فصل: باب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قراءة الفاجر والمنافق وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم‏)‏ قال الكرماني المراد بالفاجر المنافق بقرينة جعله قسيما للمؤمن في الحديث - يعني الأول - ومقابلا له، فعطف المنافق عليه في الترجمة من باب العطف التفسيري، قال وقوله ‏"‏ وتلاوتهم ‏"‏ مبتدأ وخبره لا يجاوز حناجرهم، وإنما جمع الضمير لأنه حكاية عن لفظ الحديث قال‏:‏ وزيد في بعضها ‏"‏ وأصواتهم‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ هي ثابتة في جميع ما وقفنا عليه من نسخ البخاري، ووقع في رواية أبي ذر قراءة الفاجر أو المنافق بالشك وهو يؤيد تأويل الكرماني ويحتمل أن يكون للتنويع، والفاجر أعم من المنافق فيكون من عطف الخاص على العام وذكر فيه ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا

الشرح‏:‏

حديث ‏"‏ أبي موسى ‏"‏ وهو الأشعري مثل المؤمن، وقد تقدم شرحه في فضائل القرآن والسند كله بصريون ومطابقته للترجمة ظاهرة ومناسبتها لما قبلها من الأبواب أن التلاوة متفاوتة بتفاوت التالي فيدل على أنها من عمله‏.‏

وقال ابن بطال معنى هذا الباب أن قراءة الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده وإنما يزكو عنده ما أريد به وجهه وكان عن نية التقرب إليه، وشبهه بالريحانة حين لم ينتفع ببركة القرآن ولم يفز بحلاوة أجره فلم يجاوز الطيب موضع الصوت وهو الحلق ولا اتصل بالقلب وهؤلاء هم الذين يمرقون من الدين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا قَالَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏علي‏)‏ هو ابن عبد الله بن المديني و ‏"‏ هشام ‏"‏ هو ابن يوسف الصنعاني و ‏"‏ يونس ‏"‏ في السند الثاني هو ابن زيد، و ‏"‏ ابن شهاب ‏"‏ فيه هو الزهري المذكور في الأول، وقد تقدمت طريق علي بن عبد الله المديني في أواخر ‏"‏ كتاب الطب ‏"‏ في باب الكهانة، ونسبه فيها ونسب شيخه كما ذكرت وساق المتن على لفظه هناك، ووقع عنده أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير‏.‏

قوله ‏(‏سأل أناس‏)‏ في رواية معمر ‏"‏ ناس ‏"‏ وهما بمعنى؛ وقوله هنا ‏"‏ يحدثون بالشيء يكون حقا ‏"‏ في رواية معمر ‏"‏ إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏يخطفها‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يحفظها ‏"‏ بحاء مهملة وظاء مشالة والفاء قبلها من الحفظ‏.‏

قوله ‏(‏فيقرقرها‏)‏ في رواية معمر ‏"‏ فيقرها ‏"‏ بتشديد الراء‏.‏

قوله ‏(‏كقرقرة الدجاجة‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ الزجاجة ‏"‏ بضم الزاي، وتقدم شرحه مستوفى في الباب المذكور ومناسبته للترجمة تعرض له ابن بطال ولخصه الكرماني فقال لمشابهة الكاهن بالمنافق من جهة أنه لا ينتفع بالكلمة الصادقة لغلبة الكذب عليه ولفساد حاله، كما أن المنافق لا ينتفع بقراءته لفساد عقيدته، والذي يظهر لي من مراد البخاري أن تلفظ المنافق بالقرآن كما يتلفظ به المؤمن فتختلف تلاوتهما والمتلو واحد، فلو كان المتلو عين التلاوة لم يقع فيه تخالف وكذلك الكاهن في تلفظه بالكلمة من الوحي التي يخبره بها الجني مما يختطفه من الملك تلفظه بها، وتلفظ الجني مغاير لتلفظ الملك فتفاوتا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ قِيلَ مَا سِيمَاهُمْ قَالَ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ أَوْ قَالَ التَّسْبِيدُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن معبد بن سيرين‏)‏ هو أخو محمد وهو أكبر منه والسند كله بصريون إلا الصحابي وقد دخل البصرة‏.‏

قوله ‏(‏يخرج ناس من قبل المشرق‏)‏ تقدم في ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ أنهم الخوارج وبيان مبدأ أمرهم وما ورد فيهم، وكان ابتداء خروجهم في العراق وهي من جهة المشرق بالنسبة إلى مكة المشرفة‏.‏

قوله ‏(‏لا يجاوز تراقيهم‏)‏ جمع ترقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق، وذكره في الترجمة بلفظ ‏"‏ حناجرهم ‏"‏ جمع حنجرة وهي الحلقوم، وتقدم بيان الحلقوم في أواخر ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ وقد رواه عبد الرحمن ابن أبي نعم عن أبي سعيد بلفظ حناجرهم، وتقدم في باب قوله تعالى ‏(‏تعرج الملائكة والروح إليه‏)‏ من ‏"‏ كتاب التوحيد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قيل ما سيماهم‏)‏ بكسر المهملة وسكون التحتانية أي علامتهم والسائل عن ذلك لم أقف على تعيينه‏.‏

قوله ‏(‏التحليق أو قال التسبيد‏)‏ شك من الراوي وهو بالمهملة والموحدة بمعنى التحليق، وقيل أبلغ منه وهو بمعنى الاستئصال وقيل إن نبت بعد أيام وقيل هو ترك دهن الشعر وغسله‏.‏

قال الكرماني فيه إشكال وهو أنه يلزم من وجود العلامة وجود ذي العلامة فيستلزم أن كل من كان محلوق الرأس فهو من الخوارج والأمر بخلاف ذلك اتفاقا ثم أجاب بأن السلف كانوا لا يحلقون رءوسهم إلا للنسك أو في الحاجة، والخوارج اتخذوه ديدنا فصار شعارا لهم وعرفوا به قال ويحتمل أن يراد به حلق الرأس واللحية وجميع شعورهم وأن يراد به الإفراط في القتل والمبالغة في المخالفة في أمر الديانة‏.‏

قلت‏:‏ الأول باطل لأنه لم يقع من الخوارج والثاني محتمل لكن طرق الحديث المتكاثرة كالصريحة في إرادة حلق الرأس، والثالث كالثاني والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع لابن بطال في وصف الخوارج خبط أردت التنبيه عليه لئلا يغتر به، وذلك أنه قال‏:‏ يمكن أن يكون هذا الحديث في قوم عرفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي أنهم خرجوا ببدعتهم عن الإسلام إلى الكفر وهم الذين قتلهم علي بالنهروان حين قالوا إنك ربنا فاغتاظ عليهم وأمر بهم فحرقوا بالنار فزادهم ذلك فتنة وقالوا الآن تيقنا أنك ربنا إذ لا يعذب بالنار إلا الله انتهى، وقد تقدمت هذه القصة لعلي في الفتن وليست للخوارج وإنما هي للزنادقة كما وقع مصرحا به في بعض طرقه، ووقع في شرح الوجيز للرافعي عند ذكر الخوارج قال هم فرقة من المبتدعة خرجوا على علي حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله ومواطأته إياهم، ويعتقدون أن من أتى كبيرة فقد كفر واستحق الخلود في النار ويطعنون لذلك في الأئمة انتهى، وليس الوصف الأول في كلامه وصف الخوارج المبتدعة وإنما هو وصف النواصب أتباع معاوية بصفين، وأما الخوارج فمن معتقدهم تكفير عثمان وأنه قتل بحق، ولم يزالوا مع علي حتى وقع التحكيم بصفين فأنكروا التحكيم وخرجوا على علي وكفروه، وقد تقدم القول فيهم مبسوطا في ‏"‏ كتاب الفتن‏"‏‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ

وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْقُسْطَاسُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ وَيُقَالُ الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ وَهُوَ الْعَادِلُ وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة‏)‏ كذا لأبي ذر وسقط لأكثرهم ‏"‏ ليوم القيامة ‏"‏ والموازين جمع ميزان وأصله موزان فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، واختلف في ذكره هنا بلفظ الجمع هل المراد أن لكل شخص ميزانا أو لكل عمل ميزان فيكون الجمع حقيقة أو ليس هناك إلا ميزان واحد والجمع باعتبار تعدد الأعمال أو الأشخاص، ويدل على تعدد الأعمال قوله تعالى ‏(‏ومن خفت موازينه‏)‏ ويحتمل أن يكون الجمع للتفخيم، كما في قوله تعالى ‏(‏كذبت قوم نوح المرسلين‏)‏ مع أنه لم يرسل إليهم إلا واحد، والذي يترجح أنه ميزان واحد ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله لأن أحوال القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا، والقسط العدل وهو نعت الموازين وإن كان مفردا وهي جمع لأنه مصدر، قال الطبري القسط العدل وجعل وهو مفرد من نعت الموازين وهي جمع لأنه كقولك عدل ورضا وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ المعنى ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط العدل وهو مصدر يوصف به، يقال ميزان قسط وميزانان قسط وموازين قسط، وقيل هو مفعول من أجله أي لأجل القسط واللام في قوله ‏"‏ ليوم القيامة ‏"‏ للتعليل مع حذف مضاف أي لحساب يوم القيامة وقيل هي بمعنى في كذا جزم به ابن قتيبة واختاره ابن مالك، وقيل للتوقيت كقول النابغة‏:‏

توهمت آيات لها فعرفتها * لستة أعوام وذا العام سابع

وحكى حنبل بن إسحاق في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال ردا على من أنكر الميزان ما معناه‏:‏ قال الله تعالى ‏(‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة‏)‏ وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الميزان يوم القيامة فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل‏.‏

قوله ‏(‏وإن أعمال بني آدم وقولهم يوزن‏)‏ كذا للأكثر وللقابسي وطائفة، ‏"‏ وأقوالهم ‏"‏ بصيغة الجمع وهو المناسب للأعمال وظاهره التعميم لكن خص منه طائفتان فمن الكفار من لا ذنب له إلا الكفر، ولم يعمل حسنة فإنه يقع في النار من غير حساب ولا ميزان، ومن المؤمنين من لا سيئة له وله حسنات كثيرة زائدة على محض الإيمان فهذا يدخل الجنة بغير حساب كما في قصة السبعين ألفا، ومن شاء الله أن يلحقه بهم وهم الذين يمرون على الصراط كالبرق الخاطف وكالريح وكأجاويد الخيل، ومن عدا هذين من الكفار والمؤمنين يحاسبون وتعرض أعمالهم على الموازين، ويدل على محاسبة الكفار ووزن أعمالهم قوله تعالى في سورة المؤمنين ‏(‏فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم - إلى قوله - ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون‏)‏ ونقل القرطبي عن بعض العلماء أنه قال‏:‏ الكافر لا ثواب له وعمله مقابل بالعذاب فلا حسنة له توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار واستدل بقوله تعالى ‏(‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏)‏ وبحديث أبي هريرة وهو في الصحيح في الكافر‏:‏ لا يزن عند الله جناح بعوضة، وتعقب أنه مجاز عن حقارة قدره ولا يلزم منه عدم الوزن، وحكى القرطبي في صفة وزن عمل الكافر وجهين أحدهما أن كفره يوضع في الكفة ولا يجد له حسنة يضعها في الأخرى فتطيش التي لا شيء فيها، قال وهذا ظاهر الآية لأنه وصف الميزان بالخفة لا الموزون ثانيهما‏:‏ قد يقع منه العتق والبر والصلة وسائر أنواع الخير المالية مما لو فعلها المسلم لكانت حسنات فمن كانت له حسنات جمعت ووضعت، غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يجازى بها عما يقع منه من ظلم العباد مثلا، فإن استوت عذب بكفره مثلا فقط، وإلا زيد عذابه بكفره أو خفف عنه كما في قصة أبي طالب، قال أبو إسحاق الزجاج أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين‏.‏

وقال ابن فورك أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها، قال وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها انتهى، وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء فأسند الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة‏)‏ قال إنما هو مثل كما يجوز وزن الأعمال كذلك يجوز الحط، ومن طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال الموازين العدل، والراجح ما ذهب إليه الجمهور‏.‏

وأخرج أبو القاسم اللالكائي في السنة عن سلمان قال‏:‏ يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعته، ومن طريق عبد الملك بن أبي سليمان ذكر الميزان عند الحسن فقال له لسان وكفتان‏.‏

وقال الطيبي قيل إنما توزن الصحف، وأما الأعمال فإنها أعراض فلا توصف بثقل ولا خفة، والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد أو تجعل في أجسام فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة وأعمال المسيئين في صورة قبيحة ثم توزن، ورجح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، ونقل عن ابن عمر قال توزن صحائف الأعمال، قال فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيرتفع الإشكال ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي وحسنة والحاكم وصححه، وفيه فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة انتهى، والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن، وفي حديث جابر رفعه توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار، قيل فمن استوت حسناته وسيئاته قال أولئك أصحاب الأعراف، أخرجه خيثمة في فوائده، وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه موقوفا‏.‏

وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة عن حذيفة موقوفا أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام‏.‏

قوله ‏(‏وقال مجاهد القسطاس‏:‏ العدل بالرومية‏)‏ وصله الفريابي في تفسيره عن سفيان الثوري عن رجل عن مجاهد وعن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏وزنوا بالقسطاس المستقيم‏)‏ قال هو العدل بالرومية‏.‏

وقال الطبري معنى قوله ‏"‏ وزنوا بالقسطاس ‏"‏ بالميزان‏.‏

وقال ابن دريد مثله وزاد ‏"‏ وهو رومي عرب ‏"‏ ويقال قسطار بالراء آخره بدل السين‏.‏

وقال صاحب المشارق القسطاس أعدل الموازين وهو بكسر القاف وبضمها وقرئ بهما في المشهور‏.‏

قوله ‏(‏ويقال القسط مصدر المقسط وهو العادل وأما القاسط فهو الجائر‏)‏ قال الفراء القاسطون الجائرون والمقسطون العادلون‏.‏

وقال الراغب القسط النصيب بالعدل كالنصف والنصفة والقسط بفتح القاف أن يأخذ قسط غيره وذلك جور والإقساط أن يعطى غيره قسطه وذلك إنصاف، ولذلك قيل قسط إذا جار وأقسط إذا عدل‏.‏

وقال صاحب المحكم القسط النصيب إذا تقاسموه بالسوية‏.‏

وقال الإسماعيلي متعقبا على قول البخاري القسط مصدر المقسط ما نصه القسط العدل ومصدر المقسط الإقساط، يقال أقسط إذا عدل وقسط إذا جار ويرجعان إلى معنى متقارب لأنه يقال عدل عن كذا إذا مال عنه وكذلك قسط إذ عدل عن الحق وأقسط كأنه لزم القسط وهو العدل، قال الله تعالى ‏(‏وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا‏)‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم المقسطون على منابر من نور انتهى وكان من حقه أن يستشهد للمعنى بالآية الأخرى وهي قوله تعالى ‏(‏إن الله يحب المقسطين‏)‏ وهي في المائدة وفي الحجرات، والحديث الذي ذكره صحيح أخرجه مسلم، وفي الصحيح عن أبي هريرة رفعه في ذكر عيسى بن مريم ينزل حكما مقسطا وفي الأسماء الحسنى المقسط، قال الحليمي هو المعطي عباده القسط وهو العدل من نفسه وقد يكون معناه المعطى لكل منهم قسطا من خيره، وقوله‏:‏ كأنه لزم القسط يشير إلى أن الهمزة فيه للسلب، وبذلك جزم صاحب النهاية، وذكر ابن القطاع أن قسط من الأضداد، وقد أجاب ابن بطال عن اعتراض من اعترض على قول البخاري مصدر المقسط فقال‏:‏ أراد بالمصدر ما حذفت زوائده كقول الشاعر ‏"‏ وإن أهلك فذلك حين قدري ‏"‏ أي تقديري فرده إلى أصله، وإنما تحذف العرب الزوائد لترد الكلمة إلى أصلها، وأما المصدر المقسط الجاري على فعله فهو الإقساط‏.‏

وقال الكرماني المراد بالمصدر المحذوف الزوائد نظرا إلى أصله، فهو مصدر مصدره إذ لا خفاء أن المصدر الجاري على فعله هو الإقساط فإن قيل المزيد لا بد أن يكون من جنس المزيد عليه‏.‏

قلت‏:‏ إما أن يكون من القسط بالكسر وإما أن يكون من القسط بالفتح الذي هو بمعنى الجور والهمزة للسلب والإزالة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أحمد بن إشكاب‏)‏ بكسر الهمزة وسكون المعجمة وآخره موحدة غير منصرف لأنه أعجمي وقيل بل عربي فينصرف وهو لقب، واسمه مجمع وقيل معمر وقيل عبيد الله وكنية أحمد أبو عبد الله وهو الصفار الحضرمي نزيل مصر، قال البخاري‏:‏ آخر ما لقيته بمصر سنة سبع عشرة وأرخ ابن حبان وفاته فيها‏.‏

وقال ابن يونس مات سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة‏.‏

قلت‏:‏ وليس بينه وبين علي بن إشكاب ولا محمد بن إشكاب قرابة‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن فضيل‏)‏ أي ابن غزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي ولم أر هذا الحديث إلا من طريقه بهذا الإسناد، وقد تقدم في الدعوات وفي الأيمان والنذور وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان كلهم من طريقه قال الترمذي حسن صحيح غريب‏.‏

قلت‏:‏ وجه الغرابة فيه ما ذكرته من تفرد محمد ابن فضيل وشيخه وشيخ شيخه وصحابيه‏.‏

قوله ‏(‏عن عمارة‏)‏ في رواية قتيبة ‏"‏ عن ابن فضيل حدثنا عمارة ‏"‏ وقد تقدمت في الأيمان والنذور‏.‏

قوله ‏(‏كلمتان حبيبتان إلى الرحمن‏)‏ كذا في هذه الرواية بتقديم ‏"‏ حبيبتان ‏"‏ وتأخير ‏"‏ ثقيلتان ‏"‏ وقد تقدم في الدعوات وفي الأيمان والنذور بتقديم ‏"‏ خفيفتان ‏"‏ وتأخير ‏"‏ حبيبتان ‏"‏ وهي رواية مسلم عن زهير بن حرب ومحمد ابن عبد الله بن نمير وأبي كريب ومحمد بن طريف وكذا عند الباقين ممن تقدم ذكره ومن سيأتي عن شيوخهم‏.‏

وفي قوله ‏"‏ كلمتان ‏"‏ إطلاق كلمة على الكلام وهو مثل كلمة الإخلاص وكلمة الشهادة، وقوله ‏"‏كلمتان ‏"‏ هو الخبر و ‏"‏ حبيبتان ‏"‏ وما بعدها صفة والمبتدأ سبحان الله إلى آخره والنكتة في تقديم الخبر تشويق السامع إلى المبتدأ وكلما طال الكلام في وصف الخبر حسن تقديمه لأن كثرة الأوصاف الجميلة تزيد السامع شوقا، وقوله ‏"‏حبيبتان ‏"‏ أي محبوبتان، والمعنى‏:‏ محبوب قائلهما، ومحبة الله للعبد تقدم معناها في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ وقوله ‏"‏ ثقيلتان في الميزان ‏"‏ هو موضع الترجمة لأنه مطابق لقوله‏:‏ وأن أعمال بني آدم توزن‏.‏

قال الكرماني فإن قيل فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ولا سيما إذا كان موصوفه معه، فلم عدل عن التذكر إلى التأنيث‏؟‏ فالجواب أن ذلك جائز لا واجب وأيضا فهو في المفرد لا المثنى سلمنا لكن أنث لمناسبة الثقيلتين والخفيفتين أو لأنها بمعنى الفاعل لا المفعول والتاء لنقل اللفظة من الوصفية إلى الاسمية وقد يطلق على ما لم يقع لكنه متوقع كمن يقول خذ ذبيحتك للشاة التي لم تذبح فإذا وقع عليها الفعل فهي ذبيح حقيقة، وخص لفظ الرحمن بالذكر لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده حيث يجازى على العمل القليل بالثواب الكثير‏.‏

قوله ‏(‏خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان‏)‏ وصفهما بالخفة والثقل لبيان قلة العمل وكثرة الثواب وفي هذه الألفاظ الثلاثة سجع مستعذب وقد تقدم في الدعوات بيان الجائز منه والمنهي عنه وكذا في الحدود في حديث سجع كسجع الكهان، والحاصل أن المنهي عنه ما كان متكلفا أو متضمنا لباطل لا ما جاء عفوا عن غير قصد إليه، وقوله ‏"‏خفيفتان ‏"‏ فيه إشارة إلى قلة كلامهما وأحرفهما ورشاقتهما، قال الطيبي‏:‏ الخفة مستعارة للسهولة وشبه سهولة جريانها على اللسان بما خف على الحامل من بعض الأمتعة فلا تتعبه كالشيء الثقيل، وفيه إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقة على النفس ثقيلة وهذه سهلة عليها مع أنها تثقل الميزان كثقل الشاق من التكاليف، وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة وخفة السيئة، فقال‏:‏ لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها فثقلت فلا يحملنك ثقلها على تركها، والسيئة حضرت حلاوتها وغابت مرارتها فلذلك خفت فلا يحملنك خفتها على ارتكابها‏.‏

قوله ‏(‏سبحان الله‏)‏ تقدم معناه في باب فضل التسبيح من ‏"‏ كتاب الدعوات‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وبحمده‏)‏ قيل الواو للحال والتقدير‏:‏ أسبح الله متلبسا بحمدي له من أجل توفيقه وقيل عاطفة والتقدير أسبح الله وأتلبس بحمده، ويحتمل أن يكون الحمد مضافا للفاعل والمراد من الحمد لازمه أو ما يوجب الحمد من التوفيق ونحوه، ويحتمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم والتقدير وأثنى عليه بحمده فيكون ‏"‏ سبحان الله ‏"‏ جملة مستقلة و ‏"‏ بحمده ‏"‏ جملة أخرى‏.‏

وقال الخطابي في حديث‏:‏ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أي بقوتك التي هي نعمة توجب علي حمدك سبحتك لا بحولي وبقوتي كأنه يريد أن ذلك مما أقيم فيه السبب مقام المسبب، واتفقت الروايات عن محمد بن فضيل على ثبوت وبحمده إلا أن الإسماعيلي قال بعد أن أخرجه من رواية زهير بن حرب وأحمد بن عبدة وأبي بكر بن أبي شيبة والحسين بن علي بن الأسود عنه لم يقل أكثرهم ‏"‏ وبحمده‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد ثبت من رواية زهير بن حرب عند الشيخين وعند مسلم عن بقية من سميت من شيوخه والترمذي عن يوسف بن عيسى والنسائي عن محمد بن آدم وأحمد بن حرب وابن ماجه عن علي بن محمد وعلي بن المنذر وأبو عوانة عن محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي وابن حبان أيضا من رواية محمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن محمد ابن فضيل كأنها سقطت من رواية أبي بكر وأحمد بن عبدة والحسين‏.‏

قوله ‏(‏سبحان الله العظيم‏)‏ هكذا عند الأكثر بتقديم ‏"‏ سبحان الله وبحمده ‏"‏ على ‏"‏ سبحان الله العظيم ‏"‏ وتقدم في الدعوات عن زهير بن حرب بتقديم ‏"‏ سبحان الله العظيم ‏"‏ على ‏"‏ سبحان الله وبحمده ‏"‏ وكذا هو عند أحمد بن حنبل عن محمد بن فضيل وكذا عند جميع من سميته قبل، وقد وقع لي بعلو في ‏"‏ كتاب الدعاء ‏"‏ لمحمد ابن فضيل من رواية علي بن المنذر عنه بثبوت ‏"‏ وبحمده ‏"‏ وتقديم ‏"‏ سبحان الله وبحمده ‏"‏ قال ابن بطال هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام فلا تظن أن من أدمن الذكر وأصر على ما شاءه من شهواته وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح‏.‏

قال الكرماني صفات الله وجودية كالعلم والقدرة وهي صفات الإكرام وعدمية كلا شريك له ولا مثل له وهي صفات الجلال فالتسبيح إشارة إلى صفات الجلال والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام وترك التقييد مشعر بالتعميم، والمعنى أنزهه عن جميع النقائص وأحمده بجميع الكمالات، قال‏:‏ والنظم الطبيعي يقتضي تقديم التحلية على التخلية فقدم التسبيح الدال على التخلي على التحميد الدال على التحلي وقدم لفظ الله لأنه اسم الذات المقدسة الجامع لجميع الصفات والأسماء الحسنى، ووصفه بالعظيم لأنه الشامل لسلب ما لا يليق به وإثبات ما يليق به إذ العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثيل ونحو ذلك، وكذا العلم بجميع المعلومات والقدرة على جميع المقدورات ونحو ذلك، وذكر التسبيح متلبسا بالحمد ليعلم ثبوت الكمال له نفيا وإثباتا وكرره تأكيدا ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو سبحان وسبح بلفظ الأمر وسبح بلفظ الماضي ويسبح بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تدرك بالعقل بخلاف الكمالات فإنها تقصر عن إدراك حقائقها كما قال بعض المحققين‏:‏ الحقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق السلب كما في العلم لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، وأما معرفة حقيقة علمه فلا سبيل إليه‏.‏

وقال شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني في كلامه على مناسبة أبواب صحيح البخاري الذي نقلته عنه في أواخر المقدمة‏:‏ لما كان أصل العصمة أولا وآخرا هو توحيد الله فختم بكتاب التوحيد، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر ثقل الموازين وخفتها فجعله آخر تراجم الكتاب، فبدأ بحديث ‏"‏ الأعمال بالنيات ‏"‏ وذلك في الدنيا، وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة، وأشار إلى أنه إنما يثقل منها ما كان بالنية الخالصة لله تعالى، وفي الحديث الذي ذكره ترغيب وتخفيف، وحث على الذكر المذكور لمحبة الرحمن له والخفة بالنسبة لما يتعلق بالعمل والثقل بالنسبة لإظهار الثواب، وجاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم وهو أن حب الرب سابق وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال ثم بين ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة انتهى ملخصا‏.‏

وقال الكرماني تقدم في أول ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ بيان ترتيب أبواب الكتاب وأن الختم بمباحث كلام الله لأنه مدار الوحي، وبه تثبت الشرائع ولهذا افتتح ببدء الوحي والانتهاء إلى ما منه الابتداء ونعم الختم بها، ولكن ذكر هذا الباب ليس مقصودا بالذات بل هو لإرادة أن يكون آخر الكلام التسبيح والتحميد، كما أنه ذكر حديث الأعمال بالنيات في أول الكتاب لإرادة بيان إخلاصه فيه كذا قال، والذي يظهر أنه قصد ختم كتابه بما دل على وزن الأعمال لأنه آخر آثار التكليف فإنه ليس بعد الوزن إلا الاستقرار في أحد الدارين إلى أن يريد الله إخراج من قضى بتعذيبه من الموحدين فيخرجون من النار بالشفاعة كما تقدم بيانه‏.‏

قال الكرماني وأشار أيضا إلى أنه وضع كتابه قسطاسا وميزانا يرجع إليه، وأنه سهل على من يسره الله تعالى عليه وفيه إشعار بما كان عليه المؤلف في حالتيه أولا وآخرا، تقبل الله تعالى منه وجزاه أفضل الجزاء‏.‏

قلت‏:‏ وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحث على إدامة هذا الذكر، وقد تقدم في باب فضل التسبيح من وجه آخر عن أبي هريرة حديث آخر لفظه‏:‏ من قال ‏"‏ سبحان الله وبحمده ‏"‏ قي يومه مائة مرة حطت خطاياه، وإن كانت مثل زيد البحر، وإذا ثبت هذا في قول ‏"‏ سبحان الله وبحمده ‏"‏ وحدها فإذا انضمت إليها الكلمة الأخرى فالذي يظهر أنها تفيد تحصيل الثواب الجزيل المناسب لها، كما أن من قال الكلمة الأولى وليست له خطايا مثلا فإنه يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك، وفيه إيراد الحكم المرغب في فعله بلفظ الخبر لأن المقصود من سياق هذا الحديث الأمر بملازمة الذكر المذكور، وفيه تقديم المبتدأ على الخبر كما مضى في قوله ‏"‏ كلمتان ‏"‏ وفيه من البديع‏:‏ المقابلة والمناسبة والموازنة في السجع لأنه قال ‏"‏ حبيبتان إلى الرحمن ‏"‏ ولم يقل للرحمن لموازنة قوله ‏"‏ على اللسان ‏"‏ وعدى كلا من الثلاثة بما يليق به وفيه إشارة امتثال قوله تعالى ‏(‏وسبح بحمد ربك‏)‏ وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة في عدة آيات أنهم يسبحون بحمد ربهم، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر‏.‏

قلت‏:‏ يا رسول الله بأبي أنت وأمي أي الكلام أحب إلى الله قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان ربي وبحمده سبحان ربي وبحمده، وفي لفظ له أن أحب الكلام إلى الله سبحانه‏:‏ سبحان الله وبحمده‏.‏

*1*نهاية الكتاب