فصل: كِتَاب صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

‏(‏كتاب صلاة التراويح‏)‏ ‏.‏

كذا في رواية المستملي وحده، وسقط هو والبسملة من رواية غيره، والتراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام‏.‏

سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، وقد عقد محمد بن نصر في ‏"‏ قيام الليل ‏"‏ بابين لمن استحب التطوع لنفسه بين كل ترويحتين ولمن كره ذلك، وحكى فيه عن يحيى ابن بكير عن الليث أنهم كانوا يستريحون قدر ما يصلي الرجل كذا كذا ركعة‏.‏

*3*باب فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فضل من قام رمضان‏)‏ أي قام لياليه مصليا، والمراد من قيام الليل ما يحصل به مطلق القيام كما قدمناه في التهجد سواء، وذكر النووي أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يعني أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها، وأغرب الكرماني فقال‏:‏ اتفقوا على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِرَمَضَانَ مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن شهاب‏)‏ في رواية ابن القاسم عند النسائي ‏"‏ عن مالك حدثني ابن شهاب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني أبو سلمة‏)‏ كذا رواه عقيل وتابعه يونس وشعيب وابن أبي ذئب ومعمر وغيرهم، وخالفه مالك فقال ‏"‏ عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن ‏"‏ بدل أبي سلمة، وقد صح الطريقان عند البخاري فأخرجهما على الولاء، وقد أخرجه النسائي من طريق جويرية بن أسماء عن مالك عن الزهري عنهما جميعا‏.‏

وقدر ذكر الدار قطني الاختلاف فيه وصحح الطريقين، وحكى أن أبا همام رواه عن ابن عيينة عن الزهري فخالف الجماعة فقال ‏"‏ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ‏"‏ وخالفه أصحاب سفيان فقالوا ‏"‏ عن أبي سلمة ‏"‏ وقد رواه النسائي من طريق سعيد بن أبي شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يقول لرمضان‏)‏ أي لفضل رمضان أو لأجل رمضان، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى عن أي يقول عن رمضان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إيمانا‏)‏ أي تصديقا بوعد الله بالثواب عليه ‏(‏واحتسابا‏)‏ أي طلبا للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غفر له‏)‏ ظاهره يتناول الصغائر والكبائر، وبه جزم ابن المنذر‏.‏

وقال النووي‏:‏ المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه حرم إمام الحرمين وعزاه عياض لأهل السنة، قال بعضهم‏:‏ ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما تقدم من ذنبه‏)‏ زاد قتيبة عن سفيان عند النسائي ‏"‏ وما تأخر ‏"‏ وكذا زادها حامد بن يحيى عند قاسم بن أصبغ والحسين بن الحسن المروزي في ‏"‏ كتاب الصيام ‏"‏ له وهشام بن عمار في الجزء الثاني عشر من فوائده، ويوسف بن يعقوب النجاحي في فوائده كلهم عن ابن عيينة‏.‏

ووردت هذه الزيادة من طريق أبي سلمة من وجه آخر أخرجها أحمد من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وعن ثابت عن الحسن كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت هذه الزيادة من رواية مالك نفسه أخرجها أبو عبد الله الجرجاني في أماليه من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري ولم يتابع بحر بن نصر على ذلك أحد من أصحاب ابن وهب ولا من أصحاب مالك ولا يونس سوى ما قدمناه، وقد ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب عدة أحاديث جمعتها في كتاب مفرد، وقد استشكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سبق شيء يغفر والمتأخر من الذنوب لم يأت فكيف يغفر، والجواب عن ذلك يأتي في قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل أنه قال في أهل بدر ‏"‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ‏"‏ ومحصل الجواب أنه قيل إنه كناية عن حفظهم من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك، وقيل إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعة منهم الماوردي في الكلام على حديث صيام عرفة وأنه يكفر سنتين سنة ماضية وسنة آتية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن شهاب فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ والأمر ‏"‏ ‏(‏على ذلك‏)‏ أي على ترك الجماعة في التراويح‏.‏

ولأحمد من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري في هذا الحديث ‏"‏ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس على القيام ‏"‏ وقد أدرج بعضهم قول ابن شهاب في نفس الخبر أخرجه الترمذي من طريق معمر عن ابن شهاب، وأما ما رواه ابن وهب عن أبي هريرة ‏"‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ ناس يصلي بهم أبي بن كعب، فقال‏:‏ أصابوا ونعم ما صنعوا ‏"‏ ذكره ابن عبد البر، وفيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أن عمر هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب‏.‏

الحديث‏:‏

وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن ابن شهاب‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور أيضا، وهو في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بالإسنادين، لكن فرقهما حديثين، وقد أدرج بعض الرواة قصة عمر في الإسناد الأول أخرجه إسحاق في مسنده عن عبد الله بن الحارث المخزومي عن يونس عن الزهري فزاد بعد قوله وصدرا من خلافة عمر ‏"‏ حتى جمعهم عمر على أبي بن كعب فقام بهم في رمضان، فكان ذلك أول اجتماع الناس على قارئ واحد في رمضان ‏"‏ وجزم الذهلي في ‏"‏ علل حديث الزهري ‏"‏ بأنه وهم من عبد الله بن الحارث والمحفوظ رواية مالك ومن تابعه، وأن قصة عمر عند ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد وهو بغير إضافة، لا عن أبي سلمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أوزاع‏)‏ بسكون الواو بعدها زاي أي جماعة متفرقون، وقوله في الرواية ‏"‏ متفرقون ‏"‏ تأكيد لفظي، وقوله ‏"‏يصلي الرجل لنفسه ‏"‏ بيان لما أجمل أولا وحاصله أن بعضهم كان يصلي منفردا وبعضهم يصلي جماعة، قيل يؤخذ منه جواز الائتمام بالمصلي وإن لم ينو الإمامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمثل‏)‏ قال ابن التين وغيره استنبط عمر ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم من صلى معه في تلك الليالي، وإن كان كره ذلك لهم فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم، وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث عائشة عقب حديث عمر، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين، وإلى قول عمر جنح الجمهور، وعن مالك في إحدى الروايتين وأبي يوسف وبعض الشافعية الصلاة في البيوت أفضل عملا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ‏"‏ وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وبالغ الطحاوي فقال‏:‏ إن صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ قيام رمضان سنة لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض، وعند الشافعية في أصل المسألة ثلاثة أوجه‏:‏ ثالثها من كان يحفظ القرآن ولا يخاف من الكسل ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه فصلاته في الجماعة والبيت سواء، فمن فقد بعض ذلك فصلاته في الجماعة أفضل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجمعهم على أبي بن كعب‏)‏ أي جعله لهم إماما وكأنه اختاره عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله ‏"‏ وسيأتي في تفسير البقرة قول عمر ‏"‏ أقرؤنا أبي ‏"‏ وروى سعيد بن منصور من طريق عروة ‏"‏ أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء ‏"‏ ورواه محمد بن نصر في ‏"‏ كتاب قيام الليل ‏"‏ له من هذا الوجه فقال ‏"‏ سليمان بن أبي حثمة ‏"‏ بدل تميم الداري، ولعل ذلك كان في وقتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فخرج ليلة والناس يصلون بصلاة قارئهم‏)‏ أي إمامهم المذكور، وفيه إشعار بأن عمر كان لا يواظب على الصلاة معهم وكأنه كان يرى أن الصلاة في بيته ولا سيما في آخر الليل أفضل، وقد روى محمد بن نصر في ‏"‏ قيام الليل ‏"‏ من طريق طاوس ابن عباس قال ‏"‏ كنت عند عمر في المسجد، فسمع هيعة الناس فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قيل‏:‏ خرجوا من المسجد، وذلك في رمضان، فقال‏:‏ ما بقي من الليل أحب إلي مما مضى ‏"‏ ومن طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه من قوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عمر نعم البدعة‏)‏ في بعض الروايات ‏"‏ نعمت البدعة ‏"‏ بزيادة تاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كان مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والتي ينامون عنها أفضل‏)‏ هذا تصريح منه بأن الصلاة في آخر الليل أفضل من أوله، لكن ليس فيه أن الصلاة في قيام الليل فرادى أفضل من التجميع‏.‏

‏(‏تكميل‏)‏ ‏:‏ لم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أبي بن كعب، وقد اختلف في ذلك ففي ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة، ورواه سعيد بن منصور من وجه آخر وزاد فيه ‏"‏ وكانوا يقرؤون بالمائتين ويقومون على العصى من طول القيام ‏"‏ ورواه محمد بن نصر المروزي من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يوسف فقال ثلاث عشرة ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف فقال إحدى وعشرين، وروى مالك من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عشرين ركعة وهذا محمول على غير الوتر، وعن يزيد بن رومان قال ‏"‏ كان الناس يقومون في زمان عمر بثلاث وعشرين ‏"‏ وروى محمد بن نصر من طريق عطاء قال ‏"‏ أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر ‏"‏ والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس وبذلك جزم الداودي وغيره، والعدد الأول موافق لحديث عائشة المذكور بعد هذا الحديث في الباب، والثاني قريب منه، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر وكأنه كان تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث، وروى محمد ابن نصر من طريق داود بن قيس قال ‏"‏ أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز - يعني بالمدينة - يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث ‏"‏ وقال مالك هو الأمر القديم عندنا‏.‏

وعن الزعفراني عن الشافعي ‏"‏ رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق ‏"‏ وعنه قال‏:‏ إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلي‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ أكثر ما قيل فيه أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة يعني بالوتر، كذا قال‏.‏

وقد نقل ابن عبد الله الأسود بن يزيد‏:‏ تصلى أربعين ويوتر بسبع، وقيل ثمان وثلاثين ذكره محمد ابن نصر عن ابن أيمن عن مالك، وهذا يمكن رده إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر، لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة، فتكون أربعين إلا واحدة، قال مالك‏:‏ وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة، وعن مالك ست وأربعين وثلاث الوتر وهذا هو المشهور عنه، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال‏:‏ لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعا وثلاثين يوترون منها بثلاث، وعن زرارة بن أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعا وثلاثين ويوتر، وعن سعيد بن جبير أربعا وعشرين وقيل ست عشرة غير الوتر روى عن أبي مجلز عند محمد بن نصر‏.‏

وأخرج من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب ابن يزيد قال‏:‏ كنا نصلي زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة، قال ابن إسحاق وهذا أثبت ما سمعت في ذلك، وهو موافق لحديث عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وذلك في رمضان‏)‏ هكذا أورده مقتصرا على شيء من أوله وشيء من آخره، وقد أورده تاما في أبواب التهجد بلفظ ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ‏"‏ فذكر الحديث إلى قوله ‏"‏ خشيت أن تفرض عليكم ‏"‏ وذلك في رمضان وقد تقدم شرحه مستوفى هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏خشيت أن تفرض عليكم‏)‏ قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ يؤخذ منه أن الشروع ملزم إذ لا تظهر مناسبة بين كونهم يفعلون ذلك ويفرض عليهم إلا ذلك‏.‏

انتهى‏.‏

وفيه نظر لأنه يحتمل أن يكون السبب في ذلك الظهور اقتدارهم على ذلك من غير تكلف فيفرض عليهم‏.‏

قوله في آخر طريق عقيل ‏(‏فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك‏)‏ هذه الزيادة من قول الزهري كما بينته في الكلام على الحديث الأول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما كان يزيد في رمضان الخ‏)‏ تقدم الكلام عليه مستوفى في أبواب التهجد، وأما ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر ‏"‏ فإسناده ضعيف، وقد عارضه حديث عائشة هذا الذي في الصحيحين مع كونها أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من غيرها‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب فَضْلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أَعْلَمَهُ وَمَا قَالَ وَمَا يُدْرِيكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ

الشرح‏:‏

‏:‏ ‏(‏باب فضل ليلة القدر‏.‏

وقال الله تعالى ‏(‏إنا أزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر‏)‏ إلى آخر السورة‏)‏ ثبت في رواية أبي ذر قبل الباب بسملة‏.‏

وفي رواية غيره ‏"‏ وقول الله عز وجل ‏"‏ أي وتفسير قول الله، وساق في رواية كريمة السورة كلها‏.‏

ومناسبة ذلك للترجمة من جهة أن نزول القرآن في زمان بعينه يقتضي فضل ذلك الزمان، والضمير في قوله‏:‏ ‏(‏إنا أنزلناه‏)‏ للقرآن لقوله تعالى ‏(‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏)‏ ومما تضمنته السورة من فضل ليلة القدر تنزل الملائكة فيها، وسيأتي في التفسير ذكر الاختلاف في سبب نزولها وغير ذلك من تفسيرها‏.‏

واختلف في المراد بالقدر الذي أضيفت إليه الليلة فقيل‏:‏ المراد به التعظيم كقوله تعالى ‏(‏وما قدروا الله حق قدره‏)‏ والمعنى أنها ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر‏.‏

وقيل القدر هنا التضييق كقوله تعالى ‏(‏ومن قدر عليه رزقه‏)‏ ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العلم بتعيينها، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة‏.‏

وقيل القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال الذي هو مؤاخي القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى ‏(‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏)‏ وبه صدر النووي كلامه فقال‏:‏ قال العلماء سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى ‏(‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏)‏ ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم‏.‏

وقال التوربشتي‏:‏ إنما جاء القدر بسكون الدال، وإن كان الشائع في القدر الذي هو مؤاخي القضاء فتح الدال ليعلم أنه لم يرد به ذلك وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة لتحصيل ما يلقى إليهم فيها مقدارا بمقدار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عيينة الخ‏)‏ وصله محمد بن يحيى بن أبي عمر في ‏"‏ كتاب الإيمان ‏"‏ له من رواية أبي حاتم الرازي عنه قال‏:‏ حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره بلفظ‏:‏ كل شيء في القرآن وما أدراك فقد أخبره به، وكل شيء فيه وما يدرك فلم يخبره به‏.‏

انتهى‏.‏

وعزاه مغلطاي فيما قرأت بخطه لتفسير ابن عيينة رواية سعيد ابن عبد الرحمن عنه، وقد راجعت منه نسخة بخط الحافظ الضياء فلم أجده فيه، ومقصود ابن عيينة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف تعيين ليلة القدر، وقد تعقب هذا الحصر بقوله تعالى ‏(‏لعله يزكى‏)‏ فإنها نزلت في ابن أم مكتوم، وقد علم صلى الله عليه وسلم بحاله وأنه ممن تزكى ونفعته الذكرى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ وَإِنَّمَا حَفِظَ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حفظناه من الزهري أيما حفظ‏)‏ برفع أي وما زائدة وهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره حفظ ومن الزهري متعلق بحفظناه، وروى بنصب أيما على أنه مفعول مطلق لحفظ المقدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من صام رمضان‏)‏ تقدم في الباب قبله من رواية مالك عن الزهري بسنده بلفظ ‏"‏ قام ‏"‏ بدل صام، وتقدم الكلام عليه، وزاد ابن عيينة في روايته هنا ‏"‏ ومن قام ليلة القدر الخ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه سليمان بن كثير عن الزهري‏)‏ وصله الذهلي في ‏"‏ الزهريات ‏"‏ وقد تقدم شرحه في الباب قبله، وسنذكر بقية الكلام على ليلة القدر قريبا‏.‏

*3*باب الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ التمسوا ‏"‏ بصيغة الأمر‏.‏

وهذه الترجمة والتي بعدها - وهي تحري ليلة القدر - معقودتان لبيان ليلة القدر، وقد اختلف الناس فيها على مذاهب كثيرة سأذكرها مفصلة بعد الفراغ من شرح أحاديث البابين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أروا ليلة القدر‏)‏ أروا بضم أوله على البناء للمجهول أي قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر، والظاهر أن المراد به أواخر الشهر، وقيل المراد به السبع التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين، فعلى الأول لا تدخل ليلة إحدى وعشرين ولا ثلاث وعشرين، وعلى الثاني تدخل الثانية فقط ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين، وقد رواه المصنف في التعبير من طريق الزهري عن سالم عن أبيه ‏"‏ إن ناسا أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناسا أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ التمسوها في السبع الأواخر ‏"‏ وكأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى المتفق عليه من الروايتين فأمر به، وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري بلفظ ‏"‏ رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها ‏"‏ ورواه أحمد من حديث علي مرفوعا ‏"‏ إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي ‏"‏ ولمسلم عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر بلفظ ‏"‏ من كان يلتمسها فيلتمسها في العشر الأواخر ‏"‏ ولمسلم من طريق عقبة بن حريث عن ابن عمر ‏"‏ التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي‏"‏، وهذا السياق يرجح الاحتمال الأول من تفسير السبع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرى‏)‏ بفتحتين أي أعلم، والمراد أبصر مجازا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رؤياكم‏)‏ قال عياض كذا جاء بإفراد الرؤيا، والمراد مرائيكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة وإنما أراد الجنس‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ كذا روي بتوحيد الرؤيا، وهو جائز لأنها مصدر، قال‏:‏ وأفصح منه رؤاكم جمع رؤيا ليكون جمعا في مقابلة جمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تواطأت‏)‏ بالهمزة أي توافقت وزنا ومعنى‏.‏

وقال ابن التين‏.‏

روى بغير همز والصواب بالهمز، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطء صاحبه‏.‏

وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية، وسنذكر بسط القول في أحكام الرؤيا في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ لِي صَدِيقًا فَقَالَ اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا أَوْ نُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فِي الْوَتْرِ وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَرْجِعْ فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا هشام‏)‏ هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير، ويأتي في الاعتكاف عن طريق علي ابن المبارك عن يحيى ‏"‏ سمعت أبا سلمة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سألت أبا سعيد وكان لي صديقا فقال اعتكفنا‏)‏ لم يذكر المسئول عنه في هذه الطريق‏.‏

وفي رواية على المذكورة ‏"‏ سألت أبا سعيد‏:‏ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

ولمسلم من طريق معمر عن يحيى ‏"‏ تذاكرنا ليلة القدر في نفر من قريش، فأتيت أبا سعيد ‏"‏ فذكره‏.‏

وفي رواية همام عن يحيى في ‏"‏ باب السجود في الماء والطين‏)‏ من صفة الصلاة ‏"‏ انطلقت إلى أبي سعيد فقلت‏:‏ ألا تخرج بنا إلى النخل فنتحدث‏؟‏ فخرج، فقلت‏:‏ حدثني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، فأفاد بيان سبب السؤال، وفيه تأنيس الطالب للشيخ في طلب الاختلاء به ليتمكن مما يريد من مسألته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط‏)‏ هكذا وقع في أكثر الروايات، والمراد بالعشر الليالي وكان من حقها أن توصف بلفظ التأنيث لكن وصفت بالمذكر على إرادة الوقت أو الزمان أو التقدير الثلث كأنه قال‏:‏ الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر، ووقع في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ العشر الوسط بضم الواو والسين جمع وسطى ويروى بفتح السين مثل كبر وكبرى ورواه الباجي في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بإسكانها على أنه جمع واسط كبازل وبزل وهذا يوافق رواية الأوسط، ووقع في رواية محمد بن إبراهيم في الباب الذي يليه ‏"‏ كان يجاور العشر التي في وسط الشهر ‏"‏ وفي رواية مالك الآتية في أول الاعتكاف ‏"‏ كان يعتكف ‏"‏ والاعتكاف مجاورة مخصوصة، ولمسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد ‏"‏ اعتكف العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له، فلما انقضين أمر بالبناء فقوض، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد ‏"‏ وزاد في رواية عمارة بنغزية عن محمد إبراهيم أنه ‏"‏ اعتكف العشر الأول ثم اعتكف العشر الأوسط ثم اعتكف العشر الأواخر‏"‏، ومثله في رواية همام المذكورة وزاد فيها ‏"‏ إن جبريل أتاه في المرتين فقال له‏:‏ إن الذي تطلب أمامك ‏"‏ وهو بفتح الهمزة والميم أي قدامك، قال الطيبي‏:‏ وصف الأول والأوسط بالمفرد والأخير بالجمع إشارة إلى تصوير ليلة القدر في كل ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فخرج صبيحة عشرين فخطبنا‏)‏ في رواية مالك المذكورة ‏"‏ حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه ‏"‏ وظاهره يخالف رواية الباب، ومقتضاه أن خطبته وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين، وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهو مغاير لقوله في آخر الحديث ‏"‏ فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين ‏"‏ فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين، ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين وهو الموافق لبقية الطرق، وعلى هذا فكأن قوله في رواية مالك المذكورة ‏"‏ وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها ‏"‏ أي من الصبح الذي قبلها، ويكون في إضافة الصبح إليها تجوز‏.‏

وقد أطال ابن دحية في تقرير أن الليلة تضاف لليوم الذي قبلها، ورد على من منع ذلك ولكن لم يوافق على ذلك فقال ابن حزم‏:‏ رواية ابن أبي حازم والدراوردي - يعني رواية حديث الباب - مستقيمة ورواية مالك مشكلة، وأشار إلى تأويلها بنحو مما ذكرته‏.‏

ويؤيده أن في رواية الباب الذي يليه ‏"‏ فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه ‏"‏ وهذا في غاية الإيضاح، وأفاد ابن عبد البر في ‏"‏ الاستذكار ‏"‏ أن الرواة عن مالك اختلفوا عليه في لفظ الحديث فقال بعد ذكر الحديث‏:‏ هكذا رواه يحيى بن يحيى بن بكير والشافعي عن مالك ‏"‏ يخرج في صبيحتها من اعتكافه ‏"‏ ورواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي وجماعة عن مالك فقالوا ‏"‏ وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه ‏"‏ قال‏:‏ وقد روى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك فقال من اعتكف أول الشهر أو وسطه فإنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه، ومن اعتكف في آخر الشهر فلا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ ولا خلاف في الأول، وإنما الخلاف فيمن اعتكف العشر الأخير هل يخرج إذا غابت الشمس أو لا يخرج حتى يصبح‏؟‏ قال‏:‏ وأظن الوهم دخل من وقت خروج المعتكف‏.‏

قلت‏:‏ وهو بعيد لما قرره هو من بيان محل الاختلاف‏.‏

وقد وجه شيخنا الإمام البلقيني رواية الباب بأن معنى قوله ‏"‏ حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين ‏"‏ أي حتى إذا كان المستقبل من الليالي ليلة إحدى وعشرين، وقوله ‏"‏وهي الليلة التي يخرج ‏"‏ الضمير يعود على الليلة الماضية، ويؤيد هذا قوله ‏"‏ من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ‏"‏ لأنه لا يتم ذلك إلا بإدخال الليلة الأولى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أريت‏)‏ بضم أوله على البناء لغير معين، وهي من الرؤيا أي أعلمت بها، أو من الرؤية أي أبصرتها، وإنما أرى علامتها وهو السجود في الماء والطين كما وقع في رواية همام المشار إليها بلفظ ‏"‏ حتى رأيت أثر الماء والطين على جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أنسيتها أو نسيتها‏)‏ شك من الراوي هل أنساه غيره إياها أو نسيها هو من غير واسطة، ومنهم من ضبط نسيتها بضم أوله والتشديد فهو بمعنى أنسيتها والمراد أنه أنسى علم تعيينها في تلك السنة، وسيأتي سبب النسيان في هذه القصة في حديث عبادة بن الصامت بعد باب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أني أسجد‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أن أسجد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن كان اعتكف معي فليرجع‏)‏ في رواية همام المذكورة ‏"‏ من اعتكف مع النبي ‏"‏ وفيه التفات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قزعة‏)‏ بفتح القاف والزاي أي قطعة من سحاب رقيقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمطرت‏)‏ بفتحتين، في الباب الذي يليه من وجه آخر ‏"‏ فاستهلت السماء فأمطرت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى سال سقف المسجد‏)‏ في رواية مالك ‏"‏ فوكف المسجد ‏"‏ أي قطر الماء من سقفه، وكان على عريش أي مثل العريش وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مظللا بالجريد والخوص، ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر الكثير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته‏)‏ وفي رواية مالك ‏"‏ على جبهته أثر الماء والطين ‏"‏ وفي رواية ابن أبي حازم في الباب الذي يليه ‏"‏ انصرف من الصبح ووجهه ممتلئ طينا وماء ‏"‏ وهذا يشعر بأن قوله ‏"‏ أثر الماء والطين ‏"‏ لم يرد به محض الأثر وهو ما يبقى بعد إزالة العين، وقد مضى البحث في ذلك في صفة الصلاة‏.‏

وفي حديث أبي سعيد من الفوائد ترك مسح جبهة المصلي، والسجود على الحائل، وحمله الجمهور على الأثر الخفيف لكن يعكر عليه قوله في بعض طرقه ‏"‏ ووجهه ممتلئ طينا وماء ‏"‏ وأجاب النووي بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة‏.‏

وفيه جواز السجود في الطين، وقد تقدم أكثر ذلك في أبواب الصلاة‏.‏

وفيه الأمر بطلب الأولى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل، وأن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقص عليه في ذلك لا سيما فيما لم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة كما في هذه القصة، لأن ليلة القدر لو عينت في ليلة بعينها حصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها، وكان هذا هو المراد بقوله ‏"‏ عسى أن يكون خيرا لكم ‏"‏ كما سيأتي في حديث عبادة‏.‏

وفيه استعمال رمضان بدون شهر، واستحباب الاعتكاف فيه، وترجيح اعتكاف العشر الأخير، وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقا، وترتب الأحكام على رؤيا الأنبياء‏.‏

وفي أول قصة أبي سلمة مع أبي سعيد المشي في طلب العلم، وإيثار المواضع الخالية للسؤال، وإجابة السائل لذلك واجتناب المشقة في الاستفادة، وابتداء الطالب بالسؤال، وتقدم الخطبة على التعليم وتقريب البعيد في الطاعة وتسهيل المشقة فيها بحسن التلطف والتدريج إليها، قيل ويستنبط منه جواز تغيير مادة البناء من الأوقاف بما هو أقوى منها وأنفع‏.‏