فصل: باب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كتاب العلم

*3*باب فَضْلِ الْعِلْمِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كتاب العلم‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

باب فضل العلم‏)‏ هكذا في رواية الأصيلي وكريمة وغيرهما‏.‏

وفي رواية أبي ذر تقديم البسملة، وقد قدمنا توجيه ذلك في كتاب الإيمان‏.‏

وليس في رواية المستملي لفظ باب ولا في رواية رفيقه لفظ كتاب العلم‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ بدأ المصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته، وذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح فلا يحتاج إلى تعريف، أو لأن النظر في حقائق الأشياء ليس من فن الكتاب، وكل من القدرين ظاهر، لأن البخاري لم يضع كتابة لحدود الحقائق وتصورها، بل هو جار على أساليب العرب القديمة، فإنهم يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه إذا كانت حقيقته مكشوفة معلومة‏.‏

وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدى لتعريف العلم وقال‏:‏ هو أبين من أن يبين‏.‏

قلت‏:‏ وهذه طريقة الغزالي وشيخه الإمام أن العلم لا يحد لوضوحه أو لعسره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقول الله عز وجل‏)‏ ضبطناه في الأصول بالرفع عطفا على كتاب أو على الاستئناف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏)‏ قيل في تفسيرها‏:‏ يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم‏.‏

ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة‏.‏

وفي صحيح مسلم عن نافع بن عبد الحارث الخزاعي - وكان عامل عمر على مكة - أنه لقيه بعسفان فقال له‏:‏ من استخلفت‏؟‏ فقال‏:‏ استخلفت ابن أبزى مولى لنا‏.‏

فقال عمر‏:‏ استخلفت مولى‏؟‏ قال‏:‏ إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض‏.‏

فقال عمر‏:‏ أما إن نبيكم قد قال ‏"‏ إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين‏"‏‏.‏

وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى ‏(‏نرفع درجات من نشاء‏)‏ قال بالعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله عز وجل‏:‏ رب زدني علما‏)‏ واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائض، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه، وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع‏.‏

الثلاثة بنصيب، فرضي الله عن مصنفه، وأعاننا على ما تصدينا له من توضيحه بمنه وكرمه‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم لم يورد المصنف في هذا الباب شيئا من الحديث‏؟‏ فالجواب أنه إما أن يكون اكتفى بالآيتين الكريمتين، وإما بيض له ليلحق فيه ما يناسبه فلم يتيسر، وإما أورد فيه حديث ابن عمر الآتي بعد باب رفع العلم ويكون وضعه هناك من تصرف بعض الرواة، وفيه نظر على ما سنبينه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

ونقل الكرماني عن بعض أهل الشام أن البخاري بوب الأبواب وترجم التراجم وكتب الأحاديث وربما بيض لبعضها ليلحقه‏.‏

وعن بعض أهل العراق أنه تعمد بعد الترجمة عدم إيراد الحديث إشارة إلى أنه لم يثبت فيه شيء عنده على شرطه‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر لي أن هذا محله حيث لا يورد فيه آية أو أثرا‏.‏

أما إذا أورد آية أو أثرا فهو إشارة منه إلى ما ورد في تفسير تلك الآية، وأنه لم يثبت فيه شيء على شرطه، وما دلت عليه الآية كاف في الباب، وإلى أن الأثر الوارد في ذلك يقوي به طريق المرفوع وإن لم يصل في القوة إلى شرطه‏.‏

والأحاديث في فضل العلم كثيرة، صحح مسلم منها حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ من التمس طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة‏"‏‏.‏

ولم يخرجه البخاري لأنه اختلف فيه على الأعمش، والراجح أنه بينه وبين أبي صالح فيه واسطة‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من سئل علما وهو مشتغل‏)‏ محصله التنبيه على أدب العالم والمتعلم، أما العالم فلما تضمنه من ترك زجر السائل، بل أدبه بالإعراض عنه أولا حتى استوفى ما كان فيه، ثم رجع إلى جوابه فرفق به لأنه من الأعراب وهم جفاة‏.‏

وفي العناية جواب سؤال السائل ولو لم يكن السؤال متعينا ولا الجواب، وأما المتعلم فلما تضمنه من أدب السائل أن لا يسأل العالم وهو مشتغل بغيره لأن حق الأول مقدم‏.‏

ويؤخذ منه أخذ الدروس على السبق، وكذلك الفتاوى والحكومات ونحوها‏.‏

وفيه مراجعة العالم إذا لم يفهم ما يجيب به حتى يتضح، لقوله ‏"‏ كيف إضاعتها، وبوب عليه ابن حبان ‏"‏ إباحة إعفاء المسئول عن الإجابة على الفور ‏"‏ ولكن سياق القصة يدل على أن ذلك ليس على الإطلاق، وفيه إشارة إلى أن العلم سؤال وجواب، ومن ثم قيل حسن السؤال نصف العلم، وقد أخذ بظاهر هذه القصة مالك وأحمد وغيرهما في الخطبة فقالوا‏:‏ لا نقطع الخطبة لسؤال سائل، بل إذا فرغ نجيبه‏.‏

وفصل الجمهور بين أن يقع ذلك في أثناء واجباتها فيؤخر الجواب، أو في غير الواجبات فيجيب‏.‏

والأولى حينئذ التفصيل، فإن كان مما يهتم به في أمر الدين، ولا سيما إن اختص بالسائل فيستحب إجابته ثم يتم الخطبة، وكذا بين الخطبة والصلاة، وإن كان بخلاف ذلك فيؤخر، وكذا قد يقع في أثناء الواجب ما يقتضي تقديم الجواب، لكن إذا أجاب استأنف على الأصح، ويؤخذ ذلك كله من اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك، فإن كان السؤال من الأمور التي ليست معرفتها على الفور مهمة فيؤخر كما في هذا الحديث، ولا سيما إن كان ترك السؤال عن ذلك أولى‏.‏

وقد وقع نظيره في الذي سأل عن الساعة وأقيمت الصلاة، فلما فرغ من الصلاة قال‏:‏ أين السائل‏؟‏ فأجابه‏.‏

أخرجاه‏.‏

وإن كان السائل به ضرورة ناجزة فتقدم إجابته، كما في حديث أبي رفاعة عند مسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب‏:‏ رجل غريب لا يدري دينه جاء يسأل عن دينه، فترك خطبته وأتى بكرسي فقعد عليه فجعل يعلمه، ثم أتى خطبته فأتم آخرها‏.‏

وكما في حديث سمرة عند أحمد أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب‏.‏

وكما في الصحيحين في قصة سالم لما دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له‏:‏ أصليت ركعتين‏؟‏ الحديث، وسيأتي في الجمعة‏.‏

وفي حديث أنس‏:‏ كانت الصلاة تقام فيعرض الرجل فيحدث النبي صلى الله عليه وسلم حتى ربما نعس بعض القوم، ثم يدخل في الصلاة، وفي بعض طرقه وقوع ذلك بين الخطبة والصلاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ ح و حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليح‏)‏ بصيغة التصغير هو ابن سليمان أبو يحيى المدني، من طبقة مالك وهو صدوق، تكلم بعض الأئمة في حفظه، ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه‏.‏

وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده وهذا منها‏.‏

وإنما أورده عاليا عن فليح بواسطة محمد بن سنان فقط ثم أورده نازلا بواسطة محمد بن فليح وإبراهيم بن المنذر عن محمد لأنه أورده في كتاب الرقاق عن محمد بن سنان فقط، فأراد أن يعيد هنا طريقا أخرى، ولأجل نزولها قرنها بالرواية الأخرى‏.‏

وهلال بن علي يقال له هلال بن أبي ميمونة وهلال بن أبي هلال، فقد يظن ثلاثة وهو واحد، وهو من صغار التابعين، وشيخه في هذا الحديث من أوساطهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحدث‏)‏ هو خبر المبتدأ وحذف مفعوله الثاني لدلالة السياق عليه‏.‏

والقوم الرجال‏.‏

وقد يدخل فيه النساء تبعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جاء أعرابي‏)‏ لم أقف على تسميته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمضى‏)‏ أي استمر يحدثه، كذا في رواية المستملي والحموي بزيادة هاء، وليست في رواية الباقين، وإن ثبتت فالمعنى يحدث القوم الحديث الذي كان فيه وليس الضمير عائدا على الأعرابي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال بعض القوم سمع ما قال‏)‏ إنما حصل لهم التردد في ذلك لما ظهر من عدم التفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها، وقد تبين عدم انحصار ترك الجواب في الأمرين المذكورين، بل احتمل كما تقدم أن يكون أخره ليكمل الحديث الذي هو فيه، أو أخر جوابه ليوحي إليه به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أين أراه السائل‏)‏ بالرفع على الحكاية، وأراه بالضم أي أظنه، والشك من محمد بن فليح‏.‏

ورواه الحسن بن سفيان وغيره عن عثمان بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن فليح ولفظه ‏"‏ أين السائل ‏"‏ ولم يشك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا وسد‏)‏ أي أسند، وأصله من الوسادة، وكان من شأن الأمير عندهم إذا جلس أن تثنى تحته وسادة، فقوله وسد أي جعل له غير أهله وسادا، فتكون إلى بمعنى اللام وأتى بها ليدل على تضمين معنى أسند‏.‏

ولفظ محمد بن سنان في الرقاق ‏"‏ إذا أسند ‏"‏ وكذا رواه يونس بن محمد وغيره عن فليح‏.‏

ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط ومقتضاه أن العلم ما دام قائما ففي الأمر فسحة‏.‏

وكأن المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر، تلميحا لما روى عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر ‏"‏ وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*بَاب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو النعمان‏)‏ زاد الكشميهني في رواية كريمة عنه‏:‏ عارم بن الفضل، وعارم لقب، واسمه محمد كما تقدم في المقدمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ماهك‏)‏ بفتح الهاء وحكى كسرها وهو غير منصرف عند الأكثرين للعلمية والعجمة، ورواه الأصيلي منصرفا فكأنه لحظ فيه الوصف‏.‏

واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله ‏"‏ فنادى بأعلى صوته ‏"‏ وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته‏.‏

الحديث ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

ولأحمد من حديث النعمان في معناه وزاد ‏"‏ حتى لو أن رجلا بالسوق لسمعه ‏"‏ واستدل به أيضا على مشروعية إعادة الحديث ليفهم، وسيأتي الكلام على مباحث المتن في كتاب الوضوء إن شاء الله تعالى‏.‏

قال ابن رشيد‏:‏ في هذا التبويب رمز من المصنف إلى أنه يربد أن يبلغ الغاية في تدوين هذا الكتاب بأن يستفرغ وسعه في حسن ترتيبه، وكذلك فعل رحمه الله تعالى‏.‏

*3*باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا

وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقَالَ حُذَيْفَةُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ وَقَالَ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا‏)‏ قال ابن رشيد‏:‏ أشار بهذه الترجمة إلى أنه بنى كتابه على المسندات المرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ ومراده‏:‏ هل هذه الألفاظ بمعنى واحد أم لا‏؟‏ وإيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحميدي‏)‏ في رواية كريمة والأصيلي ‏"‏ وقال لنا الحميدي ‏"‏ وكذا ذكره أبو نعيم في المستخرج، فهو متصل‏.‏

وسقط من رواية كريمة قوله ‏"‏ وأنبأنا ‏"‏ ومن رواية الأصيلي قوله ‏"‏ أخبرنا ‏"‏ وثبت الجميع في رواية أبي ذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن مسعود‏)‏ هذا التعليق طرف من الحديث المشهور في خلق الجنين، وقد وصله المصنف في كتاب القدر، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال شقيق‏)‏ هو أبو وائل ‏(‏عن عبد الله‏)‏ هو ابن مسعود، سيأتي موصولا أيضا حيث ذكره المصنف في كتاب الجنائز، ويأتي أيضا حديث حذيفة في كتاب الرقاق‏.‏

ومراده من هذه التعاليق أن الصحابي قال تارة ‏"‏ حدثنا ‏"‏ وتارة ‏"‏ سمعت ‏"‏ فدل على أنهم لم يفرقوا بين الصيغ‏.‏

وأما أحاديث ابن عباس وأنس وأبي هريرة في رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فقد وصلها في كتاب التوحيد، وأراد بذكرها هنا التنبيه على العنعنة، وأن حكمها الوصل عند ثبوت اللقي، وأشار على ما ذكره ابن رشيد إلى أن رواية النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي عن ربه سواء صرح الصحابي بذلك أم لا، ويدل له حديث ابن عباس المذكور فإنه لم يقل فيه في بعض المواضع ‏"‏ عن ربه ‏"‏ ولكنه اختصار فيحتاج إلى التقدير‏.‏

قلت‏:‏ ويستفاد من الحكم بصحة ما كان ذلك سبيله صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة، لأن الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ربه فيما لم يكلمه به مثل ليلة الإسراء جبريل وهو مقبول قطعا، والواسطة بين الصحابي وبين النبي صلى الله عليه وسلم مقبول اتفاقا وهو صحابي آخر، وهذا في أحاديث الأحكام دون غيرها، فإن بعض الصحابة ربما حملها عن بعض التابعين مثل كعب الأحبار‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أبو العالية المذكور هنا هو الرياحي بالياء الأخيرة، واسمه رفيع بضم الراء‏.‏

من زعم أنه البراء بالراء الثقيلة فقد وهم، فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دونه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فمن أين تظهر مناسبة حديث ابن عمر للترجمة، ومحصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصريحة، وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور‏؟‏ فالجواب أن ذلك يستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ رواية عبد الله بن دينار المذكور في الباب ‏"‏ فحدثوني ما هي ‏"‏ وفي رواية نافع عند المؤلف في التفسير ‏"‏ أخبروني ‏"‏ وفي رواية عند الإسماعيلي ‏"‏ أنبئوني ‏"‏ وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم ‏"‏ حدثوني ما هي ‏"‏ وقال فيها ‏"‏ فقالوا أخبرنا بها ‏"‏ فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة، ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى ‏(‏يومئذ تحدث أخبارها‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏ولا ينبئك مثل خبير‏)‏ ‏.‏

وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف‏:‏ فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة‏.‏

ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان وابن منده وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل‏:‏ فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج والأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق‏.‏

ثم أحدث أتباعهم تفصيلا آخر‏:‏ فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال ‏"‏ حدثني ‏"‏ ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال ‏"‏ أخبرني‏"‏، ومن سمع بقراءة غيره جمع‏.‏

وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، كل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل‏.‏

وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب‏:‏ فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته‏.‏

نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن من الشجر شجرة‏)‏ زاد في رواية مجاهد عند المصنف في ‏"‏ باب الفهم في العلم ‏"‏ قال‏:‏ صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال ‏"‏ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى بجمار وقال‏:‏ إن من الشجر‏"‏‏.‏

وله عنه في البيوع ‏"‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جمارا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم‏)‏ كذا في رواية أبي ذر بكسر ميم مثل وإسكان المثلثة‏.‏

وفي رواية الأصيلي وكريمة بفتحها وهما بمعنى، قال الجوهري‏:‏ مثله ومثله كلمة تسوية كما يقال شبهه وشبهه بمعنى، قال‏:‏ والمثل بالتحريك أيضا ما يضرب من الأمثال‏.‏

انتهى‏.‏

ووجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق ما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه ‏"‏ قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال‏:‏ إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة، أتدرون ما هي‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ هي النخلة، لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن دعوة‏"‏‏.‏

ووقع عند المصنف في الأطعمة من طريق الأعمش قال‏:‏ حدثني مجاهد عن ابن عمر قال ‏"‏ بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى بجمار، فقال‏:‏ إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم ‏"‏ وهذا أعم من الذي قبله، وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته‏.‏

ووقع عند المصنف في التفسير من طريق نافع عن ابن عمر قال ‏"‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا ‏"‏ كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء، فقيل في تفسيره‏:‏ ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيؤها ولا يبطل نفعها‏.‏

ووقع في رواية مسلم ذكر النفي مرة واحدة فظن إبراهيم بن سفيان الراوي عنه أنه متعلق بما بعده وهو قوله ‏"‏ تؤتي أكلها ‏"‏ فاستشكله وقال‏:‏ لعل ‏"‏ لا ‏"‏ زائدة ولعله ‏"‏ وتؤتي أكلها‏"‏، وليس كما ظن، بل معمول النفي محذوف على سبيل الاكتفاء كما بيناه‏.‏

وقوله ‏"‏تؤتي ‏"‏ ابتداء كلام على سبيل التفسير لما تقدم‏.‏

ووقع عند الإسماعيلي بتقديم ‏"‏ تؤتي أكلها كل حين ‏"‏ على قوله ‏"‏ لا يتحات ورقها ‏"‏ فسلم من الإشكال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوقع الناس‏)‏ أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة، يقال وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عبد الله‏)‏ هو ابن عمر الراوي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ووقع في نفسي‏)‏ بين أبو عوانة في صحيحه من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال‏:‏ فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به، وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فاستحييت‏)‏ زاد في رواية مجاهد في ‏"‏ باب الفهم في العلم‏"‏؛ فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم‏.‏

وله في الأطعمة‏:‏ فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم‏.‏

وفي رواية نافع‏:‏ ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما قمنا قلت لعمر‏:‏ يا أبتاه‏.‏

وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار عند المؤلف في ‏"‏ باب الحياء في العلم ‏"‏ قال عبد الله‏:‏ فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال‏:‏ لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا وكذا‏.‏

زاد ابن حبان في صحيحه‏:‏ أحسبه قال‏:‏ حمر النعم‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه‏.‏

وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات - قال الأوزاعي أحد رواته‏:‏ هي صعاب المسائل - فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول أو تعجيزه، وفيه التحريض على الفهم في العلم، وقد بوب عليه المؤلف ‏"‏ باب الفهم في العلم‏"‏‏.‏

وفيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت، وقد بوب عليه المؤلف في العلم وفي الأدب‏.‏

وفيه دليل على بركة النخلة وما يثمره، وقد بوب عليه المصنف أيضا‏.‏

وفيه دليل أن بيع الجمار جائز، لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه، ولهذا بوب عليه المؤلف في البيوع‏.‏

وتعقبه ابن بطال لكونه من المجمع عليه، وأجيب بأن ذلك لا يمنع من التنبيه عليه لأنه أورده عقب حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فكأنه يقول‏:‏ لعل متخيلا يتخيل أن هذا من ذاك، وليس كذلك‏.‏

وفيه دليل على جواز تجمير النخل، وقد بوب عليه في الأطعمة لئلا يظن أن ذلك من باب إضاعة المال‏.‏

وأورده في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ضرب الله مثلا كلمة طيبة‏)‏ إشارة منه إلى أن المراد بالشجرة النخلة‏.‏

وقد ورد صريحا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذه الآية فقال‏:‏ أتدرون ما هي‏؟‏ قال ابن عمر‏:‏ لم يخف على أنها النخلة، فمنعني أن أتكلم مكان سني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هي النخلة‏"‏‏.‏

ويجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالجمار فشرع في أكله تاليا للآية قائلا‏:‏ إن من الشجر شجرة إلى آخره‏.‏

ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء‏؟‏ فذكر الحديث‏.‏

وهو يؤيد رواية البزار، قال القرطبي‏:‏ فوقع التشبيه بينهما من جهة أن أصل دين المسلم ثابت، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب، وأنه لا يزال مستورا بدينه، وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيا وميتا، انتهى‏.‏

وقال غيره‏:‏ والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله، وروى البزار أيضا من طريق سفيان بن حسين عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مثل المؤمن مثل النخلة، ما أتاك منها نفعك ‏"‏ هكذا أورده مختصرا وإسناده صحيح، وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة‏.‏

وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت، أو لأنها لا تحمل حتى تلقح، أو لأنها تموت إذا غرقت، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة، لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختص بالمسلم، وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضلة طين آدم فإن الحديث في ذلك لم يثبت، والله أعلم‏.‏

وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة‏.‏

وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله‏.‏

وفيه توقير الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول، وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب‏.‏

وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه، لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء‏.‏

واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله، وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور، ووجه تمني عمر رضي الله عنه ما طبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم‏.‏

وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ قال البزار في مسنده‏:‏ ولم يرو هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا ابن عمر وحده، ولما ذكره الترمذي قال‏:‏ وفي الباب عن أبي هريرة وأشار بذلك إلى حديث مختصر لأبي هريرة أورده عبد بن حمد في تفسيره لفظه‏:‏ ‏"‏ مثل المؤمن مثل النخلة‏"‏، وعند الترمذي أيضا والنسائي وابن حبان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏(‏ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة‏)‏ قال‏:‏ ‏"‏ هي النخلة ‏"‏ تفرد برفعه حماد بن سلمة، وقد تقدم أن في رواية مجاهد عن ابن عمر أنه كان عاشر عشرة، فاستفدنا من مجموع ما ذكرناه أن منهم أبا بكر وعمر وابن عمر، وأبا هريرة وأنس بن مالك إن كانا سمعا ما روياه من هذا الحديث في ذلك المجلس‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب طرح الإمام المسألة‏)‏ أورد فيه حديث ابن عمر المذكور بلفظ قريب من لفظ الذي قبله، وإنما أورده بإسناد آخر إيثارا لابتداء فائدة تدفع اعتراض من يدعي عليه التكرار بلا فائدة‏.‏

وأما دعوى الكرماني أنه لمراعاة صنيع مشايخه في تراجم مصنفاتهم، وأن رواية قتيبة هنا كانت في بيان معنى التحديث والإخبار، ورواية خالد كانت في بيان طرح الإمام المسألة، فذكر الحديث في كل موضع عن شيخه الذي روى له الحديث لذلك الأمر، فإنها غير مقبولة، ولم نجد عن أحد ممن عرف حال البخاري وسعة علمه وجودة تصرفه حكى أنه كان يقلد في التراجم، ولو كان كذلك لم يكن له مزية على غيره‏.‏

وقد توارد النقل عن كثير من الأئمة أن من جملة ما امتاز به كتاب البخاري دقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه‏.‏

والذي ادعاه الكرماني يقتضي أنه لا مزية له في ذلك لأنه مقلد فيه لمشايخه‏.‏

ووراء ذلك أن كلا من قتيبة وخالد بن مخلد لم يذكر لأحد منهما ممن صنف في بيان حالهما أن له تصنيفا على الأبواب فضلا عن التدقيق في التراجم‏.‏

وقد أعاد الكرماني هذا الكلام في شرحه مرارا، ولم أجد له سلفا في ذلك‏.‏

والله المستعان‏.‏

وراوية عن عبد الله بن دينار سليمان هو ابن بلال المدني الفقيه المشهور، ولما أجده من روايته إلا عند البخاري، ولم يقع لأحد ممن استخرج عليه، حتى أن أبا نعيم إنما أورده في المستخرج من طريق الفربري عن البخاري نفسه‏.‏

وقد وجدته من رواية خالد بن مخلد الراوي عن سليمان المذكور أخرجه أبو عوانة في صحيحه، لكنه قال‏:‏ ‏"‏ عن مالك ‏"‏ بدل سليمان بن بلال، فإن كان محفوظا فلخالد فيه شيخان‏.‏

وقد وقع التصريح بسماع عبد الله بن دينار له من عبد الله بن عمر عند مسلم وغيره‏.‏

*3*باب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلَانٌ وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ أَقْرَأَنِي فُلَانٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب القراءة والعرض على المحدث‏)‏ إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص، لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة‏.‏

وتوسع فيه بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه فنظر فيه وعرف صحته وأذن له أن يرويه عنه من غير أن يحدثه به أو يقرأه الطالب عليه‏.‏

والحق أن هذا يسمى عرض المناولة بالتقييد لا الإطلاق‏.‏

وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يقرأ عليهم، ولهذا بوب البخاري على جوازه وأورد فيه قول الحسن - وهو البصري - لا بأس بالقراءة على العالم‏.‏

ثم أسنده إليه بعد أن علقه وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك موصولا أنهما سويا بين السماع من العالم والقراءة عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ جائزا ‏"‏ وقع في رواية أبي ذر ‏"‏ جائزة ‏"‏ أي القراءة، لأن السماع لا نزاع فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واحتج بعضهم‏)‏ المحتج بذلك هو الحميدي شيخ البخاري قاله في كتاب النوادر له، كذا قال بعض من أدركته وتبعته في المقدمة، ثم ظهر لي خلافه وأن قائل ذلك أبو سعيد الحداد، أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق ابن خزيمة قال‏:‏ سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول‏:‏ قال أبو سعيد الحداد‏:‏ عندي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم‏.‏

فقيل له، فقال‏:‏ قصة ضمام بن ثعلبة قال‏:‏ آلله أمرك بهذا‏؟‏ قال نعم‏.‏

انتهى‏.‏

وليس في المتن الذي ساقه البخاري بعد من حديث أنس في قصة ضمام أن ضماما أخبر قومه بذلك، وإنما وقع ذلك من طريق أخرى ذكرها أحمد وغيره من طريق ابن إسحاق قال‏:‏ حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن ابن عباس قال‏:‏ بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره أن ضماما قال لقومه عندما رجع إليهم‏:‏ ‏"‏ إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ‏"‏ قال‏:‏ فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما‏.‏

فمعنى قول البخاري ‏"‏ فأجازوه ‏"‏ أي قبلوه منه، ولم يقصد الإجازة المصطلحة بين أهل الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واحتج مالك بالصك‏)‏ قال الجوهري‏:‏ الصك - يعني بالفتح - الكتاب، فارسي معرب‏.‏

والجمع صكاك وصكوك‏.‏

والمراد هنا المكتوب الذي يكتب فيه إقرار المقر، لأنه إذا قرئ عليه فقال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏ ساغت الشهادة عليه به وإن لم يتلفظ هو بما فيه، فكذلك إذا قرئ على العالم فأقر به صح أن يروى عنه‏.‏

وأما قياس مالك قراءة الحديث على قراءة القرآن فرواه الخطيب في الكفاية من طريق ابن وهب قال‏:‏ سمعت مالكا، وسئل عن الكتب التي تعرض عليه أيقول الرجل حدثني‏؟‏ قال‏:‏ نعم، كذلك القرآن‏.‏

أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول‏:‏ أقرأني فلان‏؟‏ وروى الحاكم في علوم الحديث من طريق مطرف قال‏:‏ صحبت مالكا سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ الموطأ على أحد، بل يقرءون عليه‏.‏

قال‏:‏ وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول‏:‏ لا يجزيه إلا السماع من لفظ الشيخ، ويقول‏:‏ كيف لا يجزيك هذا في الحديث، ويجزيك في القرآن، والقرآن أعظم‏؟‏ قلت‏:‏ وقد انقرض الخلاف في كون القراءة على الشيخ لا تجزي، وإنما كان يقوله بعض المتشددين من أهل العراق، فروى الخطيب عن إبراهيم بن سعد قال‏:‏ لا تدعون تنطعكم يا أهل العراق، العرض مثل السماع‏.‏

وبالغ بعض المدنيين وغيرهم في مخالفتهم فقالوا‏:‏ إن القراءة على الشيخ أرفع من السماع من لفظه، ونقله الدارقطني في غرائب مالك عنه، ونقله الخطيب بأسانيد صحيحة عن شعبة وابن أبي ذئب ويحيى القطان‏.‏

واعتلوا بأن الشيخ لو سها لم يتهيأ للطالب الرد عليه‏.‏

وعن أبي عبيد قال‏:‏ القراءة علي أثبت وأفهم لي من أن أتولى القراءة أنا‏.‏

والمعروف عن مالك كما نقله المصنف عنه وعن سفيان - وهو الثوري - أنهما سواء، والمشهور الذي عليه الجمهور أن السماع من لفظ الشيخ أرفع رتبة من القراءة عليه‏.‏

ما لم يعرض عارض يصير القراءة عليه أولى، ومن ثم كان السماع من لفظه في الإملاء أرفع الدرجات لما يلزم منه من تحرز الشيخ والطالب‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الحسن قال‏:‏ لا بأس بالقراءة على العالم‏)‏ هذا الأثر رواه الخطيب أتم سياقا مما هنا، فأخرج من طريق أحمد بن حنبل عن محمد بن الحسن الواسطي عن عوف الأعرابي أن رجلا سأل الحسن فقال‏:‏ يا أبا سعيد منزلي بعيد، والاختلاف يشق علي، فإن لم تكن ترى بالقراءة بأسا قرأت عليك‏.‏

قال‏:‏ ما أبالي قرأت عليك أو قرأت علي‏.‏

قال‏:‏ فأقول حدثني الحسن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قل حدثني الحسن‏.‏

ورواه أبو الفضل السليماني في كتاب الحث على طلب الحديث من طريق سهل بن المتوكل قال‏:‏ حدثنا محمد بن سلام، بلفظ‏:‏ ‏"‏ قلنا للحسن‏:‏ هذه الكتب التي تقرأ عليك أيش نقول فيها‏؟‏ قال‏:‏ قولوا‏:‏ حدثنا الحسن‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَبْتُكَ فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ فَقَالَ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ أَاللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ قَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ نَعَمْ فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏الليث عن سعيد‏)‏ في رواية الإسماعيلي من طريق يونس بن محمد عن الليث حدثني سعيد، وكذا لابن منده من طريق ابن وهب عن الليث، وفي هذا دليل على أن رواية النسائي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن الليث قال‏:‏ حدثني محمد بن عجلان وغيره عن سعيد موهومة معدودة من المزيد في متصل الأسانيد، أو يحمل على أن الليث سمعه عن سعيد بواسطة ثم لقيه فحدثه به‏.‏

وفيه اختلاف آخر أخرجه النسائي والبغوي من طريق الحارث بن عمير عن عبيد الله بن عمر، وذكره ابن منده عن طريق الضحاك بن عثمان كلاهما عن سعيد عن أبي هريرة، ولم يقدح هذا الاختلاف فيه عند البخاري لأن الليث أثبتهم في سعيد المقبري مع احتمال أن يكون لسعيد فيه شيخان، لكن تترجح رواية الليث بأن المقبري عن أبي هريرة جادة مألوفة فلا يعدل عنها إلى غيرها إلا من كان ضابطا متثبتا، ومن ثم قال ابن أبي حاتم عن أبيه‏:‏ رواية الضحاك وهم‏.‏

وقال الدارقطني في العلل‏:‏ رواه عبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله والضحاك بن عثمان عن المقبري عن أبي هريرة ووهموا فيه والقول قول الليث‏.‏

أما مسلم فلم يخرجه من هذا الوجه بل أخرجه من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس، وقد أشار إليها المصنف عقب هذه الطريق‏.‏

وما فر منه مسلم وقع في نظيره، فإن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت وقد روى هذا الحديث عن ثابت فأرسله، ورجح الدارقطني رواية حماد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن أبي نمر‏)‏ هو بفتح النون وكسر الميم، لا يعرف اسمه، ذكره ابن سعد في الصحابة‏.‏

وأخرج له ابن السكن حديثا، وأغفله ابن الأثير تبعا لأصوله‏.‏

قوله‏.‏

‏:‏ ‏(‏في المسجد‏)‏ أي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ‏)‏ فيه جواز اتكاء الإمام بين أتباعه، وفيه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من ترك التكبر لقوله بين ظهرانيهم، وهي بفتح النون أي بينهم، وزيد لفظ الظهر ليدل على أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه، فهو محفوف بهم من جانبيه، والألف والنون فيه للتأكيد قاله صاحب الفائق‏.‏

ووقع في رواية موسى بن إسماعيل الآتي ذكرها آخر هذا الحديث في أوله‏:‏ ‏"‏ عن أنس قال‏:‏ نهينا في القرآن أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل ‏"‏ وكان أنسا أشار إلى آية المائدة، وسيأتي بسط القول فيها في التفسير إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دخل‏)‏ زاد الأصيلي قبلها ‏"‏ إذ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم عقله‏)‏ بتخفيف القاف أي شد على ساق الجمل - بعد أن ثنى ركبته - حبلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في المسجد‏)‏ استنبط منه ابن بطال وغيره طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذ لا يؤمن ذلك منه مدة كونه في المسجد، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، ودلالته غير واضحة، وإنما فيه مجرد احتمال، ويدفعه رواية أبي نعيم‏:‏ ‏"‏ أقبل على بعير له حتى أتى المسجد فأناخه ثم عقله فدخل المسجد ‏"‏ فهذا السياق يدل على أنه ما دخل به المسجد، وأصرح منه رواية ابن عباس عند أحمد والحاكم ولفظها‏:‏ ‏"‏ فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل‏"‏، فعلى هذا في رواية أنس مجاز الحذف، والتقدير‏:‏ فأناخه في ساحة المسجد، أو نحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأبيض‏)‏ أي المشرب بحمرة كما في رواية الحارث بن عمير ‏"‏ الأمغر ‏"‏ أي بالغين المعجمة قال حمزة بن الحارث‏:‏ هو الأبيض المشرب بحمرة‏.‏

ويؤيده ما يأتي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أبيض ولا آدم، أي لم يكن أبيض صرفا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أجبتك‏)‏ أي سمعتك، والمراد إنشاء الإجابة، أو نزل تقريره للصحابة في الإعلام عنه منزلة النطق، وهذا لائق بمراد المصنف‏.‏

وقد قيل إنما لم يقل له نعم لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم، لا سيما مع قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏)‏ والعذر عنه - إن قلنا إنه قدم مسلما - أنه لم يبلغه النهي، وكانت فيه بقية من جفاء الأعراب، وقد ظهرت بعد ذلك في قوله‏:‏ ‏"‏ فمشدد عليك في المسألة ‏"‏ وفي قوله في رواية ثابت‏:‏ ‏"‏ وزعم رسولك أنك تزعم ‏"‏ ولهذا وقع في أول رواية ثابت عن أنس‏:‏ ‏"‏ كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ‏"‏ زاد أبو عوانة في صحيحه‏:‏ ‏"‏ وكانوا أجرأ على ذلك منا ‏"‏ يعني أن الصحابة واقفون عند النهي، وأولئك ينذرون بالجهل، وتمنوه عاقلا ليكون عارفا بما يسأل عنه‏.‏

وظهر عقل ضمام في تقديمه الاعتذار بين يدي مسألته لظنه أنه لا يصل إلى مقصوده إلا بتلك المخاطبة‏.‏

وفي رواية ثابت من الزيادة أنه سأله‏:‏ ‏"‏ من رفع السماء وبسط الأرض ‏"‏ وغير ذلك من المصنوعات، ثم أقسم عليه به أن يصدقه عما يسأل عنه، وكرر القسم في كل مسألة تأكيدا وتقريرا للأمر، ثم صرح بالتصديق، فكل ذلك دليل على حسن تصرفه وتمكن عقله، ولهذا قال عمر في رواية أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ابن عبد المطلب‏)‏ بفتح النون على النداء‏.‏

وفي رواية الكشميهني‏:‏ ‏"‏ يا بن ‏"‏ بإثبات حرف النداء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا تجد‏)‏ أي لا تغضب‏.‏

ومادة ‏"‏ وجد ‏"‏ متحدة الماضي والمضارع مختلفة المصادر، بحسب اختلاف المعاني يقال في الغضب موجدة وفي المطلوب وجودا وفي الضالة وجدانا وفي الحب وجدا بالفتح وفي المال وجدا بالضم وفي الغني جدة بكسر الجيم وتخفيف الدال المفتوحة على الأشهر في جميع ذلك‏.‏

وقالوا أيضا في المكتوب وجادة وهي مولدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنشدك‏)‏ بفتح الهمزة وضم المعجمة وأصله من النشيد، وهو رفع الصوت، والمعنى سألتك رافعا نشيدتي قاله البغوي في شرح السنة‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ نشدتك بالله أي سألتك بالله، كأنك ذكرته فنشد أي تذكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آلله‏)‏ بالمد في المواضع كلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اللهم نعم‏)‏ الجواب حصل بنعم، وإنما ذكر اللهم تبركا بها، وكأنه استشهد بالله في ذلك تأكيدا لصدقه‏.‏

ووقع في رواية موسى‏:‏ ‏"‏ فقال‏:‏ صدقت‏.‏

قال‏:‏ فمن خلق السماء‏؟‏ قال الله‏.‏

قال‏:‏ فمن خلق الأرض والجبال‏؟‏ قال‏:‏ الله‏.‏

قال‏:‏ فمن جعل فيها المنافع‏؟‏ قال‏:‏ الله‏.‏

قال‏:‏ فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال وجعل فيها المنافع، آلله أرسلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ وكذا هو في رواية مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تصلي‏)‏ بتاء المخاطب فيه وفيما بعده‏.‏

ووقع عند الأصيلي بالنون فيها‏.‏

قال القاضي عياض‏:‏ هو أوجه‏.‏

ويؤيده رواية ثابت بلفظ‏:‏ ‏"‏ إن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا ‏"‏ وساق البقية كذلك‏.‏

وتوجيه الأول أن كل ما وجب عليه وجب على أمته حتى يقوم دليل الاختصاص‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني والسرخسي ‏"‏ الصلاة الخمس ‏"‏ بالإفراد على إرادة الجنس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن تأخذ هذه الصدقة‏)‏ قال ابن التين‏:‏ فيه دليل على أن المرء لا يفرق صدقته بنفسه‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ على فقرائنا ‏"‏ خرج مخرج الأغلب لأنهم معظم أهل الصدقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آمنت بما جئت به‏)‏ يحتمل أن يكون إخبارا وهو اختيار البخاري، ورجحه القاضي عياض، وأنه حضر بعد إسلامه مستثبتا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبره به رسوله إليهم، لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره‏:‏ ‏"‏ فإن رسولك زعم ‏"‏ وقال في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبراني ‏"‏ أتتنا كتبك وأتتنا رسلك ‏"‏ واستنبط منه الحاكم أصل طلب علو الإسناد لأنه سمع ذلك من الرسول وآمن وصدق، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة، ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏"‏ آمنت ‏"‏ إنشاء، ورجحه القرطبي لقوله‏:‏ ‏"‏ زعم ‏"‏ قال‏:‏ والزعم القول الذي لا يوثق به، قاله ابن السكيت وغيره‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر، لأن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا كما نقله أبو عمر الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله‏:‏ ‏"‏ زعم الخليل ‏"‏ في مقام الاحتجاج، وقد أشرنا إلى ذلك في حديث أبي سفيان في بدء الوحي‏.‏

وأما تبويب أبي داود عليه‏:‏ ‏"‏ باب المشرك يدخل المسجد ‏"‏ فليس مصيرا منه إلى أن ضماما قدم مشركا بل وجهه أنهم تركوا شخصا قادما يدخل المسجد من غير استفصال‏.‏

ومما يؤيد أن قوله ‏"‏ آمنت ‏"‏ إخبار أنه لم يسأل عن دليل التوحيد، بل عن عموم الرسالة وعن شرائع الإسلام، ولو كان إنشاء لكان طلب معجزة توجب له التصديق، قاله الكرماني‏.‏

وعكسه القرطبي فاستدل به على صحة إيمان المقلد للرسول ولو لم تظهر له معجزة‏.‏

وكذا أشار إليه ابن الصلاح‏.‏

والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم يذكر الحج في رواية شريك هذه، وقد ذكره مسلم وغيره فقال موسى في روايته‏:‏ ‏"‏ وإن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏؟‏ قال‏:‏ صدق ‏"‏ وأخرجه مسلم أيضا وهو في حديث أبي هريرة وابن عباس أيضا‏.‏

وأغرب ابن التين فقال‏:‏ إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض‏.‏

وكأن الحامل له على ذلك ما جزم به الواقدي ومحمد بن حبيب أن قدوم ضمام كان سنة خمس فيكون قبل فرض الحج، لكنه غلط من أوجه‏:‏ أحدها أن في رواية مسلم أن قدومه كان بعد نزول النهي في القرآن عن سؤال الرسول، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدا‏.‏

ثانيها أن إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد فتح مكة‏.‏

ثالثها أن في القصة أن قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة‏.‏

رابعها في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد - وهو ابن بكر بن هوازن - في الإسلام إلا بعد وقعة حنين وكانت في شوال سنة ثمان كما سيأتي مشروحا في مكانه إن شاء الله تعالى‏.‏

فالصواب أن قدوم ضمام كان في ستة تسع وبه جزم ابن إسحاق وأبو عبيدة وغيرهما‏.‏

وغفل البدر الزركشي فقال‏:‏ إنما لم يذكر الحج لأنه كان معلوما عندهم في شريعة إبراهيم انتهى‏.‏

وكأنه لم يراجع صحيح مسلم فضلا عن غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأنا رسول من ورائي‏)‏ من موصولة ورسول مضاف إليها، ويجوز تنوينه وكسر من لكن لم تأت به الرواية‏.‏

ووقع في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبراني‏.‏

‏"‏ جاء رجل من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان مسترضعا فيهم - فقال‏:‏ أنا وافد قومي ورسولهم ‏"‏ وعند أحمد والحاكم‏:‏ ‏"‏ بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم علينا ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

فقول ابن عباس‏:‏ ‏"‏ فقدم علينا ‏"‏ يدل على تأخير وفادته أيضا، لأن ابن عباس إنما قدم المدينة بعد الفتح‏.‏

وزاد مسلم في آخر الحديث قال‏:‏ ‏"‏ والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهم ولا أنقص‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لئن صدق ليدخلن الجنة ‏"‏ وكذا هي في رواية موسى بن إسماعيل‏.‏

ووقعت هذه الزيادة في حديث ابن عباس، وهي الحاملة لمن سمى المبهم في حديث طلحة ضمام بن ثعلبة كابن عبد البر وغيره، وقد قدمنا هناك أن القرطبي مال إلى أنه غيره‏.‏

ووقع في رواية عبيد الله بن عمر عن المقبري عن أبي هريرة التي أشرت إليها قبل من الزيادة في هذه القصة أن ضماما قال بعد قوله وأنا ضمام بن ثعلبة‏:‏ ‏"‏ فأما هذه الهناة فوالله إن كنا لنتنزه عنها في الجاهلية ‏"‏ يعني الفواحش‏.‏

فلما أن ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏"‏ فقه الرجل‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وكان عمر بن الخطاب يقول‏:‏ ما رأيت أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام‏.‏

ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود‏:‏ ‏"‏ فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام ‏"‏ وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم العمل بخبر الواحد، ولا يقدح فيه مجيء ضمام مستثبتا لأنه قصد اللقاء والمشافهة كما تقدم عن الحاكم، وقد رجع ضمام إلى قومه وحده فصدقوه وآمنوا كما وقع في حديث ابن عباس‏.‏

وفيه نسبة الشخص إلى جده إذا كان أشهر من أبيه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين‏:‏ ‏"‏ أنا ابن عبد المطلب‏"‏‏.‏

وفيه الاستحلاف على الأمر المحقق لزيادة التأكيد، وفيه رواية الأقران لأن سعيدا وشريكا تابعيان من درجة واحدة وهما مدنيان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رواه موسى‏)‏ هو ابن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي شيخ البخاري، وحديثه موصول عند أبي عوانة في صحيحه وعند ابن منده في الإيمان، وإنما علقه البخاري لأنه لم يحتج بشيخه سليمان بن المغيرة، وقد خولف في وصله فرواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلا، ورجحها الدارقطني، وزعم بعضهم أنها علة تمنع من تصحيح الحديث، وليس كذلك بل هي دالة على أن لحديث شريك أصلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعلي بن عبد الحميد‏)‏ هو المعني بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر النون بعدها ياء النسب، وحديثه موصول عند الترمذي أخرجه عن البخاري عنه، وكذا أخرجه الدارمي عن علي بن عبد الحميد، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بهذا‏)‏ أي هذا المعنى، وإلا فاللفظ كما بينا مختلف‏.‏

وسقطت هذه اللفظة من رواية أبي الوقت وابن عساكر‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في النسخة البغدادية - التي صححها العلامة أبو محمد بن الصغاني اللغوي بعد أن سمعها من أصحاب أبي الوقت وقابلها على عدة نسخ وجعل لها علامات - عقب قوله رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت ما نصه‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت عن أنس، وساق الحديث بتمامه‏.‏

وقال الصغاني في الهامش‏:‏ هذا الحديث ساقط من النسخ كلها إلا في النسخة التي قرئت على الفربري صاحب البخاري وعليها خطه‏.‏

قلت‏:‏ وكذا سقطت في جميع النسخ التي وقفت عليها‏.‏

والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏