فصل: باب مِنْ الْإِكْرَاهِ كُرْهًا وَ كَرْهًا وَاحِدٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُكْرَهِ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ

إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لا يجوز نكاح المكره‏)‏ المكره بفتح الراء‏.‏

قول ‏(‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء - إلى قوله - غفور رحيم‏)‏ كذا لأبي ذر والإسماعيلي وزاد القابسي لفظ ‏"‏ إكراههن ‏"‏ وعند النسفي ‏"‏ الآية ‏"‏ بدل قوله إلخ، وكذا للجرجاني، وساق في رواية كريمة الآية كلها‏.‏

والفتيات بفتح الفاء والتاء جمع فتاة والمراد بها الأمة وكذا الخادم ولو كانت حرة، وحكمة التقييد ب قوله ‏(‏إن أردن تحصنا‏)‏ أن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن لأن المطيعة لا تسمى مكرهة فالتقدير فتياتكم اللاتي جرت عادتهن بالبغاء وخفي هذا على بعض المفسرين فجعل ‏(‏إن أردن تحصنا‏)‏ متعلقا بقوله فيما قبل ذلك ‏(‏وأنكحوا الأيامى منكم‏)‏ وسيأتي بقية الكلام على هذه الآية بعد بابين، وقد استشكل بعضهم مناسبة الآية للترجمة وجوز أنه أشار إلى أنه يستفاد مطلوب الترجمة بطريق الأولى لأنه إذا نهى عن الإكراه فيما لا يحل فالنهي عن الإكراه فيما يحل أولى، قال ابن بطال‏:‏ ذهب الجمهور إلى بطلان نكاح المكره، وأجازه الكوفيون قالوا فلو أكره رجل على تزويج امرأة بعشرة آلاف وكان صداق مثلها ألفا صح النكاح ولزمته الألف وبطل الزائد، قال‏:‏ فلما أبطلوا الزائد بالإكراه كان أصل النكاح بالإكراه أيضا باطلا ا هـ، فلو كان راضيا بالنكاح وأكره على المهر كانت المسألة اتفاقية يصح العقد ويلزم المسمى بالدخول، ولو أكره على النكاح والوطء لم يحد ولم يلزمه شيء، وإن وطئ مختارا غير راض بالعقد حد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحَهَا

الشرح‏:‏

حديث خنساء بفتح المعجمة وسكون النون بعدها مهملة ومد بنت خدام بكسر المعجمة وتخفيف المهملة وجارية جد الراويين عنها بجيم وياء مثناه من تحت، وقد تقدم شرحه في كتاب النكاح وأنها كانت غير بكر وذكر ما ورد فيه من الاختلاف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو هُوَ ذَكْوَانُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحْيِي فَتَسْكُتُ قَالَ سُكَاتُهَا إِذْنُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان‏)‏ الظاهر أنه الفريابي وشيخه الثوري، ويحتمل أن يكون البيكندي وشيخه ابن عيينة فإن كلا من السفيانين معروف بالرواية عن ابن جريج، لكن هذا الحديث إنما هو عن الفريابي كما جزم به أبو نعيم، والفريابي إذا أطلق سفيان أراد الثوري وإذا أراد ابن عيينة نسبه‏.‏

قوله ‏(‏ذكوان‏)‏ يعني مولى عائشة‏.‏

قوله ‏(‏قلت‏:‏ يا رسول الله يستأمر النساء في أبضاعهن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏ في رواية حجاج بن محمد وأبو عاصم عن ابن جرير ‏"‏ سمعت ابن أبي مليكة يقول قال ذكوان‏:‏ سمعت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها هل تستأمر أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ نعم تستأمر ‏"‏ وفيه تقوية لمضمون الحديث الذي قبله وإرشاد أبي السلامة من إبطال العقد، وقوله ‏"‏سكاتها ‏"‏ وهو لغة في السكوت، ووقع الإسماعيلي من رواية الذهلي وأحمد عن يوسف عن الفريابي بلفظ، ‏"‏ سكوتها ‏"‏ وفي رواية حجاج وأبي عاصم ‏"‏ ذلك إذنها إذا سكتت ‏"‏ وتقدم في النكاح من طريق الليث عن ابن أبي مليكة بلفظ ‏"‏ صمتها ‏"‏ وتقدم شرحه أيضا هناك وبيان الاختلاف في صحة إنكاح الولي المجبر البكر الكبيرة، وأن الصغيرة لا خلاف في صحة إجباره لها‏.‏

*3* باب إِذَا أُكْرِهَ حَتَّى وَهَبَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فَإِنْ نَذَرَ الْمُشْتَرِي فِيهِ نَذْرًا فَهُوَ جَائِزٌ بِزَعْمِهِ وَكَذَلِكَ إِنْ دَبَّرَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا أكره حتى وهب عبدا أو باعه لم يجز‏)‏ أي ذلك البيع والهبة، والعبد باق على ملكه‏.‏

قوله ‏(‏وبه قال بعض الناس‏.‏

قال‏:‏ فإن نذر المشتري فيه نذرا فهو جائز‏)‏ أي ماض عليه ويصح البيع الصادر مع الإكراه وكذلك الهبة‏.‏

قوله ‏(‏بزعمه‏)‏ أي عنده، والزعم يطلق على القول كثيرا‏.‏

قوله ‏(‏وكذلك إن دبره‏)‏ أي ينعقد التدبير نقل ابن بطال عن محمد بن سحنون قال‏:‏ وافق الكوفيون الجمهور على أن بيع المكره باطل، وهذا يقتضي أن البيع مع الإكراه غير ناقل للملك، فإن سلموا ذلك بطل قولهم إن نذر المشتري وتدبيره يمنع تصرف الأول فيه، وإن قالوا إنه ناقل فلم خصوا ذلك بالعتق والهبة دون غيرهما من التصرفات‏؟‏ قال الكرماني‏:‏ ذكر المشايخ أن المراد بقول البخاري في هذه الأبواب ‏"‏ بعض الناس ‏"‏ الحنفية وغرضه أنهم تناقضوا، فإن بيع الإكراه إن كان ناقلا للملك إلى المشتري فإنه يصح منه جميع التصرفات فلا يختص بالنذر والتدبير، وإن قالوا ليس بناقل فلا يصح النذر والتدبير أيضا، وحاصله أنهم صححوا النذر والتدبير بدون الملك، وفيه تحكم وتخصيص بغير مخصص‏.‏

وقال المهلب‏:‏ أجمع العلماء على أن الإكراه على البيع والهبة لا يجور معه البيع، وذكر عن أبي حنيفة إن أعتقه المشتري أو دبره جاز وكذا الموهوب له، وكأنه قاسه على البيع الفاسد لأنهم قالوا إن تصرف المشتري في البيع الفاسد نافذ ثم ذكر البخاري حديث جابر في بيع المدبر وقد تقدم شرحه مستوفي في العتق، قال ابن بطال‏:‏ ووجه الرد به على القول المذكور أن الذي دبره لما لم يكن له مال غيره كان تدبيره سفها من فعله فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإن كان ملكه للعبد كان صحيحا فكان من اشتراه شراء فاسدا ولم يصح له ملكه إذا دبره أو أعتقه أولى أن يرد فعله من أجل أنه لم يصح له ملكه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ قَالَ فَسَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ

الشرح‏:‏

حديث جابر في بيع المدبر قد تقدم شرحه مستوفي في العتق‏.‏

*3*باب مِنْ الْإِكْرَاهِ كُرْهًا وَ كَرْهًا وَاحِدٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من الإكراه‏)‏ أي من جملة ما ورد في كراهية الإكراه ما تضمنته الآية، وهو المذكور فيه عن ابن عباس في نزول قوله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها‏)‏ وقد تقدم شرحه في تفسير سورة النساء، فإنه أورده هناك عن محمد بن مقاتل عن أسباط بن محمد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ بْنُ فَيْرُوزٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الشَّيْبَانِيُّ وَحَدَّثَنِي عَطَاءٌ أَبُو الحَسَنِ السُّوَائِيُّ وَلَا أَظُنُّهُ إِلَّا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا الْآيَةَ قَالَ كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجْهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ

الشرح‏:‏

حديث حسين بن منصور عن أسباط، وحسين نيسابوري ما له في البخاري إلا هذا الموضع كذا جزم به الكلاباذي، وقد تقدم شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حدثنا الحسن بن منصور أبو علي حدثنا حجاج بن محمد ‏"‏ فذكر حديثا، وذكر الخطيب أن محمد بن مخلد روى عن أبي علي هذا فسماه حسينا بالتصغير فيحتمل أن يكون هو، وذكر المزي مع حسين بن منصور النيسابوري ثلاثة كل منهم حسين بن منصور وكلهم من طبقة واحدة، وقوله في الترجمة ‏"‏ كرها وكرها واحد ‏"‏ أي بفتح أوله وبضمه بمعنى واحد وهذا قول الأكثر، وقيل بالضم ما أكرهت نفسك عليه وبالفتح ما أكرهك عليه غيرك، ووقع لغير أبي ذر ‏"‏ كره وكره ‏"‏ بالرفع فيهما، وسقط للنسفي أصلا، وقد تقدم في تفسير سورة النساء‏.‏

وقال ابن بطال عن المهلب‏:‏ يستفاد منه أن كل من أمسك امرأته طمعا أن تموت فيرثها لا يحل له ذلك بنص القرآن، كذا قال ولا يلزم من النص على أن ذلك لا يحل أن لا يصح ميراثه منها في الحكم الظاهر‏.‏

*3*باب إِذَا اسْتُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا

فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْإِمَارَةِ وَقَعَ عَلَى وَلِيدَةٍ مِنْ الْخُمُسِ فَاسْتَكْرَهَهَا حَتَّى اقْتَضَّهَا فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ وَنَفَاهُ وَلَمْ يَجْلِدْ الْوَلِيدَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الْأَمَةِ الْبِكْرِ يَفْتَرِعُهَا الْحُرُّ يُقِيمُ ذَلِكَ الْحَكَمُ مِنْ الْأَمَةِ الْعَذْرَاءِ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا وَيُجْلَدُ وَلَيْسَ فِي الْأَمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ الْأَئِمَّةِ غُرْمٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حد عليها لقوله تعالى‏:‏ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏)‏ أي لهن‏:‏ وقد قرئ في الشاذ ‏"‏ فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ‏"‏ وهي قراءة ابن مسعود وجابر وسعيد بن جبير ونسيت أيضا لابن عباس والمحفوظ عنه تفسيره بذلك وكذا عن جماعة غيره، وجوز بعض المعربين أن يكون التقدير ‏"‏ لهم ‏"‏ أي لمن وقع منه الإكراه لكن إذا تاب، وضعف بكون الأصل عدم التقدير، وأجيب بأنه لا بد من التقدير لأجل الربط، واستشكل تعليق المغفرة لهن لأن التي تكره ليست آثمة، وأجيب باحتمال أن يكون الإكراه المذكور كان دون ما اعتبر شرعا فربما قصرت عن الحد الذي تعذر به فيأثم فناسب تعليق المغفرة‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ الإكراه لا ينافي المؤاخذة‏.‏

قلت‏:‏ أو ذكر المغفرة والرحمة لا يستلزم تقدم الإثم فهو كقوله ‏(‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم‏)‏ وقال الطيبي‏:‏ يستفاد منه الوعيد الشديد للمكرهين لهن وفي ذكر المغفرة والرحمة وتعريض وتقديره انتهوا أيها المكرهون فإنهن مع كونهن مكرهات قد يؤاخذن لولا رحمة الله ومغفرته فكيف بكم أنتم، ومناسبتها للترجمة أن في الآية دلالة على أن لا إثم على المكرهة على الزنا فيلزم إذ لا يجب عليها الحد، وفي صحيح مسلم عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها مسيلمة وأخرى يقال لها أميمة وكان يكرههما على الزنا فأنزل الله سبحانه وتعالى ‏(‏ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء‏)‏ الآية‏.‏

قوله ‏(‏وقال الليث‏)‏ هو ابن سعد ‏(‏حدثني نافع‏)‏ هو مولى ابن عمر‏.‏

قوله ‏(‏أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته‏)‏ يعني الثقفية امرأة عبد الله بن عمر‏.‏

قوله ‏(‏أن عبدا من رقيق الإمارة‏)‏ بكسر الألف أي من مال الخليفة وهو عمر‏.‏

قوله ‏(‏وقع على وليدة من الخمس‏)‏ أي من مال خمس الغنيمة الذي يتعلق التصرف فيه بالإمام، والمراد زنى بها‏.‏

قوله ‏(‏فاستكرهها حتى اقتضها‏)‏ بقاف وضاد معجمة مأخوذ من القضة وهي عذرة البكر، وهذا يدل على أنها كانت بكرا‏.‏

قوله ‏(‏فجلده عمر الحد ونفاه‏)‏ أي جلده خمسين جلدة ونفاه نصف سنة، لأن حده نصف حد الحر، ويستفاد منه أن عمر كان يرى أن الرقيق ينفي كالحر، وقد تقدم البحث فيه في الحدود‏.‏

وقوله ‏"‏لم يجلد الوليدة لأنه استكرهها ‏"‏ لم أقف على اسم واحد منهما‏.‏

وهذا الأثر وصله أبو القاسم البغوي عن العلاء بن موسى عن الليث بمثله سواء، ووقع لي عاليا جدا بيني وبين صاحب الليث فيه سبعة أنفس بالسماع المتصل في أزيد من ستمائة سنة، قرأته على محمد بن الحسن بن عبد الرحيم الدقاق عن أحمد بن نعمة سماعا أنبأنا أبو المنجا بن عمر أنبأنا أبو الوقت أنبأنا محمد بن عبد العزيز أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا البغوي فذكره، وعند ابن أبي شيبة فيه حديث مرفوع عن وائل بن حجر قال ‏"‏ استكرهت امرأة في الزنا فدرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها الحد ‏"‏ وسنده ضعيف‏.‏

قوله ‏(‏وقال الزهري في الأمة البكر يفترعها‏)‏ بفاء وبعين مهملة أي يقتضها‏.‏

قوله ‏(‏يقيم ذلك‏)‏ أي الافتراع ‏(‏الحكم‏)‏ بفتحتين أي الحاكم‏.‏

قوله ‏(‏بقدر ثمنها‏)‏ أي على الذي اقتضها ويجلد، والمعنى أن الحاكم يأخذ من المفترع دية الافتراع بنسبة قيمتها أي أرش النقص، وهو التفاوت بين كونها بكرا أو ثيبا، وقوله ‏"‏يقيم ‏"‏ بمعنى يقوم وفائدة قوله ‏"‏ ويجلد ‏"‏ لدفع توهم من يظن أن العقر يغني عن الجلد‏.‏

قوله ‏(‏وليس في الأمة الثيب لي قضاء الأئمة غرم‏)‏ بضم المعجمة أي غرامة، ولكن عليها الحد‏.‏

ثم ذكر طرفا من حديث أبي هريرة في شأن إبراهيم وسارة مع الجبار، وقد مضى شرحه مستوفي في أحاديث الأنبياء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ دَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا فَأَرْسَلَ بِهَا فَقَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي فَقَالَتْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله هنا ‏"‏ الظالم ‏"‏ تقدم هناك بلفظ ‏"‏ الكافر ‏"‏ وقوله ‏"‏ غط ‏"‏ بضم الغين المعجمة أي غم وزنه ومعناه وقيل خنق، ونقل ابن التين أنه روى بالعين المهملة وأخذ من العطعطة وهي حكاية صوت، وتقدم الخلاف في تسمية الجبار، والمراد بالقرية حران وقيل الأردن وقيل مصر، وقولها ‏"‏ إن كنت ‏"‏ ليس للشك فتقديره إن كنت مقبولة الإيمان عندك، وقوله ركض أي حرك، قال ابن المنير‏:‏ ما كان ينبغي إدخال هذا الحديث في هذه الترجمة أصلا، وليس لها مناسبة للترجمة إلا سقوط الملامة عنها في الخلوة لكونها كانت مكرهة على ذلك‏.‏

قال الكرماني تبعا لابن بطال، وجه إدخال هذا الحديث في هذا الباب مع أن سارة عليها السلام كانت معصومة من كل سوء أنها لا ملامة عليها في الخلوة مكرهة فكذا غيرها لو زنى بها مكرهة لا حد عليها‏.‏

‏(‏تكميل‏)‏ ‏:‏ لم يذكروا حكم إكراه الرجل على الزنا، وقد ذهب الجمهور أنه لا حد عليه‏.‏

وقال مالك وطائفة‏:‏ عليه الحد لأنه لا ينتشر إلا بلذة، وسواء أكرهه سلطان أم غيره، وعن أبي حنيفة يحد إن أكرهه غير السلطان، وخالفه صاحباه، واحتج المالكية بأن الانتشار لا يحصل إلا بالطمأنينة وسكون النفس، والمكره بخلافه لأنه خائف، وأجيب بالمنع وبأن الوطء يتصور بغير انتشار‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ إِنَّهُ أَخُوهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ نَحْوَهُ

وَكَذَلِكَ كُلُّ مُكْرَهٍ يَخَافُ فَإِنَّهُ يَذُبُّ عَنْهُ الْمَظَالِمَ وَيُقَاتِلُ دُونَهُ وَلَا يَخْذُلُهُ فَإِنْ قَاتَلَ دُونَ الْمَظْلُومِ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا قِصَاصَ وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَكَ أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ هِبَةً وَتَحُلُّ عُقْدَةً أَوْ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ أَخَاكَ فِي الْإِسْلَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَسِعَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّ ابْنَكَ أَوْ أَبَاكَ أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَسَعْهُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ إِنْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ ابْنَكَ أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ تُقِرُّ بِدَيْنٍ أَوْ تَهَبُ يَلْزَمُهُ فِي الْقِيَاسِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَكُلُّ عُقْدَةٍ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ فَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَغَيْرِهِ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ أُخْتِي وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَقَالَ النَّخَعِيُّ إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه‏)‏ جواب الشرط يأتي بعده‏.‏

قوله ‏(‏وكذلك كل مكره يخاف فإنه‏)‏ أي المسلم ‏(‏يذب‏)‏ بفتح أوله وضم الذال المعجمة أي يدفع ‏(‏عنه الظالم ويقاتل دونه‏)‏ أي عنه ‏(‏ولا يخذله‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ ذهب مالك والجمهور إلى أن من أكره على يمين إن لم يحلفها قتل أخوه المسلم أنه لا حنث عليه‏.‏

وقال الكوفيون يحنث لأنه كان له أن يوري فلما ترك التورية صار قاصدا لليمين فيحنث‏.‏

وأجاب الجمهور بأنه إذا أكره على اليمين فنيته مخالفة لقوله ‏"‏ الأعمال بالنيات‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فإن قاتل دون المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص‏)‏ قال الداودي‏:‏ أراد لا قود ولا دية عليه ولا قصاص، قال والدية تسمى أرشا‏.‏

قلت‏:‏ والأولى أن قوله ‏"‏ ولا قصاص ‏"‏ تأكيد، أو أطلق القود على الدية‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ اختلفوا فيمن قاتل عن رجل خشي عليه أن يقتل فقتل دونه هل يجب على الآخر قصاص أو دية‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يجب عليه شيء للحديث المذكور ففيه ‏"‏ ولا يسلمه ‏"‏ وفي الحديث الذي بعده ‏"‏ أنصر أخاك ‏"‏ وبذلك قال عمر‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ عليه القود وهو قول الكوفيين وهو يشبه قول ابن القاسم وطائفة من المالكية، وأجابوا عن الحديث بأن فيه الندب إلى النصر وليس فيه الإذن بالقتل، والمتجه قول ابن بطال أن القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع الظلم بكل ما يمكنه، فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم وإنما يقصد دفعه فلو أتى الدفع على الظالم كان دمه هدرا وحينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه أو عن غيره‏.‏

قوله ‏(‏وإن قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لتبيعن عبدك أو لتقر بدين أو تهب هبة أو تحل عقدة أو لتقتلن أباك أو أخاك في الإسلام وما أشبه ذلك وسعه ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم‏)‏ قال الكرماني‏:‏ المراد بحل العقدة فسخها وقيد الأخ بالإسلام ليكون أعم من القريب ‏"‏ وسعه ذلك ‏"‏ أي جاز له جميع ذلك ليخلص أباه وأخاه‏.‏

وقال ابن بطال ما ملخصه‏:‏ مراد البخاري أن من هدد بقتل والده أو بقتل أخيه في الإسلام إن لم يفعل شيئا من المعاصي أو يقر على نفسه بدين ليس عليه أو يهب شيئا لغيره بغير طيب نفس منه أو يحل عقدا كالطلاق والعتاق بغير اختياره أنه يفعل جميع ما هدد به لينجو أبوه من القتل وكذا أخوه المسلم من الظلم ودليله على ذلك ما ذكره في الباب الذي بعده موصولا ومعلقا، ونبه ابن التين على وهم وقع للداودي الشارح حاصله أن الداودي وهم في إيراد كلام البخاري فجعل قوله ‏"‏ لتقتلن ‏"‏ بالتاء وجعل قول البخاري وسعه ذلك ‏"‏ لم يسعه ذلك ‏"‏ ثم تعقبه بأنه إن أراد لا يسعه في قتل أبيه أو أخيه فصواب، وأما الإقرار بالدين والهبة والبيع فلا يلزم، واختلف في الشرب والأكل، قال ابن التين‏:‏ قرأ لتقتلن بتاء الخاطبة وإنما هو بالنون‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعض الناس لو قيل له لتشربن الخمر أو لتأكلن الميتة أو لتقتلن ابنك أو أباك أو ذا رحم محرم لم يسعه لأن هذا ليس بمضطر، ثم ناقض فقال‏:‏ إن قيل له لتقتلن أباك أو لتبيعن هذا العبد أو لتقرن بدين أو بهبة يلزمه في القياس، ولكنا نستحسن ونقول البيع والهبة وكل عقدة في ذلك باطل‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ معناه أن ظالما لو أراد قتل رجل فقال لولد الرجل مثلا إن لم تشرب الخمر أو تأكل الميتة قتلت أباك، وكذا لو قال له قتلت ابنك أو ذا رحم لك ففعل لم يأثم عند الجمهور‏.‏

وقال أبو حنيفة يأثم لأنه ليس بمضطر لأن الإكراه إنما يكون فيما يتوجه إلى الإنسان في خاصة نفسه لا في غيره، وليس له أن يعصي الله حتى يدفع عن غيره بل الله سائل الظالم ولا يؤاخذ الابن لأنه لم يقدر على الدفع إلا بارتكاب ما لا يحل له ارتكابه، قال‏:‏ ونظيره في القياس ما لو قال إن لم تبع عبدك أو تقر بدين أو تهب هبة أن كل ذلك ينعقد، كما لا يجوز له أن يرتكب المعصية في الدفع عن غيره‏.‏

ثم ناقض هذا المعنى فقال‏:‏ ولكنا نستحسن ونقول البيع وغيره من العقود كل ذلك باطل، فخالف قياس قوله بالاستحسان الذي ذكره، فلذلك قال البخاري بعده فرقوا بين كل ذي رحم محرم وغيره بغير كتاب ولا سنة ‏"‏ يعني أن مذهب الحنفية في ذي رحم بخلاف مذهبهم في الأجنبي، فلو قيل لرجل‏:‏ لتقتلن هذا الرجل الأجنبي أو لتبيعن كذا ففعل لينجيه من القتل لزمه البيع، ولو قيل له ذلك في ذي رحمه لم يلزمه ما عقده‏.‏

والحاصل أن أصل أبي حنيفة اللزوم في الجميع قياسا لكن يستثنى من له منه رحم استحسانا، ورأى البخاري أن لا فرق بين القريب والأجنبي في ذلك لحديث ‏"‏ المسلم أخو المسلم ‏"‏ فإن المراد به أخوة الإسلام لا النسب، ولذلك استشهد بقول إبراهيم ‏"‏ هذه أختي‏"‏، والمراد أخوة الإسلام، وإلا فنكاح الأخت كان حراما في ملة إبراهيم، وهذه الأخوة توجب حماية أخيه المسلم والدفع عنه فلا لزمه ما عقده ولا إثم عليه فيما يأكل ويشرب للدفع عنه، فهو كما لو قيل له لتفعلن كذا أو لنقتلنك يسعه إتيانها ولا يلزمه الحكم ولا يقع عليه الإثم‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ يحتمل أن يقرر البحث المذكور بأن يقال إنه ليس بمضطر لأنه مخير في أمور متعددة والتخيير ينافي الإكراه، فكما لا إكراه في الصورة الأولى وهي الأكل والشرب والقتل كذلك لا إكراه في الصورة الثانية وهو البيع والهبة والعتق، فحيث قالوا ببطلان البيع استحسانا فقد ناقضوا إذ يلزم منه القول بالإكراه وقد قالوا بعدم الإكراه‏.‏

قلت‏:‏ ولقائل أن يقول بعدم الإكراه أصلا، وإنما أثبتوه بطريق القياس في الجميع لكن استحسنوا في أمر المحرم لمعنى قام به، وقوله في أول التقرير ‏"‏ في أمور متعددة ‏"‏ ليس كذلك بل الذي يظهر أن ‏"‏ أو ‏"‏ فيه للتنويع لا للتخيير وأنها أمثلة لا مثال واحد ثم قال الكرماني‏:‏ وقوله أي البخاري أن تفريقهم بين المحرم وغيره شيء قالوه لا يدل عليه كتاب ولا سنة أي ليس فيهما ما يدل على الفرق بينهما في باب الإكراه، وهو أيضا كلام استحساني، قال‏:‏ وأمثال هذه المباحث غير مناسبة لوضع هذا الكتاب إذ هو خارج عن فنه‏.‏

قلت‏:‏ وهو عجب منه لأن كتاب البخاري كما تقدم تقريره لم يقصد به إيراد الأحاديث نقلا صرفا بل ظاهر وضعه أنه يجعل كتابا جامعا للأحكام وغيرها، وفقهه في تراجمه، فلذلك يورد فيه كثيرا الاختلاف العالي ويرجح أحيانا ويسكت أحيانا توقفا عن الجزم بالحكم ويورد كثيرا من التفاسير ويشير فيه إلى كثير من العلل وترجيح بعض الطرق عل بعض، فإذا أورد فيه شيئا من المباحث لم تستغرب، وأما رمزه إلى أن طريقة البحث ليست من فنه‏.‏

فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، فللبخاري أسوة بالأئمة الذين سلك طريقهم كالشافعي وأبي ثور والحميدي وأحمد وإسحاق، فهذه طريقتهم في البحث وهي محصلة للمقصود وإن لم يعرجوا على اصطلاح المتأخرين‏.‏

قوله ‏(‏وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم لامرأته‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لسارة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏هذه أختي وذلك في الله‏)‏ هذا طرف من قصة إبراهيم وسارة مع الجبار، وقد وصله في أحاديث الأنبياء وليس فيه ‏"‏ وذلك في الله ‏"‏ بل تقدم هناك ثنتان منهما في ذات الله قوله ‏(‏إني سقيم‏)‏ وقوله ‏(‏بل فعله كبيرهم هذا‏)‏ ومفهومه أن الثالثة وهي قوله ‏"‏ هذه أختي ‏"‏ ليست في ذات الله، فعلى هذا فقوله ‏"‏ وذلك في الله ‏"‏ من كلام البخاري ولا مخالفة بينه وبين مفهوم الحديث المذكور، لأن المراد أنهما من جهة محض الأمر الإلهي بخلاف الثالثة فإن فيها شائبة نفع وحظ له، ولا ينفي أن يكون في الله أي من أجل توصله بذلك إلى السلامة مما أراده الجبار منها أو منه‏.‏

قوله ‏(‏وقال النخعي‏:‏ إذا كان المستحلف ظالما فنية الحالف، وإن كان مظلوما فنية المستحلف‏)‏ وصله محمد بن الحسن في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عنه بلفظ ‏"‏ إذا استحلف الرجل وهو مظلوم فاليمين على ما نوى وعلى ما ورى، وإذا كان ظالما فاليمين على نية من استحلفه، ووصله ابن أبي شيبة من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي بلفظ ‏"‏ إذا كان الحالف مظلوما فله أن يوري، وإن كان ظالما فليس له أن يوري‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ قول النخعي يدل على أن النية عنده نية المظلوم أبدا‏.‏

وإلى مثله ذهب مالك والجمهور، وعند أبي حنيفة النية نية الحالف أبدا‏.‏

قلت‏:‏ ومذهب الشافعي أن الحلف إن كان عند الحاكم فالنية نية الحاكم وهي راجعة إلى نية صاحب الحق، وإن كان في غير الحكم فالنية نية الحالف‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ ويتصور كون المستحلف مظلوما أن يكون له حق في قبل رجل فيجحده ولا بينه له فيستحلفه فتكون النية نيته لا الحالف فلا تنفعه في ذلك التورية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ

الشرح‏:‏

ذكر البخاري حديث ابن عمر مرفوعا ‏"‏ المسلم أخو المسلم ‏"‏ قد تقدم من هذا الوجه بأتم من هذا السياق في كتاب المظالم مشروحا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني محمد بن عبد الرحيم‏)‏ هو البزاز بمعجمتين البغدادي الملقب صاعقة وهو من طبقة البخاري في أكثر شيوخه، وسعيد بن سليمان من شيوخ البخاري فقد روى عنه بغير واسطة في مواضع أقربها في ‏"‏ باب من اختار الضرب ‏"‏ وقد أخرج البخاري حديث الباب في كتاب المظالم عن عثمان بن أبي شيبة عن هشيم فنزل فيه هنا درجتين لأن سياقه هنا أتم ولمغايرة الإسناد‏.‏

قوله ‏(‏فقال رجل‏)‏ لم أقف على اسمه، ووقع في رواية عثمان ‏"‏ قالوا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏آنصره مظلوما‏)‏ بالمد على الاستفهام وهو استفهام تقرير ويجوز ترك المد‏.‏

قوله ‏(‏أفرأيت‏)‏ أي أخبرني قال الكرماني‏:‏ في هذه الصيغة مجازان‏:‏ إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار، والخبر وإرادة الأمر‏.‏

قوله ‏(‏إذا كان ظالما‏)‏ أي كيف أنصره على ظلمه‏.‏

قوله ‏(‏تحجزه‏)‏ بمهملة ثم جيم ثم زاي للأكثر، ولبعضهم بالبراء بدل الزاي وكلاهما بمعنى المنع‏.‏

وفي رواية عثمان تأخذ فوق يده ‏"‏ وهو كناية عن المنع، وتقدم بيان اختلاف ألفاظه هناك، ومنها أن في رواية عائشة ‏"‏ قال إن كان مظلوما فخذ له بحقه، وإن كان ظالما فخذ له من نفسه‏)‏ أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب أدب الحكماء‏.‏

‏(‏خاتمة‏)‏ ‏:‏ اشتمل كتاب الإكراه من الأحاديث المرفوعة على خمسة عشر حديثا‏.‏

المعلق منها ثلاثة وسائرها موصول، وهي مكررة كلها فيما مضى، وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم تسعة آثار‏.‏

والله أعلم‏.‏