فصل: ذكر فتح صور وعكاء وطرابلس الشام وقيسارية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر فتح صور وعكاء وطرابلس الشام وقيسارية:

قال: وعول أبو عبيدة على النهوض إلى الساحل فقام إليه عبد الله يوقنا وقال: أيها الأمير اعلم أن الله عز وجل قد اباد المشركين ورفع علم الموحدين وإني أريد أن أسير قبلك إلى الساحل لعلي أفوز من القوم بغزوة فقال: يا عبد الله أن أنت عملت شيئا يقربك إلى الله تجده بين يديك فافعل فوثب يوقنا قائما وأخذ اصحابه وكان قد انضاف إليه من كان يخدمه بحلب وكلهم رجعوا إلى الإسلام وكانوا أربعة آلاف وفي عسكر العرب ايضا ممن اسلم من البطارقة ما يزيد عن ثلاثة آلاف فارس من البطارقة المعدة وعليهم وال يقال له جرفاس:
ولما انهزم فلسطين إلى قيسارية وتحصن بها بعث إلى أهل طرابلس أن يبعثوا له بنجدة فبعثوا له بثلاثة آلاف فارس قال: وساروا يطلبون قيسارية فلما كانوا بالقرب منها نزلوا في مرج ليعلقوا على خيولهم فبينما هم كذلك إذ اشرف عليهم يوقنا وأصحابه وكان قد صحبهم فلنطانوس صاحب رومية وأصحابه وكانوا معولين على زيارة بيت المقدس والمقام بها فلما أشرفوا على المرج وهم بزيهم ما غيروا منه شيئا ورآهم جرفاس ركب بنفسه يختبر حالهم فلما قرب منهم سلم عليهم ورحب بهم وقال من أنتم قالوا: نحن الذين لجأنا إلى هؤلاء العرب واستكفينا شرهم وظننا أنهم على شيء فإذا هم طغاة لا دين لهم فهربنا بديننا ونحن اصحاب حلب وقنسرين وعزاز ودارم وانطاكية ونحن قاصدون إلى الملك هرقل لنكون في جنابه فلما سمع جرفاس من القوم ذلك فرح بهم وأنس لكلامهم وقال انزلوا عندنا كي تستريحوا ساعة من التعب فلا شك إنكم سرتم الليل والنهار وخافت أنفسكم من العرب قال يوقنا اين انتم سائرون قال بعث الينا فلسطين لنكون في طرابلس فقال يوقنا تيقظوا لأنفسكم فإن أمير العرب أبا عبيدة تركناه على نية القدوم إلى الساحل فقال جرفاس وماذا ينفع حذرنا ودولتنا قد اضمحلت وأيامنا قد ولت ولسنا نرى الصليب يغني عن أهله شيئا.
قال الواقدي: فنزلوا عندهم ساعة وقدموا لهم من أزوادهم فاكلوا ثم ركبوا وهم جرفاس أن يركب لركوبهم فقال يوقنا اشتغل باصحابك والبسهم أفخر ثيابهم فإن ذلك مما يظهر الرعب في قلوب أعدائكم.
قال الواقدي: حدثني سليم بن عامر عن نوفل بن عبد الله عن جرير بن البكاء وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال: ما دخل إلى ساحل البحر حتى أتقن الحيلة وذلك أنه قد نزل فيه الحرث بن سليم من بني عمه يرعون ابلهم وكانوا في مائتي بيت من العرب فأغار عليهم يوقنا وأخذهم وشدهم كتافا ودخل بهم إلى بلاد الساحل فلما جن الليل جمعهم إليه وقال: لا تظنوا إني رجعت عن الإسلام وإنما فعلت بكم هذا كي تسمع الروم بسواحلها إني غدرت بالعرب وأخذتهم قال فاطمأنت العرب إلى كلامه وقالوا له: أن كنت تريد اقامة دين الله فالله ينصرك وبالاعداء يظفرك قال: ووكل يوقنا رجالا تسوق الاموال وإنما اطمأن جرفاس وأصحابه إلى يوقنا لما رأى الأسرى من العرب والجمال والانعام فلما ركب يوقنا وأصحابه ورأى أنهم طالبون لساحل البحر نكب عن طريق طرابلس وكمن في الليل على طريق القوم قال: وإن جرفاس فرق خزائنه التي كانت عنده على أصحابه وقعد حتى جن الليل وأكلت الخيل عليقها ثم ركبوا واستقاموا على الطريق فلما توسطوا أطبق عليهم يوقنا واصحابه وداروا بهم ولم يمهلوهم بالقتل وأخذوهم أخذا بالكف وانتشرت الخيل في تلك الأرض لئلا يكون قد انفلت من الروم أحد فلما حصلوا في قبضتهم وتحت أسرهم أرادوا أن يطلقوا الحرث بن سليم وأصحابه فقال الحرث إني أرى من الرأي أن تتركونا على حالنا فإن ثواب الله قد حصل وصبحوا بنا بلاد العدو فإنكم ما تشرفون على بلد من بلاد الساحل إلا فتحه الله لكم قال يوقنا هذا راي صحيح ثم أمر اصحابه أن يستوثقوا من الأسرى وكمن ألفين من أصحابه وأصحاب فلنطانوس مع الأسرى وهم ثلاثة آلاف فارس وقال إذا جاءتكم رسلي فاقدموا ثم ألبس اصحابه زي الروم مثل اصحاب قيسارية الذين أخذوهم وساروا نحو طرابلس فلما خرج كل من في البلد إلى لقائهم كان كتاب فلسطين قد وصل إليهم إني قد بعثت اليكم بثلاثة آلاف فارس مع جرفاس بن صليبا ودخل يوقنا مع أصحابه حتى استقر قراره في دار الامارة ودخل عليه شيوخ طرابلس والبطارقة وأهل الحشمة منهم فلما حصلوا عنده أمر بهم وقبض عليهم وقال: يا أهل طرابلس أن الله سبحانه وتعالى قد نصر الإسلام وأهله وقد كنا في عيش مظلم نسجد للصلبان ونعظم الصور والقربان ونجعل لله زوجة وولدا حتى بعث لنا هؤلاء العرب فهدانا وألحقنا بهم ببركة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو النبي المبعوث الذي ذكره الله في التوراة وبشر به عيسى المسيح وإن الإسلام حق وقوله الصدق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وينطقون بالحق ويتبعون الصدق ويوحدون الله وينزهونه عن الصاحبة والولد ويجاهدون في سبيله وهو الذي أمر به أنبياءه ورسله فإما أن ترجعوا إلى دين الإسلام أو تؤدوا الجزية والا بعثتكم عبيدا للعرب وهذا ما عندي والسلام.
قال فلما سمعوا كلامه علموا أن يوقنا اجتاز عليهم وأخذ أصحاب الملك في الطريق فقالوا: أيها السيد نحن نفعل ما أمرتنا به فمنهم من أسلم ومنهم رضي بالجزية وعدل يوقنا فيهم وبعث إلى اصحاب الكمين فحلوا الأسرى فعرض عليهم الإسلام فأبقوا فأمر بحبسهم وبعث إلى أبي عبيدة بالخبر وما جرى له وبعث الكتاب مع الحرث بن سليم من وادي بني الأحمر وقال: يا عبد الله كن للأمير مبشرا بهذا الفتح قال سافعل ذلك أن شاء الله تعالى وسار بالكتاب حتى وصل إلى أبي عبيدة وسلم عليه وناوله الكتاب فلما قرأه وعلم معناه فرح وقال للحرث بن سليم ألم تستأذني أن تسير أنت وبنو عمك إلى وادي بني الأحمر فمن أوصلك إلى طرابلس قال أوصلني القضاء والقدر وذلك أن يوقنا أغار علينا وأخذنا أسرى وحدثه بحديثهم فعجب من ذلك أبو عبيدة وقال: اللهم ثبتهم وايدهم بنصرك.
قال: حدثني عامر بن أوس قال اخبرني ابن سالم قال: حدثني موسى بن مالك قال أن عمرو بن العاص لما ارتفع المطر رحل من الجابية ونزل على أبواب قيسارية وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه لما ملك طرابلس واحتوى عليها واستوثق من سورها وأبوابها ترك أصحابه على الأبواب وقال: لا تدعو أحدا يخرج من الأبواب وكان في المرسى مراكب كثيرة فرفع آلاتها وأخذها كل ذلك ولا يعلم أحد من أهل الساحل بما صنع وقال: وبعد ايام جاءت مراكب كثيرة زهاء من خمسين مركبا فتركهم يوقنا حتى نزل أكثرهم إلى المدينة فأمر بهم إليه فاستخبرهم عن حالهم وقال من أين جئتم قالوا: جئنا من جزيرة قبرص ومن جزيرة أقريطش وقالوا: معنا العدد والسلاح مضروبة لملك فلسطين فاراهم الفرح والسرور وسلم عليهم وقال إني أريد أن اسير معكم ثم أمر بهم إلى دار الضيافة وبعث إلى قواد المراكب فأنزلهم وقدم لهم السماط فلما أكلوا قال إني أريد أن اسير اليكم الزاد والعلوفة وعدة السلاح إلى خدمة الملك ولكن تقيمون عندي ثلاثة ايام فقالوا: أيها البطريق انا على عجل من أمرنا نخاف من لوم الملك ولسنا نقدر على ذلك ولم يزل بهم حتى اذعنوا له.
فقال أريد أن تنزلوا الشراعات والمقاذيف فتكونوا في المدينة ليطمئن قلبي بذلك ففعلوا وألصقوا المراكب بالسور ونزل كل من في المراكب وما بقي في المراكب إلا ثلاثة رجال فلما دبر هذا التدبير قبض على الجميع فلما كان الليل سلم طرابلس لبني عمه وللحرث بن سليم وفلنطانوس وعمر المراكب برجاله وهم بالصعود اليها وإذا عند غروب الشمس قد أقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في ألف فارس من أصحابه فلما رآهم يوقنا سجد لله شكرا وسلم على خالد بن الوليد وسلم له المدينة وحدثه بما جرى له وما قد عزم عليه فقال نصرك الله وايدك ثم أن يوقنا ركب من ليلته وسار وكان على سور دمشق جيش فلسطين وهو أرمويل بن نشطة ومعه اربعة آلاف فما أصبح يوقنا إلا وهو في مدينة صور فأمر بالبوقات فضربت والرايات فنشرت ووقف الدمستق يختبر خبرهم فعاد صاحب البحرالية فقال هؤلاء أهل قبرص وجزيزة اقريطش قد أقبلوا بالعلوفات والطعام والعدد يريدون قيسارية في خدمة الملك ففرح أهل صور بذلك وأمروهم بالنزول فنزل يوقنا واصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل وكان قد استخلصهم لنفسه فصنع لهم الدمستق طعاما ومد لهم سماطا عظيما وأحضر لقوادهم الخلع ويوقنا ينتظر الليل حتى يثور باصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل كما ذكرنا وترك الباقين في المراكب وقال أن لم يتم لنا ما نريد ولم نظفر بهم فلا تبرحوا من مراكبهم وأنقذ إلى خالد وأخبره بالقصة.
قال الواقدي: ما سمع بأعجب من هذه القصة ولقد حدثنى ابن مزاحم عن الارقط بن عامر عن عمار بن ياسر الربعي قال لما حصل يوقنا والتسعمائة بمدينة صور وأكلوا سماط الملك وخلع على كبرائهم أقبل عليهم في السر رجل من بني عم يوقنا ممن استحكمت الضلاله في قلبه واحتوى الكفر على أقانيم جسده فأقبل إلى الدمستق وحدثه بأمر يوقنا وما قد عزم عليه وإنه مسلم وإنه يقاتلكم مع العرب وقد فتح طرابلس وأخذ البطريق جرمانس صاحب الملك فلما سمع الدمستق ذلك لم يكذب خبرا دون أن ركب بأصحابه وقبض على يوقنا وأصحابه ووقع الصياح وكثر الضجيج وسمع بذلك اصحاب يوقنا فعلموا أن ذلك بسبب أصحابهم وإنه قبض عليهم فاغتموا لذلك غما شديدا وأخذوا على أنفسهم من عدو يقبل عليهم قال فلما استوثق عليهم الدمستق أرمويل بن نشطة وكل بهم ألف رجل وقال سيروا بهم إلى الملك يفعل فيهم ما يريد وأقبلوا يعنفون يوقنا واصحابه ويقولون لهم ما الذي رأيتم في دين العرب حتى تبعتموهم وتركتم دينكم ودين آبائكم قد طردكم المسيح عن بابه وأبعدكم عن جنانه فلما هموا أن يسيروا بهم وقع الصياح من الأبواب ونفر أهل القرى ومن كان بالقرب من صور فسألوهم عن أخبارهم فقالوا: قدمت العرب عليكم.
قال الواقدي: وكان عمرو بن العاص لما نزل على قيسارية وجه يزيد ابن أبي سفيان في ألفي فارس إلى صور فلما سمع الدمستق أمر بالأبواب فأغلقت وصعدت الرجالة على الاسوار وعمروا الابراج ونصبوا المجانيق وأدخل الدمستق يوقنا إلى قصر صور واستوثق منهم لئلا يتم عليه أمر منهم وبات القوم يحرسون وأضرموا نيرانهم على الاسوار فأقبلوا يرقصون ويشربون طول ليلتهم فلما كان الغد أشرف عليهم يزيد بن أبي سفيان نظر إليهم الدمستق فلما رآهم قليلا استحقرهم وطمع فيهم وقال: وحق المسيح لا بد لي من الخروج إليهم وهزم هذه الشرذمة اليسيرة ثم لبس الدمستق اللباس وأمرهم بالخروج وترك على حفظ يوقنا واصحابه ابن عمه باسيل قال: وكان باسيل هذا من قرأ الكتب السالفة والاخبار الماضية وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في دير بحيرا الراهب وكان باسيل قد مضى إلى زيارة بحيرا فلما قدمت عير قريش وجمال خديجة بنت خويلد وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر بحيرا إلى القافلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها والسحابة على رأسه تظله من حر الشمس فلما تبينه قال: والله هذه صفة النبي الذي يبعث من تهامة ثم انتظروا وإذا بالركب قد نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم نزل وحده تحت شجرة يابسة واستلقى اليها فأورقت الشجرة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عاين بحيرا ذلك صنع طعاما لقريش واستدعاهم فدخلوا الدير وبقي هو مع الابل ليرعاها فلما نظر بحيرا إليهم ولم يره في جملتهم قال: يا معشر قريش هل بقي منكم أحد قالوا: نعم بقي فينا من تخلف لحفظ القافلة ورعي الابل قال: ما اسم من يرعى الابل قالوا: محمد بن عبد الله قال هل مات أبوه وأمه قالوا: نعم قال هل كفله جده وعمه قالوا: نعم قال: يا قريش هو والله سيدكم وبه يعظم في الدنيا مجدكم قالوا: من أين علمت ذلك قال لما أشرفتم علي من البرية لم يبق صخر ولا مدر إلا خر له ساجدا.
قال الواقدي: فبقي باسيل في حيرة من أمرهم وكتم سره وعلم أن بحيرا لا يتكلم إلا بالحق فلما وقع يوقنا وأصحابه ووكله الدمستق على حفظهم قال أن الإسلام هو الحق وقد بشر به بحيرا الراهب ولعل الله يغفر لي إذا حللت هؤلاء القوم.
قال الواقدي: من حسن تدبير الله لعباده المؤمنين أنه لما خرج الدمستق إلى لقاء يزيد ابن أبي سفيان لم يتأخر أحد من شباب المدينة لا صغير ولا كبير إلا وخرج معه وبقيت العوام ينتظرون على الاسوار ما يكون بينهم وبين العرب فلما نظر باسيل إلى المدينة وخلوها واشتغل أهلها بالحرب أخذ رايه على خلاص يوقنا ومن معه فأقبل إليهم بالليل والتفت إلى يوقنا وأصحابه وقال: أيها البطريق كيف تركت دين آبائك وأجدادك من قبل وعولت على دين هؤلاء العرب وما الذي رأيت من الحق حتى تبعتهم وقد كانت الروم تتخذك عصدا لها وعونا قال له يوقنا: يا باسيل ظهر لي من الحق ما ظهر لك من الحق فعرفته وقد هتف بي هاتف يقول لي أن الذي هداك إلى دينه يخلصك وبشرني بالخلاص على يديك قال فلما سمع زاد ايقانه وتحقق إيمانه وقال ليوقنا لقد انطق الله لسانك بالحق وإن الله تعالى كشف حجاب الغفلة عن قلبي منذ رايت نبي هؤلاء القوم بدير بحيرا الراهب وهو في قافلة لاهل مكة ورأيت من دلائله أنه لا يسير على الأرض إلا والشجر تسير إليه والسحابة على رأسه تظلله ولقد استند إلى شجرة يابسة فأورقت في الحال وأنبأني بحيرا الراهب أنه وجد في العلم أن جماعة من الانبياء استندوا اليها وجلسوا حولها فلم تورق فلما استند بظهره اليها أورقت أغصانها وأينعت فعجبت من ذلك وسمعت بحيرا يقول هذا والله الذي بشر به المسيح فطوبى لمن تبعه وآمن به وصدقه فلما عدت من زيارة بحيرا سافرت إلى القسطنطينية بتجارة وطفت في بلاد الروم وأقمت ما شاء الله ثم عدت إلى قيسارية فرأيت الروم في هرج ومرج فسألت عن أحوالهم فقيل قد ظهر نبي في الحجاز اسمه محمد بن عبد الله وقد أخرجه قومه من مكة وقد أتى إلى المدينة التي بناها تبع وقد ظهر على قومه ونصر عليهم فما زلت أسأل عن أخباره وهي في كل يوم تنمو وتزيد حتى مات ثم ولى صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأنفذ جيوشه إلى الشام فلم يلبث إلا يسيرا ثم مات وولى هذا الرجل عمر بن الخطاب ففتح بلادنا وهزم جيوشنا وأنا مع ذلك أنتظر قدومهم إلى هذا الساحل حتى أتى الله بهم فقال له يوقنا: وما الذي عزمت عليه قال عزمت والله أن أفارق قومي وأتبعكم فإن الحق بين ثم حل يوقنا وأصحابه وسلم إليهم العدد والسلاح وقال ليوقنا اعلم أن مفاتيح أبواب المدينة عندي والعسكر خارج المدينة مشتغل بقتال العرب وليس في المدينة من يخاف جانبه فانهض على اسم الله فقال يوقنا جزاك الله خيرا فلقد هداك الله إلى دينه وسلك بطل طريق النجاة وختم لك بخير ويجب الآن علينا أن نظهر أنفسنا ونبعث في المراكب حتى ينزلوا الينا ونكون نحن يدا واحدة.
فقال باسيل سأفعل ذلك ثم إنه خرج في حال الخفاء وفتح باب البحر ومعه رجل من بني عم يوقنا وركبا زورقا حتى وصلا إلى البحر والمراكب وحدثاهم بما قد كان فأقبل كل مركب برجاله إليهما وساروا إلى أن نزل الجيمع وحصلوا داخل المدينة أعني مدينة صور وأعمى الله أبصار الكفار فلما هموا أن يثوروا قال يوقنا ليس هذا من الرأي وأين من يهب نفسه لله عز وجل ويخفي أمره ويخرج من الباب ويدور إلى عسكر المسلمين ويتوصل إلى أميرهم ويعلمه بما كان منا ويكون على أهبة وإذا سمع بنا أحد لا يهوله وليصدم جيش العدو فقال رجل من القوم أنا أكون ذلك الرجل ثم خرج متنكرا واغلق باسيل خلفه ووصل إلى يزيد بن أبي سفيان وحدثه بالأمر على حقيقته وبما كان من أمر يوقنا فسجد لله شكرا وبعث من ساعته إلى المسلمين ليأخذوا على أنفسهم في الكبة على القوم ففعلوا ذلك.
وأما يوقنا رحمه الله فلما علم أن الخبر وصل إلى المسلمين قال لاصحابه: ليصعد منكم خمسمائة رجل إلى السور ويقتلوا من عليه قال باسيل ليس هذا رايا فإن العوام لا اعتبار لهم ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام ولكن مر أصحابك أن يلزموا مطالع السور حتى لا ينزل أحد منهم ويزعقوا بالامان قال فاستصوب رايه ووكل الرجال بالمطالع ثم زعق يوقنا وأصحابه بصوت مزعج وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسمع كل من في المدينة ومن على السور ذلك فعلموا أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الاسر ووثبوا في المدينة وطارت عقولهم وانزعجت أفئدتهم على أولادهم وأهإليهم فبقوا في حيرة فسمع يزيد بن أبي سفيان الضجة فعلم أن المسلمين قاموا في المدينة فكبر وكبرت المسلمون وهلل الموحدون فسمع الدمستق الضجة من المدينة فعلم أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الاسر وهم الذين فعلوا ذلك فوقع الرعب في قلوبهم ونظروا إلى النيران قد اشتعلت في عسكر المسلمين وتاهبوا للحملة عليهم فلم يبق لهم صبر وقد انقطعت قلوبهم من أجل أموالهم وأولادهم الذين في داخل المدينة وقيسارية محاصرة وليس لهم مدد من ولد الملك فولوا الادبار واتبع المسلمون آثارهم وملكوا خيامهم وما كان فيها فلما أصبح الصباح فتح يوقنا باب المدينة ودخل يزيد بن أبي سفيان ومن معه من المسلمين واحتووا على أموال الروم ونادى من كان على السور الغوث الغوث فأمنهم المسلمون ونزلوا بأجمعهم فقال لهم: يزيد أن الله عز وجل قد فتح لنا مدينتكم عنوة وأنتم الآن لنا عبيد فما شئنا حكمنا فيكم ولكن نحن إذا عاهدنا وفينا وإذا قلنا صدقنا وقد أعطيناكم الامان من أنفسنا ولكن عليكم الجزية على من لم يدخل في ديننا ومن اسلم منكم فله مالنا وعليه ما علينا فاجاب القوم إلى ذلك وأسلم أكثر القوم وبلغ الخبر إلى فلسطين بأن صور قد فتحت فعلم أنه لا بقاء له فأخذ الفرصة وانهزم وأخذ خزائنه وأمواله وذخائره وخدمه واركبهم في المراكب بالليل وقلع يريد اللحوق إلى قسطنطينية فلما نظر أهل قيسارية إلى ذلك خرجوا إلى عمرو بن العاص وصالحوه على أن يسلموا له المدينة فصالحهم على مائة ألف درهم وما ترك الملك من خزائنه ورجاله فأجابوه إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح فعندها دخل عمرو بن العاص إلى قيسارية وأخذ بقية ما ترك الملك وضرب الجزية عليهم من السنة الآتية كل رجل أربعة دنانير وبذلك أمرهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وبعث عمرو جيشا إلى صور مع ياسر بن عمار بن سلمة وكان شيخا كبيرا قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والنضير وقتل أخوه يوم حنين قتله مالك بن عون النضيري فبعثه عمرو إلى صور ومعه رجل من أصحابه وصالح عمرو بن العاص أهل قيسارية على مائة ألف درهم وما خلفه فلسطين من بقية ذخائره قال: ودخلها يوم الأربعاء في العشر الاول من رجب الفرد سنة تسع عشرة من الهجرة ووصل الخبر إلى الرملة وعكاء وعسقلان ونابلس وطبرية فعقدوا كلهم صلحا مع المسلمين وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية وملك الله الشام كله للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.