فصل: أربع وأربعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 ثلاث وأربعين ومائتين

فيها توفي الشيخ الكبير العارف معدن الأسرار والحكم والمعارف وإمام الطريقة ولسان الحقيقة الحارث بن أسد المحاسبي ‏"‏ بضم الميم ‏"‏ البصري الأصل ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن والفضائل الفاخرة وجميل المحاسن‏.‏

وله تصانيف في السلوك والمواعظ والأصول‏.‏

ومن كتبه المشهورة النفيسة ‏"‏ كتاب الرعاية ‏"‏ ومن دقيق ورعه أنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم فلم يأخذ منها شيئاً لأن أبان كان يقول بالقدر‏.‏

قال‏:‏ وقد صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا يتوارث أهل ملتين شتى ‏"‏ ومات وهو محتاج إلى درهم خلف أبوه ضياعاً وعقاراً فلم يأخذ منه شيئاً‏.‏

ومن المشهور أنه كان محفوظاً إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة يتحرك في إصبعه عرق فيمتنع من تناوله وكان يقول‏:‏ فقدنا ثلاثة أشياء‏:‏ حسن الوجه مع صيانة وحسن القبول مع الأمانة وحسن الإخاء مع الوفاء‏.‏

وهو أحد شيوخ الجنيد‏.‏

وقيل له المحاسبي‏:‏ لكثرة محاسبة نفسه وهو من الخمسة الشيوخ الجامعين بين علم الظاهر والباطن في عصر واحد وهم‏:‏ ‏"‏ هو ‏"‏ و ‏"‏ أبو القاسم الجنيد ‏"‏ و ‏"‏ أبو محمد رويم ‏"‏ و ‏"‏ أبو العباس عطاء ‏"‏ و ‏"‏ عمرو بن عثمان المكي ‏"‏ رحمهم الله تعالى‏.‏

وفيها توفي الفقيه الإمام أبو حفص حرملة بن يحيى التجيبي المصري الحافظ مصنف ‏"‏ المختصر والمبسوط ‏"‏ رحمه الله روى عن ابن وهب مائة ألف حديث وتفقه بالإمام الشافعي قيل‏:‏ وكان أكثر أصحابه اختلافاً إليه واقتباساً منه و ‏"‏ التجيبي ‏"‏‏:‏ بضم المثناة من فوق وكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها موحدة‏.‏

نسبة إلى امرأة نسبت أولادها إليه‏.‏

وفيها توفني إبراهيم بن عباس الصولي الشاعر المشهور كان من الشعراء المجيدين وله ديوان شعر كله نحت وهو صغير ومن رقيق شعره‏:‏

ثنت بانا من عزتنا ** زيارة وشط بليلي عن دنو مزارها

وإن مقيمات بمنسرج اللوى ** لأقرب من ليلى وهاتيك دارها

وله‏:‏

ولرب نازلة يضيق بها الفتى ** ورعاً وعند الله منها مخرج

كلمت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكنا نظنها لا تفرج

إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ** من كان بالفهم في المنزل الخشن

وله هذان البيتان وقيل هما في ديوان الوليد الأنصاري مجردان‏:‏

لا يمنعك خفض العيش في دعة ** نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد إن حللت بها ** أهلا بأهل وجيراناً بجيران

وفيها توفي محمد بن يحيى بن أبي عمرو العداني الحافظ صاحب المسند روى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي ابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي وله مقالة في علم الكلام وينسب إلى الزيغ والإلحاد‏.‏

وله مائة وبضع عشرة كتاباً وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام‏.‏

قال ابن خلكان بعدما أثنى على فضله وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكلام في كتبهم قال‏:‏ وكان من فضلاء عصره ومن تصانيفه ‏"‏ كتاب فضيحة المعتزلة ‏"‏ قلت‏:‏ وهو رد عن المعتزلة فأصحابنا ينسبونه إلى ما هو أضل وأفظع من مذهب المعتزلة‏.‏

عاش نحواً من أربعين سنة‏.‏

ونسبته إلى راوند‏.‏قرية من قرى قاسان بالسين المهملة بنواحي أصفهان غير التي بالشين المعجمة المجاورة لقم بضم القاف و ‏"‏ راوند ‏"‏ أيضاً ناحية ظاهر نيسابور وراوند هذه هي التي قلت‏:‏ وذكر أصحابنا في باب النسخ من كتب الأصول أنة هو الذي لقن اليهود الإحتجاج على عدم جواز النسخ بزعمهم بنقل مفترى بأن قال لهم‏:‏ قولوا أن موسى عليه السلام أمرنا أن نتمسك بالسبت ما دامت السموات والأرض ولا يجوز أن يأمر الأنبياء إلا بما هو حق وهذا القول بهت وافتراء على موسى صلى الله عليه وآله وسلم وعلى نبينا وعلى جميع النبيين والمرسلين‏.‏

 أربع وأربعين ومائتين

فيها وقيل في سنة ست وأربعين ومائتين مات دعبل ‏"‏ بكسر الدال وسكون العين المهملين وكسر الموحدة وبعدها لام ‏"‏ ابن علي الخزاعي الشاعر المشهور يرجع في نسبه إلى عامر بن مريقياً كان شاعراً مجيداً بذيء اللسان مولعاً بالهجو والحط من أقدار الناس‏.‏

هجا الخلفاء فمن دونهم وعمل في إبراهيم بن المهدي أبياتاً من جملتها‏:‏ ثغر ابن شكلة بالعراق وأهله فهقاً إليه كل أطلس مائق يقال‏:‏ فلان أحمق مائق إذا كان فيه حمق وغباوة والأطلس الذي لا لحية له‏.‏

فدخل إبراهيم على المأمون فشكا إليه حاله وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هجاني دعبل فانتقم لي منه فقال‏:‏ ما قال لعل قوله‏:‏ ‏"‏ ثغر ابن شكلة بالعراق وأهله ‏"‏ وأنشد الأبيات فقال‏:‏ هذا من بعض هجائه وقد هجاني بما هو أقبح من هذا‏:‏ فقال المأمون لك أسوة بي فقد هجاني واحتملته وقال في‏:‏ أيسومني المأمون حظة جاهل أو ما رأى بالأمس رأس محمد إني من القوم الذين سيوفهم فللت أخاك وشرفتك بمقعد سادوا لذكرك بعد طول خموله واستنقذوك من الحضيض الأوهد فقال إبراهيم‏:‏ زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً فما ينطق أحدنا إلا عن فضل علمك ولا يحلم إلا اتباعاً لحلمك وأشار دعبل في هذه الأبيات إلى قضية طاهر بن الحسين الخزاعي وحصاره بغداد وقتله الأمير محمد بن الرشيد وبذلك ولي المأمون الخلافة ودعبل خزاعي فهو منهم وكان المأمون إذا أنشد قوله هذا يقول‏:‏ قبح الله دعبلاً ما أوقحه كيف يقول علي هذا وقد ولدت في الخلافة ورضعت ثديها وربيت في مهدها ومن شعره في الغزل‏:‏ لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى يا ليت شعري كيف نومكما يا صاحبي إذا دمي سفكا لا تأخذا بظلامتي أحداً قلبي طرفي في دمي اشتركا زمني بمطلب سقيت زماناً ما صرت إلا روضة وجنانا كل الندى إلا نداك تكلف لم أرض غيرك كائناً من كانا أصلحتني بالبر يدك فسدتني وتركتني السخط الإحسانا ومما حكاه دعبل قال‏:‏ كنا يوماً عند فلان ابن فلان الكاتب البليغ وسماه ولكن كرهت ذكره لوصفه له بما يقبح ذكره قال‏:‏ وكان شديد البخل فأطلنا الحديث واضره الجوع إلى أن استدعى بغذائه فأتي بقصعة فيها ديك فرم لا يقطعه السكين ولا يؤثر ضرس فأخذ كسرة خبز فخاض بها مرقته وقلب جميع ما في القصعة ففقد الرأس ق مطرقاً ساعة ثم رفع رأسه وقال للطباخ‏:‏ أين الرأس قال‏:‏ رميت به قال‏:‏ ولم قال ظننت أنك لا تأكله قال‏:‏ لبئس ما ظننت ويحك والله لأمقت من يرمي رجليه فكيف من يرمي رأسه والرأس رئيس وفيه الحواس الأربع ومنه يصيح ولولا صوته لما فضل وفيه عرقه الذي يتبرك به وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل فيقال شراب كعين الديك ودماغه عجيب لوجع الكليتين ولم ير عظم قط أحسن من عظم رأسه أو ما علمت أنه‏.‏

من طرف الجناح ومن الساق والعنق فإن كان قد بلغ مني بتلك أنك لا تآكله فانظر رميت به قال‏:‏ لا أدري أين هو قال‏:‏ لكني أدري أين هو رميت به في بطنك فالله حسيبك‏.‏

قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي مثوى حبيب يوم مات ودعبل جوى لازال السماء محيلة يغشا كما يماء مزن مسبل حدث على الأهواز يبعد دونه مسيري النغى ورمسة بالموصل وفيها توفي الإمام اللغوي النحوي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت ‏"‏ بكسر السين المهملة وتشديد الكاف وسكون المثناة من تحت وبعدها مثناة فوق ‏"‏ صاحب كتاب ‏"‏ إصلاح المنطق ‏"‏ وغيره من التصانيف في علم اللغة والنحو معاني الشعر وفسر دواوين الشعر وجمع في ذلك قول البصريين والكوفيين وأجاد وجاوز فيها تفسير كل من تقدمه على ما ذكر المرزباني فقال‏:‏ ولم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم منه وكان عالماً بنحو الكوفيين وعلم القرآن واللغة والشعر راوية ثقة قد أخذ عن البصريين وسمع من الأعراب وقال‏:‏ ابن عساكر‏:‏ حكى أبو يوسف عن أبي عمرو وإسحاق بن مرار الشيباني محمد بن مهنا ومحمد بن صبيح بن السماك الواعظ‏.‏

وروى عن الأصمعي وأبي عبيدة الفراء‏:‏ وجماعة وروى عنه أحمد بن فرج المقرىء ومحمد بن عجلان الأخباري وأبو عكرمة الضبي وأبو سعيد السكري وميمون بن هارون الكاتب وغيرهم‏.‏

وقال وقال محمد بن السماك‏:‏ من عرف الناس داراهم ومن جهلهم مارآهم ورأس المداراة ترك المماراة وكتبه جيدة صحيحة وهو صحيح السماع وله حظ من السنن والدين وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله فلما جلس عنده قال له‏:‏ بأي شيء يحب الأمير أن نبدأ يعني من العلوم فقال‏:‏ بالإنصراف قال‏:‏ فأقوم‏.‏

قال المعتز‏:‏ فأنا أحق نهوضاً منك فقام المعتز واستعجل فعثر بسراويله وسقط فالتفت إلى ابن السكيت كالخجل قد احمر وجهه فأنشد ابن السكيت‏.‏

يصاب الفتى من عثرة بلسانه وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته في القول تذهب رأسه وعثرته في الرجل تترا على مهل فلما كان من الغد دخل ابن السكيت على المتوكل وأخبره فأمر له بخمسين ألف درهم وقال‏:‏ بلغني البيتان وأمر له بجائزة‏.‏

قلت‏:‏ ومن جناية اللسان على النفس المشار إليها في النظم الذي أنشده ما جرى له مع كونه محقاً مأجوراً شهيداً وذلك ما ذكروا أنه بينما هو يوماً مع المتوكل إذ جاء المعتز المؤيد فقال المتوكل‏:‏ يا يعقوب أنما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين‏.‏

فغض ابن السكيت من ابنيه وذكر من محاسن الحسن والحسين ما هو معروف من فضلهما أمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه فحمل إلى داره ومات من الغد‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب وابنيه حسن والحسين رضوان الله عليهم وكان ابن السكيت شديد المحبة لهم والميل إليهم فقال تلك المقالة فقال ابن السكيت‏:‏ والله أن قنبر خادم علي رضي الله تعالى عنه خير منك ومن ابنيك‏.‏

فقال المتوكل‏:‏ سلو لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك فمات رحمه الله تعالى‏.‏

وقال ثعلب‏:‏ أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت قلت‏:‏ وهذا موافق لما تقدم من قول المرزباني وقال أبو العباس المبرد‏:‏ ما رأيت بغداديين كتاباً أحسن من كتاب ابن السكيت ‏"‏ إصلاح المنطق ‏"‏‏.‏

وقال غيره من العلماء‏:‏ إصلاح المنطق كتاب بلا خطبة وأدب الكاتب خطبة بلا كتاب لأن خطبته مطولة مودعة فوائد وعددوا له أيضاً من التصانيف المفيدات غير كثير‏.‏

خمس وأربعين ومائتين وفيها توفي محمد بن هشام بن عوف التميمي السعدي كان ممدوحاً بالحفظ وحسن الرواية‏.‏

قال مورج ‏"‏ بكسر الراء المشددة والجيم ‏"‏ أخذ مني كتاباً فحبسه ليلة ثم جاء به وحفظه بالحفظ وحسن الرواية‏.‏

قال محمد بن هشام المذكور‏:‏ لما قدمت مكة لزمت مجلس ابن عيينة فقال لي يوماً‏:‏ لا أراك تخطىء بشيء مما تسمع‏.‏

قلت‏:‏ وكيف ذلك‏.‏

قال‏:‏ لا أراك تكتب فقلت‏:‏ إني أحفظه‏.‏

فاستعاد مني مجالس فأعدتها على الوجه‏.‏

قال‏:‏ حدثنا الزهري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء قال‏:‏ وضرب بيده على جنبي وقال‏:‏ أراك صاحب سبعين أو قال‏:‏ من أصحاب السبعين وقيل لسعدي المذكور‏:‏ مات الضعفاء في هذا الغد وسلم الأقوياء فقال‏:‏ أنا سمعت‏:‏ رأيت جلتها في الحدب باقية ينقي الجواسي عنها حين يزدحم لأن الرياح إذا ما أعصفت قصفت عيدان نجد لم يعبأ بها السلم وأنشد أيضاً‏:‏ وما يواسيك في ما ناب من حدث إلا أخو ثقة فانظر بمن تثق وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير أبو الفيض ثوبان وقيل الفيض بن إبراهيم المصرفي المعروف بذي النون أحد رجال الطريقة كان لسان هذا الشأن وأوحد وقته علماً وورعاً وحالاً وأدباً وكان أبوه نوبياً سئل عن سبب توبته فقال‏:‏ خرجت من مصر إلى بعض القرى فنمت في الطريق في بعض الصحارى ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها فانشقت الأرض فخرج منها سكرجتان إحداهما ذهب والأخرى فضة وفي إحداهما سم وفي الأخرى ماء فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا فقلت‏:‏ حسبي قد تبت ولزمت الباب إلى أن قبلني وكان قد سعوا به إلى المتوكل فاستحضره من مصر فلما دخل عليه وعظه فبكى المتوكل ورده مكرماً وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول‏:‏ إذا ذكر أهل الورع حي هلا بذي النون‏.‏

ومن ورعه ما ذكروا أنه أهدي إليه طعام وهو في سجن المتوكل فأتاه رسول السجان فحمله إليه فامتنع من أكله فقيل له في ذلك فقال‏:‏ طعام أتاني على مائدة ظالم فلا آكله أو كما قال ويعني بمائدة الظالم كف السجان التي حملت الطعام إليه من باب السجن‏.‏

وقال إسحاق بن إبراهيم السرخسي‏:‏ سمعت ذا النون يقول وفي يده الغل وفي رجله القيد وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول‏:‏ هذا من مواهب الله وعطاياه وكل عذب حسن طيب ثم أنشد‏:‏ لك من قلبي المكان المصون كل يوم علي فيك يهون لك عزم بأن أكون قتيلاً فبك الصبر عنك ما لا يكون ولما أخرج من السجن وأدخل على المتوكل وعظه حتى بكى وخرج من عنده مكرماً‏.‏

اجتمع إليه الصوفية في الجامع في بغداد واستأذنوه في السماع وحضر القوال وأنشد شعراً‏:‏ وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركاً فتواجد ذو النون وسقط فأنشج رأسه‏.‏

وكان يقطر منه الدم ولا يقع على الأرض فقام شاب يتواجد فقال ذو النون‏:‏ الذي يراك حين تقوم فقعد الشاب‏.‏

قال بعض الشيوخ‏:‏ كان ذو النون صاحب إشراف والشاب صاحب إنصاف يعني لما قيل منه فقعد إذ لم يكن في قيامه كامل الصدق‏.‏

ومن كلام ذي النون‏:‏ من علامة المحب لله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته‏.‏

وسئل عن التوبة فقال‏:‏ توبة العوام عن الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة‏.‏

وله من الحكايات الغريبات والكرامات العجيبات ما يتعذر حصره ولا يليق بهذا الكتاب‏.‏

وقد ذكرت شيئاً من ذلك في الكتب اللائقة ذكره بها المحبوبة عند أهلها ولكني أذكر من كراماته التي هي بفضله شاهدة ها هنا كرامة واحدة وهي ما ذكر خلائق من الصالحين ورواه عنهم كثير من العلماء العاملين أن الشيخ الكبير المشهور أبا الفيض ذا النون المذكور كان مع بعض أصحابه في البراري في وقت القائلة فقالوا‏:‏ ما أحسن هذا المكان لو كان فيه رطب فقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ لعلكم تشهون الرطب فقالوا‏:‏ نعم فقام إلى شجرة وقال‏:‏ أقسمت عليك بالذي خلقك وابتدأك شجرة إلا ما نثرت علينا رطباً جنياً فنثرت عليهم رطباً جنياً فأكلوا ثم ناموا فلما استيقظوا حركوا فنثرت عليهم شوكاً‏.‏

ست وأربعين ومائتين فيها توفي موسى بن عبد الملك الأصفهاني صاحب ديوان الخراج‏.‏

كان من جملة الرؤساء وفضلاء الكتاب وله ديوان رسائل وله شعر رقيق وخدم جماعة من الخلفاء ومن شعره‏:‏ لما وردت الفارسية جئت مجتمع الدقاق وشممت من أرض الحجاز نسيم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق وضحكت من فرح اللقاء كما بكيت من الفراق ولهذه الأبيات حكاية مستظرفة ذكرها الحافظ أبو عبد الله الحميدي وغيره من مؤرخي المغاربة وهي أن أبا علي الحسن بن الأسكري ‏"‏ بضم الهمزة والكاف وسكون السين المهملة بينهما وكسر الراء ‏"‏ المصري قال‏:‏ كنت من جلساء الأمير تميم بن أبي تميم فأرسل إلى بغداد فاشترى له جارية رائقة فائقة الغناء فلما وصلت إليه دعا جلساءه قال‏:‏ وكنت فيهم ثم مدت وبدا له بعدما اندمل الهوى بريق تألق موهناً لمعانه الأبيات المعروفة وأحسنت الجارية الغناء فطرب الأمير تميم ومن حضر ثم غنت‏:‏ ستسليك عما فات دولة مفضل أوأيله محمودة وأواخره ثنى الله عطفيه وألف شخصه على البر مذ شذت إليه الموازره قال فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً ثم غنت بيتاً من قصيدة محمد بن رزق الكاتب البغدادي‏.‏

أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه فاشتد طرب الأمير المذكور وأفرط جداً ثم قال لها‏:‏ تمني ما شئت فقالت‏:‏ أتمنى عافية الأمير وسلامته فقال‏:‏ لا والله لا بد أن تتمني‏.‏

فقالت‏:‏ على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى فقال‏:‏ نعم فقالت‏:‏ أتمنى أن أغني ببغداد قال‏:‏ فامتقع لون تميم وتغير وجهه وتكدر المجلس وقام وقمنا ثم أرسل إلي فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني فسلمت عليه وقمت بين يديه فقال‏:‏ ويحك أرأيت ما امتحنا به‏.‏

فقلت‏:‏ نعم أيها الأمير‏.‏

فقال‏:‏ لا بد من الوفاء ولا أثق في هذا بغيرك فتأهب للسير معها إلى بغداد فإذا غنت هناك فاصرفها فقلت‏:‏ سمعاً وطاعة ثم قمت وتأهبت وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية له سوداء تعادلها وتخدمها وأمر بناقة ومحمل فأدخلت فيه فسرنا إلى مكة مع القافلة فقضينا حجنا ثم دخلنا في خلنا في قافلة العراق وسرنا فلما وردنا القادسية اتتني السوداء فقالت‏:‏ تقول لك سيدتي أين نحن‏.‏

فقلت لها‏:‏ نزول بالقادسية‏.‏

فأخبرتها فسمعت صوتها قد ارتفع بالغناء بالأبيات المذكورة فتصايح الناس‏:‏ أعيدي بالله أعيدي بالله فما سمع لها كلمة‏.‏

ثم نزلنا ‏"‏ الياسرية ‏"‏ بالياء المثناة من تحت وكسر السين المهملة والراء وبعدها ياء النسبة‏.‏

وبينها وبين بغداد خمسة أميال في بساتين متصلة ينزل الناس بها ثم يبكرون الدخول إلى بغداد فلما كان وقت الصباح إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة فقلت‏:‏ مالك‏.‏

قالت‏:‏ إن سيدتي ليست بحاضرة فقلت‏:‏ ويلك وأين هي فقالت‏:‏ والله ما أدري‏.‏

قال‏:‏ فلم أحس لها أثراً بعد ذلك ودخلت بغداد وقضيت حوائجي بها ثم انصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها فعظم ذلك عليه واغتم لها غماً شديداً ثم ما زال ذاكراً لها‏.‏

وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الإمام أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام‏.‏

سمع أبا معاوية وطبقته وكان من كبار المحدثين وأجلاء الصوفية العارفين صحب الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبا سليمان الداراني رحمهما الله تعالى‏.‏

ومن كلامه رضي الله تعالى عنه‏:‏ من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه ومن عمل بلا اتباع السنة فعمله باطل وأفضل البكاء بكاء العبد على وكان سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام‏.‏وكانت زوجته رائفة الشامية تقول له‏:‏ أحبك حب الإخوان لا حب الأزواج‏.‏

وكانت تطعمه الطيب وتطيبه وتقول‏:‏ اذهب بنشاطك إلى أزواجك وتقول عند تقريب الطعام إليه‏:‏ كل فما نضج إلا بالتسبيح وتقول إذا قامت من الليل‏:‏ قام المحب إلى الموصل قومة كاد الفؤاد من السرور يطير وفيها توفي العباس بن عبد العظيم البصري الحافظ أحد علماء السنة‏.‏

 سبع وأربعين ومائتين

فيها توفي إبراهيم بن سعيد الجوهري البغدادي الحافظ صاحب المسند المخرج في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في نيف وعشرين جزءاً‏.‏وفي شوال منها قتل المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي‏.‏

فكتوا به في مجلس لهوه بأمر ابنه المنتصر وهو الذي أحيى السنة وأمات البدعة غير أنه كان فيه انهماك على اللذات والمكاره وفيه كرم وتبذير‏.‏

وكان قد عزم على خلع ابنه المنتصر من العهد وتقديم المعتز عليه لفرط محبته لأمه وبقي يؤذيه ويتهدده إن لم ينزل عن العهد‏.‏

وكان المتوكل قد صادر بعض رؤساء الدولة فعملوا عليه ودخل عليه خمسة بالسيوف في جوف الليل‏.‏