فصل: باب رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب رقية الحية والعقرب‏)‏ أي مشروعية ذلك، وأشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب على ما سأذكره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الرُّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ فَقَالَتْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الواحد‏)‏ هو ابن زياد، وبذلك جزم أبو نعيم حيث أخرج الحديث من طريق محمد بن عبيد بن حسان عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سليمان الشيباني‏)‏ هو أبو إسحاق مشهور بكنيته أكثر من اسمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رخص‏)‏ فيه إشارة إلى أن النهي عن الرقى كان متقدما، وقد بينت ذلك في الباب الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من كل ذي حمة‏)‏ بضم المهملة وتخفيف الميم، تقدم بيانها في ‏"‏ باب ذات الجنب ‏"‏ وأن المراد بها ذوات السموم، ووقع في رواية أبي الأحوص عن الشيباني بسنده ‏"‏ رخص في الرقية من الحية والعقرب‏.‏

*3*باب رُقْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي التي كان يرقي بها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ ثَابِتٌ يَا أَبَا حَمْزَةَ اشْتَكَيْتُ فَقَالَ أَنَسٌ أَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَلَى قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَماً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الوارث‏)‏ هو ابن سعيد، وعبد العزيز هو ابن صهيب، والإسناد بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال ثابت‏)‏ هو البناني ‏(‏يا أبا حمزة‏)‏ هي كنية أنس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اشتكيت‏)‏ بضم التاء أي مرضت، ووقع في رواية الإسماعيلي ‏"‏ إني اشتكيت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ألا‏)‏ بتخفيف اللام و ‏"‏ أرقيك ‏"‏ بفتح الهمزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مذهب الباس‏)‏ بغير همز للمؤاخاة فإن أصله الهمزة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنت الشافي‏)‏ يؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين‏:‏ أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا، والثاني أن يكون له أصل في القرآن وهذا من ذاك، فإن في القرآن ‏"‏ وإذا مرضت فهو يشفين‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا شافي إلا أنت‏)‏ إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله تعالى وإلا فلا ينجع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شفاء‏)‏ مصدر منصوب بقوله ‏"‏ اشف ‏"‏ ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ أي هو‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يغادر‏)‏ بالغين المعجمة أي لا يترك، وقد تقدم بيانه والحكمة فيه في أواخر كتاب المرضى، وقوله ‏"‏سقما ‏"‏ بضم ثم سكون، وبفتحتين أيضاء‏.‏

ويؤخذ من هذا الحديث أن الإضافة في الترجمة للفاعل، وقد ورد ما يدل على أنها للمفعول، وذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد ‏"‏ أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد اشتكيت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك ‏"‏ وله شاهد عنده بمعناه من حديث عائشة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَماً قَالَ سُفْيَانُ حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُوراً فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحيى‏)‏ هو القطان، وسفيان هو الثوري، وسليمان هو الأعمش ومسلم هو أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وجوز الكرماني أن يكون مسلم بن عمران لكونه يروي عن مسروق ويروي الأعمش عنه، وهو تجويز عقلي محض يمجه سمع المحدث، على أنني لم أر لمسلم بن عمران البطين رواية عن مسروق وإن كانت ممكنة، وهذا الحديث إنما هو من رواية الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، وقد أخرجه مسلم من رواية جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق به، ثم أخرجه من رواية هشيم ومن رواية شعبة ومن رواية يحيى القطان عن الثوري كلهم عن الأعمش قال بإسناد جرير، فوضح أن مسلما المذكور في رواية البخاري هو أبو الضحى، فإنه أخرجه من رواية يحيى القطان، وغايته أن بعض الرواة عن يحيى سماه وبعضهم كناه والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يعوذ بعض أهله‏)‏ لم أقف على تعيينه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يمسح بيده اليمني‏)‏ أي على الوجع قال الطبري‏:‏ هو على طريق التفاؤل لزوال ذلك، الوجع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واشفه وأنت الشافي‏)‏ في رواية الكشميهني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل، أو هي هاء السكت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا شفاء‏)‏ بالمد مبني على الفتح والخبر محذوف والتقدير لنا أو له‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا شفاؤك‏)‏ بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال سفيان‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثت به منصورا‏)‏ هو ابن المعتمر، وصار بذلك في هذا الحديث إلى مسروق طريقان، وإذا ضم الطريق الذي بعده إليه صار إلى عائشة طريقان، وإذا ضم إلى حديث أنس صار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه طريقان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نحوه‏)‏ تقدم سياقه في أواخر كتاب المرضى مع بيان الاختلاف على الأعمش ومنصور في الواسطة بينهما وبين مسروق، ومن أفرد ومن جمع وتحرير ذلك واضحا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْقِي يَقُولُ امْسَحْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ بِيَدِكَ الشِّفَاءُ لَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ

الشرح‏:‏

‏(‏النضر‏)‏ هو ابن شميل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يرقي‏)‏ بكسر القاف، وهو بمعنى قوله في الرواية التي قبلها ‏"‏ كان يعوذ ‏"‏ ولعل هذا هو السر أيضا في إيراد طريق عروة وإن كان سياق مسروق أتم، لكن عروة صرح بكون ذلك رقية فيوافق حديث أنس في أنها رقية النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏امسح‏)‏ هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى ‏"‏ أذهب ‏"‏ والمراد الإزالة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بيدك الشفاء لا كاشف له‏)‏ أي للمرض ‏(‏إلا أنت‏)‏ وهو بمعنى قوله‏.‏

‏"‏ اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ بِسْمِ اللَّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة كما صرح به في الطريق الثانية، وقدم الأولى لتصريح سفيان بالتحديث، وصدقة شيخه في الثانية هو ابن الفضل المروزي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد ربه بن سعيد‏)‏ هو الأنصاري أخو يحيى بن سعيد، هو ثقة، ويحيى أشهر منه وأكثر حديثا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يقول للمريض بسم الله‏)‏ في رواية صدقة ‏"‏ كان يقول في الرقية ‏"‏ وفي رواية مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان زيادة في أوله ولفظه ‏"‏ كان إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا - ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها - بسم الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تربة أرضنا‏)‏ خبر مبتدأ محذوف أي هذه تربة، وقوله ‏"‏بريقة بعضنا ‏"‏ يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، قال النووي‏:‏ معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح، قال القرطبي‏:‏ فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كأن أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال‏:‏ ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية‏.‏

ثم قال‏:‏ وزعم بعض علمائنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها‏.‏

قال وقال في الريق‏:‏ إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم لا سيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله، وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك‏.‏

ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها‏.‏

وقال التوربشتي‏:‏ كأن المراد بالتربة الإشارة إلى قطرة آدم، والريقة الإشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان الحال أنك اخترعت الأصل من التراب ثم أبدعته مته من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته‏.‏

وقال النووي‏:‏ قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا‏.‏

وفيه نظر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يشفى سقيمنا‏)‏ ضبط بالوجهين بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أخرج أبو داود والنسائي ما يفسر به الشخص المرقى، وذلك في حديث عائشة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض فقال‏:‏ اكشف الباس، رب الناس‏.‏

ثم أخذ من بطحان فجعله في قدح، ثم نفث عليه، ثم صبه عليه‏"‏‏.‏

*3*باب النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النفث‏)‏ بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة ‏(‏في الرقية‏)‏ ‏.‏

في هذه الترجمة إشارة إلى الرد على من كره النفث مطلقا - كالأسود بن يزيد أحد التابعين - تمسكا بقوله تعالى ‏(‏ومن شر النفاثات في العقد‏)‏ ، وعلى من كره النفث عند قراءة القرآن خاصة كإبراهيم النخعي، أخرج ذلك ابن أبي شيبة وغيره، فأما الأسود فلا حجة له في ذلك لأن المذموم ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل، ولا يلزم منه ذم النفث مطلقا، ولا سيما بعد ثبوته في الأحاديث الصحيحة، وأما النخعي فالحجة عليه ما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري ثالث أحاديث الباب، فقد قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة وفيها أنه قرأ بفاتحة الكتاب وتفل ولم ينكر ذلك صلى الله عليه وسلم فكان ذلك حجة، وكذا الحديث الثاني فهو واضح من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بيان النفث مرارا، أو من قال إنه لا ريق فيه وتصويب أن فيه ريقا خفيفا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الرُّؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ وَإِنْ كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ الْجَبَلِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سليمان‏)‏ هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الرؤيا من الله‏)‏ يأتي شرحه مستوفى في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله ‏"‏فلينفث ‏"‏ هو المراد من الحديث المذكور في هذه الترجمة لأنه دل على جدواها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو سلمة‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور وقوله ‏"‏ فإن كنت ‏"‏ في رواية الكشميهني بدون الفاء، وقوله ‏"‏أثقل علي من الجبل ‏"‏ أي لما كان يتوقع من شرها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعاً ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ قَالَ يُونُسُ كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سليمان‏)‏ هو ابن بلال أيضا، ويونس هو ابن يزيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين‏)‏ أي يقرؤها وينفث حالة القراءة، وقد تقدم بيان ذلك في الوفاة النبوية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده‏)‏ في رواية المفضل بن فضالة عن عقيل ‏"‏ ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به‏)‏ وهذا مما تفرد به سليمان بن بلال عن يونس، وقد تقدم في الوفاة النبوية من رواية عبد الله بن المبارك عن يونس بلفظ ‏"‏ فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه ‏"‏ وأخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس فلم يذكرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال يونس‏:‏ كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أوى إلى فراشه‏)‏ وقع نحو ذلك في رواية عقيل عن ابن شهاب عند عبد بن حميد، وفيه إشارة إلى الرد على من زعم أن هذه الرواية شاذة، وأن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا اشتكى كما في رواية مالك وغيره، فدلت هذه الزيادة على أنه كان يفعل ذلك إذا أوى إلى فراشه، وكان يفعله إذا اشتكى شيئا من جسده، فلا منافاة بين الروايتين‏.‏

وقد تقدم في فضائل القرآن قول من قال إنهما حديثان عن الزهري بسند واحد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَهْطاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاللَّهِ إِنِّي لَرَاقٍ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في قصة اللديغ الذي رقاه بفاتحة الكتاب، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة، وتقدمت الإشارة إليه قريبا‏.‏

ووقع في هذه الرواية ‏"‏ فجعل يتفل ويقرأ ‏"‏ وقد قدمت أن النفث دون التفل، وإذا جاز التفل جاز النفث بطريق الأولى‏.‏

وفيها ‏"‏ ما به قلب ‏"‏ بفتح اللام بعدها موحدة‏.‏

أي ما به ألم يقلب لأجله على الفراش، وقيل أصله من القلاب بضم القاف وهو داء يأخذ البعير فيمسك على قلبه فيموت من يومه‏.‏

*3*باب مَسْحِ الرَّاقِي الْوَجَعَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه قريبا، والقائل ‏"‏ فذكرته لمنصور ‏"‏ هو سفيان الثوري كما تقدم التصريح به في ‏"‏ باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

*3*باب فِي الْمَرْأَةِ تَرْقِي الرَّجُلَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب المرأة ترقي الرجل‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة، وفيه قولها ‏"‏ كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه ‏"‏ وقد تقدم قبل بباب من رواية يونس عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، وزاد في رواية معمر هنا كيفية ذلك فقال ‏"‏ ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه‏"‏‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَرْقِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم يرق‏)‏ هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيا للفاعل، وبضم أوله وفتح القاف مبنيا للمفعول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ تميز عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خبير عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الْأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَاداً كَثِيراً سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ أَمِنْهُمْ أَنَا فَقَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حصين بن نمير‏)‏ بنون مصغر هو الواسطي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد تقدم بهذا الإسناد في أحاديث الأنبياء لكن باختصار، وتقدم الحديث بعينه من وجه آخر عن حصين بن عبد الرحمن في ‏"‏ باب من اكتوى ‏"‏ وذكرت من زاد في أوله قصة وأن شرحه سيأتي في كتاب الرقاق، والغرض منه هنا قوله ‏"‏ هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون ‏"‏ فأما الطيرة فسيأتي ذكرها بعد هذا، وأما الكي فتقدم ذكرها فيه هناك، وأما الرقية فتمسك بهذا الحديث من كره الرقى والكي من بين سائر الأدوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة‏:‏ أحدها قاله الطبري والمازري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون‏.‏

وقال غيره‏:‏ الرقى التي يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية وما الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا، بخلاف الرقى بالذكر ونحوه‏.‏

وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب‏.‏

ثانيها قال الداودي وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء، وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا، وقد قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في ‏"‏ باب من اكتوى‏"‏، وهذا اختيار ابن عبد البر، غير أنه معترض بما قدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء‏.‏

ثالثها قال الحليمي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الأسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله، والرضا بقضائه، فهم غافلون عن طب الأطباء ورقى الرقاة ولا يحسنون من ذلك شيئا، والله أعلم‏.‏

رابعها أن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره، لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء‏.‏

ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا، لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكله، لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا، بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل، لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما‏.‏

قال الطبري‏:‏ قيل لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شيء البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي، ولا من لم يسع في طلب رزق ولا في مداواة ألم، والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك‏.‏

وقال الذي سأله‏:‏ أعقل ناقتي أو أدعها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ اعقلها وتوكل ‏"‏ فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل، والله أعلم‏.‏

*3*باب الطِّيَرَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الطيرة‏)‏ بكسر المهملة وفتح التحتانية وقد تسكن، هي التشاؤم بالشين، وهو مصدر تطير مثل تحير حيرة‏.‏

قال بعض أهل اللغة لم يجيء من المصادر هكذا غير هاتين، وتعقب بأنه سمع طيبة، وأورد بعضهم التولة وفيه نظر، وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، والبارح بموحدة وآخره مهملة، بالسانح ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس‏.‏

وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له، إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم‏:‏ ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم فإذا الأشائم كالأيامن والأيامن كالأشائم وقال آخر‏:‏ الزجر والطير والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفال وقال آخر‏:‏ وما عاجلات الطير تدني من الفتى نجاحا، ولا عن ريثهن قصور وقال آخر‏:‏ لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا زاجرت الطير ما الله صانع وقال آخر‏:‏ تخير طيرة فيها زياد لتخبره، وما فيها خبير تعلم أنه لا طير إلا على متطير، وهو الثبور بلى شيء يوافق بعض شيء أحايينا، وباطله كثير وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك، وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين‏.‏

وقد أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أنس رفعه ‏"‏ لا طيرة، والطيرة على من تطير ‏"‏ وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاثة لا يسلم منهن أحد‏:‏ الطيرة، والظن، والحسد‏.‏

فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق ‏"‏ وهذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا ‏"‏ وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه ‏"‏ لن ينال الدرجات العلا من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفر تطيرا ‏"‏ ورجاله ثقات، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا وله شاهد عن عمران بن حصين وأخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد‏.‏

وأخرج أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رفعه ‏"‏ الطيرة شرك، وما منا إلا تطير، ولكن الله يذهبه بالتوكل ‏"‏ وقوله ‏"‏ وما منا إلا ‏"‏ من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه، وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى، وقوله ‏"‏ولكن الله يذهبه بالتوكل ‏"‏ إشارة إلى أن من وقع له فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك‏.‏

وأخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا ‏"‏ من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل‏:‏ اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا عدوى، ولا طيرة، والشؤم في ثلاث‏)‏ قد تقدم شرح هذا الحديث وبيان اختلاف الرواة في سياقه في كتاب الجهاد، والتطير والتشاؤم بمعني واحد، فنفى أولا بطريق العموم كما نفى العدوى، ثم اثبت الشؤم في الثلاثة المذكورة، وقد ذكرت ما قيل في ذلك هناك‏.‏

وقد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي داود بلفظ ‏"‏ وإن كانت الطيرة في شيء ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ قَالُوا وَمَا الْفَأْلُ قَالَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏لا طيرة، وخيرها الفأل‏)‏ يأتي شرحه في الباب الذي بعده، وكأنه أشار بذلك إلى أن النفي في الطيرة على ظاهره لكن في الشر، ويستثنى من ذلك ما يقع فيه من الخير كما سأذكره‏.‏