فصل: أربع وثمانين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 أربع وثمانين ومائتين

قال محمد بن جرير‏:‏ فيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر فخوفه الوزير من اضطراب العامة فلم يلتفت‏.‏

ومنع القصاص من الكلام ومن اجتماع الخلق في جوامع وكتب كتاباً فيه مصائب ومعائب‏.‏

فقال القاضي يوسف بن يعقوب‏:‏ يا أمير مؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه‏.‏

فقال‏:‏ إن تحركت العامة وضعت فيهم السيف‏.‏

قال‏:‏ فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك‏.‏

وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت مالوا إليهم وصاروا أبسط الألسنة‏.‏

فأمسك المعتضد‏.‏

وفيها توفي محدث نيسابور ومفيدها الحافظ أحمد بن المبارك المستملي سمع قتيبة وطبقته وكان مع سعة روايته راهب عصره مجاب الدعوة‏.‏

وفيها توفي أبو عبادة البحتري ‏"‏ بضم الموحدة والمثناة من فوق وسكون الحاء ‏"‏ المهملة بينهما وكسر الراء ‏"‏ منسوب إلى ‏"‏ بحتر ‏"‏ أحد أجداده‏.‏

أمير شعراء العصر وحامل لواء القريض الوليد بن عبيد الطائي‏.‏

أخذ عن أبي تمام الطائي ولما سمع أبو تمام قال‏:‏ نعيت إلى نفسي‏.‏وممن ذكره المبرد وقال‏:‏ أنشدنا شاعر دهره ونسيج وحده أبو عبادة البحتري ومدح براعته المؤرخون وذكروا أنه ولد بمنبج ونشأ بها ثم خرج إلى العراق ومدح جماعة من الخلفاء أولهم المتوكل على الله وخلقاً كثيراً من الأكابر والرؤساء ببغداد دهراً طويلاً ثم عاد إلى الشام‏.‏

وله أشعار كثيرة ذكر فيها حلب وضواحيها و يتغزل بها‏.‏

وقد روي عنه أشياء من شعره أبو العباس المبرد ومحمد بن أحمد الحليمي وأبو بكر الصولي وغيرهم‏.‏

قال صالح بن الأصبغ التنوخي المنبجي‏:‏ رأيت البحتري ها هنا عندنا أن يخرج إلى العراق اجتاز بنا في الجامع من هذا الباب وأومى إلى جنبتي المسجد يمدح أصل البصل والباذنجان وينشد الشعر في ذهابه ومجيئه ثم كان منه ما كان‏.‏

وحكي بكر الصولي في كتابه الذي وضعه في أخبار أبي تمام الطائي أن البحتري كان يقول‏:‏ أول أمري في الشعر ونباهتي فيه أني ذاهب إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده وعرض عليه شعره‏.‏

فلما سمع شعري أقبل وترك سائر الناس‏.‏

فلما تفرقوا قال لي أنت أشعر من أنشدني فكيف حالك‏.‏

فشكوت فكتب إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق وشفع لي إليهم وقال‏:‏ امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه وقطعوا لي أربعة آلاف درهم وكانت أول مال أصبته‏.‏وقال عبادة المذكور‏:‏ أول ما رأيت أبا تمام وما كنت رأيته قبلها أني دخلت إلى أبي محمد بن يوسف فامتدحته بقصيدتي التي أولها‏.‏

لا فاق صب من هوى فأفيقا أم خان عهداً أم أطاع شفيقاً فأنشدته فلما أتممتها سر بها وقال لي‏:‏ أحسن الله إليك يا فتى فقال له رجل المجلس‏:‏ هذا أعزك الله شعري بحلقته فسبقني به إليك‏.‏

فتغير أبو سعيد وقال لي‏:‏ يا فتى قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك أن نمت به إلينا ولا تحمل نفسك على هذا فقلت‏:‏ هذا شعري أعزك الله فقال الرجل‏:‏ سبحان الله يا فتى لا تقل هذا‏.‏

ثم ابتدأ فأنشد القصيدة أبياتاً فقال لي أبو سعيد‏:‏ نحن نبلغك ما تريد ولا تحمل نفسك على هذا‏.‏

فخرجت متحيزاً لا أدري ما أقول ونويت أن أسأل عن الرجل من هو فما أبعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال لي‏:‏ جنيت عليك فاحتمل‏.‏

أتدري من هذا قلت‏:‏ لا‏.‏

قال لي‏:‏ هذا ابن عمك حبيب بن أوس الطائي أبو تمام قم إليه فقمت إليه فعانقته ثم أقبل يقرطني ويصف شعري وقال‏:‏ إنما فرجت معك‏.‏

فلزمته بعد ذلك وكبر عجبي من سرعة حفظه‏.‏

ومعنى يقرظني أي‏:‏ يمدحني‏.‏

قال في الصحاح‏:‏ والتقريظ مدح الإنسان وهو حي والتأبين‏:‏ مدحه ميتاً‏.‏

وقولهم فلان يقرظ صاحبه تقريظاً ‏"‏ بالظاء والضاد المعجمتين جميعاً ‏"‏ عن أبي زيد إذا مدحه بباطل أو حق‏.‏

وهما وقيل للبحتري‏:‏ أيما أشعر أنت أم أبو تمام فقال‏:‏ جيده خير من جيدى ورديئي خير من رديئه وقال‏:‏ يقال لشعر البحتري‏:‏ سلاسل الذهب‏.‏

وهو في الطبقه العليا ويقال أنه قيل لأبي العلاء المعري‏:‏ أي الثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي‏.‏

فقال‏:‏ حكيمان والشاعر البحتري‏.‏

قيل وما أنصفه ابن الرومي في قوله‏:‏ والفتى البحتري يسوق ما قال ابن أوس في المدح والتشبيب كل بيت له يجود معناه فمعناه لإبن أوس حبيب وقال ابن البحتري‏:‏ أنشدت أبا تمام شيئاً من شعرى فأنشد بيت أوس بن حجر ‏"‏ بفتح الحاء والجيم ‏"‏‏:‏ إذا مقرم منا ذرا حدنا به تحمط فينا تاب آخر مقرم وقال‏:‏ نعيت إلى نفسي فقلت‏:‏ أعيذك بالله من هذا فقال‏:‏ إن عمري ليس يطول وقد نشأ لطي مثلك‏.‏أما علمت أن خالد بن صفوان المنقرى رأى شبيب بن شيبه وهو من رهطه يتكلم فقال‏:‏ يا بني نعي إلى نفسي بإحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله‏.‏قال‏:‏ فمات أبو تمام بعد سنة من هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ذر أحدنا به أي‏:‏ سقط وذروت الشيء أي‏:‏ طيرته وأذهبته‏.‏وذرت الريح التراب وغيره تذروه ذرواً وتذريه ذرياً أي سفته‏.‏

وأذريت الشيء إذا ألقيته كإلقاء الحب للزرع‏.‏

وطعنه فأذراه عن ظهر دابته أي ألقاه‏.‏

وتخمط بالخاء المعجمه والطاء المهملة يقال في الفحل إذا هدر وفي الإنسان إذا تغضب وتكبر وفي البحر إذا التطم ‏"‏ والمقرم ‏"‏ بضم الميم وسكون القاف وفتح الراء‏:‏ المكرم وكذلك القرم بفتح القاف‏.‏

ومنه قيل سيد قوم مقرم وقال البحتري‏:‏ أنشدت أبا تمام شعراً في بني حميد ووصلت به إلى مال خطير فقال لي‏:‏ أحسنت أنت أمير الشعراء بعدي وكان قوله هذا أحب إلي من جميع ما حويته‏.‏

وقال ميمون بن مهران‏:‏ رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى البلاذري المؤرخ فسألته عن حاله فقال‏:‏ كنت من جلساء المستعين بالله يقصده الشعراء فقال‏:‏ لست أقبل إلا ممن قال مثل البحتري في المتوكل‏.‏

لو أن مشتاقاً تكلف غير ما في وسعه لسعى إليك المنبر قال فرجعت إلى بيتي وأتيته وقلت‏:‏ قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري فقال‏:‏ هاته فأنشدته‏:‏ ولو أن برد المصطفى إذ لبسته يظن لظن البرد أنك صاحبه وقال فقد أعطيته ولبسته نعم هذه أعطافه ومناكبه فقال ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به‏.‏

فرجعت فبعث إلي بسبعة الألف دينار وقال ادخر هذه لحوادث من بعدي ولكن على الجزاية والكفاية ما دمت حياً‏.‏

قلت‏:‏ ولا يخفى ما في بيتيه المذكورين من الخروج إلى حيز الكفر من تشيهه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم‏.‏

وللمتنبي في معنى قول البحتري في المنبر‏.‏

لو تعقل الشجر التي قابلتها مدت محبتها إليك الأغصنا وسبقهما أبو تمام بقوله‏:‏ لوسعت نفقة لإعظام نعمي لسعى نحوك المكان الجديد والبيت الذي للبحتري من جملة قصيدة طويلة أحسن فيها يمدح بها المتوكل على الله ويذكر خروجه لصلاة عيد الفطر وأولها‏.‏

أخفي هوى في الضلوع وأظهر وألام من كمد عليك وأعذر والأبيات التي يرتبط بها البيت المقدم ذكر للبحتري‏.‏

بالبر صمت وأنت أفضل صائم ** وبسنة الله الرضية تفطر

فانعم بيوم الفطر عيداً إنه ** يوم أعز من الزمان مشهر

أظهرت عز الملك فيه بجحفل ** لجب يحاط الدين فيه وينصر

خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ** عدداً يسيرها العديد الأكبر

والأرض خاشعة تميد بنقلها ** والجو معتكر الجوانب أغبر والشمس طالعة توقد في الضحى ** طوراً ويطفئها العجاج الأكدر

حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ** ذاك الدجى وانجاب ذلك العثير

وافتن فيك الناظرون فإصبع ** يومي إليك بها وعين تنظر

يجدون رؤيتك التي فازوا بها ** من أنعم الله التي لا تكفر

ذكروا طلعتك التي قد هللوا ** لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً ** نور الهدى يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشع متواضع ** لله لا تزهو ولا تتكبر

فلو أن مشتاقاً تكلف غير ما ** في وسعه لمشى إليك المنبر

أبديت من فصل الخطاب بحكمة ** تنبي عن الحق المبين وتخبر

ووقفت في برد النبي مذكراً ** بالله تنذر تارة وتبشر

وقوله‏:‏

وانجاب ذلك العثير هو بكسر العين المهملة وسكون المثلثة وفتح المثناة من تحت والمراد الحشو شيء بل جميعه تحت وديوانه موجود وشعره سائر فلا حاجة إلى الإكثار منه ها هنا لكن تذكر من وقائعه ما يستطرف‏.‏

فمن ذلك أنه كان بحلب شخص يقال له أحمد بن طاهر الهاشمي مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار فأنفقها على الشعراء والوزراء وفي سبيل الله فقصده البحتري من العراق‏.‏

فلما وصل إلى حلب قيل له‏:‏ إنه قد قعد في بيته لديون ركبته فاغتم البحتري لذلك غماً شديداً وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه‏.‏

فلما وصلته ووقف عليها بكى ودعا بغلام له وقال له‏:‏ بع داري فقال له‏:‏ لا تبع دارك وتبقى على رؤوس الناس فقال له‏:‏ لا بد من بيعها فباعها بثلاث مائة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها هذه الأبيات‏:‏ لو يكون الحياء حسب أنت لدينا به محل وأهل لحثيت اللجين والدر والياً قوت حثواً وكأن ذلك بقل والأديب الأريب يسمع بالعذر إذا قصن الصديق المقل فلما وصلت الرقعة للبحتري رد الدنانير وكتب إليه‏:‏ بأبي أنت أنت للبر أهل والمساعي بعد سعيك قبل والنوال القليل يكثر إن شاء مرجيك والكثير يقل فإذا ما جزيت شعراً بشعر قضي الحق والدنانير فضل فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة وضم إليها خمسين ديناراً أخرى وحلف إنه يردها عليه وسيرها إليه فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول‏:‏ شكرتك إن الشكر للسيد نعمة ومن يشكر المعروف بالله زائده لكل زمان واحد يقتدى به وهذا زمان أنت لا شك واحده قلت‏:‏ وحكي أن هذين البيتين كتبهما الشيخ الإمام محيي الدين النووي وأرسل بهما إلى الشيخ الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد رضي الله تعالى عنهما لما بلغه أنه قيل دقيق ‏"‏ العيد ‏"‏ لم لا تصنف في الفقه فقال‏:‏ قد صنف الشيخ محيي الدين النووي ما فيه كفاية أو كما قال‏:‏ ومثل هذا ما حكي أيضاً أن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي قيل له‏:‏ لم لا تصنف في التفسير‏.‏

فقال‏:‏ يكفي ما صنف فيه شيخنا الإمام أبو الحسن الواحدي رحمة الله عليهما‏.‏وكان البحتري قد اجتاز بالموصل وقيل برأس عين فمرض مرضاً شديداً‏.‏

وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه فوصف له يوماً مزورة ولم يكن عنده من يخدمه سوى غلامه فقال الغلام‏:‏ أصنع هذه المزورة‏.‏

وكان بعض رؤساء البلد حاضراً عنده وقد جاء يعوده فقال ذلك الرئيس‏:‏ هذا الغلام ما يحسن يطبخها وعندي طباخ من نعته وصفته كيت وكنت وبالغ في حسن صفته فترك الغلام عملها اعتماداً على قوله البحتري ينتظر واشتغل الرئيس عنها ونسي أمرها‏.‏

فلما أبطأت عليه وفات وقتها وصولها إليه كتب إلى الرئيس‏:‏ وجدت وعدك زوراً في مزورة حلفت مجتهداً إحكام طاهيها فلا شفى الله من يرجو الشفاء ولا علت كفه ملق كفه فيها فاحبس رسولك عني أن يجيء بها فقد حبست رسولي عن تقاضيها قوله‏:‏ طاهيها أي طابخها فالطهي‏:‏ الطبخ صرح به في ديوان الأدب‏.‏وأخباره ومحاسنه كثيرة ولم يزل شعره غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف‏.‏

وجمعه أيضاً علي بن حمزة الأصبهاني ولم يرتبه على الحروف بل على الأنواع كما صنع بشعر أبي تمام‏.‏

وللبحتري أيضاً كتاب حماسة على مثال حماسة أبي تمام وله ‏"‏ كتاب معاني الشعر ‏"‏ وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس ومائتين‏.‏قال ابن الجوزي وتوفي وهو ابن ثمانين سنة‏.‏

وقال الذهبي‏:‏ ابن بضع وسبعين سنة وقيل توفي في السنة التي قبل هذه وقيل في التي بعدها وقيل في سنة ست وثمانين‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ كان يكنى أبا الحسن وأبا عبادو فأشير عليه في أيام المتوكل أن يقتصر على أبي عبادة فإنها أشهر ففعل‏.‏

قال ابن خلكان تاريخه‏:‏ وأهل الأدب كثيراً ما يسألون عن قول أبي العلاء المعري‏:‏ وقال الوليد‏:‏ الينع ليس بمثمر وأخطأ شرب الوحش من ثمر الينع‏.‏

فيقولون‏:‏ من هو الوليد المذكور وأين قال‏:‏ الينع ليس بمثمر ولقد سألني عنه جماعة كثيرة‏.‏

والمراد بالوليد هو البحتري المذكور وله قصيدة طويلة منها‏:‏ وعبرتني سجال لعدم جاهلة والينع غير بان ما في فرعه ثمر وهذا البيت هو المشار إليه في بيت المعري‏.‏

 خمس وثمانين ومائتين

فيها وثب صالح بن مدرك الطائي في طيىء فانتهبوا الركب العراقي وبدعوا وسبوا النساء وراح للناس ما قيمته ألف ألف دينار‏.‏

وفيها مات الإمام الحبر أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن بشر الحربي الحافظ أحد الأئمة الأعلام وله سبع وثمانون سنة سمع أبا نعيم وعفان وطبقتهما وتفقه على الإمام أحمد وبرع في العلم والعمل وصنف التصانيف الكثيرة وكان يشبه بأحمد بن حنبل في وقته‏.‏توفي السنة المذكورة توفي إمام أهل النحو في زمانه صاحب المصنفات النافعات‏:‏ أبو العباس المبرد محمد بن يزيد الأزدي البصري أخذ عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني وتصدر للإشتغال ببغداد‏.‏

وكان وسيماً مليح الصورة فصيحاً مفوهاً أخبارياً علامة ثقة إماماً في النحو واللغة‏.‏

وله التآليف النافعة في الأدب منها ‏"‏ كتاب الكامل ‏"‏ ومنها ‏"‏ الروضة ‏"‏ و ‏"‏ المقتضب ‏"‏ وغير ذلك وأخذ عنه نفطويه وغيره من الأئمة وكان في المبرد المذكور أبو العباس الملقب بثعلب صاحب كتاب الفصيح عالمين فاضلين متعاصرين قد ختم بهما تاريخ الأدباء‏.‏

وفيهما يقول بعض أهل عصرهما وهو أبو بكر بن الأزهر أبياتاً من جملتها قوله‏:‏ أيا طالب العلم لا تجهلن وعد بالمبرد أو ثعلب تجد عند هذين علم الورى فلا تك كالجمل الأجرب علوم الخلائق مخزونة بهذين في الشرق والمغرب قالوا‏:‏ وكان المبرد يحب الإجتماع بثعلب للمناظرة والإستكثار من ذلك وكان ثعلب يكره ذلك ويمتنع منه‏.‏

وحكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الفقيه الموصلي قال‏:‏ قلت لأبي عبد الله الدينوي ختن ثعلب‏:‏‏.‏

لم يأبى ثعلب الإجتماع بالمبرد‏.‏

فقال‏:‏ لأن المبرد حسن العبارة حلو الإشارة فصيح اللسان وثعلب مذهبه مذهب المعلمين فإذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف الباطن‏.‏

وكان المبرد كثير الأمالي حسن النوادر‏.‏

وحكي عن بعضهم أنه رأى المبرد في المنام وجرى له معه قصة عجيبة‏.‏

وذلك أنه كان عنده ‏"‏ كتاب الكامل ‏"‏ للمبرد و ‏"‏ كتاب العقد ‏"‏ لإبن عبد ربه وهو يطالع فيها قال‏:‏ فرأيت في العقد في فصل ترجمته قوله‏:‏ ما غلط فيه على الشعراء وذكر أبياتاً نسب أصحابها فيها إلى الغلط وهي صحيحة‏.‏

وإنما وقع الغلط ممن استدرك عليهم لعدم إطلاعه على حقيقة الأمر فيها ومن جملة من ذكر المبرد فقال‏:‏ ومثله قول محمد بن يزيد النحوي في كتاب الروضة ورده على الحسن بن هانىء يعني أبا نواس في قوله‏:‏ وما لبكر بن وائل عصم إلا بحمقائها وكاذبها فزعم أنه بحمقائها رجلاً ولا يقال في الرجل حمقاً وإنما أراد ‏"‏ دغه ‏"‏ بضم الدال وفتح الغين المعجمة العجلية وعجل في بكر وبها يضرب المثل في الحمق‏.‏

هذا كلام صاحب العقد وغرضه أن المبرد نسب أبا نواس إلى الغلط يتوهمه أنه قصد ‏"‏ هبنقة ‏"‏ بفتح الهاء والباء الموحدة والنون المشددة والقاف وبه يضرب المثل في الحمق فيقال أحمق من هبنقة ولم يقصده وإنما قصد المرأة المذكورة فالغلط حينئذ من المبرد لا من أبي نواس قال‏:‏ فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة رأيت في المنام كأنا قد صلينا الظهر فلما فرغنا من الصلاة قمت لأخرج فرأيت شخصاً واقفاً يصلي فقال لي بعض الحاضرين‏:‏ هذا أبو العباس المبرد فجئت إليه وقعدت إلى جانبه انتظر فراغه فلما فرغ سلمت عليه وقلت له‏:‏ أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل فقال لي‏:‏ رأيت كتابي الروضة فقلت‏:‏ لا وما كنت رأيته قبل ذلك‏.‏

فقال‏:‏ قم حتى أريك إياه‏.‏

وصعد بي إلى بيته فرأيت فيه كتباً كثيرة فقعد يفتش عليه وقعدت أنا ناحية عنه فأخرج منه مجلداً فدفعه إلي ففتحته وتركته في حجري ثم قلت‏:‏ قد أخذوا عليك فيه فقال‏:‏ أي شيء أخذوا فقلت‏:‏ إنك نسبت أبا نواس إلى الغلط في البيت الفلاني وأنشدته إياه فقال‏:‏ نعم غلط في هذا‏.‏

فقلت‏:‏ إنه لم يغلط بل هو على الصواب ونسبوك إلى الغلط في تغليطه‏.‏

فقال‏:‏ وكيف هذا‏.‏

فعرفته ما قاله صاحب العقد فعض على رأس سبابته وبقي باهتاً ينظر إلي وهو في صورته خجلان ولم ينطق بشيء‏.‏

ثم استيقظت من منامي وهو على تلك الحال قال‏:‏ ولم أذكر هذا المنام إلا لغرابته‏.‏

وحكي أنه دخل على المبرد رجل فأراد القيام فقال‏:‏ أنشدك الله أبا العباس إن قمت قال‏:‏ فلم أخبا قيامي وأنشد‏:‏ إذا ما بصرنا به مقبلاً حللنا الحبا وابتدرنا القياما فلا تنكرون قيامي له فإن الكرام تجل الكراما وكانت ولادة المبرد يوم الإثنين سنة عشر وقيل سبع ومائتين وتوفي يوم الإثنين سنة خمس وقيل ذهب المبرد وانقضت أيامه وليذهبن إثر المبرد ثعلب بيت من الآداب أصبح نصفه حزباً وباقي بيت تلك سيخبر فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا الدهر أنفسكم على ما يسلب وتزودوا عن ثعلب فبكأس ما شرب المبرد عن قريب يشرب وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه إن كانت الأنفاس مما يكتب قلت‏:‏ وهذه الألفاظ جميعاً لفظه إلا لفظ ‏"‏ بيت تلك سيخرب ‏"‏ فإني أبدلته عن قوله‏:‏ بيتها فسيخرب كراهة لإدخال الفاء في سيخرب وإن كان مما يتجوز فيه فإن وزان لفظة نحو قولك‏:‏ زيد قائم وأبوه فسيقوم ووزان لفظي‏:‏ قام زيد وأخوه سيقوم وهذا هو الجائز على قاعدة العربية والرجل والمرأة المذكوران المنسوب إليهما الحمق قيل‏:‏ لأن الرجل شرد له بعير فقال‏:‏ من جاء به فله بعيران‏.‏

فقيل له‏:‏ أتجعل في بعير بعيرين فقال إنكم لا تعرفون حلاوة الوجدان‏.‏

فنسب إلى الحمق لهذا السبب فسارت به الأشعار واكتسب بذلك اشتهاراً واستشهدوا على ذلك بما أثرت حذفه اختصاراً‏.‏

وأما المرأة فسبب نسبتها إلى الحمق أنها ولدت فصاح المولود فقالت لامرأة‏:‏ أيفتح الجعر فاه‏.‏

فقالت المرأة‏:‏ نعم ويسب أباه فصارت مثلاً والجعر بفتح الجيم وسكون العين المهملة وهو في الأصل روث كل ذي مخلب من السباع وقد يستعمل في غيرها بطريق التجوز فظنت بجهلها ولدت أنه قد خرج منها المعتاد فلما استهل المولود عجبت من ذلك وسألت عنه‏.‏

وكان سبب نسبتها إلى الحمق وكانت مزوجة من بني العنبر بن عمرو بن تميم‏.‏

فبنو العنبر يدعون لذلك بني الجعر‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا كله وإن كان خارجاً عن المقصود لكنها فوائد غريبة فأحببت ذكرها‏.‏

وفي السنة المذكورة ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي وقويت شوكته وانضم إليه جمع من الأعراب والزنج واللصوص حتى تفاقم أمره وهزم جيوش الخليفة مرات فعاث وأفسد وقصد البصرة فحصنها المعتمد قبل وذبح أبو سعيد المذكور في حمام بقصره وخلفه ابنه أبو طاهر وهو في الحقيقة أبو النجس القرمطي الذي أخذ الحجر الأسود ولم يرجع إلا بعد سنين كثيرة وقيل بعد عشرين سنة‏.‏

وفيها توفي علي بن عبد العزيز أبو الحسن اللغوي المحدث بمكة وقد جاوز التسعين سمع أبا نعيم وطبقته وعم البغوي عبد الله بن محمد‏.‏