فصل: أربعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 أربعين ومائتين

فيها توفي قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد ‏"‏ بضم الدال المهملة مكررة في أوله وآخره والهمزة والمد بينهما على وزن فواد ‏"‏ الإيادي عن ثمانين سنة وكان فصيحاً مفوهاً جواداً ممدحاً وكان من أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي وهو الذي شغب على الإمام أحمد بن حنبل وأفتى بقتله‏.‏

وكان قد مرض بالفالج قبل موته نحو أربع سنين ونكب وصودر‏.‏

وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء وكان لا يبدؤهم أحد حتى يبدؤوه‏.‏

وقال أبو العيناء‏:‏ كان ابن أبي دؤاد فصيحاً شاعراً مجيداً بليغاً وما رأيت رئيساً قط أفصح ولا أنطق منه وقد ذكره دعبل بن علي الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء وروى له أبياتاً حساناً‏.‏

وكان يقول‏:‏ ثلاث ينبغي أن يبخلوا أقدارهم‏:‏ العلماء وولاة العدل والإخوان‏.‏فمن استخفت بالعلماء أهلك دينه ومن استخف بالولاة أهلك دنياه ومن استخف بالإخوان وقال إبراهيم بن الحسن‏:‏ كنا عند المأمون فذكروا من بايع من الأنصار ليلة العقبة واختلفوا في ذلك ثم دخل‏.‏

ابن أبي دؤاد فعدهم واحداً واحداً بأسمائهم وكناهم وأنسابهم فقال المأمون‏:‏ إذا استجلس الناس فاضلاً فمثل أحمد فقال أحمد‏:‏ بل إذا جالس العالم خليفة فمثل أمير المؤمنين الذي يفهم وكان أعلم بما يقوله منه ومن كلام أحمد‏:‏‏.‏

ليس بكامل من لم يحمل وليه على منبر ولو أنه حارس وعدوه على جذع ولو أنه وزير‏.‏

وقال أبو العيناء‏:‏ حسد أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي واحتيل عليه حتى شهد عليه بخيانة‏.‏

وقيل عند أفشين فأخذه ببعض أسبابه وجلس له وأحضر السياف ليقتله‏.‏

فبلغ ابن أبي دؤاد الخبر فركب في وقته مع من حضر من عدوله ودخل على الأفشين وقد جيء بأبي دلف ليقتل ثم قال إني رسول أمير المؤمنين إليك وقد أمرك أن لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثاً حتى تسلمه إلي ثم التفت إلى العدول وقال‏:‏ اشهدوا أني قد أديت الرسالة إليه والقاسم حي معافى فقالوا‏:‏ شهدنا وخرج فلم يقدر الأفشين على أن يحدث فيه مكروهاً وسار ابن أبي دؤاد إلى المعتصم من وقته وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قد أديت عنك رسالة لم تقلها إني ما أعتد بعمل خير خيراً منها وإني لأرجو لك الجنة بها‏.‏

ثم أخبره الخبر فصوب رأيه ووجه من أحضر القاسم فأطلقه ووهب له وعنف الأفشين فيما عزم عليه‏.‏

وكان المعتصم قد اشتد غيظه على محمد بن الجهم البرمكي فأمر بضرب عنقه فلما رأى ابن دؤاد ذلك وأن لا حيلة فيه وقد شد برأسه وأقيم في النطع وقد هزله السيف قال‏:‏ ابن أبي دؤاد للمعتصم‏:‏ وكيف تأخذ ماله إذا قتلته قال‏:‏ ومن يحول بيني وبينه قال يأبى الله ذلك ويأباه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويأباه عدل أمير المؤمنين فإن المال للوارث إذا قتلته حتى تقيم البينة على ما فعله‏.‏

وأمره بإستخراج ما أختانه أقرب عليك وهو حي فقال‏:‏ أجلسوه حتى نناظر فتأخر أمره على ماله جملة وخلص بحمد الله تعالى‏.‏

وذكر الجاحظ أن المعتصم غضب على رجل من أهل الجزيرة وأحضر السيف والنطع فقال له المعتصم‏:‏ فعلت وصنعت وأمر بضرب عنقه فقال له ابن أبي دؤاد‏:‏ يا أمير المؤمنين سبق السيف العدل فتأن في أمره فإنه مظلوم فسكن قليلاً قال ابن أبي دؤاد‏:‏ وأرهقني البول فلم أقدر على حبسه وعلمت أني إن قمت قتل الرجل فجعلت ثيابي تحتي وبلت فيها حتى خلصت الرجل فلما قمت نظر المعتصم إلى ثيابي رطبة فقال‏:‏ يا أبا عبد الله كأن تحتك ماء قلت‏:‏ لا يا أمير المؤمنين ولكنه كان كذا وكذا فضحك ودعا لي وقال‏:‏ أحسنت بارك الله عليك‏.‏

قال الراوي‏:‏ وخلع عليه وأمر له بمائة ألف درهم‏.‏

وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي‏:‏ ابن أبي دؤاد روح كله من قرنه إلى قدمه وقال بعضهم‏:‏ ما رأيت قط أطوع لأحد من المعتصم لإبن أبي دؤاد وكان يسأل الشيء فيمتنع منه ثم يدخل ابن أبي دؤاد فيكلمه في أهله وفي أهل الثغور وفي الحرمين وفي أقاصي أهل المشرق والمغرب فيجيبه إلى كل ما يريد ولقد كلمه يوماً في مقدار ألف ألف درهم ليحفر بها نهراً في أقاصي خرسان فقال له‏:‏ ونا علي من هذا النهر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يسألك عن النظر في أقصى رعيتك كما يسألك عن النظر في أدناها ولم يزل يرفق به حتى أطلقها‏.‏

وقال الحسين بن الضحاك الشاعر المشهور لبعض المتكلمين‏:‏ ابن أبي دؤاد عندنا لا يعرف اللغة وعندكم لا يحسن الكلام وعند الفقهاء لا يدري الفقه وهو عند المعتصم يعرف هذا كله‏.‏وكان إبتداء أمر ابن أبي دؤاد بالمأمون أنه قال‏:‏ كنت أحضر مجلس القاضي يحيى بن أكثم مع الفقهاء وكنت عنده يوماً إذ جاء رسول المأمون وقال له‏:‏ يقول لك أمير المؤمنين إلينا أنت وجميع من معك من أصحابك‏.‏

فلم يحب أن أحضر معه ولم يستطع أن يؤخرني فحضرت مع القوم فتكلمت بحضرة المأمون فأقبل المأمون ينظر إلي إذا شرعت الكلام ويتفهم ما أقول ويستحسنه ثم قال لي‏:‏ من تكون فانتسبت له فقال‏:‏ ما أخرك عنا فكرهت أن أحيل على يحيى فقلت‏:‏ حبس القدر وبلوغ الكتاب أجله‏.‏

فقال‏:‏ لا أعلمن يكون لنا مجلس إلا حضرته قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين ثم اتصل الأمر‏.‏

ومائتين وهو حدث سنة نيف وعشرون سنة فاستصحب جماعة من أهل العلم والمروءات منهم‏:‏ ابن أبي دؤاد فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى بن أكثم‏:‏ اختر لي من أصحابك جماعة ليجالسونني فاختار منهم عشرين معهم ابن أبي داود‏.‏

ثم قال اختر منهم خمسة فيهم ابن أبي دؤاد واتصل أمره وأسند المأمون وصيته الموت إلى أخيه المعتصم وقال فيها‏:‏ وأبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد لا يفارقك في المشورة في كل أمر فإنه موضع ذلك ولا تتخذن بعدي وزيراً‏.‏

ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة وعزل يحيى بن أكثم وخص به أحمد كان لا يفعل فعلاً باطناً ولا ظاهراً إلا برأيه وامتحن ابن أبي دؤاد الإمام وألزمه وأطلق القول بخلق القرآن الكريم وذلك في شهر رمضان من سنة عشرين ومائتين‏.‏

قلت‏:‏ في الأصل المنقول منه ‏"‏ ألزم الإمام وأطلق ‏"‏ وكأنه يعني الإمام أحمد ومعلوم أن الإمام أحمد لم يلتزم ذلك ولا وافق عليه مع ما ناله من المكروه والضرر كما سيأتي في ترجمته‏.‏

ولما مات المعتصم وتولى بعده الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دؤاد عنده ولما مات وتولي أخوه المتوكل فلج ابن أبي دؤاد يعني أصابه المرض المعروف بالفالج وذهب شقه الأيمن فقلد المتوكل ولده محمد بن أحمد القضاء مكانه ثم عزل محمد بن أحمد عن المظالم وقلد يحيى بن أكثم وكان الواثق قد أمر أن لا يرى أحد من الناس الوزير محمد بن عبد الملك الزيات إلا قام له وكان ابن أبي دؤاد إذا رآه قام واستقبل القبلة يصلي فقال ابن الزيات‏.‏

صلى الضحى لما استقاد عداوتي ولذا ينسك بعدها ويصوم لا تعد من عداوة مسمومة تركتك تقعد تارة وتقوم ومدح ابن أبي دؤاد جماعة من شعراء عصره قال الراوي‏:‏ رأيت أبا تمام الطائي عند ابن أبي دؤاد ومعه رجل ينشد عنده قصيدة منها‏:‏ لقد أنست مساوىء كل دهر محاسن أحمد بن أبي دؤاد وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواك راحلتي وزادي ودخل أبو تمام عليه يوماً وقد طالت الأيام في الوقوف ببابه ولا يصل إليه فعتب عليه مع بعض أصحابه فقال له ابن أبي دؤاد‏:‏ أحسبك عاتباً يا أبا تمام فقال إنما يعتب على واحد وأنت الناس فكيف يعتب عليك فقال له‏:‏ من أين لك هذا يا أبا تمام‏.‏

فقال‏:‏ من قول الحاذق يعني أبا نؤاس للفضل بن الربيع‏.‏

وليس من الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد ولما ولي ابن أبي دؤاد المظالم قال أبو تمام يتظلم إليه قصيدة من جملتها‏:‏

فقد هز عطفيه القريض ترفعاً ** بعدلك مذ صارت إليك المظالم

ولولا خلا فيها الشعر ما درى ** نعاه العلى من أين تؤتى المكارم

ومدحه أبو تمام أيضاً بقصيدة ما ألطف وأبدع وأبلغ وأبرع قوله فيها‏:‏

وإذا أراد الله نشر فضيلة ** طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار في ما جاورت ** ما كان يعرف طيب نشر العود قلت‏:‏ ومما يناسب هذا المعنى ما حصل لعائشة رضي الله تعالى عنها من الشرف الأسنى والمجد المقيم بما أنزل الله تعالى في براءتها من القرآن الكريم لما تكلم فيها ما بين حاسد أثيم ومخطىء للصواب عديم ومتوعد بعذاب عظيم ومدحه بعض الشعراء بأبيات من جملتها‏:‏ لقد حازت نزار كل مجد ومكرمة على رغم الأعادي فقل للفاخرين على نزار ومنهم خندف وبنو إياد رسول الله والخلفاء منا ومنا أحمد بن أبي دؤاد ولما سمع هذا الشعر أبو هفان قال‏:‏ فقل للفاخرين على تزار وهم في الأرض ساداة العباد رسول الله والخلفاء منا وتبرا من دعا لبني إياد فقال ابن أبي دؤاد‏:‏ ما بلغ مني أحد ما بلغ مني هذا الغلام لولا أني أكره أن أنبه عليه لعاقبته عقاباً لم يعاقب أحد بمثله جاء إلى منقبة كانت لي فنقضها عروة عروة قلت قوله‏:‏ كره أن الله عليه يعني‏:‏ إذا عاقبت لعاقبته عقاباً لم يعاقب به الناس لقوله الذي ذمني فيه وكان بين ابن أبي دؤاد وبين الوزير مناقشات وشحناء فمنع الوزير بعض أصحاب القاضي المذكور من التردد إليه فبلغ ذلك القاضي فجاء إلى الوزير وقال‏:‏ ما أتيتك متكثراً بك من قلة ولا متعززاً من زلة ولكن أمير المؤمنين رتبك رتبة أوجبت لقاءك فإن لقيناك فله وإن تأخرنا عنك فلك ثم نهض من عنده ‏"‏ وهجا ‏"‏ بعض الشعراء الوزير ابن الزيات بقصيدة عدد أبياتها سبعون فبلغ خبرها القاضي ابن أبي دؤاد فقال‏:‏ أحسن من سبعين بيتاً هجا جمعك معناهن في بيت ما أحوج الملك إلى قطرة تغسل عنه وضر الزيت فبلغ ابن الزيات ذلك فقال‏:‏ يا ذا الذي يطمع في هجونا عرضت بي نفسك للموت الزيت لا يزري بأحسابنا أحسابنا معروفة البيت قبرتم الملك فلم تنقه حتى غسلنا القار بالزيت واستمر ولد القاضي المذكور في مكانه لما فلج حتى سخط المتوكل على القاضي أحمد المذكور وولده محمد في سنة سبع وثلاثين ومائتين فصرفه عن المظالم ثم عن القضاء وأخذ من ولده مائة ألف وعشرين ألف دينار وجواهر بأربعين ألف دينار وقيل‏:‏ صالح على ضياعه وضياع أبيه بألف ألف دينار وستره إلى بغداد وفوض القضاء إلى يحيى بن أكثم قال أبو بكر بن دريد‏:‏ كان ابن أبي دؤاد متألفاً لأهل الأدب من أي بلد كانوا وقد ضم منهم جماعة يعولهم ويمونهم فلما مات حضر ببابه جماعة منهم وقالوا‏:‏ يدفن من كان على ساقة الكرم وتاريخ الأدب ولا يتكلم فيه إن هذا وهن وتقصير فلما طلع سريره قام إليه ثلاثة منهم فقال أحدهم‏:‏ اليوم مات نظام الملك والسنن ومات من كان يسعد على الزمن وأظلمت سبل الأدب إذا حجبت شمس المكارم في غيم من الكفن وتقدم الثاني فقال‏:‏ ترك المنابر والسرير تواضعاً وله منابر لو يسافر وسرير وله المحامد ولغيره يجبى الخراج وإنما يجبى إليه محامد وسرير وتقدم الثالث فقال‏:‏ وليس فتيق المسك ريح حنوطه ولكنه ذاك الثناء المخلف قلت‏:‏ ومحاسنه كثيرة ومناقبه شهيرة سارت بها الركبان لولا ما صدر عنه عن الإمتحان بخلق القرآن‏.‏وفي السنة المذكورة توفي في الفقيه الإمام أحد العلماء الأعلام أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي تفقه بالشافعي وسمع من ابن عيينة وغيره وبرع في العلم ولم يقلد أحداً قال أحمد بن حنبل‏:‏ هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة في تصنيفه في الأحكام بين الحديث والفقه وكان أول اشتغاله في مذهب أهل الرأي حتى قدم الشافعي العراق فاختلف إليه واتبعه ورفض مذهبه الأول‏.‏

وقال له محمد بن الحسن يوماً‏:‏ يا أبا ثور حسبت هذا الحجازي قد غلبنا عليك فقال‏:‏ أجل الحق معه ولم يزل مائلاً إلى مذهب الشافعي إلى أن توفي‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الحسن بن عيسى النيسابوري وكان ورعاً دينا أسلم على يد ابن المبارك وسمع الكثير منه ومن ابن الأحوص وطائفة ولما مر ببغداد حدث بها وعدوا في مجلسه اثني عشر ألف محبرة‏.‏

وفيها توفي أبو العميثل ‏"‏ بفتح العين والميم والمثلثة وسكون المثناة من تحت قبل المثلثة ‏"‏ عبد الله بن خليل مولى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس كان يعجم الكلام ويعربه وكان كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره وكاتب أبيه طاهر من قبله وكان مكثراً من ثقل اللغة عارفاً بها شاعراً مجيداً ومن شعره في عبد الله بن طاهر قوله‏:‏ يا من يحاول أن يكون صفاته كصفات عبد الله أنصت وأسمع فلقد نصحتك في المشورة والذي حج الحجيج إليه فاسمع أودع أصدق وعن وبر واصبر واحتمل واصفح وكاف ودار واحلم واسجع والطيف ولن وتأن وارفق وابتد واحرم وجد رجام واحمل وارفع ولقد محضتك إن قبلت نصيحتي وهديت للنهج الأسد المهيع قلت‏:‏ وعدد كلمات بيته الثالث والرابع كل واحد عشر كلمات ولي بيت جمعت فيه اثنتي عشرة كلمة في مخاطبة الله عز وجل بالدعاء‏.‏

وهو قولي في بعض القصائد‏:‏ وسبحانك اللهم يا سامع الدعاء ويا منقذ الهلكى ويا راحم الورى أقل واسترا جبروا رفق ارزق وعاف واهده والطف تجاوز واعطف وارحم لنا اغفرا والألف التي بعد الراء من ‏"‏ اغفر ‏"‏ أبدل من نون التأكيد أي اغفرن ولما حجب أبو العميثل عن الدخول على عبد الله المذكور وقد وصل إلى بابه قال‏:‏

سأترك هذا الباب ما دام إذنه ** على ما أرى حتى يخف قليلاً

فبلغ ذلك عبد الله فأمر بدخوله وكان أبو العميثل يقول‏:‏ النعمان اسم من أسماء الدم ولذلك قيل شقائق النعمان نسبت إلى الدم لحمرتها‏.‏

قال‏:‏ وقولهم إنها منسوبة إلى النعمان بن المنذر ليس بشيء‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ إن النعمان بن المنذر وهو آخر ملوك الحيرة من الحمير خرج إلى ظهر الكوفة وقد اعتم بناته من بين أصفر وأحمر وأخضر وإذا فيه من الشقائق شيء كثير فقال‏:‏ ما أحسنها إحموها فحموها فسمي شقائق النعمان وكذا اذكر الجوهري أنها منسوبة إلى النعمان‏.‏

ويحكى أن أبا تمام الطائي لما أنشد عبد الله بن طاهر قصيدة مدحه بها كان أبو العميثل حاضراً فقال‏:‏ يا أبا تمام لم لا تقول ما يفهم فقال‏:‏ يا أبا العميثل‏:‏ لم لا تفهم ما يقال وقبل يوماً كف عبد الله بن طاهر فاستخشن شاربه فقال أبو العميثل في الحال‏:‏ شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد فأعجبه كلامه وأمر له بجائزة سنية وصنف كتباً منها ‏"‏ ما اتفق لفظه واختلف معناه ‏"‏ و ‏"‏ كتاب التشابه ‏"‏ و ‏"‏ كتاب الأبيات السائرة ‏"‏ و ‏"‏ كتاب معاني شعر ‏"‏‏.‏

وفيها توفي مفتي القيروان وقاضيه أبو سعيد عبد السلام بن سعيد المعروف بسحنون المغربي المالكي صاحب المدونة والمدونة أصلها مسائل أخذها عن ابن قاسم وكانت غير مرتبة فرتب سحنون أكثرها وبوبها على ترتيب التصانيف واحتج لبعض مسائلها بالآثار وأول من شرع في جمع المدونة أسد بن الفرات الفقيه المالكي بعد رجوعه من العراق من أسئلة سأل عنها ابن القاسم وكتبها عنه سحنون ثم رحل بها إلى ابن القاسم فعرضها عليه فاصلح فيها مسائل وحررها ثم رجع بها إلى القيروان وعلى نسخته يعتمدون‏.‏

ولقب سحنوناً باسم طائر وحديد في المغرب يسمونه بذلك لحدة ذهنه وذكائه أخذ عن أبي القاسم وابن وهب وأشهب‏.‏

وفيها توفي عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي صاحب ‏"‏ كتاب الجيدة ‏"‏ سمع من سفيان بن عيينة وناظر بشر المريسي فقطعه وهو معدود من أصحاب الشافعي‏.‏

إحدى وأربعين ومائتين فيها توفي إمام المحدثين في عصره السيد الكبير فريد دهره ذو العلم والعمل والحق والتحقيق والزهد الصادق والورع الدقيق المعظم المبجل أحمد بن حنبل الشيباني المروزي الأصل رضي الله تعالى عنه خرج من جماعة من الكبار ورحل إلى اليمن وسمع من الإمام الحافظ عبد الرزاق في صنعاء والإمام إبراهيم بن الحكم في عدن وغيرهما من شيوخ اليمن‏.‏

وقيل‏:‏ كان يحفظ ألف ألف حديث وكان من أصحاب الإمام الشافعي وخواضه والمحبين له والمعتقدين فضله والمعظمين قدره والمبجلين محله‏.‏

وقد تقدم في ترجمة الشافعي الإشارة إلى تفخيم الإمام وكذلك كان الشافعي يفخمه ولما ارتحل إلى مصر قال في حقه‏:‏ خرجت من بغداد وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل ودعي بعد وفاة الشافعي لست عشرة سنة إلى خلق القرآن فلم يجب وضرب فصبر مصراً على الإمتناع وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل منهم الإمامان الحافظان قدوتا المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري ولد سنة أربع وستين ومائة ‏"‏ وتوفي ‏"‏ ضحى نهار الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وقيل‏:‏ بل لثلاث عشرة بقين من الشهر المذكور وقيل من ربيع الآخر ودفن بمقبرة باب حرب وقبره مشهور يزار رحمة الله عليه وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمان مائة ألف ومن النساء ستين ألفاً وقيل‏:‏ إنه أسلم يوم مات عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس‏.‏

قلت‏:‏ فإن صح ذلك فإسلامهم يحتمل سببين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون ذلك لكثرة من رأوا من الخلائق مجتمعين على فضله وتعظيمه والصلاة عليه والأسف على فراقه‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكون بعضهم رأى آية كما رأى بعض اليهود في جنازة سهل بن عبد الله وهي أنه لما نظر إلى جنازته قال‏:‏ أترون ما أرى‏.‏

قالوا‏:‏ وما ترى قال‏:‏ أرى أقواماً ينزلون من السماء وحكي أن إبراهيم الحربي قال‏:‏ رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنه خرج من مسجد الرصافة وفي كمه شيء يتحرك فقلت‏:‏ ما فعل الله بك‏.‏

فقال‏:‏ غفر لي وأكرمني فقلت‏:‏ ما هذا الذي في كمك‏.‏

فقال‏:‏ قدم علينا روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدر والياقوت فهذا مما التقطته‏.‏قلت‏:‏ فما فعل يحيى بن معين وفلان سماه من أئمة الحديث‏.‏

قال‏:‏ تركتهما وقد زارا رب العالمين ووضعت لهما الموائد‏.‏

قلت‏:‏ فلم لم تأكل معهما أنت قال‏:‏ قد عرفت هوان الطعام علي فأباحني النظر إلى وجهه الكريم وكان رضي الله تعالى عنه حسن الوجه ربعة يخضب بالحناء خضاباً ليس بالثاني وفي لحيته شعرات سود قد جاوز سبعاً وسبعين سنة وقد جمع ابن الجوزي أخباره في مجلد ذلك البيهقي والهروي‏.‏

ومن مناقبه أيضاً ما ذكر بعض العلماء في مناقب الإمام الشافعي عن الربيع قال‏:‏ لما خرج الشافعي إلى مصر وأنا معه كتب كتابأ وقال‏:‏ يا ربيع خذ كتابي هذا وامض به إلى عبد الله أحمد بن حنبل وأتني بالجواب‏.‏

قال الربيع‏:‏ فدخلت بغداد ومعي الكتاب فلقيت أحمد بن حنبل في صلاة الصبح فصليت معه فلما انتقل من المحراب سلمت إليه شاب وقلت‏:‏ هذا كتاب الشافعي من مصر فقال أحمد‏:‏ نظرت فيه قلت‏:‏ لا فكسر الختم وقرأ الكتاب فتغرغرت عيناه بالدموع فقلت له‏:‏ إيش فيه‏.‏

فقال‏:‏ يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له‏:‏ أكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه السلام وقل له‏:‏ إنك ستمتحن وتدعي للقول بخلق القرآن فلا تجبهم فسترفع لك علم إلى يوم القيامة‏.‏

قال الربيع‏:‏ فقلت‏:‏ البشارة فخلع قميصه الذي يلي جلده ودفعه إلي وأخذت جواب الكتاب وخرجت إلى مصر فسلمت الكتاب للشافعي وقال‏:‏ يا ربيع إيش الذي دفع إليك‏.‏

قلت‏:‏ القميص الذي يلي جلده فقال الشافعي‏:‏ لا نفجعك به ولكن بله وادفع إلي الماء حتى أكون شريكاً لك فيه‏.‏

وفيها توفي الإمام أبو علي الحسن بن حماد الحضرمي البغدادي والحافظ أبو قدامة عبد الله بن سعيد رحمهم الله تعالى‏.‏

 اثنتين وأربعين ومائتين

فيها توفي القاضي أبو حسان الزيادي الحسن بن علي بن عثمان وكان إماماً ثقة إخبارياً‏.‏

مصنفاً كثير الإطلاع‏.‏

وفيها توفي الإمام الرباني أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي الزاهد صاحب المسند في صاحب المسند والأربعين وكان يشبه في وقته بابن المبارك‏.‏

رحل وسمع من يزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهما وروى عنه إمام الأئمة المعروف بابن خزيمة‏.‏

وقال‏:‏ لم تر عيناي مثله وقال غيره‏:‏ يعد من الإبدال رحمة الله عليه‏.‏

وفيها توفي الفقيه العلامة المفخم القاضي المشهور يحيى بن أكثم ‏"‏ بالمثلثة ‏"‏ التميمي‏.‏

كان فقيهاً بارعاً عالماً بصيراً بالأحكام سالماً من انتحال البدعة قائماً بكل معضلة غلب على المأمون حتى أخذ بمجامع قلبه فقلده القضاء وتدبير مملكته وكانت الوزراء لا تعمل شيئاً إلا بعد مطالعته كذا قال طلحة الشاهد وقال غيره‏:‏ جعل المتوكل يحيى في مرتبة ابن أبي دؤاد ثم غضب عليه وقال أبو حاتم فيه نظر قلت‏:‏ وقد تقدم في ترجمة ابن أبي دؤاد أنه قال‏:‏ كان ابتداء اتصالي بالمأمون أني كنت أحضر مجلس يحيى بن أكثم مع الفقهاء وأنا عنده يوماً إذ جاء رسول المأمون فقال له‏:‏ يقول لك أمير المؤمنين‏:‏ أنتقل إلينا أنت وجميع من معك من أصحابك‏.‏

قال‏:‏ فلم يحدث أن أحضر معه ولم يستطع أن يؤخرني فحضرت مع القوم فتكلمت بحضرة المأمون فأقبل المأمون ينظر إلي إلى آخر كلامه المتقدم‏.‏

ومنه أنه لما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة وعزل يحيى بن أكثم وأنه سخط المتوكل على القاضي ابن أبي دؤاد وولده وصادرهما وفوض القضاء إلى يحيى بن أكثم على ما ذكره ابن خفكان في تاريخه وهو واضح في تقدم يحيى بن أكثم بولايته القضاء في زمن المأمون ثم عزله بابن أبي دؤاد في زمن المعتصم ثم عزل ابن أبي دؤاد ابنه بابن أكثم في زمن المتوكل وكل ذلك ظاهر على ما تقدم والله أعلم‏.‏

رجعنا إلى ذكر ابن أكثم‏.‏

قال طلحة بن محمد المذكور‏:‏ ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد وسئل رجل من البلغاء عنهما ليهما لنبل فقال‏:‏ كان أحمد يجد مع جاريته وابنته ويحيى ويهزل مع خصيمه وعدوه وكان يحيى سليماً من البلدة وينتحل مذهب أهل السنة بخلاف ابن أبي دؤاد في إعتقاده وتعصبه للمعتزلة‏.‏وذكر الفقيه أبو الفضل عبد العزيز بن علي في ‏"‏ كتاب الفرائض ‏"‏ في آخر المسائل الملقبات وهي أربع عشرة المعروفة بالمأمونية التي هي‏:‏ أبوان وابنتان ولم يقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين وخلفت من المسألة الأولى سميت المأمونية لأن المأمون أراد أن يولي رجلاً على القضاء فوصف له يحيى بن أكثم فاستحضره فلما دخل عليه وكان ذميم الخلق استحقره المأمون فعلم ذلك يحيى فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي فسأله عن هذه المسألة فقال‏:‏ الميت الأول رجل أو امرأة فعلم المأمون أنه قد علم المسألة‏.‏

وفي رواية أنه قال له‏:‏ إذا عرفت الميت الأول فقد عرفت الجواب وذلك أنه إن كان الميت الأول رجلاً فيصح المسألتان من أربعة وخمسين وإن كان امرأة لم يرث الجد في المسألة الثانية لأنه أب وأم فتصبح المسألتان من ثمانية عشر سهماً‏.‏

قال بعضهم كان المأمون ممن برع في العلوم فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل‏.‏

أو نحوها فاستصغره أهل البصرة فقالوا‏:‏ كم سن القاضي‏.‏

فعلم أنه قد استضغر فقال‏:‏ أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به أو قال‏:‏ وجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً على أهل مكة يوم الفتح وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً على أهل اليمن وأنا أكبر من كعب بن سور ‏"‏ بضم السين المهملة ‏"‏ الذي وجهه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قاضياً على أهل البصرة فجعل جوابه احتجاجاً‏.‏

قلت‏:‏ وقد روي أيضاً أنه كان سنة ثماني عشرة سنة فقال‏:‏ سني سن عتاب بن أسيد حين ولآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكة ثمان عشر سنة وكانت ولاية يحيى ابن أكثم على قضاء البصرة بعد إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة سنة اثنتين ومائتين‏.‏

وروى محمد بن منصور قال‏:‏ كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء‏:‏ بكراً غداً إليه‏.‏

فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا وإلا فاسكتا إلى أن أدخل قال‏:‏ فدخلنا إليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ‏:‏ متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

وعلى عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأنا أنهي عنهما ومن أنت يا جعل حتى أنتهي عما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أبو بكر‏.‏قال محمد بن منصور وأومى أبو العيناء إلي إذا كان هذا القول يقوله في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فكيف نكلمه نحن‏.‏

فسكتنا حتى جاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا‏.‏

فقال المأمون ليحيى‏:‏ ما لي أراك متغيراً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام قال‏:‏ ما حدث في الإسلام قال‏:‏ النداء بتحليل الزنا‏.‏

قال‏:‏ نعم المتعة زنا قال‏:‏ ومن أين قلت هذا قال‏:‏ من كتاب الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ قد أفلح المؤمنون ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ‏"‏ ‏"‏ المؤمنون ا - 7 ‏"‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ زوجة المتعة ملك اليمين‏.‏قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث ويلحق منها الولد ولها شرائطها‏.‏قال‏:‏ لا قال فقد صار متجاوز هذين من العادين‏.‏

وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم قال‏:‏ أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها فالتفت إلينا المأمون وقال‏:‏ أمحفوظ هذا من حديث الزهري‏.‏فقلنا‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين رواه جماعة منهم مالك بن أنس فقال‏:‏ أستغفر الله بادروا بتحريم المتعة فبادروا بها‏.‏

وقال أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي القاضي الفقيه المالكي البصري وقد ذكر يحيى بن أكثم فعظم أمره وقال‏:‏ كان له يوماً لم يكن لأحد مثله وذكر هذا اليوم وكانت كتب يحيى في الفقه ‏"‏ أجل كتب فتركها الناس لطولها وله كتب في الأصول وله كتاب أورده على العراقيين وبينه وبين داود بن علي مناظرات كثيرة ‏"‏‏.‏

قالوا‏:‏ وكان يحيى من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور قال يوماً وزير المأمون أحمد بن أبي خالد وهو واقف بين يدي المأمون وابن أكثم معه على طرف السرير يا أمير المؤمنين إن القاضي يحيى صديقي ومن أثق به في جميع أمري وقد تغير عما عهدته منه فقال المأمون‏:‏ يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم وما بعد لكما عندي عهد فما هذه الوحشة فيكما‏.‏فقال له يحيى‏:‏ يا أمير المؤمنين والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة حتى خشي أن أتغير عليه يوماً فأقدح فيه عندك‏.‏

فأحدث أن يقول لك هذا ليأمن مني وإنه لو بلغ نهاية مساوىء ما ذكرته بسوء عندك أبداً‏.‏

فقال المأمون‏:‏ أكذلك هو يا أحمد قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين فقال‏.‏

نستعين الله عليكما فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فتنة منكما‏.‏

وكان يحيى إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن حديث وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو وإذا رآه يعرف النحو سأله عن الكلام ليقطعه‏.‏

وذكر الخطيب في تاريخه أنه ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يرمي الناس به يحيى بن وذكر الخطيب أيضاً أن المأمون قال ليحيى المذكور‏:‏ من الذي يقول‏:‏ قاضي يرى الحد في الزنا ولا يرى على من يلوط من بأس قال‏:‏ أو ما تعرف يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ لا قال‏:‏ يقوله أحمد بن أبي نعيم الذي يقول‏:‏ لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة وال من آل عباس قال‏:‏ فاقحم المأمون خجلاً وقال‏:‏ ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم إلى السند‏.‏

وهذان البيتان من جملة أبيات له منها قوله‏:‏ لا أفلحت أمة وحق لها يطول مكس وطوله أنعاس ترضى بيحيى يكون سائسها وليس يحيى لها بسواس ومما يناسب إنشاد المأمون البيت المذكور وجواب ابن أكثم بالبيت المقحم له ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان لما اشتد مرض موته وحصل اليأس منه دخل عليه بعض ذرية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يعوده فوجده قد استند جالساً متجلداً ثم ضعف عن القعود فاضطجع وأنشد‏:‏ وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع

فأنشد العلوي عند ذلك‏:‏ فتعجب الحاضرون من جوابه‏.‏

وهذان البيتان من جملة قصيدة طويلة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي يرثي بها بنيه وكان قد هلك له خمس بنين في عام واحد بالطاعون في طريق مصر وقيل في طريق إفريقية وقيل في طريق المغرب ثم هلك هو بعدهم‏.‏

ومما يناسب الجواب المذكور ما يحكى أن بعض الشعراء وهو عبد الله بن إبراهيم المعروف بابن المؤدب القيرواني امتدح ثقة الدولة بقصيدة رجا فيها صلته فلم يصله بشيء يرضيه وكان قد بلغ ثقة الدولة عنه شيء فلم يزل يرسل الطلب بعد حتى ظفر به فقال له‏:‏ ما الذي بلغني عنك‏.‏

قال‏:‏ المحال أيد الله الأمير‏.‏

فقال‏:‏ من هو الذي يقول في شعره‏:‏ ‏"‏ فالحر ممتحن بأولاد الزنا ‏"‏ فقال‏:‏ هو الذي يقول‏:‏ ‏"‏ وعداوة الشعراء بئس المقتنى ‏"‏ فتسمر ساعة ثم أمر له بشيء وأخرجه من المدينة كراهية أن تثور عليه نفسه فيعاقبه بعد أن عفا عنه فخرج منها‏.‏

وهذا المستشهد به عجزا البيتين من شعر المتنبي في قصيدة مدح بها ابن عمار‏.‏وصدر الأول منهما‏:‏ وإنه المسير عليك في نصلة فالحر ممتحن بأولاد الزنا وصدر الثاني‏:‏ ومكائد السفهاء واقعة بهم وعداوة الشعر بئس المقتنى رجعنا إلى ذكر القاضي يحيى بن أكثم ولما توتجه المأمون إلى مصر في سنة خمس عشرة وروي عن يحيى أنه قال‏:‏ اختصم إلي في ‏"‏ الرصافة ‏"‏ الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه‏.‏

قلت‏:‏ ومثل هذا وجد عندنا في يافع من بلاد اليمن حتى كان يقول الإبن السافل‏:‏ يا جد أجب جدك وكان بعض الشعراء يتردد إليه ويغشى مجلسه وكان بعض الأحيان لا يقدر على الوصول إليه إلا بعد مشقة ومذلة يقاسيها فانقطع عنه فلامته زوجته في ذلك مراراً فأنشدها‏:‏ تكلفني إذلال نفسي لغيرها وكان عليها أن أهان لتكرما تقول سل المعروف يحيى بن أكثم فقلت‏:‏ سليه رب يحيى بن أكثما ولم يزل الأحوال تختلف على ابن أكثم وتتقلب به الأيام إلى أن عزل محمد بن القاضي أحمد بن أبي دؤاد عن القضاء في أيام المتوكل فولي ابن أكثم كما تقدم وخلع عليه خمس خلع ثم عزله وولي في رتبته جعفر بن عبد الواحد الهاشمي‏.‏

فجاء كاتبه إلى القاضي يحيى فقال‏:‏ سلم الديوان فقال‏:‏ شاهدان عادلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك فأخذ الديوان منه قهراً وغضب عليه المتوكل فأمر بقبض أملاكه وألزم بيته ثم حج وحمل أخته معه وعزم على أن يجاور فلما اتصل به رجوع المتوكل له رجع يريد العراق فلما وصل إلى الربذة توفي بها يوم الجمعة منتصف ذي الحجة من السنة المذكورة وقيل في غيره سنة ثلاث وأربعين ودفن هناك‏.‏

وحكى أبو عبد الله بن سعيد قال‏:‏ كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً لي وكان يودني وأوده وكنت أشتهي أن أراه في المنام بعد موته فأقول له‏:‏ ما فعل الله بك‏.‏

فرأيته ليلة فقلت‏:‏ ما فعل الله بك فقال‏:‏ غفر لي إلا أنه وبخني ثم قال لي‏:‏ يا يحيى خلطت علي في دار الدنيا فقلت‏:‏ يا رب إتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ إنك قلت‏:‏ إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار فقال‏:‏ قد عفوت عنك يا يحيى وصدق نبيي إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا‏.‏

ذكر كذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته‏.‏قلت‏:‏ ومما يناسب هذه الحكاية أو يقرب منها أنه توفي شيخ كان عندنا في بلاد اليمن وكيلاً على باب القاضي في عدن‏.‏

فلما توفي راه بعض الناس في المنام فقال له‏:‏ ما فعل الله بك‏.‏قال‏:‏ أوقفني بين يديه وقال‏:‏ يا شيخ السوء جئتني بموبقات الذنوب أو قال بالذنوب الموبقات فقال‏:‏ قلت‏:‏ يا رب ما هكذا بلغني عنك‏.‏

قال‏:‏ وما الذي بلغك عني قلت‏:‏ العفو والكرم قال‏:‏ صدقت أدخلوه الجنة أو كما قال‏.‏

ولما ذكرت هذه الحكاية عند ولد له وكيل أيضاً في الخصومات قال‏:‏ نعم وهو وكيل ما يعجزه الجواب يعني أباه ما أجاب به‏.‏قلت‏:‏ وكلامه هذا إن كان مزاحاً فهو قبيح وإن كان جداً فباطل غير صحيح لأن الثبات في الآخرة ليس إلا بتوفيق الله وما ينعم به من نوال لا بفصاحة اللسان وما يعرفه الإنسان في الدنيا من الجدال‏.‏نعوذ بالله من الإغترار والزيغ والضلال‏.‏