفاع الأول درجة‏.‏

فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل‏.‏

ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلاثمائة وستون درجة لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً كل برج ثلاثون درجة فضربوا عدد درج الفلك الثلاث مائة والستين في ستة وستين ميلاً وثلثين التي هي حصة كل درجة فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل وهي ثمانية آلاف فرسخ وهذا محقق لا شك فيه فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر أيضاً فصيرهم إلى أرض الكوفة ففعلوا فيها كما فعلوا في سنجار فتوافق الحسابان فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك‏.‏

انتهى كلام ابن خلكان في ذكر مساحة دور كرة الأرض‏.‏

إلا ثمانين يوماً في مسير النهار دون الليل أو الليل دون النهار لأن المرحلة ثماني فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال كما هو معلوم في حساب مسافة القصر الشرعية‏.‏

ولكن هذا ينافي ما قد اشتهر أن الأرض مسيرة خمسمائة سنة مع أن طول الشيء أقل من دوره وتعلم من ذلك أيضاً أن في كل ثلاث مراحل إلا خمسة أميال وثلث في السير إلى جهة الشمال يرتفع القطب درجة ويكون عرض البلد الذي انتهى إليها زائداً بدرجة على عرض التي ابتدأ بالسير منها بالثلاث المراحل المذكورة إذ كانت المرحلة أربعاً وعشرين ميلاً كما قدروها في مسافة القصر‏.‏

ومما يدلك على صحة هذا أن عرض ‏"‏ المدينة المشرفة ‏"‏ تزيد على عرض مكة المعظمة بثلاث درج والله أعلم‏.‏

وهذا لعمري يخالف ما قيل في أثر وورد في الخبر أن الأرض مسيرة خمسمائة عام والله سبحانه العلام‏.‏

رجعنا إلى كلام ابن خلكان وقال‏:‏ يعلم ما في الأرض من المعمور وهو قدر ربع الكرة بطريق التقريب وقد انتشر الكلام وخرجنا عن المقصود ولكنه ما خلا عن فائدة أحببت إثباتها ليقف عليها من يستنكر ما قالوه في تضعيف الخبر المذكور في رقعة الشطرنج يعني أنه يبلغ قدره إلى ما ذكر وإن كان ذلك مما يستنكر‏.‏

ثم قال‏:‏ ولنرجع إلى حديث الصولي‏:‏ حكى المسعودي في كتاب مروج الذهب قال‏:‏ وقد ذكر أن الصولي في بدء دخوله على الإمام المكتفي لعب مع الماوردي بالشطرنج وكان الماوردي متقدماً عند المكتفي متمكناً من قبل معجباً به للعب فلما لعبا جميعاً بحضرة المكتفي حمد المكتفي حسن رأيه في الماوردي وتقدم الحرمة والألفة على نصرته وتشجيعه وتنبيهه حتى أدهش ذلك الصولي في أول وهلة فلما اتصل اللعب بينهما وجمع له الصولي هذه وقصده بكليته غلبه غلبة لا يكاد يرد عليه شيئاً وتبين حسن لعب الصولي للمكتفي فعدل عن هواه ونصرته للماوردي وقال له عاد ماء وردك بولاً‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأخبار الصولي وما جرى له أكثر من أن تحصى ومع فضائله والاتفاق على تفننه في العلوم وخلاعته وظرافته ما خلا من منتقص هجاه هجواً لطيفاً وهو أبو سعيد العقيلي بضم العين المهملة وفتح القات فإنه رأي له بيتاً مملوءاً كتباً قد صنفها وجلودها مختلفة الألوان وكان يقول‏:‏ هذه كلها سماعي وإذا احتاج إلى معاودة شيء منها قال‏:‏ يا غلام هات الكتاب الفلاني فقال أبو سعيد المذكور هذه الأبيات‏:‏ إنما الصولي شيخ أعلم الناس خزانة إن سألناه بعلم طلب منه إبانة قال يا غلمان هاتوا رزمة العلم فلانة روى خبراً في حق علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فطلبه الخاصة والعامة ليقتلوه فلم يقدروا عليه‏.‏

وكان قد خرج من بعد مضايقة لحقته‏.‏وفي السنة المذكور توفي الحافظ أبو سعيد الشاشي صاحب المسند محدث ما وراء النهر‏.‏

 ست وثلاثين وثلاث مائة

فيها توفي الحافظ أبو الحسين بن المنادي‏.‏

صنف وجمع وسمع من جده وخلق كثير‏.‏

وفيها توفي أبو طاهر المحمدأبادي ومحمد بن الحسن النيسابوري أحد أئمة اللسان كان إمام الأئمة‏.‏

ابن خزيمة إذا شك في لغة سأله عنها‏.‏

وفيها توفي أبو العباس الأثرم محمد بن أحمد المقرىء البغدادي‏.‏

 سبع وثلاثين وثلاث مائة

فيها كان الفرق ببغداد فبلغت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً وهلك خلق كثير تحت الهدم‏.‏

وفيها قوي معز الدولة على صاحب الموصل ابن حمدان وقصده فقر ابن حمدان إلى نصيبين ثم صالحه على ثمانية آلاف ألف في السنة وفيها‏:‏ خرجت الروم وهرب سيف الدولة عن مرعش وملكوها‏.‏

وهي بالعين والشين المعجمتين كذا ضبطها بعضهم‏.‏

وفيها توفي الشيخ العارف بالله أبو إسحاق شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي والخواص وغيرهما‏.‏

ومن كلامه قوله‏:‏ علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية وما كان غير هذا فهو المغاليط والزندقة‏.‏

 ثمان وثلاثين وثلاث مائة

فيها تعذر خروج ركب العراق للحج وفيها توفي المستكفي بالله عبد الله ابن المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله أحمد‏.‏

وفيها توفي عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه الديلمي بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت والهاء‏.‏كان أبوه صياداً ليست معيشته إلا من صيد السمك وكانوا ثلاثة إخوة‏:‏ عماد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة والجميع ملكوا وكان عماد الدولة وهو أكبرهم سبب سعادتهم وانتشار صيتهم واستولى على البلاد وملوك العراقين والأهواز وفارس وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة ثم لما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة اتسعت مملكته وزادت على ما كانت لأسلافه‏.‏

وذكر هارون بن العباس المأموني في تاريخه‏:‏ أن عماد الدولة المذكور اتفقت له أسباب عجيبة كانت سبباً لثبات مملكته منها أنه اجتمع أصحابه في أول ملكه وطالبوه بالأموال ولم يكن معه ما يرضيهم وأشرف على الانحلال فاغتم لذلك‏.‏

فبينا هو يفكر قد استلقى على ظهره في مجلسه إذ رأى حية خرجت من موضع من سقف من ذلك المجلس ودخلت في موضع آخر منه فخاف أن يسقط عليه فدعا الفراشين وأمرهم بإحضار سلم وأن تخرج الحية فلما صعدوا وبحثوا عن الحية وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين فعرفوه ذلك فأمرهم بفتحها ففتحت فوجد فيها عدة صناديق من المال والصياغات قدر خمسمائة ألف دينار فحمل المال إلى بين يديه فسر به فأنفقه في رجاله وثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانخرام ثم إنه قطع ثياباً وسأل عن خياط حاذق فوصف له خياط كان لصاحب البلد فأمر بإحضاره وكان أطروشاً فوقع له أنه قد سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحب البلد وأنه طلبه لهذا السبب فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثني عشر صندوقاً لا يدري ما فيها فعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من حملها فوجدوا فيها أموالاً وثياباً بجملة عظيمة وكانت هذه من الأسباب الدالة على قوة سعادته ثم تمكنت حاله واستقرت فيها قواعده‏.‏

وفيها توفي أبو جعفر النحاس أحمد بن محمد النحوي المصري‏.‏

ناظر ابن الأعرابي ونفطويه وله تصانيف كثيرة مفيدة منها‏:‏ ‏"‏ تفسير القرآن الكريم ‏"‏ و ‏"‏ كتاب إعراب القرآن ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الناسخ والمنسوخ ‏"‏ و ‏"‏ التفاحة ‏"‏ في النحو و ‏"‏ كتاب في الاشتقاق ‏"‏ و ‏"‏ تفسير أبيات سيبويه ‏"‏ ولم يسبق إلى مثله وفسر عشرة دواوين وأملاها و ‏"‏ كتاب في شرح المعلقات السبع ‏"‏ و ‏"‏ كتاب طبقات الشعراء ‏"‏ وغير ذلك وهي بضعة عشر مصنفاً مما يتعلق بالنحو والأدب ونحو ذلك مما يرجع إلى العربية‏.‏

وفيها توفي الإمام الحافظ علي بن حمشاذ بالشين والذال المعجمتين وبينهما ألف وفي أوله حاء مهملة مكسورة وميم مكسورة مشددة النيسابوري‏.‏

رحل وطوف وصنف وله سند كبير وتفسير‏.‏

توفي فجأة في الحمام‏.‏

قال أحمد بن إسحاق الضبعي‏:‏ صحبت علي بن حمشاذ في الحضر والسفر فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة‏.‏

وفيها توفي الفقيه الصالح محمد بن عبد الله بن دينار النيسابوري‏.‏

قال الحاكم‏:‏ كان يصوم النهار ويقوم الليل ويصبر على الفقر ما رأيت في مشايخنا لأصحاب الرأي أعبد منه‏.‏

وفيها توفي الحسن أخو الوزير علي بن مقلة‏.‏

 تسع وثلاثين وثلاث مائة

فيها دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم في ثلاثين ألفاً فافتتح حصوناً وسبى وغنم‏.‏

فأخذت الروم عليه الدروب واستولوا على عسكره قتلاً وأسراً ونجا هو في عدد قليل وتوصل من سلم بأسوأ حال‏.‏وفيها أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه وكان بعض الأمراء قد دفع فيه لهم خمسين ألف دينار فأبوا‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو محمد أحمد بن محمد الطوسي‏.‏

قال الحاكم‏:‏ كان أوحد عصره في الحفظ والوعظ وأخرج صحيحاً على وضع مسلم‏.‏

وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني‏.‏

صنف في الزهد وغيره وصحب العباد وكان من أكبر الحفاظ حديثاً قال الحاكم‏:‏ هو محدث عصره مجاب الدعوة لم يرفع رأسه إلى السماء فيما بلغنا نيفاً وأربعين سنة

وفيها توفي القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد العباسي‏.‏

وفيها توفي أبو نصر محمد بن محمد التركي الفارابي الحكيم المشهور صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم‏.‏

قيل‏:‏ هو أكبر فلاسفة المسلمين لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه‏.‏خرج أبو نصر المذكور من بلده ولم يزل تنتقل به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي فشرع في اللسان العربي فتعلمه وأتقنه غاية الاتقان ثم اشتغل بعلوم الحكمة ولما دخل بغداد كان فيها أبو بشر قسطا بن يونس الحكيم المشهور وهو شيخ كبير يعلم الناس فن المنطق وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية ويجتمع في حلقته كل يوم خلق كثير وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس ليس في المنطق ويملي على تلامذته شرحه فكتب عنه وفي شرحه سبعون سفراً ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه‏.‏وكان في تآليفه حسن العبارة لطيف الإشارة‏.‏

وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذييل حتى قال بعض علماء هذا الفن‏:‏ ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر يعني‏:‏ شيخه المذكور‏.‏

وكان أبو نصر يحضر مجلسه من جملة تلامذته فأقام بذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران‏.‏

وفيها توفي ابن خيلان بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحت الحكيم النصراني فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً ثم قفل راجعاً إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة وتناول جميع كتب أرسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها ويقال أنه وجد‏.‏

كتاب النفس لأرسطاطاليس عليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي‏:‏ قرأت هذا الكتاب مائتي مرة‏.‏

أني محتاج إلى معاودة قراءته وروي عنه أنه سئل‏:‏ من أعلم بهذا الشأن‏:‏ أنت أم أرسطاطاليس فقال‏:‏ لو أدركته لكنت أكبر تلامذته ذكره أبو العباس ابن خلكان حاكياً له عن أبي القاسم بن صاعد القرطبي في كتاب طبقات الحكماء‏.‏

وحكي عنه أنه قال‏:‏ إني في التحقيق على جميع علماء الفلاسفة الإسلاميين وشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها وجمع ما تحتاج إليه منها على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التعاليم وأوضح الغفل فيها من عواد المنطق الخمسة وعرف طريق استعمالها وكيف يصرف صورة القياس في كل مادة وجاءت كتبه في الغاية الكاملة والنهاية الفاضلة‏.‏

قلت‏:‏ قوله الغقل هو بضم الغين المعجمة وسكون الفاء يقال أرض غقل لا علم بها ولا أثر عمارة ودابة غفل‏:‏ لا سمة عليها ورجل غقل‏:‏ لم يجرب الأمور ذكره الجوهري ثم له بعد ذلك كتاب شريف لم يسبق إليه في إحضإر العلوم والتعريف بأغراضها ولا ذهب أحد مذهبه فيه ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به‏.‏

انتهى كلام ابن صاعد‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على الاشتغال بهذا العلم والتحصيل له إلى أن برز أو قال‏:‏ برع فيه وفاق أهل زمانه‏.‏قال‏:‏ ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو بزي الأتراك وكان ذلك دأبه دائماً فوقف فقال له سيف الدولة اقعد فقال‏:‏ حيث أنا أم حيث أنت فقال حيث أنت فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه وكان على رأس سيف الدولة مماليك ولهم معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه أحد فقال لهم بذلك اللسان‏:‏ أن هذا الشيخ قد أساء الأدب وإني سائله في أشياء إن لم يعرف بها فأحرقوا به‏.‏

فقال له أبو نصر بذلك اللسان‏:‏ أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها فتعجب سيف الدولة وقال له‏:‏ أتحسن بهذا اللسان‏.‏

فقال‏:‏ نعم أحسن بأكثر من سبعين لساناً فعظم عنده ثم أخذ يتكلم مع العلماء حاضرين في المجلس في كل فن فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده‏.‏

ثم أخذوا يكتبون ما يقوله وصرفهم سيف الدولة وخلا به فقال‏:‏ هل لك أن تأكل قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تشرب قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تسمع قال‏:‏ نعم فأمر سيف الدولة بإحضار القيان فحضر كل من هو من أهل هذه الصناعة بأنواع الملاهي فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر وقال له‏:‏ أخطأت فقال له سيف الدولة‏:‏ وهل تحسن في هذه الصنعة شيئاً قال‏:‏ نعم ثم أخرج من وسطه خريطة وفتحها وأخرج منها عيداناً فركبها ثم ضرب بها فضحك كل من في المجلس ثم فكها غير تركيبها وضرب بها فبكى كل من في المجلس ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها فنام من في ويقال إن الآلة المسماة بالقانون من وضعه وهو أول من ركبها هذا التركيب وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس وكان زاهداً في الدنيا لا يحتمل بأمر مكسب ولا مكف ولم يزده سيف الدولة على أربعة دراهم في كل يوم لقناعته‏.‏