فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب التَّوْحِيدِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب التوحيد‏)‏ كذا للنسفي وحماد بن شاكر، وعليه اقتصر الأكثر عن الفربري، وزاد المستملي ‏"‏ الرد على الجهمية وغيرهم ‏"‏ وسقطت البسملة لغير أبي ذر، ووقع لابن بطال وابن التين ‏"‏ كتاب رد الجهمية ‏"‏ وغيرهم ‏"‏ التوحيد ‏"‏ وضبطوا التوحيد بالنصب على المفعولية، وظاهره معترض لأن الجهمية وغيرهم من المبتدعة لم يردوا التوحيد وإنما اختلفوا في تفسيره، وحجج الباب ظاهرة في ذلك، والمراد بقوله في رواية المستملي وغيرهم ‏"‏ القدرية ‏"‏ وأما الخوارج فتقدم ما يتعلق بهم في ‏"‏ كتاب الفتن ‏"‏ وكذا الرافضة تقدم ما يتعلق بهم في ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ وهؤلاء الفرق الأربع هم رءوس البدعة وقد سمى المعتزلة أنفسهم ‏"‏ أهل العدل والتوحيد ‏"‏ وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية، لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه ومن شبه الله بخلقه أشرك، وهم في النفي موافقون للجهمية، وأما أهل السنة ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل، ومن ثم قال الجنيد فيما حكاه أبو القاسم القشيري ‏"‏ التوحيد إفراد القديم من المحدث ‏"‏ وقال أبو القاسم التميمي في ‏"‏ كتاب الحجة ‏"‏ التوحيد مصدر وحد يوحد، ومعنى وحدت الله اعتقدته منفردا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وقيل معنى وحدته علمته واحدا، وقيل سلبت عنه الكيفية والكمية فهو واحد في ذاته لا انقسام له، وفي صفاته لا شبيه له، في إلهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ولا رب سواه ولا خالق غيره‏.‏

وقال ابن بطال تضمنت ترجمة الباب أن الله ليس بجسم لأن الجسم مركب من أشياء مؤلفة وذلك يرد على الجهمية في زعمهم أنه جسم، كذا وجدت فيه ولعله أراد أن يقول المشبهة، وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف في المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نسبوا إلى التعطيل، وثبت عن أبي حنيفة أنه قال بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال إن الله ليس بشيء‏.‏

وقال الكرماني الجهمية فرقة من المبتدعة ينتسبون إلى جهم بن صفوان مقدم الطائفة القائلة أن لا قدرة للعبد أصلا، وهم الجبرية بفتح الجيم وسكون الموحدة، ومات مقتولا في زمن هشام بن عبد الملك انتهى‏.‏

وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات‏.‏

حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق، وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه ‏"‏ الفرق بين الفرق ‏"‏ أن رءوس المبتدعة أربعة إلى أن قال‏:‏ والجهمية أتباع جهم بن صفوان الذي قال‏:‏ بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال‏.‏

وقال لا فعل لأحد غير الله تعالى، وإنما ينسب الفعل إلى العبد مجازا من غير أن يكون فاعلا أو مستطيعا لشيء، وزعم أن علم الله حادث، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، حتى قال لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال وأصفه بأنه خالق ومحي ومميت وموحد بفتح المهملة الثقيلة لأن هذه الأوصاف خاصة به، وزعم أن كلام الله حادث، ولم يسم الله متكلما به، قال‏:‏ وكان جهم يحمل السلاح ويقاتل، وخرج مع الحارث بن سريج، وهو بمهملة وجيم مصغر، لما قام على نصر بن سيار عامل بني أمية بخراسان فآل أمره إلى أن قتله سلم بن أحوز وهو بفتح السين المهملة وسكون اللام، وأبوه بمهملة وآخره زاي وزن أعور وكان صاحب شرطة نصر‏.‏

وقال البخاري في ‏"‏ كتاب خلق أفعال العباد ‏"‏ بلغني أن جهما كان يأخذ عن الجعد بن درهم، وكان خالد القسري وهو أمير العراق خطب فقال‏:‏ إني مضح بالجعد بن درهم لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما‏.‏

قلت‏:‏ وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، فكأن الكرماني انتقل ذهنه من الجعد إلى الجهم فإن قتل جهم كان بعد ذلك بمدة، ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل قال‏:‏ قال عبد الله بن المبارك‏:‏ ولا أقول بقول الجهم أن له قولا يضارع قول الشرك أحيانا وعن ابن المبارك إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي قول جهم، وعن عبد الله بن شوذب قال‏:‏ ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم في ‏"‏ كتاب الرد على الجهمية ‏"‏ من طريق خلف بن سليمان البلخي قال‏:‏ كان جهم من أهل الكوفة وكان فصيحا، ولم يكن له نفاذ في العلم، فلقيه قوم من الزنادقة فقالوا له‏:‏ صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج مدة ثم خرج فقال هو هذا الهواء مع كل شيء‏.‏

وأخرج ابن خزيمة في التوحيد، ومن طريقه البيهقي في الأسماء قال‏:‏ سمعت أبا قدامة يقول سمعت أبا معاذ البلخي يقول‏:‏ كان جهم عذ معبر ترمذ، وكان كوفي الأصل فصيحا ولم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم، فقيل له صف لنا ربك فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام فقال هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء‏.‏

وأخرج البخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال‏:‏ كلام جهم صفة بلا معنى، وبناء بلا أساس ولم يعد قط في أهل العلم، وقد سئل عن رجل طلق قبل الدخول فقال تعتد امرأته، وأورد آثارا كثيرة عن السلف في تكفير جهم‏.‏

وذكر الطبري في تاريخه في حوادث سنة سبع وعشرين أن الحارث بن سريج خرج على نصر بن سيار عامل خراسان لبني أمية وحاربه، والحارث حينئذ يدعو إلى العمل بالكتاب والسنة وكان جهم حينئذ كاتبه ثم تراسلا في الصلح وتراضيا بحكم مقاتل بن حيان والجهم، فاتفقا على أن الأمر يكون شورى حتى يتراضى أهل خراسان على أمير يحكم بينهم بالعدل، فلم يقبل نصر ذلك واستمر على محاربة الحارث إلى أن قتل الحارث في سنة ثمان وعشرين في خلافة مروان الحمار، فيقال إن الجهم قتل في المعركة ويقال بل أسر، فأمر نصر بن سيار سلم بن أحوز بقتله فادعى جهم الأمان، فقال له سلم‏:‏ لو كنت في بطني لشققته حتى أقتلك فقتله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولي بني هاشم قال‏:‏ قال سلم حين أخذه، يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهدا أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله، ومن طريق معتمر بن سليمان عن خلاد الطفاوي بلغ سلم بن أحوز، وكان على شرطة خراسان أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كلم موسى تكليما فقتله، ومن طريق بكير بن معروف قال رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم فاسود وجه جهم، وأسند أبو القاسم اللالكائي في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ له أن قتل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة ثمان وعشرين، وذكر ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة، وهذا يمكن حمله على جبر الكسر، أو على أن قتل جهم تراخي عن قتل الحارث بن سريج، وأما قول الكرماني إن قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم، لأن خروج الحارث بن سريج الذي كان جهم كاتبه كان بعد ذلك، ولعل مستند الكرماني ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان‏:‏ أما بعد فقد نجم قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون قتله وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك حتى كاتب فيه هشام والله أعلم‏.‏

وقال ابن جزم في ‏"‏ كتاب الملل والنحل‏)‏ فرق المقرين بملة الإسلام خمس‏:‏ أهل السنة، ثم المعتزلة ومنهم القدرية، ثم المرجئة ومنهم الجهمية والكرامية ثم الرافضة ومنهم الشيعة، ثم الخوارج ومنهم الأزارقة والأباضية ثم افترقوا فرقا كثيرة، فأكثر افتراق أهل السنة في الفروع، وأما في الاعتقاد ففي نبذ يسيرة، وأما الباقون ففي مقالاتهم ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد والقريب، فأقرب فرق المرجئة من قال‏:‏ الإيمان التصديق بالقلب واللسان فقط وليست العبادة من الإيمان‏.‏

وأبعدهم الجهمية القائلون بأن الإيمان عقد بالقلب فقط وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه، وعبد الوثن من غير تقية‏.‏

والكرامية‏:‏ القائلون بأن الإيمان قول باللسان فقط وإن اعتقد الكفر بقلبه، وساق الكلام على بقية الفرق ثم قال‏:‏ فأما المرجئة فعمدتهم الكلام في الإيمان والكفر، فمن قال إن العبادة من الإيمان، وأنه يزيد وينقص ولا يكفر مؤمنا بذنب، ولا يقول إنه يخلد في النار فليس مرجئا، ولو وافقهم في بقية مقالاتهم‏.‏

وأما المعتزلة فعمدتهم الكلام في الوعد والوعيد والقدر، فمن قال القرآن ليس بمخلوق وأثبت القدر ورؤية الله تعالى في القيامة، وأثبت صفاته الواردة في الكتاب والسنة وإن صاحب الكبائر لا يخرج بذلك عن الإيمان فليس بمعتزلي وإن وافقهن في سائر مقالاتهم وساق بقية ذلك إلى أن قال‏:‏ وأما الكلام فيما يوصف الله به فمشترك بين الفرق الخمسة، من مثبت لها وناف، فرأس النفاة المعتزلة والجهمية فقد بالغوا في ذلك حتى كادوا يعطلون، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان ومن تبعه من الرافضة والكرامية، فإنهم بالغوا في ذلك حتى شبهوا الله تعالى بخلقه، تعالى الله سبحانه عن أقوالهم علوا كبيرا، ونظير هذا التباين قول الجهمية إن العبد لا قدرة له أصلا، وقول القدرية إنه يخلق فعل نفسه‏.‏

قلت‏:‏ وقد أفرد البخاري خلق أفعال العباد في تصنيف، وذكر منه هنا أشياء بعد فراغه مما يتعلق بالجهمية

*3*باب مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى‏)‏ المراد بتوحيد الله تعالى الشهادة بأنه إله واحد وهذا الذي يسميه بعض غلاة الصوفية توحيد العامة، وقد ادعى طائفتان في تفسير التوحيد أمرين اخترعوهما، أحدهما‏:‏ تفسير المعتزلة كما تقدم، ثانيهما‏:‏ غلاة الصوفية فإن أكابرهم لما تكلموا في مسألة المحو والفناء وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض الأمر، بالغ بعضهم حتى ضاهي المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود، وعظم الخطب حتى ساء ظن كثير من أهل العلم بمتقدميهم وحاشاهم من ذلك، وقد قدمت كلام شيخ الطائفة الجنيد وهو في غاية الحسن والإيجاز، وقد رد عليه بعض من قال بالوحدة المطلقة فقال‏:‏ وهل من غير، ولهم في ذلك كلام طويل ينبو عنه سمع كل من كان على فطرة الإسلام والله المستعان‏.‏

وذكر في الباب أربعة أحاديث‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ

الشرح‏:‏

حديث معاذ بن جبل في بعثه إلى اليمن، أورده من طريقين الأولى أعلى من الثانية، وقد أورد الطريق العالية في ‏(‏كتاب الزكاة‏)‏ وساقها هناك على لفظ أبي عاصم راويها، وذكره هناك من وجه آخر بنزول، وعبد الله بن أبي الأسود شيخه في هذا الباب هو ابن محمد بن أبي الأسود ينسب إلى جده واسمه حميد ابن الأسود، و ‏"‏ الفضل بن العلاء ‏"‏ يكنى أبا العلاء ويقال أبو العباس وهو كوفي نزل البصرة وثقه على بن المديني‏.‏

وقال أبو حاتم الرازي شيخ يكتب حديثه‏.‏

وقال النسائي ليس به بأس‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ كثير الوهم‏.‏

قلت‏:‏ وما له في البخاري سوى هذا الموضع وقد قرنه بغيره ولكنه ساق المتن هنا على لفظه‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي معبد‏)‏ كذا للجميع بفتح الميم وسكون المهملة ثم موحدة، وفي بعض النسخ عن أبي سعيد وهو تصحيف، وكأن الميم انفتحت فصارت تشبه السين‏.‏

الحديث‏:‏

و حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سمعت ابن عباس لما بعث‏)‏ كذا فيه بحذف‏.‏

‏(‏قال أو يقول‏)‏ وقد جرت العادة بحذفه خطا ويقال يشترط النطق به‏.‏

قوله ‏(‏لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن‏)‏ أي إلى جهة أهل اليمن، وهذه الرواية تقيد الرواية المطلقة بلفظ ‏"‏ حين بعثه إلى اليمن ‏"‏ فبينت هذه الرواية أن لفظ اليمن من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو من إطلاق العام وإرادة الخاص، أو لكون اسم الجنس يطلق على بعضه كما يطلق على كله، والراجح أنه من حمل المطلق على المقيد كما صرحت به هذه الرواية، وقد تقدم في باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن في أواخر ‏"‏ المغازي ‏"‏ من رواية أبي بردة بن أبي موسى، وبعث كل واحد منهما على مخلاف قال ‏"‏ واليمن مخلافان ‏"‏ وتقدم ضبط المخلاف وشرحه هناك، ثم قوله ‏"‏ إلى أهل اليمن ‏"‏ من إطلاق الكل وإرادة البعض، لأنه إنما بعثه إلى بعضهم لا إلى جميعهم، ويحتمل أن يكون الخبر على عمومه في الدعوى إلى الأمور المذكورة وإن كانت إمرة معاذ إنما كانت على جهة من اليمن مخصوصة‏.‏

قوله ‏(‏إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب‏)‏ هم اليهود، وكان ابتداء دخول اليهودية اليمن في زمن أسعد ذي كرب وهو تبع الأصغر كما ذكره ابن إسحاق مطولا في السيرة، فقام الإسلام وبعض أهل اليمن على اليهودية، ودخل دين النصرانية إلى اليمن بعد ذلك لما غلبت الحبشة على اليمن، وكان منهم أبرهة صاحب الفيل الذي غزا مكة وأراد هدم الكعبة حتى أجلاهم عنها سيف بن ذي يزن، كما ذكره ابن إسحاق مبسوطا أيضا، ولم يبق بعد ذلك باليمن أحد من النصارى أصلا إلا بنجران وهي بين مكة واليمن، وبقي ببعض بلادها قليل من اليهود‏.‏

قوله ‏(‏فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك‏)‏ مضى في وسط الزكاة من طريق إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بلفظ ‏"‏ فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه البخاري، وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي، واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر، وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك، وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض، فيكون أول واجب جزأ من النظر وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب وعن الأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني أول واجب القصد إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال بأن من قال أول واجب المعرفة أراد طلبا وتكليفا، ومن قال النظر أو القصد أراد امتثالا لأنه يسلم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك على سبق وجوب المعرفة، وقد ذكرت في ‏"‏ كتاب الإيمان ‏"‏ من أعرض عن هذا من أصله وتمسك بقوله تعالى ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها‏}‏ وحديث ‏"‏ كل مولود يولد على الفطرة ‏"‏ فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ فأبواه يهودانه وينصرانه ‏"‏ وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رءوس الأشاعرة على هذا وقال‏:‏ إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة؛ وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك انتهى‏.‏

وقرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه‏:‏ أن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب وتباينت بين مفرط ومفرط ومتوسط، فالطرف الأول قول من قال يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة من الحنابلة والظاهرية، ومنهم من بالغ فحرم النظر في الأدلة واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار من ذم الكلام كما سيأتي بيانه‏.‏

والطرف الثاني‏:‏ قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام، ونسب ذلك لأبي إسحاق الأسفرايني‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشر ذمة يسيرة من المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الرد على قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا‏:‏ لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية‏.‏

وأما المذهب المتوسط فذكره وسأذكره ملخصا بعد هذا‏.‏

وقال القرطبي في المفهم‏:‏ في شرح حديث ‏"‏ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ‏"‏ الذي تقدم شرحه في أثناء ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ وهو في أوائل ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ من صحيح مسلم، هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية وأمور صناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والألوان والأحوال، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها وفي الكلام‏:‏ هل هو متحد أو منقسم، وعلى الثاني‏:‏ هل ينقسم بالنوع أو الوصف، وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثا، ثم إذا انعدم المأمور هل يبقى التعلق، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة إلى غير ذلك مما ابتدعوه مما لم يأمر به الشارع وسكت عنه الصحابة ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان حجب عن كيفية نفسه مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به فهو عن إدراك غيره أعجز، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن الشبيه مقدس عن النظير متصف بصفات الكمال، ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه، كما هو طريق السلف، وما عداه لا يأمن صاحب من الزلل، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر ابن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعرض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالا، قال‏:‏ وأفضي الكلام بكثير من أهله إلى الشك، وببعضهم إلى الإلحاد وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال ‏"‏ ركبت البحر الأعظم، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف ‏"‏ هذا كلامه أو معناه وعنه أنه قال عند موته ‏"‏ يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به ‏"‏ إلى أن قال القرطبي‏:‏ ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقا بالذم‏:‏ إحداهما قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله ركبت البحر‏.‏

ثانيتهما قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال لا تشنع علي بكثرة أهل النار، قال وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعا، لجعله الشك في الله واجبا، ومعظم المسلمين كفارا حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري، وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النفس في هذا الموضع لما شاع بين الناس من هذه البدعة حتى اغتر بها كثير من الأغمار فوجب بذل النصيحة، والله يهدي من يشاء انتهى‏.‏

وقال الآمدي في أبكار الأفكار‏:‏ ذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لا يعرف الله بالدليل فهو كافر، لأن ضد المعرفة النكرة والنكرة كفر، قال‏:‏ وأصحابنا مجمعون على خلافه وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقا لكن عن غير دليل، فمنهم من قال إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق وإن لم يكن عن دليل وسماه علما، وعلى هذا فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق وجوب النظر‏.‏

وقال غيره‏:‏ من منع التقليد وأوجب الاستدلال لم يرد التعمق في طريق المتكلمين، بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع، وغايته أنه يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفا صحيحا وتنتج العلم، لكنه لو سئل كيف حصل له ذلك ما اهتدى للتعبير به، وقيل الأصل في هذا كله المنع من التقليد في أصول الدين وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة حتى حصل له القطع بها، فمهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم كان مقطوعا عنده بصدقه فإذا اعتقده لم يكن مقلدا لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة، وهذا مستند السلف قاطبة في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الباب، فآمنوا بالمحكم من ذلك وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم، وإنما قال من قال إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على من لم يثبت النبوة، فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يذعن فيسلم أو يعاند فيهلك، بخلاف المؤمن فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة وإلا فطريق السلف أسهل من هذا كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن، فاختلط الأمر على من اشترط ذلك والله المستعان‏.‏

واحتج بعض من أوجب الاستدلال باتفاقهم على ذم التقليد، وذكروا الآيات والأحاديث الواردة في ذم التقليد، وبأن كل أحد قبل الاستدلال لا يدري أي الأمرين هو الهدي، وبأن كل ما لا يصح إلا بالدليل فهو دعوى لا يعمل بها، وبأن العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه من ضرورة أو استدلال وكل ما لم يكن علما فهو جهل، ومن لم يكن عالما فهو ضال‏.‏

والجواب عن الأول أن المذموم من التقليد أخذ قول الغير بغير حجة، وهذا ليس منه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله أوجب اتباعه في كل ما يقول، وليس العمل فيما أمر به أو نهى عنه داخلا تحت التقليد المذموم اتفاقا، وأما من دونه ممن اتبعه في قول قاله واعتقد أنه لو لم يقله لم يقل هو به فهو المقلد المذموم، بخلاف ما لو اعتقد ذلك في خبر الله ورسوله فإنه يكون ممدوحا، وأما احتجاجهم بأن أحدا لا يدري قبل الاستدلال أي الأمرين هو الهدى فليس بمسلم، بل من الناس من تطمئن نفسه وينشرح صدره للإسلام من أول وهلة، ومنهم من يتوقف على الاستدلال، فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار لقوله تعالى ‏{‏قوا أنفسكم وأهليكم نارا‏}‏ ويجب على كل من استرشده أن يرشده ويبرهن له الحق وعلى هذا مضى السلف الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده‏.‏

وأما من استقرت نفسه إلى تصديق الرسول ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله وتيسيرا‏.‏

فهم الذين قال الله في حقهم ‏{‏ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم‏}‏ الآية‏.‏

وقال ‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام‏}‏ الآية وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لرؤسائهم‏.‏

لأنهم لو كفر آباؤهم أو رؤساؤهم لم يتابعوهم بل يجدون النفرة عن كل من سمعوا عنه ما يخالف الشريعة وأما الآيات والأحاديث فإنما وردت في حق الكفار الذين اتبعوا من نهوا عن اتباعه وتركوا اتباع من أمروا باتباعه‏.‏

وإنما كلفهم الله الإتيان ببرهان على دعواهم بخلاف المؤمنين فلم يرد قط أنه أسقط أتباعهم حتى يأتوا بالبرهان‏.‏

وكل من خالف الله ورسوله فلا برهان له أصلا وإنما كلف الإتيان بالبرهان تبكيتا وتعجيزا‏.‏

وأما من اتبع الرسول فيما جاء به فقد اتبع الحق الذي أمر به وقامت البراهين على صحته، سواء علم هو بتوجيه ذلك البرهان أم لا‏.‏

وقول من قال منهم إن الله ذكر الاستدلال وأمر به مسلم لكن هو فعل حسن مندوب لكل من أطاقه، وواجب على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق كما تقدم تقريره وبالله التوفيق‏.‏

وقال غيره قول من قال طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم ليس بمستقيم، لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف والدعوى في طريقة الخلف، وليس الأمر كما ظن، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى، وفي غاية التعظيم له والخضوع لأمره والتسليم لمراده، وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله، وأما قولهم في العلم فزادوا في التعريف عن ضرورة أو استدلال وتعريف العلم، انتهى عند قوله عليه‏:‏ فإن أبوا إلا الزيادة فليزدادوا عن تيسير الله له ذلك وخلقه ذلك المعتقد في قلبه، وإلا فالذي زادوه هو محل النزاع فلا دلالة فيه وبالله التوفيق‏.‏

وقال أبو المظفر بن السمعاني تعقب بعض أهل الكلام قول من قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق، وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل، وأجاب‏:‏ أما أولا فإن الشارع والسلف الصالح نهوا عن الابتداع وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب‏.‏

وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا من ترك النص الصحيح وقدم عليه القياس، وأما من اتبع النص وقاس عليه فلا يحفظ عن أحد من أئمة السلف إنكار ذلك، لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم، فمن ثم تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك بخلاف علم الكلام‏.‏

وأما ثانيا‏:‏ فإن الدين كمل لقوله تعالى ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ فإذا كان أكمله وأتمه وتلقاه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم واعتقده من تلقى عنهم واطمأنت به نفوسهم، فأي حاجة بهم إلى تحكيم العقول والرجوع إلى قضاياها وجعلها أصلا، والنصوص الصحيحة الصريحة تعرض عليها فتارة يعمل بمضمونها، وتارة تحرف عن مواضعها لتوافق العقول‏.‏

وإذا كان الدين قد كمل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصانا في المعنى، مثل زيادة أصبع في اليد فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك، وقد توسط بعض المتكلمين فقال‏:‏ لا يكفي التقليد بل لا بد من دليل ينشرح به الصدر‏.‏

وتحصل به الطمأنينة العلمية، ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية بل يكفي في حق كل أحد بحسب ما يقتضيه فهمه انتهى‏.‏

والذي تقدم ذكره من تقليد النصوص كاف في هذا القدر‏.‏

وقال بعضهم المطلوب من كل أحد التصديق الجزمي الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى والإيمان برسله وبما جاءوا به كيفما حصل وبأي طريق إليه يوصل، ولو كان عن تقليد محض إذا سلم من التزلزل‏.‏

قال القرطبي‏:‏ هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومن قبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهما حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين، والتزام أحكام الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة، وإن كان كثير منهم إنما أسلم لوجود دليل ما، فأسلم بسبب وضوحه له، فالكثير منهم قد أسلموا طوعا من غير تقدم استدلال، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب بأن نبيا سيبعث وينتصر على من خالفه، فلما ظهرت لهم العلامات في محمد صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الإسلام، وصدقوه في شيء قاله ودعاهم إليه من الصلاة والزكاة وغيرهما، وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه من رعاية الغنم وغيرها، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم فلا يزالون يزدادون إيمانا ويقينا‏.‏

وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضا ما ملخصه‏:‏ إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء، لقوله تعالى ‏(‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏)‏ وقوله ‏(‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏)‏ وغير ذلك من الآيات‏.‏

فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالا‏.‏

ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب والأحاديث الصحيحة التي تواترت ولو بالطريق المعنوي، ولو كان يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فإن عقلناه فبتوفيق الله وإلا اكتفينا باعتقاد حقيته على وفق مراد الله سبحانه وتعالى انتهى‏.‏

ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس ‏"‏ أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله الله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى‏؟‏ قال‏:‏ نعم فأسلم ‏"‏ وأصله في الصحيحين في قصة ضمام بن ثعلبة، وفي حديث عمرو بن عبسة عند مسلم أنه ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما أنت‏؟‏ قال‏:‏ نبي الله‏.‏

قلت‏:‏ الله أرسلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قلت‏:‏ بأي شيء‏؟‏ قال‏:‏ أوحد الله لا أشرك به شيئا ‏"‏ الحديث، وفي حديث أسامة بن زيد في قصة قتله الذي قال لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وحديث المقداد في معناه، وقد تقدما في ‏"‏ كتاب الديات ‏"‏ وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد؛ إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه، فمن فعل ذلك قبل منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظر أم لا، ومن توقف منهم نبهه حينئذ على النظر، أو أقام عليه الحجة إلى أن يذغن أو يستمر على عناده‏.‏

وقال البيهقي في ‏"‏ كتاب الاعتقاد ‏"‏ سلك بعض أئمتنا في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمعجزات الرسالة فإنها أصل في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعلى هذا الوجه وقع إيمان الذين استجابوا للرسل، ثم ذكر قصة النجاشي وقول جعفر بن أبي طالب له ‏"‏ بعث الله إلينا رسولا نعرف صدقه فدعانا إلى الله وتلا علينا تنزيلا من الله لا يشبهه شيء فصدقناه وعرفنا أن الذي جاء به الحق ‏"‏ الحديث بطوله، وقد أخرجه ابن خزيمة في ‏"‏ كتاب الزكاة ‏"‏ من صحيحه من رواية ابن إسحاق وحاله معروفة وحديثه في درجة الحسن، قال البيهقي فاستدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي، فآمنوا بما جاء به من إثبات الصانع ووجدانيته وحدوث العالم وغير ذلك مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وغيره، واكتفاء غالب من أسلم بمثل ذلك مشهور في الأخبار، فوجب تصديقه في كل شيء ثبت عنه بطريق السمع، ولا يكون ذلك تقليدا بل هو اتباع والله أعلم‏.‏

وقد استدل من اشترط النظر بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ولا حجة فيها لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطا، واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم إذ لو أفاده لكان العلم حاصلا لمن قلد في قدم العالم ولمن قلد في حدوثه‏.‏

وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين‏.‏

وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما تقليده صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه فلا يتناقض أصلا واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بإسلام من أسلم من الأعراب من غير نظر بأن ذلك كان لضرورة المبادئ‏.‏

وأما بعد تقرر الإسلام وشهرته فيجب العمل بالأدلة ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها وهذا هو محض التقليد فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى والقول بإيمان من قلدهم وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف‏:‏ إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أول منها، ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي يمكن أن يفصل فيقال‏:‏ من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلا وحصل له اليقين التام بالمطلوب إما بنشأته على ذلك أو لنور يقذفه الله في قلبه، فإنه يكتفي منه بذلك، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد يحسبه وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه، قال فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة، وأما من غلا فقال لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه، لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين، وكذا من غلا أيضا فقال لا يجوز النظر في الأدلة لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر انتهى ملخصا‏.‏

واستدل بقوله ‏"‏ فإذا عرفوا الله ‏"‏ بأن معرفة الله بحقيقة كنهه ممكنة للبشر، فإن كان ذلك مقيدا بما عرف به نفسه من وجوده وصفاته اللائقة من العلم والقدرة والإرادة مثلا، وتنزيهه عن كل نقيصة كالحدوث فلا بأس به، فأما ما عدا ذلك فإنه غير معلوم للبشر وإليه الإشارة بقوله تعالى ‏(‏ولا يحيطون به علما‏)‏ فإذا حمل قوله فإذا عرفوا الله على ذلك كان واضحا مع أن الاحتجاج به يتوقف على الجزم بأنه صلى الله عليه وسلم نطق بهذه اللفظة وفيه نظر، لأن القصة واحدة ورواة هذا الحديث اختلفوا‏:‏ هل ورد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره‏؟‏ فلم يقل صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ منها، ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة لا يتم الاستدلال، وقد بينت في أواخر ‏"‏ كتاب الزكاة ‏"‏ أن الأكثر رووه بلفظ ‏"‏ فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك ‏"‏ ومنهم من رواه بلفظ ‏"‏ فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك ‏"‏ ومنهم من رواه بلفظ ‏"‏ فادعهم إلى عبادة الله، فإذا عرفوا الله ‏"‏ ووجه الجمع بينهما أن المراد بالعبادة‏:‏ التوحيد، والمراد بالتوحيد‏:‏ الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله ذلك إلى التوحيد، وقوله‏:‏ فإذا عرفوا الله أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة الإقرار والطواعية فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة وبالله التوفيق‏.‏

وفي حديث ابن عباس في الفوائد غير ما تقدم الاقتصار في الحكم بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين، فإن من لازم الإيمان بالله ورسوله التصديق بكل ما ثبت عنهما والتزام ذلك، فيحصل ذلك لمن صدق بالشهادتين‏.‏

وأما ما وقع من بعض المبتدعة من إنكار شيء من ذلك فلا يقدح في صحة الحكم الظاهر، لأنه إن كان مع تأويل فظاهر، وإن كان عنادا قدح في صحة الإسلام، فيعامل بما يترتب عليه من ذلك كإجراء أحكام المرتد وغير ذلك‏.‏

وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وتعقب بأن مثل خبر معاذ حفته قرينة أنه في زمن نزول الوحي فلا يستوي مع سائر أخبار الآحاد، وقد مضى في باب إجازة خبر الواحد ما يغني عن إعادته، وفيه أن الكافر إذا صدق بشيء من أركان الإسلام كالصلاة مثلا يصير بذلك مسلما، وبالغ من قال كل شيء يكفر به المسلم إذا جحده يصير الكافر به مسلما إذا اعتقده، والأول أرجح كما جزم به الجمهور، وهذا في الاعتقاد أما الفعل لو صلى فلا يحكم بإسلامه وهو أولى بالمنع لأن الفعل لا عموم له، فيدخله احتمال العبث والاستهزاء‏.‏

وفيه وجوب أخذ الزكاة ممن وجبت عليه، وقهر الممتنع على بذلها ولو لم يكن جاحدا، فإن كان مع امتناعه ذا شوكة قوتل، وإلا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عزر بما يليق به، وقد ورد عن تعزيره بالمال حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ولفظه ‏"‏ ومن منعها - يعني الزكاة - فإنا آخذوها، وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ‏"‏ الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم، وأما ابن حبان فقال في ترجمة بهز بن حكيم لولا هذا الحديث لأدخلته في ‏"‏ كتاب الثقات ‏"‏ وأجاب من صححه ولم يعمل به بأن الحكم الذي دل عليه منسوخ وأن الأمر كان أولا كذلك ثم نسخ، وضعف النووي هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولا حتى يتم دعوى النسخ ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه كمعرفة التاريخ ولا يعرف ذلك، واعتمد النووي ما أشار إليه ابن حبان من تضعيف بهز وليس يجيد لأنه موثق عند الجمهور حتى قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح إذا كان دون بهز ثقة‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ تكلم فيه شعبة وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث، واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له في الصحيح‏.‏

وقال أبو عبيدة الآجري عن أبي داود وهو عندي حجة لا عند الشافعي فإن اعتمد من قلد الشافعي على هذا كفاه، ويؤيده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به فدل على أن له معارضا راجحا، وقول من قال بمقتضاه يعد في ندرة المخالف وقد دل خبر الباب أيضا على أن الذي يقبض الزكاة الإمام أو من أقامه لذلك، وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج، وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام وهو رواية عن مالك، وفي القديم للشافعي نحوه على تفصيل عنهما فيه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَالْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ سَمِعَا الْأَسْوَدَ بْنَ هِلَالٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي حصين‏)‏ بفتح أوله واسمه عثمان بن عاصم الأسدي، والأشعث بن سليم، هو أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي، وأبوه مشهور بكنيته أكثر من اسمه‏.‏

قوله ‏(‏أتدري ما حق الله على العباد‏)‏ تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ ودخوله في هذا الباب من قوله لا تشركوا به شيئا فإنه المراد بالتوحيد، قال ابن التين يريد بقوله ‏"‏ حق العباد على الله ‏"‏ حقا علم من جهة الشرع لا بإيجاب العقل فهو كالواجب في تحقيق وقوعه أو هو على جهة المقابلة والمشاكلة، كقوله تعالى ‏(‏فيسخرون منهم سخر الله منهم‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس، وتقدم المتن في فضل ‏(‏قل هو الله أحد‏)‏ في ‏"‏ كتاب فضائل القرآن ‏"‏ من وجه آخر عن مالك مشروحا، وأورده هنا لما صرح به من وصف الله تعالى بالأحدية كما في الذي بعده، وقوله هنا زاد إسماعيل بن جعفر تقدم هناك بزيادة راو في أوله، فقال‏:‏ وزاد أبو معمر ‏"‏ حدثنا إسماعيل بن جعفر ‏"‏ وكذا وقع هنا في بعض النسخ، وفي بعضها وقال أبو معمر، وتقدم هناك الاختلاف في المراد بأبي معمر هذا وتسمية من وصله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَتْ فِي حَجْرِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ

الشرح‏:‏

حديث عمرة عن عائشة فيما يتعلق بسورة الإخلاص أيضا؛ وقد تقدم معلقا في فضائل القرآن‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا أحمد بن صالح‏)‏ كذا للأكثر وبه جزم أبو نعيم في المستخرج وأبو مسعود في الأطراف، ووقع في الأطراف للمزي أن في بعض النسخ ‏"‏ حدثنا محمد حدثنا أحمد بن صالح‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وبذلك جزم البيهقي تبعا لخلف في الأطراق قال خلف‏:‏ ومحمد هذا أحسبه محمد بن يحيى الذهلي، ووقع عند الإسماعيلي بعد أن ساق الحديث من رواية حرملة عن ابن وهب ذكره البخاري ‏"‏ عن محمد ‏"‏ بلا خبر عن أحمد بن صالح، فكأنه وقع عند الإسماعيلي بلفظ ‏"‏ قال محمد ‏"‏ وعلى رواية الأكثر فمحمد هو البخاري المصنف، والقائل ‏"‏ قال محمد ‏"‏ هو محمد الفربري وذكر الكرماني هذا احتمالا‏.‏

قلت‏:‏ ويحتاج حينئذ إلى إبداء النكتة في إفصاح الفربري به في هذا الحديث دون غيره من الأحاديث الماضية والآتية‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا عمرو‏)‏ هو ابن الحارث المصري و ‏"‏ ابن أبي هلال ‏"‏ هو سعيد وسماه مسلم في روايته‏.‏

قوله ‏(‏بعث رجلا على سرية‏)‏ تقدم في باب الجمع بين السورتين في ركعة من ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ بيان الاختلاف في تسميته ‏"‏ وهل بينه وبين الذي كان يؤم قومه في مسجد قباء مغايرة أو هما واحد وبيان ما يترجح من ذلك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيختم بقل هو الله أحد‏)‏ قال ابن دقيق العيد هذا يدل على أنه كان يقرأ بغيرها ثم يقرأها في كل ركعة وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد أنه يختم بها آخر قراءته فيختص بالركعة الأخيرة، وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين سورتين في ركعة انتهى‏.‏

وقد تقدم البحث في ذلك في الباب المذكور من ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ بما يغني عن إعادته‏.‏

قوله ‏(‏لأنها صفة الرحمن‏)‏ قال ابن التين إنما قال إنها صفة الرحمن لأن فيها أسماءه وصفاته، وأسماؤه مشتقة من صفاته‏.‏

وقال غيره‏:‏ يحتمل أن يكون الصحابي المذكور قال ذلك مستندا لشيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إما بطريق النصوصية وإما بطريق الاستنباط، وقد أخرج البيهقي في ‏"‏ كتاب الأسماء والصفات ‏"‏ بسند حسن عن ابن عباس ‏"‏ أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا صف لنا ربك الذي تعبد ‏"‏ فأنزل الله عز وجل ‏(‏قل هو الله أحد‏)‏ إلى آخرها، فقال ‏"‏ هذه صفة ربي عز وجل ‏"‏ وعن أبي بن كعب قال‏:‏ قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك، فنزلت سورة الإخلاص الحديث، وهو عند ابن خزيمة في ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ وصححه الحاكم ‏"‏ وفيه أنه ليس شيء يولد إلا يموت وليس شيء يموت إلا يورث، والله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيء‏"‏‏.‏

قال البيهقي‏:‏ معنى قوله ليس كمثله شيء ليس كهو شيء، قاله أهل اللغة قال ونظيره قوله تعالى ‏(‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به‏)‏ يريد بالذي آمنتم به وهي قراءة ابن عباس، قال‏:‏ والكاف في قوله ‏"‏ كمثله ‏"‏ للتأكيد، فنفى الله عنه المثلية بآكد ما يكون من النفي، وأنشد لورقة بن نوفل في زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات‏:‏ ‏"‏ ودينك دين ليس دين كمثله ‏"‏ ثم أسند عن ابن عباس في قوله تعالى ‏(‏وله المثل الأعلى‏)‏ يقول ليس كمثله شيء‏.‏

وفي قوله ‏(‏هل تعلم له سميا‏)‏ هل تعلم له شبها أو مثلا، وفي حديث الباب حجة لمن أثبت أن لله صفة وهو قول الجمهور، وشذ ابن حزم فقال هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام من المعتزلة ومن تبعهم، ولم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال وفيه ضعف، قال‏:‏ وعلى تقدير صحته فقل هو الله أحد صفة الرحمن كما جاء في هذا الحديث، ولا يزاد عليه بخلاف الصفة التي يطلقونها فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهر أو عرض كذا قال، وسعيد متفق على الاحتجاج به فلا يلتفت إليه في تضعيفه، وكلامه الأخير مردود باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء في آخر سورة الحشر ‏(‏له الأسماء الحسنى‏)‏ والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت أنه حي مثلا فقد وصف بصفة زائدة على الذات وهي صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قاله سبحانه وتعالى ‏(‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏)‏ فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع، وقد قسم البيهقي وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة على قسمين‏:‏ أحدهما صفات ذاته‏:‏ وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال، والثاني صفات فعله‏:‏ وهي ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، قال ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه، ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام من صفات ذاته، وكالخلق والرزق والإحياء والإماتة والعفو والعقوبة من صفات فعله، ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة كالوجه واليد والعين من صفات ذاته، وكالاستواء والنزول والمجيء من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفي عنه التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة ‏(‏إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏)‏ وقال القرطبي في المفهم‏:‏ اشتملت ‏(‏قل هو الله أحد‏)‏ على اسمين يتضمنان جميع أوصاف الكمال‏:‏ وهما الأحد والصمد، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، فإن الواحد والأحد وان رجعا إلى أصل واحد فقد افترقا استعمالا وعرفا، فالوحدة راجعة إلى نفي التعدد والكثرة، والواحد أصل العدد من غير تعرض لنفي ما عداه والأحد يثبت مدلوله ويتعرض لنفي ما سواه، ولهذا يستعملونه في النفي ويستعملون الواحد في الإثبات، يقال ما رأيت أحدا ورأيت واحدا فالأحد في أسماء الله تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما الصمد فإنه يتضمن جميع أوصاف الكمال لأن معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلها وهو لا يتم حقيقة إلا لله، قال ابن دقيق العيد قوله ‏"‏ لأنها صفة الرحمن ‏"‏ يحتمل أن يكون مراده أن فيها ذكر صفة الرحمن كما لو ذكر وصف فعبر عن الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن نفس الوصف ويحتمل غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى فاختصت بذلك دون غيرها‏.‏

قوله ‏(‏أخبروه أن الله يحبه‏)‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده، قال المازري ومن تبعه‏:‏ محبة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم، وقيل هي نفس الإثابة والتنعيم؛ ومحبتهم له لا يبعد فيها الميل منهم إليه وهو مقدس عن الميل، وقيل محبتهم له استقامتهم على طاعته، والتحقيق أن الاستقامة ثمرة المحبة وحقيقة المحبة له ميلهم إليه لاستحقاقه سبحانه المحبة من جميع وجوهها انتهى‏.‏

وفيه نظر لما فيه من الإطلاق في موضع التقييد‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ معنى محبة المخلوقين لله إرادتهم أن ينفعهم‏.‏

وقال القرطبي في المفهم‏:‏ محبة الله لعبده تقريبه له وإكرامه وليست بميل ولا غرض كما هي من العبد، وليست محبة العبد لربه نفس الإرادة بل هي شيء زائد عليها، فإن المرء يجد من نفسه أنه يحب ما لا يقدر على اكتسابه ولا على تحصيله، والإرادة هي التي تخصص الفعل ببعض وجوهه الجائزة ويحس من نفسه أنه يحب الموصوفين بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة كالعلماء والفضلاء والكرماء وإن لم يتعلق له بهم إرادة مخصصة، وإذا صح الفرق فالله سبحانه وتعالى محبوب لمحبيه على حقيقة المحبة كما هو معروف عند من رزقه الله شيئا من ذلك، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من محبيه المخلصين‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ المحبة والبغض عند بعض أصحابنا من صفات الفعل، فمعنى محبته إكرام من أحبه ومعنى بغضه إهانته، وأما ما كان من المدح والذم فهو من قوله، وقوله من كلامه، وكلامه من صفات ذاته فيرجع إلى الإرادة؛ فمحبته الخصال المحمودة، وفاعلها يرجع إلى إرادته إكرامه، وبغضه الخصال المذمومة، وفاعلها يرجع إلى إرادته إهانته‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تبارك وتعالى‏:‏ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى‏)‏ ذكر فيه حديث جرير ‏"‏ لا يرحم الله من لا يرحم الناس ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ وحديث أسامة بن زيد في قصة ولد بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وفيه ‏"‏ ففاضت عيناه ‏"‏ وفيه ‏"‏ هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ كتاب الجنائز ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ غرضه في هذا الباب إثبات الرحمة وهي من صفات الذات فالرحمن وصف الله تعالى به نفسه وهو متضمن لمعنى الرحمة كما تضمن وصفه بأنه عالم معنى العلم إلى غير ذلك، قال والمراد برحمته إرادته نفع من سبق في علمه أنه ينفعه، قال وأسماؤه كلها ترجع إلى ذات واحدة وإن دل كل واحد منها على صفة من صفاته يختص الاسم بالدلالة عليها، وأما الرحمة التي جعلها في قلوب عباده فهي من صفات الفعل، وصفها بأنه خلقها في قلوب عباده، وهي رقة على المرحوم، وهو سبحانه وتعالى منزه عن الوصف بذلك فتتأول بما يليق به‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ ‏"‏ الرحمن والرحيم ‏"‏ مشتقان من الرحمة وقيل هما اسمان من غير اشتقاق، وقيل يرجعان إلى معنى الإرادة، فرحمته إرادته تنعيم من يرحمه، وقيل راجعان إلى تركه عقاب من يستحق العقوبة‏.‏

وقال الحليمي‏:‏ معنى ‏"‏ الرحمن ‏"‏ أنه مزيح العلل لأنه لما أمر بعبادته بين حدودها وشروطها فبشر وأنذر وكلف ما تحمله بنيتهم فصارت العلل عنهم مزاحة والحجج منهم منقطعة، قال ومعنى ‏"‏ الرحيم ‏"‏ أنه المثيب على العمل فلا يضيع لعامل أحسن عملا، بل يثيب العامل بفضل رحمته أضعاف عمله‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ ذهب الجمهور إلى أن ‏"‏ الرحمن ‏"‏ مأخوذ من الرحمة مبني على المبالغة ومعناه ذو الرحمة لا نظير له فيها، ولذلك لا يثنى ولا يجمع، واحتج له البيهقي بحديث عبد الرحمن بن عوف، وفيه خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي‏.‏

قلت‏:‏ وكذا حديث الرحمة الذي اشتهر بالمسلسل بالأولية، أخرجه البخاري في التاريخ وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ ‏"‏ الراحمون يرحمهم الرحمن ‏"‏ الحديث، ثم قال الخطابي‏:‏ ‏"‏ فالرحمن ‏"‏ ذو الرحمة الشاملة للخلق ‏"‏ والرحيم ‏"‏ فعيل بمعنى فاعل وهو خاص بالمؤمنين، قال تعالى ‏(‏وكان بالمؤمنين رحيما‏)‏ وأورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ‏"‏ الرحمن والرحيم ‏"‏ اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، وعن مقاتل أنه نقل عن جماعة من التابعين مثله، وزاد ‏"‏ فالرحمن ‏"‏ بمعنى المترحم، والرحيم بمعنى المتعطف، ثم قال الخطابي لا معنى لدخول الرقة في شيء من صفات الله تعالى، وكأن المراد بها اللطف ومعناه الغموض لا الصغر الذي هو من صفات الأجسام‏.‏

قلت‏:‏ والحديث المذكور عن ابن عباس لا يثبت لأنه من رواية الكلبي عن ابن صالح عنه، والكلبي متروك الحديث وكذلك مقاتل، ونقل البيهقي عن الحسين بن المفضل البجلي أنه نسب راوي حديث ابن عباس إلى التصحيف وقال إنما هو الرفيق بالفاء وقواه البيهقي بالحديث الذي أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعا ‏"‏ إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى عليه ما لا يعطي على العنف ‏"‏ وأورد له شاهدا من حديث عبد الله بن مغفل ومن طريق عبد الرحمن بن يحيى ثم قال و ‏"‏ الرحمن ‏"‏ خاص في التسمية عام في الفعل، و ‏"‏ الرحيم ‏"‏ عام في التسمية خاص في الفعل، واستدل بهذه الآية، على أن من حلف باسم من أسماء الله تعالى كالرحمن والرحيم انعقدت يمينه، وقد تقدم في موضعه، وعلى أن الكافر إذا أقر بالوحدانية للرحمن مثلا حكم بإسلامه، وقد خص الحليمي من ذلك ما يقع به الاشتراك كما لو قال الطبائعي، لا إله إلا المحي المميت، فإنه لا يكون مؤمنا حتى يصرح باسم لا تأويل فيه، ولو قال من ينسب إلى التجسيم من اليهود لا إله إلا الذي في السماء لم يكن مؤمنا كذلك، إلا إن كان عاميا لا يفقه معنى التجسيم فيكتفي منه بذلك كما في قصة الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم أنت مؤمنة، قالت نعم، قال فأين الله‏؟‏ قالت في السماء، فقال أعتقها فإنها مؤمنة، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم‏.‏

وإن من قال لا إله إلا الرحمن حكم بإسلامه إلا إن عرف أنه قال ذلك عنادا وسمى غير الله رحمانا كما وقع لأصحاب مسيلمة الكذاب، قال الحليمي ولو قال اليهودي لا إله إلا الله لم يكن مسلما حتى يقر بأنه ليس كمثله شيء، ولو قال الوثني لا إله إلا الله وكان يزعم أن الصنم يقربه إلى الله لم يكن مؤمنا حتى تبرأ من عبادة الصنم‏.‏

تنبيهان‏:‏ أحدهما الذي يظهر من تصرف البخاري في ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب ويؤيده بآية من القرآن للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقاديات، وإن من أنكرها خالف الكتاب والستة جميعا، وقد أخرج ابن أبي حاتم في ‏"‏ كتاب الرد على الجهمية ‏"‏ بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال‏:‏ ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث، والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى ‏(‏إن الله سميع بصير - ويحذركم الله نفسه - والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه - ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي - وكلم الله موسى تكليما - الرحمن على العرش استوى‏)‏ ونحو ذلك فلم يزل - أي سلام بن مطيع - يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس؛ وكأنه لمح في هذه الترجمة بهذه الآية إلى ما ورد في سبب نزولها، وهو ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يا الله يا رحمن، فقالوا كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين فنزلت‏.‏

وأخرج عن عائشة بسند آخر نحوه، الثاني قوله في السند الأول حدثنا محمد كذا للأكثر قال الكرماني تبعا لأبي علي الجياني هو إما ابن سلام وإما ابن المثنى انتهى‏.‏

وقد وقع التصريح بأنه ابن سلام في رواية أبي ذر عن شيوخه فتعين الجزم به كما صنع المزي في الأطراف، فإنه قال ح عن محمد وهو ابن سلام‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده أنه عبر بقوله ‏"‏ أنبأنا أبو معاوية ‏"‏ ولو كان ابن المثنى لقال ‏"‏ حدثنا ‏"‏ لما عرف من عادة كل منهما والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين‏)‏ كذا لأبي ذر والأصيلي والحفصوي على وفق القراءة المشهورة، وكذا هو عند النسفي، وعليه جرى الإسماعيلي، ووقع في رواية القابسي ‏"‏ إني أنا الرزاق ‏"‏ إلخ وعليه جرى ابن بطال وتبعه ابن المنير والكرماني وجزم به الصغاني، وزعم أن الذي وقع عند أبي ذر وغيره من تغييرهم لظنهم أنه خلاف القراءة، قال‏:‏ وقد ثبت ذلك قراءة عن ابن مسعود‏.‏

قلت‏:‏ وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه كذلك كما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من طريق عبد الرحمن بن يريد النخعي، عن ابن مسعود قال‏:‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال أهل التفسير‏:‏ المعنى في وصفه بالقوة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي حمزة‏)‏ بالمهملة والزاي هو السكري وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق كلهم كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله‏)‏ الحديث وقد تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ والغرض منه قوله هنا ‏"‏ ويرزقهم ‏"‏ وقوله ‏"‏ يدعون ‏"‏ بسكون الدال وجاء تشديدها، قال ابن بطال‏:‏ تضمن هذا الباب صفتين لله تعالى‏:‏ صفة ذات، وصفة فعل، فالرزق فعل من أفعاله تعالى فهو من صفات فعله لأن رازقا يقتضي مرزوقا، والله سبحانه وتعالى كان ولا مرزوق وكل ما لم يكن ثم كان فهو محدث والله سبحانه موصوف بأنه الرزاق ووصف نفسه بذلك قبل خلق الخلق، بمعنى أنه سيرزق إذا خلق المرزوقين، والقوة من صفات الذات وهي بمعنى القدرة، ولم يزل سبحانه وتعالى ذا قوة وقدرة، ولم تزل قدرته موجودة قائمة به موجبة له حكم القادرين‏.‏

والمتين بمعنى القوى وهو في اللغة الثابت الصحيح وقال البيهقي‏:‏ القوي التام القدرة لا ينسب إليه عجز في حالة من الأحوال، ويرجع معناه إلى القدرة والقادر، هو الذي له القدرة الشاملة والقدرة صفة له قائمة بذاته، والمقتدر هو التام القدرة الذي لا يمتنع عليه شيء‏.‏

وفي الحديث رد على من قال إنه قادر بنفسه لا بقدرة لأن القوة بمعنى القدرة، وقد قال تعالى ‏(‏ذو القوة‏)‏ وزعم المعتزلي أن المراد بقوله ذو القوة‏:‏ الشديد القوة والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار، فجرى على طريقهم في أن القدرة نفسية، خلافا لقول أهل السنة أنها صفة قائمة به متعلقة بكل مقدور وقال غيره‏:‏ كون القدرة قديمة وإفاضة الرزق حادثة لا يتنافيان لأن الحادث هو التعلق وكونه رزق المخلوق بعد وجوده لا يستلزم التغير فيه لأن التغير في التعلق فإن قدرته لم تكن متعلقة بإعطاء الرزق بل بكونه سيقع، ثم لما وقع تعلقت به من غير أن تتغير الصفة في نفس الأمر، ومن ثم نشأ الاختلاف‏:‏ هل القدرة من صفات الذات أو من صفات الأفعال‏؟‏ فمن نظر في القدرة إلى الاقتدار على إيجاد الرزق قال هي صفة ذات قديمة، ومن نظر إلى تعلق القدرة قال هي صفة فعل حادثة، ولا استحالة في ذلك في الصفات الفعلية والإضافية بخلاف الذاتية، وقوله في الحديث ‏"‏ أصبر ‏"‏ أفعل تفضيل من الصبر ومن أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى‏:‏ الصبور ومعناه الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة، والمراد بالأذى أذى رسله وصالحي عباده لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به لكونه صفة نقص وهو منزه عن كل نقص، ولا يؤخر النقمة قهرا بل تفضلا، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة والولد عن الله أذى لهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم، ومنه قوله تعالى ‏(‏إن الذين يؤذون الله ورسوبه لعنهم الله في الدنيا والآخرة‏)‏ فإن معناه يؤذون أولياء الله وأولياء ورسوله، فأقيم المضاف مقام المضاف إليه، قال ابن المنير وجه مطابقة الآية للحديث اشتماله على صفتي الرزق والقوة الدالة على القدرة، أما الرزق فواضح من قوله ‏(‏ويرزقهم‏)‏ وأما القوة فمن قوله ‏(‏أصبر‏)‏ فإن فيه إشارة إلى القدرة على الإحسان إليهم مع إساءتهم، بخلاف طبع البشر فإنه لا يقدر على الإحسان إلى المسيء إلا من جهة تكلفه ذلك شرعا، وسبب ذلك أن خوف الفوت يحمله على المسارعة إلى المكافأة بالعقوبة، والله سبحانه وتعالى قادر على ذلك حالا ومالا لا يعجزه شيء ولا يفوته‏.‏