فصل: باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَنْ قَضَى وَلَاعَنَ فِي الْمَسْجِدِ

وَلَاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من قضى ولاعن في المسجد‏)‏ الظرف يتعلق بالأمرين فهو من تنازع الفعلين، ويحتمل أن يتعلق بقضى لدخول ‏"‏ لاعن ‏"‏ فيه فإنه من عطف الخاص على العام، ومعنى قوله ‏"‏ ولاعن ‏"‏ حكم بإيقاع التلاعن بين الزوجين فهو مجاز، ولا يشترط أن يباشر تلقينهما ذلك بنفسه‏.‏

قوله ‏(‏ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هذا أبلغ في التمسك به على جواز اللعان في المسجد، وإنما خص عمر المنبر لأنه كان يرى التحليف عند المنبر أبلغ في التغليظ وورد في التحليف عنده حديث جابر ‏"‏ لا يحلف عند منبري ‏"‏ الحديث، ويؤخذ منه التغليظ في الأيمان بالمكان، وقاسوا عليه الزمان، وإنما كان كذلك مع أن المحلوف به عظيم لأن للمعظم الذي يشاهده الحالف تأثيرا في التوقي عن الكذب‏.‏

قوله ‏(‏وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ على المنبر ‏"‏ وهذا طرف من أثر مضى في ‏"‏ كتاب الشهادات ‏"‏ وذكرت هناك من وصله، وهو في الموطأ ولفظه ‏"‏ على المنبر ‏"‏ كما في رواية الكشميهني‏.‏

قوله ‏(‏وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد‏)‏ أما أثر شريح فوصله ابن أبي شيبة ومحمد بن سعد من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال ‏"‏ رأيت شريحا يقضي في المسجد وعليه برنس خز ‏"‏ وقال عبد الرزاق ‏"‏ أنبأنا معمر عن الحكم بن عتيبة أنه رأى شريحا يقضي في المسجد‏"‏‏.‏

وأما أثر الشعبي فوصله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي في ‏"‏ جامع سفيان ‏"‏ من طريق عبد الله بن شبرمة ‏"‏ رأيت الشعبي جلد يهوديا في قرية في المسجد ‏"‏ وكذا أخرجه عبد الرزاق عن سفيان‏.‏

وأما أثر يحيى بن يعمر فوصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الرحمن بن قيس قال ‏"‏ رأيت يحيى بن يعمر يقضي في المسجد ‏"‏ وأخرج الكرابيسي في ‏"‏ أدب القضاء ‏"‏ من طريق أبي الزناد قال ‏"‏ كان سعد بن إبراهيم وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابنه ومحمد بن صفوان ومحمد بن مصعب بن شرحبيل يقضون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وذكر ذلك جماعة آخرون‏.‏

قوله ‏(‏وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد‏)‏ الرحبة بفتح الراء والحاء المهملة بعدها موحدة هي بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه، هذه رحبة المسجد، ووقع فيها الاختلاف، والراجح أن لها حكم المسجد فيصح فيها الاعتكاف وكل ما يشترط له المسجد، فإن كانت الرحبة منفصلة فليس لها حكم المسجد‏.‏

وأما الرحبة بسكون الحاء فهي مدينة مشهورة‏.‏

والذي يظهر من مجموع هذه الآثار أن المراد بالرحبة هنا الرحبة المنسوبة للمسجد، فقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق المثنى ابن سعيد قال ‏"‏ رأيت الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في المسجد ‏"‏ وأخرج الكرابيسي في ‏"‏ أدب القضاء ‏"‏ من وجه آخر أن الحسن وزرارة وإياس بن معاوية كانوا إذا دخلوا المسجد للقضاء صلوا ركعتين قبل أن يجلسوا‏.‏

ثم ذكر حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين مختصرا من طريقين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ شَهِدْتُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا

الشرح‏:‏

رواية سفيان وهو ابن عيينة قال‏:‏ قال الزهري ‏"‏ عن سهل بن سعد ‏"‏ فذكره مختصرا ولفظه ‏"‏ شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة سنة فرق بينهما ‏"‏ وقد أخرجه في كتاب اللعان مطولا وتقدمت فوائده هناك‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ

الشرح‏:‏

رواية ابن جريج أخبرني ابن شهاب وهو الزهري فذكره مختصرا أيضا ولفظه ‏"‏ أن رجلا من الأنصار جاء ‏"‏ فذكره إلى قوله ‏"‏ أيقتله فتلاعنا في المسجد ‏"‏ وقد تقدم مطولا وشرحه هناك أيضا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ استحب القضاء في المسجد طائفة‏.‏

وقال مالك هو الأمر القديم، لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس لإمكان الاحتجاب قال‏:‏ وبه قال أحمد وإسحاق‏:‏ وكرهت ذلك طائفة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقضي في المسجد فإنه يأتيك الحائض والمشرك‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أحب إلي أن يقضى في غير المسجد لذلك‏.‏

وقال الكرابيسي‏:‏ كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك فيدخل المشرك المسجد، قال ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره‏.‏

ثم ساق في ذلك آثارا كثيرة‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وحديث سهل بن سعد حجة للجواز، وإن كان الأولى صيانة المسجد‏.‏

وقد قال مالك‏:‏ كان من مضى يجلسون في رحاب المسجد إما في موضع الجنائز وإما في رحبة دار مروان، قال‏:‏ وإني لأستحب ذلك في الأمصار ليصل إليه اليهودي والنصراني والحائض والضعيف، وهو أقرب إلى التواضع وقال ابن المنير لرحبة المسجد حكم المسجد إلا إن كانت منفصلة عنه والذي يظهر أنها كانت منفصلة عنه، ويمكن أن يكون جلوس القاضي في الرحبة المتصلة وقيام الخصوم خارجا عنها أو في الرحبة المتصلة، وكأن التابعي المذكور يرى أن الرحبة لا تعطى حكم المسجد ولو اتصلت بالمسجد، وهو خلاف مشهور، فقد وقع للشافعية في حكم رحبة المسجد اختلاف في التعريف مع اتفاقهم على صحة صلاة من في الرحبة المتصلة بالمسجد بصلاة من في المسجد قال‏:‏ والفرق بين الحريم والرحبة أن لكل مسجد حريما وليس لكل مسجد رحبة، فالمسجد الذي يكون أمامه قطعة من البقعة هي الرحبة وهي التي لها حكم المسجد‏.‏

والحريم هو الذي يحيط بهذه الرحبة وبالمسجد، وإن كان سور المسجد محيطا بجميع البقعة فهو مسجد بلا رحبة ولكن له حريم كالدور انتهى ملخصا‏.‏

وسكت عما إذا بنى صاحب المسجد قطعة منفصلة عن المسجد هل هي رحبة تعطى حكم المسجد‏؟‏ وعما إذا كان في الحائط القبلي من المسجد رحاب بحيث لا تصح صلاة من صلى فيها خلف إمام المسجد هل تعطى حكم المسجد، والذي يظهر أن كلا منهما يعطى حكم المسجد فتصح الصلاة في الأولى ويصح الاعتكاف في الثانية، وقد يفرق حكم الرحبة من المسجد في جواز اللغط ونحوه فيها بخلاف المسجد مع إعطائها حكم المسجد في الصلاة فيها، فقد أخرج مالك في الموطأ من طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال ‏"‏ بنى عمر إلى جانب المسجد رحبة فسماها البطحاء فكان يقول‏:‏ من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة‏"‏‏.‏

*3*باب مَنْ حَكَمَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ

وَقَالَ عُمَرُ أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من حكم في المسجد حتى إذا أتى على حد أمر أن يخرج من المسجد فيقام‏)‏ كأنه يشير بهذه الترجمة إلى من خص جواز الحكم في المسجد بما إذا لم يكن هناك شيء يتأذى به من في المسجد أو يقع به للمسجد نقص كالتلويث‏.‏

قوله ‏(‏وقال عمر أخرجاه من المسجد وضربه، ويذكر عن على نحوه‏)‏ أما أثر عمر فوصله ابن أبي شيبة وعبد الرزاق كلاهما من طريق طارق بن شهاب قال ‏"‏ أتي عمر بن الخطاب برجل في حد فقال‏:‏ أخرجاه من المسجد ثم اضرباه ‏"‏ وسنده على شرط الشيخين، وأما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة من طريق ابن معقل - وهو بمهملة ساكنة وقاف مكسورة - أن رجلا جاء إلى عمر فساره فقال‏:‏ يا قنبر أخرجه من المسجد فأقم عليه الحد، وفي سنده من فيه مقال‏.‏

ثم ذكر حديث أبي هريرة في قصة الذي أقر ‏"‏ أنه زنى فأعرض عنه وفيه أبك جنون‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ اذهبوا به فارجموه ‏"‏ وهذا القدر هو المراد في الترجمة ولكنه لا يسلم من خدش لأن الرجم يحتاج إلى قدر زائد من حفر وغيره مما لا يلائم المسجد فلا يلزم من تركه فيه ترك إقامة غيره من الحدود، وقد تقدم شرحه في ‏"‏ باب رجم المحصن ‏"‏ من ‏"‏ كتاب الحدود‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا قَالَ أَبِكَ جُنُونٌ قَالَ لَا قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى رَوَاهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّجْمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏رواه يونس ومعمر وابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر‏)‏ يريد أنهم خالفوا عقيلا في الصحابي، فإنه جعل أصل الحديث من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة، وقول ابن شهاب ‏"‏ أخبرني من سمع جابر بن عبد الله‏:‏ كنت فيمن رجمه بالمصلى ‏"‏ وهؤلاء جعلوا الحديث كله عن جابر، ورواية معمر وصلها المؤلف في الحدود، وكذلك رواية يونس، وأما رواية ابن جريج فوصلها وتقدمت الإشارة إليها هناك أيضا حيث قال عقب رواية معمر ‏"‏ لم يقل يونس وابن جريج فصلى عليه ‏"‏ وتقدم شرحه مستوفى هناك ولله الحمد‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق، وأجازه الشعبي وابن أبي ليلى‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة، فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وقول من نزه المسجد عن ذلك أولى‏.‏

وفي الباب حديثان ضعيفان في النهي عن إقامة الحدود في المساجد انتهى‏.‏

والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة مرفوعا ‏"‏ جنبوا مساجدكم صبيانكم ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ وإقامة حدودكم ‏"‏ أخرجه البيهقي في الخلافيات، وأصله في ابن ماجه من حديث واثلة فقط وليس فيه ذكر الحدود وسنده ضعيف، ولابن ماجه من حديث ابن عمر رفعه ‏"‏ خصال لا تنبغي في المسجد‏:‏ لا يتخذ طريقا ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ ولا يضرب فيه حد ‏"‏ وسنده ضعيف أيضا‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ من كره إدخال الميت المسجد للصلاة عليه خشية أن يخرج منه شيء أولى بأن يقول لا يقام الحد في المسجد، إذ لا يؤمن خروج الدم من المجلود، وينبغي أن يكون في القتل أولى بالمنع‏.‏

*3*باب مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ لِلْخُصُومِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب موعظة الإمام الخصوم‏)‏ ذكر فيه حديث أم سلمة ‏"‏ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ‏"‏ وسيأتي شرحه بعد سبعة أبواب، ومناسبته للترجمة ظاهرة وبالله التوفيق‏.‏

*3*باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلَايَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ

وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ ائْتِ الْأَمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ فَقَالَ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ صَدَقْتَ قَالَ عُمَرُ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ وَقَالَ حَمَّادٌ إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ وَقَالَ الْحَكَمُ أَرْبَعًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء أو قبل ذلك للخصم‏)‏ أي هل يقضي له على خصمه بعلمه ذلك أو يشهد له عند حاكم آخر‏؟‏ هكذا أورد الترجمة مستفهما بغير جزم لقوة الخلاف في المسألة ‏"‏ وإن كان آخر كلامه يقتضي اختيار أن لا يحكم بعلمه فيها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال شريح القاضي‏)‏ هو ابن الحارث الماضي ذكره قريبا‏.‏

قوله ‏(‏وسأله إنسان الشهادة فقال‏:‏ ائت الأمير حتى أشهد لك‏)‏ وصله سفيان الثوري في جامعه عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبي قال ‏"‏ أشهد رجل شريحا جاء فخاصم إليه فقال‏:‏ ائت الأمير وأنا أشهد لك ‏"‏ وأخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن شبرمة قال‏:‏ قلت للشعبي‏:‏ يا أبا عمرو أرأيت رجلين استشهدا على شهادة فمات أحدهما واستقضى الآخر، فقال‏:‏ أتى شريح فيها وأنا جالس فقال‏:‏ ‏"‏ ائت الأمير وأنا أشهد لك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال عكرمة قال عمر لعبد الرحمن بن عوف‏:‏ لو رأيت رجلا على حد إلخ‏)‏ وصله الثوري أيضا عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة به، ووقع في الأصل ‏"‏ لو رأيت - بالفتح - وأنت أمير ‏"‏ وفي الجواب فقال ‏"‏ شهادتك ‏"‏ ووقع في الجامع بلفظ ‏"‏ أرأيت - بالفتح - لو رأيت بالضم - رجلا سرق أو زنا، قال‏:‏ أرى شهادتك ‏"‏ وقال ‏"‏ أصبت ‏"‏ بدل قوله ‏"‏ صدقت ‏"‏ وأخرجه ابن أبي شيبة عن شريك عن عبد الكريم بلفظ‏:‏ أرأيت لو كنت القاضي أو الوالي وأبصرت إنسانا على حد أكنت تقيمه عليه‏؟‏ قال‏:‏ لا، حتى يشهد معي غيري، قال أصبت لو قلت غير ذلك لم تجد وهو بضم المثناة وكسر الجيم وسكون الدال من الإجادة‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء عن أبي بكر الصديق نحو هذا وسأذكره بعد، وهذا السند منقطع بين عكرمة ومن ذكره عنه لأنه لم يدرك عبد الرحمن فضلا عن عمر، وهذا من المواضع التي ينبه عليها من يغتر بتعميم قولهم إن التعليق الجازم صحيح، فيجب تقييد ذلك بأن يزاد إلى من علق عنه ويبقى النظر فيما فوق ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وقال عمر‏:‏ لولا أن يقول الناس زاد عمر في ‏"‏ كتاب الله ‏"‏ لكتبت آية الرجم بيدي‏)‏ هذا طرف من حديث آخر أخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر كما تقدم التنبيه عليه في ‏"‏ باب الاعتراف بالزنا ‏"‏ في شرح حديثه الطويل في قصة الرجم الذي هو طرف من قصة بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، قال المهلب‏:‏ استشهد البخاري لقول عبد الرحمن بن عوف المذكور قبله بقول عمر هذا أنه كانت عنده شهادة في آية الرجم أنها من القرآن فلم يلحقها بنص المصحف بشهادته وحده، وأفصح في العلة في ذلك بقوله‏:‏ لولا أن يقال زاد عمر في ‏"‏ كتاب الله ‏"‏ فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع لئلا تجد حكام السوء سبيلا إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء‏.‏

قوله ‏(‏وأقر ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا أربعا فأمر برجمه، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أشهد من حضره‏)‏ هذا طرف من الحديث الذي ذكر قبل بباب، وقد تقدم موصولا من حديث أبي هريرة وحكاية الخلاف على أبي سلمة في اسم صحابيه‏.‏

قوله ‏(‏وقال حماد‏)‏ هو ابن أبي سليمان فقيه الكوفة‏.‏

قوله ‏(‏إذا أقر مرة عند الحاكم رجم‏)‏ وقال الحكم، هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر وهو فقيه الكوفة أيضا‏.‏

قوله ‏(‏أربعا‏)‏ أي لا يرجم حتى يصر أربع مرات كما في حديث ماعز، وقد وصله ابن أبي شيبة من طريق شعبة قال ‏"‏ سألت حمادا عن الرجل يقر بالزنا كم يرد‏؟‏ قال‏:‏ مرة‏.‏

قال‏:‏ وسألت الحكم فقال‏:‏ أربع مرات ‏"‏ وقد تقدم البحث في ذلك في شرح قصة ماعز في أبواب الرجم‏.‏

ثم ذكر حديث أبي قتادة في قصة سلب القتيل الذي قتله في غزوة حنين، وقد تقدم شرحه مستوفى هناك وقوله هنا ‏"‏ قال فأرضه منه ‏"‏ هي رواية الأكثر، وعند الكشمهيني ‏"‏ مني ‏"‏ وقوله ‏"‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي ‏"‏ في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني ‏"‏ فعلم ‏"‏ بفتح المهملة وكسر اللام بدل ‏"‏ فقام ‏"‏ وكذا لأكثر رواة الفربري، وكذا أخرجه أبو نعيم من رواية الحسن بن سفيان عن قتيبة، وهو المحفوظ في رواية قتيبة هذه، ومن ثم عقبها البخاري بقوله ‏"‏ وقال لي عبيد الله عن الليث‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إلي ‏"‏ ووقع في رواية كريمة ‏"‏ فأمر ‏"‏ بفتح الهمزة والميم بعدها راء، وعبد الله المذكور هو ابن صالح أبو صالح وهو كاتب الليث والبخاري يعتمده في الشواهد، ولو كانت رواية قتيبة بلفظ ‏"‏ فقام ‏"‏ لم يكن لذكر رواية عبد الله بن صالح معنى‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله في رواية قتيبة ‏"‏ فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يعني علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل المذكور، قال وهي وهم قال‏:‏ والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح بلفظ ‏"‏ فقام ‏"‏ قال وقد رد بعض الناس الحجة المذكورة فقال‏:‏ ليس في إقرار ماعز عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا حكمه بالرجم دون أن يشهد من حضره ولا في إعطائه السلب لأبي قتادة حجة للقضاء بالعلم لأن ماعزا إنما كان إقراره عند النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة، إذ معلوم أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يقعد وحده فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم أن يشهدهم على إقراره لسماعهم منه ذلك، وكذلك قصة أبي قتادة انتهى‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ لا حجة في قصة أبي قتادة، لأن معنى قوله ‏"‏ فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ علم بإقرار الخصم فحكم عليه، فهي حجة للمذهب، يعني الصائر إلى جواز القضاء بالعلم فيما يقع في مجلس الحكم‏.‏

وقال غيره‏:‏ ظاهر أول القصة يخالف آخرها، لأنه شرط البينة بالقتل على استحقاق السلب ثم دفع السلب لأبي قتادة بغير بينة وأجاب الكرماني بأن الخصم اعترف، يعني فقام مقام البينة، وبأن المال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي منه من شاء ويمنع من شاء‏.‏

قلت‏:‏ والأول أولى، والبينة لا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق يسمى بينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي قَالَ فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلَّا لَا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ عَنْ اللَّيْثِ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ الْحَاكِمُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لِآخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِي بِهِ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَلَا يَقْضِي فِي غَيْرِهَا وَقَالَ الْقَاسِمُ لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِي الظُّنُونِ وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظَّنَّ فَقَالَ إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقال أهل الحجاز‏:‏ الحاكم لا يقضي بعلمه، شهد بذلك في ولايته أو قبلها‏)‏ هو قول مالك، قال أبو علي الكرابيسي‏:‏ لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة، إذ لا يؤمن على التقى أن يتطرق إليه التهمة قال‏:‏ وأظنه ذهب إلى ما رواه ابن شهاب عن زبيد بن الصلت ‏"‏ أن أبا بكر الصديق قال‏:‏ لوجدت رجلا على حد ما أقمته عليه حتى يكون معي غيري ‏"‏ ثم ساقه بسند صحيح عن ابن شهاب قال‏:‏ ولا أحسب مالكا ذهب عليه هذا الحديث، فإن كان كذلك فقد قلد أكثر هذه الأمة فضلا وعلما‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون ذهب إلى الأثر المقدم ذكره عن عمر وعبد الرحمن بن عوف، قال‏:‏ ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب، ومن ثم قال الشافعي‏:‏ لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه انتهى‏.‏

وإذا كان هذا في الزمان الأول فما الظن بالمتأخر، فيتعين حسم مادة تجويز القضاء بالعلم في هذه الأزمان المتأخرة لكثرة من يتولى الحكم ممن لا يؤمن على ذلك، والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏ولو أقر خصم عنده لآخر بحق في مجلس القضاء فإنه لا يقضي عليه في قول بعضهم حتى يدعو بشاهدين فيحضرهما إقراره‏)‏ قال ابن التين‏:‏ ما ذكر عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه‏.‏

وقال بعض أصحابه‏:‏ يحكم بما علمه فيما أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ وأشهب لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد به عنده‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ مذهب مالك أن من حكم بعلمه يقضي على المشهور، إلا إن كان علمه حادثا بعد الشروع في المحاكمة فقولان، وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره وقبل الحكم عليه فإن ابن القاسم قال‏:‏ لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدا‏.‏

وقال ابن الماجشون‏:‏ يحكم بعلمه‏.‏

وفي المذهب تفاريع طويلة في ذلك‏.‏

ثم قال ابن المنير‏:‏ وقول من قال لا بد أن يشهد عليه في المجلس شاهدان يؤول إلى الحكم بالإقرار لأنه لا يخلوا أن يؤديا أو لا؛ إن أديا فلا بد من الأعذار، فإن أعذر احتيج إلى الإثبات وتسلسلت القضية، وإن لم يحتج رجع إلى الحكم بالإقرار، وإن لم يؤديا كالعدم‏.‏

وأجاب غيره أن فائدة ذلك ردع الخصم عن الإنكار، لأنه إذا عرف أن هناك من يشهد امتنع من الإنكار خشية التعزير، بخلاف ما إذا أمن ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعض أهل العراق‏:‏ ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضى به وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره‏)‏ بضم أوله من الرباعي‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه، ويوافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية‏.‏

قال ابن التين‏:‏ وجرى به العمل، ويوافقه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن سيرين قال‏:‏ ‏"‏ اعترف رجل عند شريح بأمر ثم أنكره فقضى عليه باعترافه، فقال‏:‏ أتقضي علي بغير بينة ‏"‏ فقال شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني نفسه‏.‏

قوله ‏(‏وقال آخرون منهم‏:‏ بل يقضي به لأنه مؤتمن‏)‏ بفتح الميم اسم مفعول، وإنما يراد بالشهادة معرفة الحق، فعلمه أكبر من الشهادة وهو قول أبي يوسف ومن تبعه ووافقهم الشافعي‏.‏

قال أبو علي الكرابيسي قال الشافعي بمصر فيما بلغني عنه‏:‏ إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل أن يلي القضاء أو بعدما ولي، فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل بطريق التغلب‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعضهم‏)‏ يعني أهل العراق ‏(‏يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي غيرها‏)‏ هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيما نقله الكرابيسي عنه إذا رأى الحاكم رجلا يزني مثلا لم يقض بعلمه حتى تكون بينة تشهد بذلك عنده، وهي رواية عن أحمد، قال أبو حنيفة‏:‏ القياس أنه بحكم في ذلك كله بعلمه، ولكن أدع القياس وأستحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اتفقوا على أنه يقضي في قبول الشاهد ورده بما يعلمه منه من تجريح أو تزكية‏.‏

ومحصل الآراء في هذه المسألة سبعة، ثالثها في زمن قضائه خاصة، رابعها في مجلس حكمه، خامسها في الأموال دون غيرها، سادسها مثله وفي القذف أيضا وهو عن بعض المالكية، سابعها في كل شيء إلا في الحدود وهذا هو الراجح عند الشافعية‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ لا يقضي الحاكم بعلمه، والأصل فيه عندنا الإجماع على أنه لا يحكم بعلمه في الحدود، ثم أحدث بعض الشافعية قولا مخرجا أنه يجوز فيها أيضا حين رأوا أنها لازمة لهم، كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف‏.‏

قوله ‏(‏وقال القاسم‏:‏ لا ينبغي للحاكم أن يقضي قضاء بعلمه‏)‏ في رواية الكشمهيني يمضي‏.‏

قوله ‏(‏دون علم غيره‏)‏ أي إذا كان وحده عالما به لا غيره‏.‏

قوله ‏(‏ولكن‏)‏ بالتشديد وفي نسخة بالتخفيف وتعرض بالرفع‏.‏

قوله ‏(‏وإيقاعا‏)‏ عطف على تعرضا أو نصب على أنه مفعول معه والعامل فيه متعلق الظرف، والقاسم المذكور كنت أظنه أنه ابن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة لأنه إذا أطلق في الفروع الفقهية انصرف الذهن إليه، لكن رأيت في رواية عن أبي ذر أنه القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وهو الذي تقدم ذكره قريبا في ‏"‏ باب الشهادة على الخط ‏"‏ فإن كان كذلك فقد خالف أصحابه الكوفيين ووافق أهل المدينة في هذا الحكم والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏وقد كره النبي صلى الله عليه وسلم الظن فقال‏:‏ إنما هذه صفية‏)‏ هو طرف من الحديث الذي وصله بعد، وقوله في الطريق الموصولة عن علي بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب وهو الملقب بزين العابدين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَلَمَّا رَجَعَتْ انْطَلَقَ مَعَهَا فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ قَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته صفية بنت حيي‏)‏ هذا صورته مرسل، ومن ثم عقبه البخاري بقوله ‏"‏ رواه شعيب وابن مسافر وابن أبي عتيق وإسحاق بن يحيى عن الزهري عن علي - أي ابن الحسين - عن صفية ‏"‏ يعني فوصلوه، فتحمل رواية إبراهيم بن سعد على أن علي بن حسين تلقاه عن صفية، وقد تقدم مثل ذلك في رواية سفيان عن الزهري مع شرح حديث صفية مستوفى في ‏"‏ كتاب الاعتكاف ‏"‏ فإنه ساقه هناك تاما وأورده هنا مختصرا‏.‏

ورواية شعيب وهو ابن أبي حمزة وصلها المصنف في الاعتكاف أيضا وفي ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ ورواية ابن مسافر وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي وصلها أيضا في الصوم وفي فرض الخمس، ورواية ابن أبي عتيق وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وصلها المصنف في الاعتكاف وأوردها في الأدب أيضا مقرونة برواية شعيب ورواية إسحاق بن يحيى وصلها الذهلي في ‏"‏ الزهريات ‏"‏ ورواه عن الزهري أيضا معمر فاختلف عليه في وصله وإرساله تقدم موصولا في صفة إبليس من رواية عبد الرزاق عنه ومرسلا في فرض الخمس من رواية هشام بن يوسف عن معمر وأوردها النسائي موصولة من رواية موسى بن أعين عن معمر ومرسلة من رواية ابن المبارك عنه ووصله أيضا عن الزهري عثمان ابن عمر بن موسى التيمي عند ابن ماجه وأبي عوانة في صحيحه، وعبد الرحمن بن إسحاق عند أبي عوانة أيضا، وهشيم عند سعيد بن منصور وآخرون‏.‏

ووجه الاستدلال بحديث صفية لمن منع الحكم بالعلم أنه صلى الله عليه وسلم كره أن يقع في قلب الأنصاريين من وسوسة الشيطان شيء، فمراعاة نفي التهمة عنه مع عصمته تقتضي مراعاة نفي التهمة عمن هو دونه، وقد تقدم في ‏"‏ باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه ‏"‏ بيان حجة من أجاز ومن منع بما يعني عن إعادته هنا‏.‏

*3*باب أَمْرِ الْوَالِي إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلَا يَتَعَاصَيَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا‏)‏ بمهملتين وياء تحتانية ولبعضهم بمعجمتين وموحدة‏.‏

ذكر فيه حديث أبي بردة ‏"‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبي يعني أبا موسى ومعاذ بن جبل ‏"‏ وقد تقدم الكلام عليه في ‏"‏ كتاب الديات ‏"‏ وقبل ذلك في أواخر المغازي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِي وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى إِنَّهُ يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا الْبِتْعُ فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَقَالَ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَوَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بشرا‏)‏ تقدم شرحه في المغازي‏.‏

قوله ‏(‏وتطاوعا‏)‏ أي توافقا في الحكم ولا تختلفا لأن ذلك يؤدي إلى اختلاف أتباعكما، فيفضي إلى العداوة ثم المحاربة، والمرجع في الاختلاف إلى ما جاء في ‏"‏ الكتاب والسنة ‏"‏ كما قال تعالى ‏(‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏)‏ وسيأتي مزيد بيان لذلك في ‏"‏ كتاب الاعتصام ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏وقال النضر وأبو داود ويزيد بن هارون ووكيع عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده‏)‏ يعني موصولا، ورواية النضر وأبي داود ووكيع تقدم الكلام عليها في أواخر المغازي في ‏"‏ باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن ‏"‏ ورواية يزيد بن هارون وصلها أبو عوانة في صحيحه والبيهقي، قال ابن بطال وغيره‏:‏ في الحديث الحض على الاتفاق لما فيه من ثبات المحبة والألفة والتعاون على الحق، وفيه جواز نصب قاضيين في بلد واحد فيقعد كل منهما في ناحية وقال ابن العربي‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم أشركهما فيما ولاهما، فكان ذلك أصلا في تولية اثنين قاضيين مشتركين في الولاية كذا جزم به؛ قال‏:‏ وفيه نظر لأن محل ذلك فيما إذا نفذ حكم كل منهما فيه، لكن قال ابن المنير‏:‏ يحتمل أن يكون ولاهما ليشتركا في الحكم في كل واقعة، ويحتمل أن يستقل كل منهما بما يحكم به، ويحتمل أن يكون لكل منهما عمل يخصه والله أعلم كيف كان‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ الظاهر اشتراكهما، لكن جاء في غير هذه الرواية أنه أقر كلا منهما على مخلاف، والمخلاف الكورة، وكان اليمين مخلافين‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو المعتمد، والرواية التي أشار إليها تقدمت في غزوة حنين باللفظ المذكور، وتقدم في المغازي أن كلا منهما كان إذا سار في عمله زار رفيقه، وكان عمل معاذ النجود وما تعالى من بلاد اليمن، وعمل أبي موسى التهائم وما انخفض منها، فعلى هذا فأمره صلى الله عليه وسلم لهما بأن يتطاوعا ولا يتخالفا محمول على ما إذا اتفقت قضية يحتاج الأمر فيها إلى اجتماعهما، وإلى ذلك أشار في الترجمة، ولا يلزم من قوله ‏"‏ تطاوعا ولا تختلفا ‏"‏ أن يكونا شريكين كما استدل به ابن العربي‏.‏

وقال أيضا‏:‏ فإذا اجتمعا فإن اتفقا في الحكم وإلا تباحثا حتى يتفقا على الصواب وإلا رفعا الأمر لمن فوقهما‏.‏

وفي الحديث الأمر بالتيسير في الأمور والرفق بالرعية وتحبيب الإيمان إليهم وترك الشدة لئلا تنفر قلوبهم ولا سيما فيمن كان قريب العهد بالإسلام أو قارب حد التكليف من الأطفال ليتمكن الإيمان من قلبه ويتمرن عليه، وكذلك الإنسان في تدريب نفسه على العمل إذا صدقت إرادته لا يشدد عليها بل يأخذها بالتدريج والتيسير حتى إذا أنست بحالة داومت عليها نقلها لحال آخر وزاد عليها أكثر من الأولى حتى يصل إلى قدر احتمالها ولا يكلفها بما لعلها تعجز عنه‏.‏

وفيه مشروعية الزيارة وإكرام الزائر وأفضلية معاذ في الفقه على أبي موسى، وقد جاء ‏"‏ أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ‏"‏ أخرجه الترمذي وغيره من حديث أنس‏.‏

*3*باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ

وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إجابة الحاكم الدعوة‏)‏ الأصل فيه عموم الخبر ورود الوعيد في الترك من قوله ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله وقد تقدم شرحه في أواخر النكاح‏.‏

وقال العلماء لا يجيب الحاكم دعوة شخص بعينه دون غيره من الرعية لما في ذلك من كسر قلب من لم يجبه، إلا أن كان له عذر في ترك الإجابة كرؤية المنكر الذي لا يجاب إلى إزالته، فلو كثرت بحيث تشغله عن الحكم الذي تعين عليه ساغ له أن لا يجيب‏.‏

قوله ‏(‏وقد أجاب عثمان بن عفان عبدا للمغيرة بن شعبة‏)‏ لم أقف على اسم العبد المذكور، والأثر رويناه موصولا في ‏"‏ فوائد أبي محمد بن صاعد ‏"‏ وفي ‏"‏ زوائد البر والصلة لابن المبارك ‏"‏ بسند صحيح إلى أبي عثمان النهدي ‏"‏ إن عثمان بن عفان أجاب عبدا للمغيرة بن شعبة دعاه وهو صائم فقال‏:‏ أردت أن أجيب الداعي وأدعو بالبركة‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى ‏(‏فكوا العاني‏)‏ بمهملة ثم نون هو الأسير ‏"‏ وأجيبوا الداعي ‏"‏ وهو طرف من حديث تقدم في الوليمة وغيرها بأتم من هذا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ عن مالك، لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة إلا في الوليمة خاصة، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحب إلينا لأنه أنزه، إلا أن يكون لأخ في الله أو خالص قرابة أو مودة‏.‏

وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم انتهى‏.‏

وقد تقدم تفصيل أحكام إجابة الدعوة في الوليمة وغيرها بما يعني عن إعادته‏.‏

*3*باب هَدَايَا الْعُمَّالِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب هدايا العمال‏)‏ هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أحمد وأبو عوانة من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن عروة عن أبي حميد رفعه ‏"‏ هدايا العمال غلول ‏"‏ وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن يحيى وهو من رواية إسماعيل عن الحجازيين وهي ضعيفة ويقال إنه اختصره من حديث الباب كما تقدم بيان ذلك في الهبة، وأورد فيه قصة ابن اللتبية وقد تقدم بعض شرحها في الهبة وفي الزكاة وفي ترك الحيل وفي الجمعة، وتقدم شيء مما يتعلق بالغلول في ‏"‏ كتاب الجهاد‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا قَالَ سُفْيَانُ قَصَّهُ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ وَزَادَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعَ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ مَعِي وَلَمْ يَقُلْ الزُّهْرِيُّ سَمِعَ أُذُنِي خُوَارٌ صَوْتٌ وَالْجُؤَارُ مِنْ تَجْأَرُونَ كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة‏.‏

قوله ‏(‏عن الزهري‏)‏ قد ذكر في آخره ما يدل على أن سفيان سمعه من الزهري وهو قوله ‏"‏ قال سفيان قصه علينا الزهري ‏"‏ ووقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان ‏"‏ حدثنا الزهري ‏"‏ وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وعند الإسماعيلي من طريق محمد بن منصور عن سفيان قال قصه علينا الزهري وحفظناه‏.‏

قوله ‏(‏أنه سمع عروة‏)‏ في رواية شعيب عن الزهري في الأيمان والنذور‏:‏ أخبرني عروة‏.‏

قوله ‏(‏استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسد‏)‏ بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، كذا وقع هنا وهو يوهم أنه بفتح السين نسبة إلى بني أسد بن خزيمة القبيلة المشهورة أو إلى بني أسد بن عبد العزى بطن من قريش‏.‏

وليس كذلك وإنما قلت إنه يوهمه لأن الأزدي تلازمه الألف واللام في الاستعمال أسماء وأنسابا، بخلاف بني أسد فبعير ألف ولام في الاسم، ووقع في رواية الأصيلي هنا ‏"‏ من بني الأسد ‏"‏ بزيادة الألف واللام ولا إشكال فيها مع سكون السين، وقد وقع في الهبة عن عبد الله بن محمد الجعفي عن سفيان ‏"‏ استعمل رجلا من الأزد ‏"‏ وكذا قال أحمد والحميدي في مسنديهما عن سفيان ومثله لمسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة وغيره عن سفيان، وفي نسخة بالسين المهملة بدل الزاي، ثم وجدت ما يزيل الإشكال إن ثبت، وذلك أن أصحاب الأنساب ذكروا أن في الأزد بطنا يقال لهم بنو أسد بالتحريك ينسبون إلى أسد ابن شريك بالمعجمة مصغرا ابن مالك بن عمرو بن مالك بن فهم، وبنو فهم بطن شهير من الأزد فيحتمل أن ابن الأتبية كان منهم فيصح أن يقال فيه الأزدي بسكون الزاي والأسدي بسكون السين وبفتحها من بني أسد بفتح السين ومن بني الأزد أو الأسد بالسكون فيهما لا غير، وذكروا ممن ينسب كذلك مسددا شيخ البخاري‏.‏

قوله ‏(‏يقال له ابن الأتبية‏)‏ كذا في رواية أبي ذر بفتح الهمزة والمثناة وكسر الموحدة، وفي الهامش باللام بدل الهمزة، كذلك ووقع كالأول لسائرهم وكذا تقدم في الهبة‏.‏

وفي رواية مسلم باللام المفتوحة ثم المثناة الساكنة وبعضهم يفتحها، وقد اختلف على هشام بن عروة عن أبيه أيضا أنه باللام أو بالهمزة كما سيأتي قريبا في ‏"‏ باب محاسبة الإمام عماله ‏"‏ بالهمزة، ووقع لمسلم باللام‏.‏

وقال عياض‏:‏ ضبطه الأصيلي بخطه في هذا الباب بضم اللام وسكون المثناة، وكذا قيده ابن السكن، قال‏:‏ وهو الصواب، وكذا قال ابن السمعاني ابن اللتبية بضم اللام وفتح المثناة ويقال بالهمز بدل اللام، وقد تقدم أن اسمه عبد الله واللتبية أمه لم نقف على تسميتها‏.‏

قوله ‏(‏على صدقة‏)‏ وقع في الهبة ‏"‏ على الصدقة ‏"‏ وكذا لمسلم، وتقدم في الزكاة تعيين من استعمل عليهم‏.‏

قوله ‏(‏فلما قدم قال‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي لي‏)‏ في رواية معمر عن الزهري عند مسلم ‏"‏ فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي ‏"‏ وفي رواية هشام الآتية قريبا ‏"‏ فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاسبه قال‏:‏ هذا الذي لكم، وهذه هدية أهديت لي ‏"‏ وفي رواية أبي الزناد عن عروة عند مسلم ‏"‏ فجاء بسواد كثير ‏"‏ وهو بفتح المهملة وتخفيف الواو ‏"‏ فجعل يقول هذا لكم وهذا أهدي لي ‏"‏ وأوله عند أبي عوانة ‏"‏ بعث مصدقا إلى اليمن ‏"‏ فذكره‏.‏

والمراد بالسواد الأشياء الكثيرة والأشخاص البارزة من حيوان وغيره، ولفظ السواد يطلق على كل شخص ولأبي نعيم في المستخرج من هذا الوجه ‏"‏ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتوفى منه ‏"‏ وهذا يدل على أن قوله في الرواية المذكورة ‏"‏ فلما جاء حاسبه ‏"‏ أي أمر من يحاسبه ويقبض منه‏.‏

وفي رواية أبي نعيم أيضا ‏"‏ فجعل يقول هذا لكم وهذا لي ‏"‏ حتى ميزه ‏"‏ قال يقولون من أين هذا لك‏؟‏ قال‏:‏ أهدي لي، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاهم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر‏)‏ زاد في رواية هشام قبل ذلك ‏"‏ فقال ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا‏؟‏ ثم قام فخطب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال سفيان‏:‏ أيضا فصعد المنبر‏)‏ يريد أن سفيان كان تارة يقول ‏"‏ قام ‏"‏ وتارة ‏"‏ صعد ‏"‏ ووقع في رواية شعيب ‏"‏ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم عشية بعد الصلاة ‏"‏ وفي رواية معمر عند مسلم ‏"‏ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا ‏"‏ وفي رواية أبي الزناد عند أبي نعيم ‏"‏ فصعد المنبر وهو مغضب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يقول ‏"‏ بحذف الفاء‏.‏

وفي رواية شعيب ‏"‏ فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول ‏"‏ ووقع في رواية هشام بن عروة ‏"‏ فإني أستعمل الرجل منكم على أمور مما ولاني الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏هذا لك وهذا لي‏)‏ في رواية عبد الله بن محمد ‏"‏ هذا لكم وهذا أهدي لي ‏"‏ وفي رواية هشام ‏"‏ فيقول هذا الذي لكم وهذه هدية أهديت لي ‏"‏ وقد تقدم ما في رواية أبي الزناد من الزيادة‏.‏

قوله ‏(‏فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي له أم لا‏)‏ ‏؟‏ في رواية هشام ‏"‏ حتى تأتيه هديته إن كان صادقا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏والذي نفسي بيده‏)‏ تقدم شرحه في أوائل ‏"‏ كتاب الأيمان والنذور‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة‏)‏ يعني لا يأتي بشيء يحوزه لنفسه، ووقع في رواية عبد الله ابن محمد ‏"‏ لا يأخذ أحد منها شيئا ‏"‏ وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة ‏"‏ لا ينال أحد منكم منها شيئا ‏"‏ وفي رواية أبي الزناد عند أبي عوانة ‏"‏ لا يغل منه شيئا إلا جاء به ‏"‏ وكذا وقع في رواية شعيب عند المصنف وفي رواية معمر عند الإسماعيلي كلاهما بلفظ ‏"‏ لا يغل ‏"‏ بضم الغين المعجمة من الغلول وأصله الخيانة في الغنيمة، ثم استعمل في كل خيانة‏.‏

قوله ‏(‏يحمله على رقبته‏)‏ في رواية أبي بكر ‏"‏ على عنقه ‏"‏ وفي رواية هشام ‏"‏ لا يأخذ أحدكم منها شيئا ‏"‏ قال هشام ‏"‏ بغير حقه ‏"‏ ولم يقع قوله ‏"‏ قال هشام ‏"‏ عند مسلم في رواية أبي أسامة المذكورة، وأورده من رواية ابن نمير عن هشام بدون قوله ‏"‏ بغير حقه ‏"‏ وهذا مشعر بإدراجها‏.‏

قوله ‏(‏إن كان‏)‏ أي الذي غله ‏(‏بعيرا له رغاء‏)‏ بضم الراء وتخفيف المعجمة مع المد هو صوت البعير‏.‏

قوله ‏(‏خوار‏)‏ يأتي ضبطه‏.‏

قوله ‏(‏أو شاة تيعر‏)‏ بفتح المثناة الفوقانية وسكون التحتانية بعدها مهملة مفتوحة ويجوز كسرها، ووقع عند ابن التين ‏"‏ أو شاة لها يعار ‏"‏ ويقال ‏"‏ يعار ‏"‏ قال وقال القزاز‏:‏ هو يعار بغير شك يعني بفتح التحتانية وتخفيف المهملة وهو صوت الشاة الشديد ‏"‏ قال‏:‏ واليعار ليس بشيء كذا فيه وكذا لم أره هنا في شيء من نسخ الصحيح‏.‏

وقال غيره‏:‏ اليعار بضم أوله صوت المعز، يعرت العنز تيعر بالكسر وبالفتح يعارا إذا صاحت‏.‏

قوله ‏(‏ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه‏)‏ وفي رواية عبد الله بن محمد ‏"‏ عفرة إبطه ‏"‏ بالإفراد، ولأن ذر ‏"‏ عفر ‏"‏ بفتح أوله ولبعضهم بفتح الفاء أيضا بلا هاء، وكالأول في رواية شعيب بلفظ ‏"‏ حتى إنا لننظر إلى ‏"‏ والعفرة بضم المهملة وسكون الفاء تقدم شرحها في ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ وحاصله أن العفر بياض ليس بالناصع‏.‏

قوله ‏(‏ألا‏)‏ بالتخفيف ‏(‏هل بلغت‏)‏ بالتشديد ‏(‏ثلاثا‏)‏ أي أعادها ثلاث مرات‏.‏

وفي رواية عبد الله بن محمد في الهبة ‏"‏ اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت ثلاثا ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ قال اللهم هل بلغت مرتين ‏"‏ ومثله لأبي داود ولم يقل ‏"‏ مرتين ‏"‏ وصرح في رواية الحميدي بالثالثة ‏"‏ اللهم بلغت ‏"‏ والمراد بلغت حكم الله إليكم امتثالا لقوله تعالى له ‏(‏بلغ‏)‏ وإشارة إلى ما يقع في القيامة من سؤال الأمم هل بلغهم أنبياؤهم ما أرسلوا به إليهم‏.‏

قوله ‏(‏وزاد هشام‏)‏ هو من مقول سفيان وليس تعليقا من البخاري، وقد وقع في رواية الحميدي عن سفيان ‏"‏ حدثنا الزهري وهشام بن عروة قالا حدثنا عروة بن الزبير ‏"‏ وساقه عنهما مساقا واحدا وقال في آخره ‏"‏ قال سفيان‏:‏ زاد فيه هشام‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏سمع أذني‏)‏ بفتح السين المهملة وكسر الميم وأذني بالإفراد بقرينة قوله ‏"‏ وأبصرته عيني ‏"‏ قال عياض‏:‏ بسكون الصاد المهملة والميم وفتح الراء والعين للأكثر وحكى عن سيبويه قال العرب تقول سمع أذني زيدا بضم العين، قال عياض والذي في ترك الحيل وجهه النصب على المصدر لأنه لم يذكر المفعول وقد تقدم القول في ذلك في ترك الحيل ووقع عند مسلم في رواية أبي أسامة ‏"‏ بصر وسمع ‏"‏ بالسكون فيهما والتثنية في أذني وعيني، وعنده في رواية ابن نمير بصر عيناي وسمع أذناي‏.‏

وفي رواية ابن جريج عن هشام عند أبي عوانة ‏"‏ بصر عينا أبي حميد وسمع أذناه‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يتعين أن يكون بضم الصاد وكسر الميم وفي رواية مسلم من طريق أبي الزناد عن عروة قلت لأبي حميد أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال من فيه إلى أذني، قال النووي‏:‏ معناه إنني أعلمه علما يقينا لا أشك في علمي به‏.‏

قوله ‏(‏وسلوا زيد بن ثابت فإنه سمعه معي‏)‏ في رواية الحميدي ‏"‏ فإنه كان حاضرا معي ‏"‏ وفي رواية الإسماعيلي من طريق معمر عن هشام ‏"‏ يشهد على ما أقول زيد بن ثابت يحك منكبه منكبي، رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي رأيت وشهد مثل الذي شهدت ‏"‏ وقد ذكرت في الأيمان والنذور أني لم أجده من حديث زيد بن ثابت‏.‏

قوله ‏(‏ولم يقل الزهري سمع أذني‏)‏ هو مقول سفيان أيضا‏.‏

قوله ‏(‏خوار صوت، والجؤار من تجأرون كصوت البقرة‏)‏ هكذا وقع هنا وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني والأول بضم الخاء المعجمة يفسر قوله في حديث أبي حميد ‏"‏ بقرة لها خوار ‏"‏ وهو في الرواية بالخاء المعجمة ولبعضهم بالجيم، وأشار إلى ما في سورة طه ‏{‏عجلا جسدا له خوار‏}‏ وهو صوت العجل، ويستعمل في غير البقر من الحيوان‏.‏

وأما قوله ‏"‏ والجؤار ‏"‏ فهو بضم الجيم وواو مهموزة ويجوز تسهيلها، وأشار بقوله ‏"‏ يجأرون ‏"‏ إلى ما في سورة قد أفلح ‏{‏بالعذاب إذا هم يجأرون‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي يرفعون أصواتهم كما يجأر الثور‏.‏

والحاصل أنه بالجيم وبالخاء المعجمة بمعنى، إلا أنه بالخاء للبقر وغيرها من الحيوان وبالجيم للبقر والناس قال الله تعالى ‏{‏فإليه تجأرون‏}‏ وفي قصة موسى ‏"‏ له جؤار إلى الله بالتلبية ‏"‏ أي صوت عال، وهو عند مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي العالية عن ابن عباس، وقيل أصله في البقر واستعمل في الناس، ولعل المصنف أشار أيضا إلى قراءة الأعمش، عجلا جسدا له جؤار بالجيم، وفي الحديث من الفوائد أن الإمام يخطب في الأمور المهمة، واستعمال ‏"‏ أما بعد ‏"‏ في الخطبة كما تقدم في الجمعة، ومشروعية محاسبة المؤتمن، وقد تقدم البحث فيه في الزكاة، ومنع العمال من قبول الهدية ممن له عليه حكم وتقدم تفصيل ذلك في ترك الحيل، ومحل ذلك إذا لم يأذن له الإمام في ذلك، لما أخرجه الترمذي من رواية قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال ‏"‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال‏:‏ لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول ‏"‏ وقال المهلب‏:‏ فيه أنها إذا أخذت تجعل في بيت المال ولا يختص العام منها إلا بما أذن له فيه الإمام، وهو مبني على أن ابن اللتبية أخذ منه ما ذكر أنه أهدى له وهو ظاهر السياق، ولا سيما في رواية معمر قبل، ولكن لم أر ذلك صريحا‏.‏

ونحوه قول ابن قدامة في ‏"‏ المغني ‏"‏ لما ذكر الرشوة‏:‏ وعليه ردها لصاحبها ويحتمل أن تجعل في بيت المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية برد الهدية التي أهديت له لمن أهداها‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه‏.‏

وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ يؤخذ من قوله ‏"‏ هلا جلس في بيت أبيه وأمه ‏"‏ جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك، كذا قال، ولا يخفى أن محل ذلك إذا لم يزد على العادة‏.‏

وفيه أن من رأى متأولا أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه ليحذر من الاغترار به‏.‏

وفيه جواز توبيخ المخطئ، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة والأمانة مع وجود من هو أفضل منه وفيه استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع وأبلغ في طمأنينته والله أعلم‏.‏

*3*باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِي وَاسْتِعْمَالِهِمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب استقضاء الموالي‏)‏ أي توليتهم القضاء ‏(‏واستعمالها‏)‏ أي على إمرة البلاد حربا أو خراجا أو صلاة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كان سالم مولى أبي حذيفة‏)‏ تقدم التعريف به في الرضاع‏.‏

قوله ‏(‏يؤم المهاجرين الأولين‏)‏ أي الذين سبقوا بالهجرة إلى المدينة‏.‏

قوله ‏(‏فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة‏)‏ أي ابن عبد الأسد المخزومي زوج أم سلمة أم المؤمنين قبل النبي صلى الله عليه وسلم وزيد أي ابن حارثة وعامر بن ربيعة أي العنزي بفتح المهملة والنون بعدها زاي وهو مولى عمر، وقد تقدم في ‏"‏ كتاب الصلاة ‏"‏ في أبواب الإمامة من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا، فأفاد سبب تقديمه للإمامة‏.‏

وقد تقدم شرحه مستوفى هناك في ‏"‏ باب إمامة المولى ‏"‏ والجواب عن استشكال عد أبي بكر الصديق فيهم لأنه إنما هاجر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في حديث ابن عمر أن ذلك كان قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت جواب البيهقي بأنه يحتمل أن يكون سالم استمر يؤمهم بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها، فيحتمل أن يقال فكان أبو بكر يصلي خلفه إذا جاء إلى قباء‏.‏

وقد تقدم في ‏"‏ باب الهجرة إلى المدينة ‏"‏ من حديث البراء بن عازب ‏"‏ أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، ثم قدم بلال وسعد وعمار، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين ‏"‏ وذكرت هناك أن ابن إسحاق سمى منهم ثلاثة عشر نفسا وأن البقية يحتمل أن يكونوا من الذين ذكرهم ابن جريج، وذكرت هناك الاختلاف فيمن قدم مهاجرا من المسلمين وأن الراجح أنه أبو سلمة بن عبد الأسد، فعلى هذا لا يدخل أبو بكر ولا أبو سلمة في العشرين المذكورين، وقد تقدم أيضا في أول الهجرة أن ابن إسحاق ذكر أن عامر بن ربيعة أول من هاجر ولا ينافي ذلك حديث الباب لأنه كان يأتم بسالم بعد أن هاجر سالم‏.‏

ومناسبة الحديث للترجمة من جهة تقديم سالم وهو مولى على من ذكر من الأحرار في إمامة الصلاة، ومن كان رضا في أمر الدين فهو رضا في أمور الدنيا، فيجوز أن يولي القضاء والإمرة على الحرب وعلى جباية الخراج، وأما الإمامة العظمى فمن شروط صحتها أن يكون الإمام قرشيا، وقد مضى البحث في ذلك في أول ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ ويدخل في هذا ما أخرجه مسلم من طريق أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال‏:‏ من استعملت عليهم‏؟‏ فقال‏:‏ ابن أبزى يعني ابن عبد الرحمن، قال‏:‏ استعملت عليهم مولى‏!‏ قال‏:‏ إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر‏:‏ إن نبيكم قد قال ‏"‏ إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين‏"‏‏.‏

*3*باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب العرفاء للناس‏)‏ بالمهملة والفاء جمع عريف بوزن عظيم، وهو القائم بأمر طائفة من الناس من عرفت بالضم وبالفتح على القوم أعرف بالضم فأنا عارف وعريف، أي وليت أمر سياستهم وحفظ أمورهم، وسمي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يعرف بها من فوقه عند الاحتياج‏.‏

وقيل العريف دون المنكب وهو دون الأمير‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ أَذِنَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي عِتْقِ سَبْيِ هَوَازِنَ إِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إسماعيل بن إبراهيم‏)‏ هو ابن عقبة، والسند كله مدنيون‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن شهاب‏)‏ في رواية محمد بن فليح عن موسى بن عقبة ‏"‏ قال لي ابن شهاب ‏"‏ أخرجها أبو نعيم‏.‏

قوله ‏(‏حين أذن لهم المسلمون في عتق سبي هوازن‏)‏ في رواية النسائي من طريق محمد بن فليح ‏"‏ حتى أذن له ‏"‏ بالأفراد وكذا للإسماعيلي وأبي نعيم، ووجه الأول أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه أو من أقامه في ذلك‏.‏

وهذه القطعة مقتطعة من قصة السبي الذي غنمه المسلمون في وقعة حنين ‏"‏ ونسبوا إلى هوازن لأنهم كانوا رأس تلك الوقعة ‏"‏ وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك وتفصيل الأمر فيه في وقعة حنين، وأخرجها هناك مطولة من رواية عقيل عن ابن شهاب وفيه ‏"‏ وإني رأيت أني أرد إليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب بذلك فليفعل، وفيه فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله فقال إنا لا ندري إلخ‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من أذن فيكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ منكم ‏"‏ وكذا للنسائي والإسماعيلي‏.‏

قوله ‏(‏فأخبروه أن الناس فد طيبوا وأذنوا‏)‏ تقدم في غزوة حنين ما يؤخذ منه أن نسبة الإذن وغيره إليهم حقيقة‏:‏ ولكن سبب ذلك مختلف فالأغلب الأكثر طابت أنفسهم أن يردوا السبي لأهله بغير عوض، وبعضهم رده بشرط التعويض، ومعنى ‏"‏ طيبوا ‏"‏ وهو بالتشديد حملوا أنفسهم على ترك السبايا حتى طابت بذلك، يقال طيبت نفسي بكذا إذا حملتها على السماح به من غير إكراه فطابت بذلك، ويقال طيبت بنفس فلان إذا كلمته بكلام يوافقه، وقيل هو من قولهم طاب الشيء إذا صار حلالا، وإنما عداه بالتضعيف، ويؤيده قوله ‏"‏ فمن أحب أن يطيب ذلك ‏"‏ أي يجعله حلالا، وقولهم ‏"‏ طيبنا ‏"‏ فيحمل عليه قول العرفاء أنهم طيبوا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ في الحديث مشروعية إقامة العرفاء لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر جميع الأمور بنفسه فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه، قال‏:‏ والأمر والنهي إذا توجه إلى الجميع يقع التوكل فيه من بعضهم فربما وقع التفريط، فإذا أقام على كل قوم عريفا لم يسع كل أحد إلا القيام بما أمر به‏.‏

وقال ابن المنير في الحاشية يستفاد منه جواز الحكم بالإقرار بغير إشهاد، فإن العرفاء ما أشهدوا على كل فرد فرد شاهدين بالرضا، وإنما أقر الناس عندهم وهم نواب للإمام فاعتبر ذلك وفيه أن الحاكم يرفع حكمه إلى حاكم آخر مشافهة فينفذه إذا كان كل منهما في محل ولايته‏.‏

قلت‏:‏ وقع في سير الواقدي أن أبارهم الغفاري كان يطوف على القبائل حتى جمع العرفاء واجتمع الأمناء على قول واحد‏.‏

وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنح إقامة العرفاء لأنه محمول - إن ثبت - على أن الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد وترك الإنصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية، والحديث المذكور أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معد يكرب رفعه ‏"‏ العرافة حق، ولا بد للناس من عريف، والعرفاء في النار ‏"‏ ولأحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن أبي علي عن أبي حازم عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ ويل للأمراء، ويل للعرفاء ‏"‏ قال الطيبي‏:‏ قوله ‏"‏ والعرفاء في النار ‏"‏ ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير آمن من الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا‏}‏ فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الأمراء بما توعد به العرفاء، فدل على أن المراد بذلك الإشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم وأن الكل على خطر، والاستثناء مقدر في الجميع‏.‏

وأما قوله ‏"‏ العرافة حق ‏"‏ فالمراد به أصل نصبهم، فإن المصلحة تقتضيه لما يحتاج إليه الأمير من المعاونة على ما يتعاطاه بنفسه، ويكفي في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث الباب‏.‏