فصل: باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب زَكَاةِ الْبَقَرِ

وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ وَيُقَالُ جُؤَارٌ تَجْأَرُونَ تَرْفَعُونَ أَصْوَاتَكُمْ كَمَا تَجْأَرُ الْبَقَرَةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب زكاة البقر‏)‏ البقر اسم جنس يكون للمذكر والمؤنث، اشتق من بقرت الشيء إذا شققته لأنها تبقر الأرض بالحراثة‏.‏

قال الزين بن المنير‏:‏ أخر زكاة البقر لأنها أقل النعم وجودا ونصبا، ولم يذكر في الباب شيئا مما يتعلق بنصابها لكون ذلك لم يقع على شرطه، فتقدير الترجمة إيجاب زكاة البقر، لأن جملة ما ذكره في الباب يدل على ذلك من جهة الوعيد على تركها، إذ لا يتوعد على ترك غير الواجب‏.‏

قال ابن رشيد‏:‏ وهذا الدليل يحتاج إلى مقدمة، وهو أنه ليس في البقر حق واجب سوى الزكاة، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل الزكاة حيث قال ‏"‏ باب إثم مانع الزكاة ‏"‏ وذكر فيه حديث أبي هريرة لكن ليس فيه ذكر البقر، ومن ثم أورد في هذا الباب حديث أبي ذر، وأشار إلى أن ذكر البقر وقع أيضا في طريق أخرى في حديث أبي هريرة والله أعلم‏.‏

وزعم ابن بطال أن حديث معاذ المرفوع ‏"‏ إن في كل ثلاثين بقرة تبيعا وفي كل أربعين مسنة ‏"‏ متصل صحيح وأن مثله في كتاب الصدقات لأبي بكر وعمر، وفي كلامه نظر‏:‏ أما حديث معاذ فأخرجه أصحاب السنن وقال الترمذي حسن وأخرجه الحاكم في المستدرك، وفي الحكم بصحته نظر لأن مسروقا لم يلق معاذا وإنما حسنه الترمذي لشواهده، ففي الموطأ من طريق طاوس عن معاذ نحوه، وطاوس عن معاذ منقطع أيضا، وفي الباب عن علي عند أبي داود، وأما قوله إن مثله في كتاب الصدقة لأبي بكر فوهم منه لأن ذكر البقر لم يقع في شيء من طرق حديث أبي بكر، نعم هو في كتاب عمر والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أبو حميد‏)‏ هو الساعدي، وهذا طرف من حديث أورده المصنف موصولا من طرق، وهذا القدر وقع عنده موصولا في كتاب ترك الحيل في أثناء الحديث المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأعرفن‏)‏ أي لأعرفنكم غدا هذه الحالة‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ لا أعرفن ‏"‏ بحرف النفي أي ما ينبغي أن تكونوا على هذه الحال فأعرفكم بها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما جاء الله رجل‏)‏ ما مصدرية أي مجيء رجل إلى الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لها خوار‏)‏ بضم المعجمة وتخفيف الواو‏:‏ صوت البقر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقال جؤار‏)‏ هذا كلام البخاري، يريد بذلك أن هذا الحرف جاء بالخاء المعجمة وتخفيف الواو وبالجيم والواو المهموزة، ثم فسره فقال‏:‏ تجأرون ترفعون أصواتكم، وهذه عادة البخاري إذا مرت به لفظة غريبة توافق كلمة في القرآن نقل تفسير تلك الكلمة التي من القرآن، والتفسير المذكور رواه ابن أبي حاتم عن السدي، وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ‏"‏ يجأرون ‏"‏ قال‏:‏ يستغيثون‏.‏

وقال القزاز‏:‏ الخوار بالمعجمة والجؤار بالجيم بمعنى واحد في البقر‏.‏

وقال ابن سيده‏:‏ خار الرجل رفع صوته بتضرع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَوْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ أَوْ كَمَا حَلَفَ مَا مِنْ رَجُلٍ تَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ رَوَاهُ بُكَيْرٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن المعرور بن سويد‏)‏ هو بالعين المهملة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال انتهيت إليه‏)‏ هو مقول المعرور والضمير يعود على أبي ذر وهو الحالف، و قوله‏:‏ ‏(‏أو كما حلف‏)‏ يشير بذلك إلى أنه لم يضبط اللفظ الذي حلف به‏.‏

وقوله ‏"‏أعظم ‏"‏ بالنصب على الحال و ‏(‏أسمنه‏)‏ عطفه عليه‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏جازت‏)‏ أي مرت، و ‏(‏ردت‏)‏ أي أعيدت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يؤدي حقها‏)‏ في رواية مسلم من طريق وكيع وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش لا يؤدي زكاتها، وهو أصرح في مقصود الترجمة‏.‏

وقد تقدم الكلام على بقية المتن في أوائل الزكاة، واستدل بقوله ‏"‏ يكون له إبل أو بقر ‏"‏ ففي مستواه زكاة البقر والإبل في النصاب، ولا دلالة فيه لأنه قرن معه الغنم وليس نصابها مثل نصاب الإبل اتفاقا‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أخرج مسلم في أول هذا الحديث قصة فيها ‏"‏ هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا ‏"‏ وقد أفرد البخاري هذه القطعة فأخرجها في كتاب الأيمان والنذور بهذا الإسناد ولم يذكر هناك القدر الذي ذكره هنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رواه بكير‏)‏ يعني ابن عبد الله بن الأشج، ومراد البخاري بذلك موافقة هذه الرواية لحديث أبي ذر في ذكر البقر لأن الحديثين مستويان في جميع ما وردا فيه، وقد أخرجه مسلم موصولا من طريق بكير بهذا الإسناد مطولا‏.‏

*3*باب الزَّكَاةِ عَلَى الْأَقَارِبِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَقَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الزكاة على الأقارب‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ ووجه استدلاله لذلك بأحاديث الباب أن صدقة التطوع على الأقارب لما لم ينقص أجرها بوقوعها موقع الصدقة والصلة معا كانت صدقة الواجب كذلك، لكن لا يلزم من جواز صدقة التطوع على من يلزم المرء نفقته أن تكون الصدقة الواجبة كذلك‏.‏

وقد اعترضه الإسماعيلي بأن الذي في الأحاديث التي ذكرها مطلق الصدقة لا الصدقة الواجبة فلا يتم استدلاله إلا إن أراد الاستدلال على أن الأقارب في الزكاة أحق بها إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم صرف الصدقة المتطوع بها إلى الأقارب أفضل فلذلك حينئذ له وجه‏.‏

قال ابن رشيد‏:‏ قد يؤخذ ما اختاره المصنف من حديث أبي طلحة فيما فهمه من الآية، وذلك أن النفقة في قوله‏:‏ ‏(‏حتى تنفقوا‏)‏ أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، فعمل بها أبو طلحة في فرد من أفراده، فيجوز أن يعمل بها في بقية مفرداته، ولا يعارضها قوله تعالى ‏(‏إنما الصدقات للفقراء‏)‏ الآية لأنها تدل على حصر الصدقة الواجبة في المذكورين‏.‏

وأما صنيع أبي طلحة فبدل على تقديم ذوي القربى إذا اتصفوا بصفة من صفات أهل الصدقة على غيرهم، وسيأتي ذكر من يستثنى من الأقارب في الصدقة الواجبة بعد بابين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال النبي صلى الله عليه وسلم له أجران أجر القرابة وأجر الصدقة‏)‏ هذا طرف من حديث فيه قصة لامرأة ابن مسعود، وسيأتي موصولا بعد ثلاثة أبواب‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب حديثين‏:‏ حديث أنس في تصدق أبي طلحة بأرضه، وحديث أبي سعيد في قصة امرأة ابن مسعود وغير ذلك‏.‏

فأما حديث أنس فسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الوقف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ تَابَعَهُ رَوْحٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ مَالِكٍ رَايِحٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏"‏بيرحاء ‏"‏ بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمد، وجاء في ضبطه أوجه كثيرة جمعها ابن الأثير في النهاية فقال‏:‏ يروى بفتح الباء وبكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر فهذه ثمان لغات‏.‏

وفي رواية حماد بن سلمة ‏"‏ بريحا ‏"‏ بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية، وفي سنن أبي داود ‏"‏ باريحا ‏"‏ مثله لكن بزيادة ألف‏.‏

وقال الباجي‏:‏ أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور، وكذا جزم به الصغاني وقال‏:‏ إنه فيعلى من البراح، قال‏:‏ ومن ذكره بكسر الموحدة وظن أنها بئر من آبار المدينة فقد صحف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه روح‏)‏ يعني عن مالك في قوله ‏"‏ رابح ‏"‏ بالموحدة وسيأتي من طريقه موصولا في البيوع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك زايح‏)‏ يعني بالتحتانية، أما رواية يحيى فستأتي موصولة في الوكالة وعزاها مغلطاي لتخريج الدارقطني فأبعد، وأما رواية إسماعيل وهو ابن أبي أويس فوصلها المصنف في التفسير، وقد وهم صاحب ‏"‏ المطالع ‏"‏ فقال‏:‏ رواية يحيى بن يحيى بالموحدة، وكأنه اشتبه عليه الأندلسي بالنيسابوري، فالذي عناه هو الأندلسي والذي عناه البخاري النيسابوري، قال الداني في أطرافه‏:‏ رواه يحيى بن يحيى الأندلسي بالموحدة وتابعه جماعة، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري بالمثناة وتابعه إسماعيل وابن وهب، ورواه القعنبي بالشك ا هـ‏.‏

ورواية القعنبي وصلها البخاري في الأشربة بالشك كما قال والرواية الأولى واضحة من الربح أي ذو ربح، وقيل هو فاعل بمعنى مفعول أي هو مال مربوح فيه، وأما الثانية فمعناها رائح عليه أجره، قال ابن بطال‏:‏ والمعنى أن مسافته قريبة وذلك أنفس الأموال، وقيل معناه يروح بالأجر ويغدو به واكتفى بالرواح عن الغدو‏.‏

وادعى الإسماعيلي أن من رواها بالتحتانية فقد صحف والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ تَصَدَّقُوا فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ وَبِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ زَيْنَبُ فَقَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ فَقِيلَ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ نَعَمْ ائْذَنُوا لَهَا فَأُذِنَ لَهَا قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد تقدم الكلام على صدره مستوفي في كتاب الحيض، وبقية ما فيه من قصة امرأة ابن مسعود يأتي الكلام عليه بعد بابين مستوفي إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله فيه ‏"‏ فقيل يا رسول الله هذه زينب ‏"‏ القائل هو بلال كما سيأتي، وقوله ‏"‏ائذنوا لها فأذن لها فقالت يا رسول الله إلخ ‏"‏ لم يبين أبو سعيد ممن سمع ذلك، فإن يكن حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم حال المراجعة المذكورة فهو من مسنده وإلا فيحتمل أن يكون حمله عن زينب صاحبه القصة‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ليس على المسلم في فرسه صدقة‏)‏ وقال في الذي يليه ‏(‏ليس على المسلم في عبده صدقة‏)‏ ثم أورد حديث أبي هريرة بلفظ الترجمتين مجموعا من طريقين، لكن في الأولى بلفظ ‏"‏ غلامه ‏"‏ بدل عبده، قال ابن رشيد‏:‏ أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب، ولا خلاف أيضا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين يؤخذ منها بالقيمة‏.‏

ولعل البخاري أشار إلى حديث علي مرفوعا ‏"‏ قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة ‏"‏ الحديث أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن، والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذكرانا وإناثا نظرا إلى النسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثم عنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو يقوم ويخرج ربع العشر، واستدل عليه بهذا الحديث‏.‏

وأجيب بحمل النفي فيه على الرقبة لا على القيمة، واستدل به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقا ولو كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ليس على المسلم في فرسه صدقة‏)‏ وقال في الذي يليه ‏(‏ليس على المسلم في عبده صدقة‏)‏ ثم أورد حديث أبي هريرة بلفظ الترجمتين مجموعا من طريقين، لكن في الأولى بلفظ ‏"‏ غلامه ‏"‏ بدل عبده، قال ابن رشيد‏:‏ أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد، إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب، ولا خلاف أيضا أنها لا تؤخذ من الرقاب، وإنما قال بعض الكوفيين يؤخذ منها بالقيمة‏.‏

ولعل البخاري أشار إلى حديث علي مرفوعا ‏"‏ قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة ‏"‏ الحديث أخرجه أبو داود وغيره وإسناده حسن، والخلاف في ذلك عن أبي حنيفة إذا كانت الخيل ذكرانا وإناثا نظرا إلى النسل، فإذا انفردت فعنه روايتان، ثم عنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو يقوم ويخرج ربع العشر، واستدل عليه بهذا الحديث‏.‏

وأجيب بحمل النفي فيه على الرقبة لا على القيمة، واستدل به من قال من أهل الظاهر بعدم وجوب الزكاة فيهما مطلقا ولو كانا للتجارة، وأجيبوا بأن زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَتَامَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصدقة على اليتامى‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ عبر بالصدقة دون الزكاة لتردد الخبر بين صدقه الفرض والتطوع، لكون ذكر اليتيم جاء متوسطا بين المسكين وابن السبيل وهما من مصارف الزكاة‏.‏

وقال ابن رشيد‏:‏ لما قال ‏"‏ باب ليس على المسلم في فرسه صدقة ‏"‏ علم أنه يريد الواجبة إذ لا خلاف في التطوع، فلما قال ‏"‏ الصدقة على اليتامى ‏"‏ أحال على معهود‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ فَقَالَ إِنِّي مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ مَا شَأْنُكَ تُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُكَلِّمُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ قَالَ فَمَسَحَ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ أَيْنَ السَّائِلُ وَكَأَنَّهُ حَمِدَهُ فَقَالَ إِنَّهُ لَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضْرَاءِ أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ وَرَتَعَتْ وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السَّبِيلِ أَوْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ شَهِيدًا عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا هشام‏)‏ هو الـدستوائي ‏(‏عن يحيى‏)‏ هو ابن أبي كثير، وسيأتي الكلام على المتن مستوفي في الرقاق‏.‏

وقوله في هذه الطريق‏:‏ ‏(‏أن مما أخاف‏)‏ في رواية الحموي ‏"‏ إني مما أخاف ‏"‏ و قوله‏:‏ ‏(‏فرأينا أنه ينزل عليه‏)‏ في رواية الكشمهيني ‏"‏ فأرينا ‏"‏ بتقديم الهمزة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إلا آكلة الخضر‏)‏ في رواية الكشمهيني ‏"‏ الخضراء ‏"‏ بزيادة ألف، و قوله‏:‏ ‏(‏أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ شك من يحيى‏.‏

وسيأتي في الجهاد من طريق فليح عن هلال بلفظ ‏"‏ فجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين وابن السبيل‏"‏‏.‏

*3*باب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأَيْتَامِ فِي الْحَجْرِ

قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، قاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يشير إلى حديثه السابق موصولا في ‏"‏ باب الزكاة على الأقارب ‏"‏ وستذكر ما فيه في هذا الحديث‏.‏

قال ابن رشيد‏.‏

أعاد الأيتام في هذه الترجمة لعموم الأولى وخصوص الثانية، ومحمل الحديثين في وجه الاستدلال بهما على العموم لأن الإعطاء أعم من كونه واجبا أو مندوبا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ ح فَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ سَوَاءً قَالَتْ كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا قَالَ فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا سَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي وَقُلْنَا لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَنْ هُمَا قَالَ زَيْنَبُ قَالَ أَيُّ الزَّيَانِبِ قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عمرو بن الحارث‏)‏ هو ابن أبي ضرار بكسر المعجمة الخزاعي ثم المصطلقي أخو جويرية بنت الحارث روج النبي صلى الله عليه وسلم له صحبة، وروى هنا عن صحابية، ففي الإسناد تابعي عن تابعي الأعمش عن شقيق، وصحابي عن صحابي عمرو عن زينب وهي بنت معاوية - ويقال بنت عبد الله بن معاوية - ابن عتاب الثقفية ويقال لها أيضا رائطة، وقع ذلك في ‏"‏ صحيح ابن حبان ‏"‏ في نحو هذه القصة، ويقال هما ثنتان عند الأكثر وممن جزم به ابن سعد‏.‏

وقال الكلاباذي رائطة هي المعروفة بزينب، وبهذا جزم الطحاوي فقال رائطة هي زينب لا يعلم أن لعبد الله امرأة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها، ووقع عند الترمذي عن هناد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن الحارث بن المصطلق عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن امرأة عبد الله فزاد في الإسناد رجلا، والموصوف بكونه ابن أخي زينب هو عمرو بن الحارث نفسه، وكان أباه كان أخا زينب لأمها لأنها ثقفية وهو خزاعي‏.‏

ووقع عند الترمذي أيضا من طريق شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن زينب، فجعله عبد الله بن عمرو، هكذا جزم به المزي وعقد لعبد الله بن عمرو في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ ترجمة لم يزد فيها على ما في هذا الحديث، ولم أقف على ذلك في الترمذي بل وقفت على عدة نسخ منه ليس فيها إلا عمرو بن الحارث، وقد حكى ابن القطان الخلاف فيه على أبي معاوية وشعبة، وخالف الترمذي في ترجيح رواية شعبة في قوله ‏"‏ عن عمرو بن الحارث عن ابن أخي زينب ‏"‏ لانفراد أبي معاوية بذلك‏.‏

قال ابن القطان‏:‏ لا يضره الانفراد لأنه حافظ، وقد وافقه حفص بن غياث في رواية عنه وقد زاد في الإسناد رجلا، لكن يلزم من ذلك أن يتوقف في صحة الإسناد لأن ابن أخي زينب حينئذ لا يعرف حاله‏.‏

وقد حكى الترمذي في ‏"‏ العلل المفردات ‏"‏ أنه سأل البخاري عنه فحكم على رواية أبي معاوية بالوهم وأن الصواب رواية الجماعة عن الأعمش عن شقيق عن عمرو بن الحارث ابن أخي زينب‏.‏

قلت‏:‏ ووافقه منصور عن شقيق أخرجه أحمد، فإن كان محفوظا فلعل أبا وائل حمله عن الأب والابن، وإلا فالمحفوظ عن عمرو بن الحارث، وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة على الصواب فقال ‏"‏ عمرو بن الحارث‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال فذكرته لإبراهيم‏)‏ القائل هو الأعمش، وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي، وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود، ففي هذه الطريق ثلاثة من التابعين، ورجال الطريقين كلهم كوفيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنت في المسجد فرأيت إلخ‏)‏ في هذا زيادة على ما في حديث أبي سعيد المتقدم، وبيان السبب في سؤالها ذلك‏.‏

ولم أقف على تسمية الأيتام الذين كانوا في حجرها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوجدت امرأة من الأنصار‏)‏ في رواية الطيالسي المذكورة ‏"‏ فإذا امرأة من الأنصار يقال لها زينب ‏"‏ وكذا أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية عن الأعمش، وزاد من وجه آخر عن علقمة عن عبد الله قال ‏"‏ انطلقت امرأة عبد الله يعني ابن مسعود وامرأة أبي مسعود يعني عقبه بن عمرو الأنصاري‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى هزيلة بنت ثابت بن ثعلبة الخزرجية فلعل لها اسمين، أو وهم من سماها زينب انتقالا من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأيتام لي في حجري‏)‏ في رواية النسائي المذكورة ‏"‏ على أزواجنا وأيتام في حجورنا ‏"‏ وفي رواية الطيالسي المذكورة أنهم بنو أخيها وبنو أختها‏.‏

وللنسائي من طريق علقمة ‏"‏ لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها أيتام، وللأخرى فضل مال وزوج خفيف ذات اليد ‏"‏ وهذا القول كناية عن الفقر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولها أجران‏:‏ أجر القرابة وأجر الصدقة‏)‏ أي أجر صلة الرحم وأجر منفعة الصدقة، وهذا ظاهره أنها لم تشافهه بالسؤال ولا شافهها بالجواب، وحديث أبي سعيد السابق ببابين يدل على أنها شافهته وشافهها لقولها فيه ‏"‏ يا نبي الله إنك أمرت ‏"‏ وقوله فيه ‏"‏ صدق زوجك ‏"‏ فيحتمل أن يكونا قصتين، ويحتمل في الجمع بينهما أن يقال تحمل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال والله أعلم‏.‏

واستدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد كذا أطلق بعضهم ورواية المنع عنه مقيدة بالوارث وعبارة الجوزقي‏:‏ ولا لمن تلزمه مؤونته، فشرحه ابن قدامة بما قيدته قال‏:‏ والأظهر الجواز مطلقا إلا للأبوين والولد، وحملوا الصدقة في الحديث على الواجبة لقولها ‏"‏ أتجزئ عني ‏"‏ وبه جزم المازري، وتعقبه عياض بأن قوله ‏"‏ ولو من حليكن ‏"‏ وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان على التطوع، وبه جزم النووي وتأولوا لقوله ‏"‏ أتجزئ عني ‏"‏ أي في الوقاية من النار كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود‏.‏

وما أشار إليه من الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي حنيفة، فأخرج من طريق رائطة امرأة ابن مسعود أنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق عليه وعلى ولده، قال‏:‏ فهذا يدل على أنها صدقة تطوع، وأما الحلي فإنما يحتج به على من لا يوجب فيه الزكاة، وأما من يوجب فلا‏.‏

وقد روى الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة قال‏:‏ قال ابن مسعود لامرأته في حليها ‏"‏ إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة ‏"‏ فكيف يحتج على الطحاوي بما لا يقول به، لكن تمسك الطحاوي بقولها في حديث أبي سعيد السابق ‏"‏ وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به ‏"‏ لأن الحلي ولو قيل بوجوب الزكاة فيه إلا أنها لا تجب في جميعه، كذا قال وهو متعقب، لأنها وإن لم تجب في عينه فقد تجب فيه بمعنى أنه قدر النصاب الذي وجب عليها إخراجه، واحتجوا أيضا بأن ظاهر قوله في حديث أبي سعيد المذكور ‏"‏ زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم ‏"‏ دال على أنها صدقة تطوع، لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره، وفي هذا الاحتجاج نظر لأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من يلزم المعطي نفقته والأم لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه‏.‏

وقال ابن التيمي‏:‏ قوله ‏"‏ وولدك ‏"‏ محمول على أن الإضافة للتربية لا للولادة فكأنه ولده من غيرها‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ اعتل من منعها من إعطائها زكاتها لزوجها بأنها تعود إليها في النفقة فكأنها ما خرجت عنها، وجوابه أن احتمال رجوع الصدقة إليها واقع في التطوع أيضا، ويؤيد المذهب الأول أن ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم، فلما ذكرت الصدقة ولم يستفصلها عن تطوع ولا واجب فكأنه قال‏:‏ تجزئ عنك فرضا كان أو تطوعا‏.‏

وأما ولدها فليس في الحديث تصريح بأنها تعطي ولدها من زكاتها، بل معناه أنها إذا أعطت زوجها فأنفقه على ولدها كانوا أحق من الأجانب، فالإجزاء يقع بالإعطاء للزوج والوصول إلى الولد بعد بلوغ الزكاة محلها‏.‏

والذي يظهر لي أنهما قضيتان‏:‏ إحداهما في سؤالها عن تصدقها بحليها على زوجها وولده، والأخرى في سؤالها عن النفقة والله أعلم‏.‏

وفي الحديث الحث على الصدقة على الأقارب، وهو محمول في الواجبة على من لا يلزم المعطي نفقته منهم، واختلف في علة المنع فقيل لأن أخذهم لها يصيرهم أغنياء فيسقط بذلك نفقتهم عن المعطي، أو لأنهم أغنياء بإنفاقه عليهم، والزكاة لا تصرف لغني، وعن الحسن وطاوس لا يعطي قرابته من الزكاة شيئا وهو رواية عن مالك‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن الزكاة، وأما إعطاؤها للزوج فاختلف فيه كما سبق‏.‏

وفيه الحث على صلة الرحم وجواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها‏.‏

وفيه عظة النساء، وترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء، والتحدث مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة، والتخويف من المؤاخذة بالذنوب وما يتوقع بسببها من العذاب‏.‏

وفيه فتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه، وطلب الترقي في تحمل العلم‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ليس إخبار بلال باسم المرأتين بعد أن استكتمتاه بإذاعة سر ولا كشف أمانة لوجهين‏:‏ أحدهما أنهما لم تلزماه بذلك وإنما علم أنهما رأتا أن لا ضرورة تحوج إلى كتمانهما‏.‏

ثانيهما أنه أخبر بذلك جوابا لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لكون إجابته أوجب من التمسك بما أمرتاه به من الكتمان، وهذا كله بناء على أنه التزم لهما بذلك‏.‏

ويحتمل أن تكونا سألتاه، ولا يجب إسعاف كل سائل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أُنْفِقَ عَلَى بَنِي أَبِي سَلَمَةَ إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ فَقَالَ أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبدة‏)‏ هو ابن سليمان، وهشام هو ابن عروة‏.‏

وفي الإسناد تابعي عن تابعي‏:‏ هشام عن أبيه، وصحابية عن صحابية‏:‏ زينب عن أمها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على بني أبي سلمة‏)‏ أي ابن عبد الأسد، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها النبي ولها من أبي سلمة عمرو ومحمد وزينب ودرة، وليس في حديث أم سلمة تصريح بأن الذي كانت تنفقه عليهم من الزكاة، فكان القدر المشترك من الحديث حصول الإنفاق على الأيتام والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلك أجر ما أنفقت عليهم‏)‏ رواه الأكثر بالإضافة على أن تكون ‏"‏ ما ‏"‏ موصولة، وجوز أبو جعفر الغرناطي نزيل حلب تنوين ‏"‏ أجر ‏"‏ على أن تكون ‏"‏ ما ‏"‏ ظرفية، ذكر ذلك لنا عنه الشيخ برهان الدين المحدث بحلب‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنْ الزَّكَاةِ جَازَ وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ تَلَا إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ الْآيَةَ فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لَاسٍ حَمَلَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله‏)‏ قال الزين بن المنير‏:‏ اقتطع البخاري هذه الآية من التفسير للاحتياج إليها في بيان مصاريف الزكاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن ابن عباس يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج‏)‏ وصله أبو عبيد في ‏"‏ كتاب الأموال ‏"‏ من طريق حسان بن أبي الأشرس عن مجاهد عنه أنه كان لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة أخرجه عن أبي معاوية عن الأعمش عنه‏.‏

وأخرج عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال ‏"‏ أعتق من زكاة مالك‏"‏، وتابع أبا معاوية عبدة بن سليمان رويناه في ‏"‏ فوائد يحيى بن معين ‏"‏ رواية أبي بكر بن علي المروزي عنه عن عبدة عن الأعمش عن ابن أبي الأشرس ولفظه ‏"‏ كان يخرج زكاته ثم يقول جهزوا منها إلى الحج ‏"‏ وقال الميموني‏:‏ قلت لأبي عبد الله يشتري الرجل من زكاة ماله الرقاب فيعتق ويجعل في ابن السبيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ابن عباس يقول ذلك ولا أعلم شيئا يدفعه‏.‏

وقال الخلال‏:‏ أخبرنا أحمد بن هاشم قال قال أحمد‏:‏ كنت أرى أن يعتق من الزكاة، ثم كففت عن ذلك لأني لم أره يصح‏.‏

قال حرب‏:‏ فاحتج عليه بحديث ابن عباس، فقال‏:‏ هو مضطرب انتهى‏.‏

وإنما وصفه بالاضطراب للاختلاف في إسناده على الأعمش كما ترى، ولهذا لم يجزم به البخاري‏.‏

وقد اختلف السلف في تفسير قوله تعالى ‏(‏وفي الرقاب‏)‏ فقيل‏:‏ المراد شراء الرقبة لتعتق، وهو رواية ابن القاسم عن مالك واختيار أبي عبيد وأبي ثور وقول إسحاق وإليه مال البخاري وابن المنذر‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ أعلى ما جاء فيه قول ابن عباس وهو أولى بالاتباع وأعلم بالتأويل‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك أنها في المكاتب وهو قول الشافعي والليث والكوفيين وأكثر أهل العلم، ورجحه الطبري‏.‏

وفيه قول ثالث أن سهم الرقاب يجعل نصفين‏:‏ نصف لكل مكاتب يدعي الإسلام، ونصف يشتري بها رقاب ممن صلى وصام، أخرجه ابن أبي حاتم وأبو عبيد في الأموال بإسناد صحيح عن الزهري أنه كتب ذلك لعمر بن عبد العزيز، واحتج للأول بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لأنه غارم، وبأن شراء الرقيق ليعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق، ولأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم والزكاة لا تصرف للعبد، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت بخلاف الكتابة، ولأن ولاءه يرجع للسيد فيأخذ المال والولاء بخلاف ذلك فإن عتقه يتنجز ويصير ولاؤه للمسلمين، وهذا الأخير على طريقة مالك في ذلك‏.‏

وقال أحمد وإسحاق‏:‏ يرد ولاؤه في شراء الرقاب للعتق أيضا‏.‏

وعن مالك‏:‏ الولاء للمعتق تمسكا بالعموم‏.‏

وقال عبيد الله العنبري‏:‏ يجعل في بيت المال‏.‏

وأما سبيل الله فالأكثر على أنه يختص بالغازي غنيا كان أو فقيرا إلا أن أبا حنيفة قال‏:‏ يختص بالغازي المحتاج‏.‏

وعن أحمد وإسحاق الحج من سبيل الله، وقد تقدم أثر ابن عباس‏.‏

وقال ابن عمر ‏"‏ أما أن الحج من سبيل الله ‏"‏ أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح عنه‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ إن ثبت حديث أبي لاس - يعني الآتي في هذا الباب - قلت بذلك‏.‏

وتعقب بأنه يحتمل أنهم كانوا فقراء وحملوا عليها خاصة‏.‏

ولم يتملكوها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الحسن إلخ‏)‏ هذا صحيح عنه أخرج أوله ابن أبي شيبة من طريقه وهو مصير منه إلى القول بالمسألتين معا الإعتاق من الزكاة والصرف منها في الحج، إلا أن تنصيصه على شراء الأب لم يوافقه عليه الباقون لأنه يعتق عليه ولا يصير ولاؤه للمسلمين فيستعيد المنفعة ويوفر ما كان يخرجه من خالص ماله لدفع عار استرقاق أبيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ في أيها أعطيت جزت ‏"‏ كذا في الأصل بغير همز أي قضت، وفيه مصير منه إلى أن اللام في قوله‏:‏ ‏"‏ للفقراء ‏"‏ لبيان المصرف لا للتمليك، فلو صرف الزكاة في صنف واحد كفى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالدا إلخ‏)‏ سيأتي موصولا في هذا الباب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويذكر عن أبي لاس‏)‏ بسين مهملة، خزاعي اختلف في اسمه فقيل زياد، وقيل عبد الله بن عنمة بمهملة ونون مفتوحتين، وقيل غير ذلك‏.‏

له صحبة وحديثان هذا أحدهما‏.‏

وقد وصله أحمد وابن خزيمة والحاكم وغيرهم من طريقه، ولفظ أحمد ‏"‏ على إبل من إبل الصدقة ضعاف للحج، فقلنا يا رسول الله ما نرى أن تحمل هذه‏.‏

فقال‏:‏ إنما يحمل الله ‏"‏ الحديث ورجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ حُدِّثْتُ عَنِ الْأَعْرَجِ بِمِثْلِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن الأعرج‏)‏ في رواية النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يقول قال قال عمر فذكره، صرح بالتحديث في الإسناد وزاد فيه عمر، والمحفوظ أنه من مسند أبي هريرة وإنما جرى لعمر فيه ذكر فقط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة‏)‏ في رواية مسلم من طريق ورقاء عن أبي الزناد ‏"‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ساعيا على الصدقة ‏"‏ وهو مشعر بأنها صدقة الفرض، لأن صدقة التطوع لا يبعث عليها السعاة‏.‏

وقال ابن القصار المالكي‏:‏ الأليق أنها صدقة التطوع لأنه لا يظن بهؤلاء الصحابة أنهم منعوا الفرض‏.‏

وتعقب بأنهم ما منعوه كلهم جحدا ولا عنادا، أما ابن جميل فقد قيل‏:‏ إنه كان منافقا ثم تاب بعد ذلك، كذا حكاه المهلب، وجزم القاضي حسين في تعليقه أن فيه نزلت ‏(‏ومنهم من عاهد الله‏)‏ الآية انتهى‏.‏

والمشهور أنها نزلت في ثعلبة، وأما خالد فكان متأولا بإجزاء ما حبسه عن الزكاة، وكذلك العباس لاعتقاده ما سيأتي التصريح به، ولهذا عذر النبي صلى الله عليه وسلم خالدا والعباس ولم يعذر ابن جميل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقيل منع ابن جميل‏)‏ قائل ذلك عمر كما سيأتي في حديث ابن عباس في الكلام على قصة العباس، ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عبيد ‏"‏ فقال بعض من يلمز ‏"‏ أي يعيب‏.‏

وابن جميل لم أقف على اسمه في كتب الحديث، لكن وقع في تعليق القاضي الحسين المروزي الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله، ووقع في شرح الشيخ سراج الدين بن الملقن أن ابن بزيزة سماه حميدا، ولم أر ذلك في كتاب ابن بزيزة‏.‏

ووقع في رواية ابن جريج أبو جهم بن حذيفة بدل ابن جميل، وهو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل، وقول الأكثر أنه كان أنصاريا، وأما أبو جهم ابن حذيفة فهو قرشي فافترقا، وذكر بعض المتأخرين أن أبا عبيد البكري ذكر في شرح الأمثال له أنه أبو جهم بن جميل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والعباس‏)‏ زاد ابن أبي الزناد عن أبيه عند أبي عبيد ‏"‏ أن يعطوا الصدقة ‏"‏ قال فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذب عن اثنين العباس وخالد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما ينقم‏)‏ بكسر القاف أي ما ينكر أو يكره، وقوله ‏"‏فأغناه الله ورسوله ‏"‏ إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه لأنه كان سببا لدخوله في الإسلام فأصبح غنيا بعد فقره بما أفاء الله على رسوله وأباح لأمته من الغنائم، وهذا السياق من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكر من أن الله أغناه فلا عذر له، وفيه التعريض بكفران النعم وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏احتبس‏)‏ أي حبس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأعتده‏)‏ بضم المثناة جمع عتد بفتحتين، ووقع في رواية مسلم ‏"‏ أعتاده ‏"‏ وهو جمعه أيضا، قبل هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل الخيل خاصة، يقال فرس عتيد أي صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب أقوال، وقيل إن لبعض رواة البخاري ‏"‏ وأعبده ‏"‏ بالموحدة جمع عبد حكاه عياض، والأول هو المشهور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهي عليه صدقة ومثلها معها‏)‏ كذا في رواية شعيب، ولم يقل ورقاء ولا موسى بن عقبة ‏"‏ صدقة ‏"‏ فعلى الرواية الأولى يكون صلى الله عليه وسلم ألزمه بتضعيف صدقته ليكون أرفع لقدره وأنبه لذكره وأنفى للذم عنه، فالمعنى فهو صدقة ثابتة عليه سيصدق بها ويضيف إليها مثلها كرما، ودلت رواية مسلم على أنه صلى الله عليه وسلم التزم بإخراج ذلك عنه لقوله ‏"‏ فهي علي ‏"‏ وفيه تنبيه على سبب ذلك وهو قوله ‏"‏ إن العم صنو الأب ‏"‏ تفضيلا له وتشريفا، ويحتمل أن يكون تحمل عنه بها فيستفاد منه أن الزكاة تتعلق بالذمة كما هو أحد قولي الشافعي، وجمع بعضهم بين رواية ‏"‏ علي ‏"‏ ورواية ‏"‏ عليه ‏"‏ بأن الأصل رواية ‏"‏ علي ‏"‏ ورواية ‏"‏ عليه ‏"‏ مثلها إلا أن فيها زيادة هاه السكت حكاه ابن الجوزي عن ابن ناصر، وقيل معنى قوله ‏"‏ علي ‏"‏ أي هي عندي قرض لأنني استسلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحا فيما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي وفي إسناده مقال، وفي الدارقطني من طريق موسى بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ إنا كنا احتجنا فتعجلنا من العباس صدقة ماله سنتين ‏"‏ وهذا مرسل، وروى الدارقطني أيضا موصولا بذكر طلحة فيه وإسناد المرسل أصح، وفي الدارقطني أيضا من حديث ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيا، فأتى العباس فأغلظ له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن العباس قد أسلفنا زكاة ماله العام، والعام المقبل ‏"‏ وفي إسناده ضعف، وأخرجه أيضا هو والطبراني من حديث أبي رافع نحو هذا وإسناده ضعيف أيضا، ومن حديث ابن مسعود ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقته سنتين ‏"‏ وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف، ولو ثبت لكان رافعا للإشكال ولرجح به سياق رواية مسلم على بقية الروايات، وفيه رد لقول من قال‏:‏ إن قصة التعجيل إنما وردت في وقت غير الوقت الذي بعث فيه عمر لأخذ الصدقة، وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق والله أعلم‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى استسلف منه قدر صدقة عامين؛ فأمر أن يقاص به من ذلك، واستبعد ذلك بأنه لو كان وقع لكان صلى الله عليه وسلم أعلم عمر بأنه لا يطالب العباس، وليس ببعيد‏.‏

ومعنى ‏"‏ عليه ‏"‏ على التأويل الأول أي لازمة ‏"‏ له ‏"‏ وليس معناه أنه يقبضها لأن الصدقة عليه حرام لكونه من بني هاشم، ومنهم من حمل رواية الباب على ظاهرها فقال‏:‏ كان ذلك قبل تحريم الصدقة على بني هاشم، ويؤيده رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند ابن خزيمة بلفظ ‏"‏ فهي له ‏"‏ بدل ‏"‏ عليه ‏"‏ وقال الببيهقي‏:‏ اللام هنا بمعنى على لتتفق الروايات، وهذا أولى لأن المخرج واحد، وإليه مال ابن حبان‏.‏

وقيل‏:‏ معناها فهي له أي القدر الذي كان يراد منه أن يخرجه لأنني التزمت عنه بإخراجه، وقيل إنه أخرها عنه ذلك العام إلى عام قابل فيكون عليه صدقة عامين قاله أبو عبيد، وقيل إنه كان استدان حين فادى عقيلا وغيره فصار من جملة الغارمين فساغ له أخذ الزكاة بهذا الاعتبار‏.‏

وأبعد الأقوال كلها قول من قال‏:‏ كان هذا في الوقت الذي كان فيه التأديب بالمال، فألزم العباس بامتناعه من أداء الزكاة بأن يؤدي ضعف ما وجب عليه لعظمة قدره وجلالته كما في قوله تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏يضاعف لها العذاب ضعفين‏)‏ الآية، وقد تقدم بعضه في أول الكلام، واستدل بقصة خالد على جواز إخراج مال الزكاة في شراء السلاح وغيره من آلات الحرب والإعانة بها في سبيل الله، بناء على أنه عليه الصلاة والسلام أجاز لخالد أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه كما سبق، وهي طريقة البخاري‏.‏

وأجاب الجمهور بأجوبة‏:‏ أحدها أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل أخبار من أخبره بمنع خالد حملا على أنه لم يصرح بالمنع، وإنما نقلوه عنه بناء على ما فهموه، ويكون قوله ‏"‏ تظلمونه ‏"‏ أي بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لا يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوع بتحبيس سلاحه وخيله‏؟‏ ثانيها أنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبو بزكاة قيمتها فأعلمهم عليه الصلاة والسلام بأنه لا زكاة عليه فيما حبس، وهذا يحتاج لنقل خاص فيكون فيه حجة لمن أسقط الزكاة عن الأموال المحبسة، ولمن أوجبها في عروض التجارة‏.‏

ثالثها أنه كان نوى بإخراجها عن ملكه الزكاة عن ماله لأن أحد الأصناف سبيل الله وهم المجاهدون، وهذا يقوله من يجير إخراج القيم في الزكاة كالحنفية ومن يجز التعجيل كالشافعية، وقد تقدم استدلال البخاري به على إخراج العروض في الزكاة‏.‏

واستدل بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبسه، وعلى جواز إخراج العروض في الزكاة وقد سبق ما فيه، وعلى صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية‏.‏

وتعقب ابن دقيق العيد جميع ذلك بأن القصة واقعة عين‏.‏

محتملة لما ذكر ولغيره، فلا ينهض الاستدلال بها على شيء مما ذكر، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون تحبيس خالد إرصادا وعدم تصرف، ولا يبعد أن يطلق على ذلك التحبيس فلا يتعين الاستدلال بذلك لما ذكر‏.‏

وفي الحديث بعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، والعتب على من منع الواجب، وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمل الإمام عن بعض رعيته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرعية بما يسوغ الاعتذار به‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏

*3*باب الِاسْتِعْفَافِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الاستعفاف عن المسألة‏)‏ أي في شيء من غير المصالح الدينية‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن ناسا من الأنصار‏)‏ لم يتعين لي أسماؤهم، إلا أن النسائي روى من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ما يدل على أن أبا سعيد راوي هذا الحديث خوطب بشيء من ذلك ولفظه ففي حديثه ‏"‏ سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته وقعدت، فاستقبلني فقال‏:‏ من استغنى أغناه الله ‏"‏ الحديث وزاد فيه ‏"‏ ومن سأل وله أوقية فقد ألحف‏.‏

فقلت‏:‏ ناقتي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله ‏"‏ وعند الطبراني من حديث حكيم بن حزام أنه ممن خوطب ببعض ذلك، ولكنه ليس أنصاريا إلا بالمعنى الأعم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى نفد‏)‏ بكسر الفاء أي فرغ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلن أدخره عنكم‏)‏ أي أحبسه وأخبؤه وأمنعكم إياه منفردا به عنكم، وفيه ما كان عليه من السخاء وإنفاذ أمر الله، وفيه إعطاء السائل مرتين، والاعتذار إلى السائل، والحض على التعفف‏.‏

وفيه جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة، وقوله ‏"‏ومن يستعفف ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يستعف‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة والزبير بن العوام بمعناه‏.‏

وفي رواية الزبير زيادة ‏"‏ فيبيعها فيكف الله بها وجهه ‏"‏ وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه‏.‏

وفي رواية أبي هريرة ‏"‏ يأتي رجلا ‏"‏ وفي حديث الزبير ‏"‏ يسأل الناس ‏"‏ والمعنى واحد‏.‏

وزاد في أول حديث أبي هريرة قوله ‏"‏ والذي نفسي بيده ‏"‏ ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل، وأما قوله ‏"‏ خير له ‏"‏ فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة والزبير بن العوام بمعناه‏.‏

وفي رواية الزبير زيادة ‏"‏ فيبيعها فيكف الله بها وجهه ‏"‏ وذلك مراد في حديث أبي هريرة وحذف لدلالة السياق عليه‏.‏

وفي رواية أبي هريرة ‏"‏ يأتي رجلا ‏"‏ وفي حديث الزبير ‏"‏ يسأل الناس ‏"‏ والمعنى واحد‏.‏

وزاد في أول حديث أبي هريرة قوله ‏"‏ والذي نفسي بيده ‏"‏ ففيه القسم على الشيء المقطوع بصدقه لتأكيده في نفس السامع، وفيه الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل، وأما قوله ‏"‏ خير له ‏"‏ فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام، ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسميته الذي يعطاه خيرا وهو في الحقيقة شر، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

و حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن هذا المال خضرة‏)‏ أنث الخبر لأن المراد الدنيا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خضرة حلوة‏)‏ شبهه بالرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده بالنسبة إلى اليابس، والحلو مرغوب فيه على انفراده بالنسبة للحامض، فالإعجاب بهما إذا اجتمعا أشد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بسخاوة نفس‏)‏ أي بغير شره ولا إلحاح أي من أخذه بغير سؤال، وهذا بالنسبة إلى الأخذ، ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى المعطي أي بسخاوة نفس المعطي أي انشراحه بما يعطيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كالذي يأكل ولا يشبع‏)‏ أي الذي يسمى جوعه كذابا لأنه من علة به وسقم، فكلما أكل ازداد سقما ولم يجد شبعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اليد العليا‏)‏ تقدم الكلام عليه مستوفي في ‏"‏ باب لا صدقة إلا عن ظهر غني‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا أرزأ‏)‏ بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي بعدها همزة أي لا أنقص ماله بالطلب منه‏.‏

وفي رواية لإسحاق ‏"‏ قلت فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب ‏"‏ وإنما امتنع حكيم من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا فيعتاد الأخذ فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده ففطمها عن ذلك وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وإنما أشهد عليه عمر لأنه أراد أن لا ينسبه أحد لم يعرف باطن الأمر إلى منع حكيم من حقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى توفي‏)‏ زاد إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق عمر بن عبد الله بن عروة مرسلا أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوانا ولا غيره حتى مات لعشر سنين مع إمارة معاوية‏.‏

قال ابن أبي جمرة‏:‏ في حديث حكيم فوائد، منها أنه قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها، تقول سخت بكذا أي جادت وسخت عن كذا أي لم تلتفت إليه‏.‏

ومنها أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فتبين أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة‏.‏

وفيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون، فالأكل إنما يأكل ليشبع فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه وإنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم‏.‏

وفيه أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع، لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه من حاجته‏.‏

وفيه جواز تكرار السؤال ثلاثا، وجواز المنع في الرابعة والله أعلم، وفي الحديث أيضا أن سؤال الأعلى ليس بعار، وأن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه، وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة‏.‏

وقد زاد إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق معمر عن الزهري في آخره ‏"‏ فمات حين مات وإنه لمن أكثر قريش مالا‏"‏‏.‏

وفيه أيضا سبب ذلك وهو ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام دون ما أعطى أصحابه فقال حكيم‏:‏ يا رسول الله ما كنت أظن أن تقصر بي دون أحد من الناس، فزاده، ثم استزده حتى رضي ‏"‏ فذكر نحو الحديث‏.‏

*3*باب مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافِ نَفْسٍ

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس‏.‏

وفي أموالهم حق للسائل والمحروم‏)‏ في رواية المستملي تقديم الآية، وسقطت للأكثر، ومطابقتها لحديث الباب من جهة دلالتها على مدح من يعطي السائل وغير السائل، وإذا كان المعطي ممدوحا فعطيته مقبولة وآخذها غير ملوم‏.‏

وقد اختلف أهل العلم بالتفسير في المراد بالمحروم‏:‏ فروى الطبري من طريق ابن شهاب أنه المتعفف الذي لا يسأل‏.‏

وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه، فذكر مثله، وأخرجه الطبري عن قتادة مثله‏.‏

وأخرج فيه أقوالا أخر، وعلى التفسير المذكور تنطبق الترجمة‏.‏

والأشراف بالمعجمة التعرض للشيء والحرص عليه، من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع شرف لذلك‏.‏

وتقدير جواب الشرط فليقبل، أي من أعطاه الله مع انتفاء القيدين المذكورين فليقبل‏.‏

وإنما حذفه للعلم به‏.‏

وأوردها بلفظ العموم وإن كان الخبر ورد في الإعطاء من بيت المال لأن الصدقة للفقير في معنى العطاء للغني إذا انتفى الشرطان‏.‏

قال أبو داود سألت أحمد عن إشراف النفس فقال‏:‏ بالقلب‏.‏

وقال يعقوب بن محمد سألت أحمد عنه فقال‏:‏ هو أن يقول مع نفسه يبعث إلي فلان بكذا‏.‏

وقال الأثرم يضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني‏)‏ زاد في رواية شعيب عن الزهري الآتية في الأحكام ‏"‏ حتى أعطاني مرة مالا فقلت‏:‏ أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال‏:‏ خذه فتموله وتصدق به ‏"‏ وذكر شعيب فيه عن الزهري إسنادا آخر قال‏:‏ أخبرني السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر في خلافته فذكر قصة فيها هذا الحديث‏.‏

والسائب فمن فوقه صحابة؛ ففيه أربعة من الصحابة في نسق‏.‏

وقد أخرجه مسلم من رواية عمرو بن الحارث عن الزهري بالإسنادين، لكن قال فيه ‏"‏ عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر ‏"‏ فذكره، جعله من مسند ابن عمر‏.‏

وأخرجه مسلم أيضا من وجه آخر عن ابن السعدي عن عمر، لكن قال فيه ابن الساعدي وزاد فيه ‏"‏ أن عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بسبب العمالة ‏"‏ ولهذا قال الطحاوي‏:‏ ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست هي من جهة الفقر ولكن من الحقوق، فلما قال عمر أعطه من هو أفقر إليه مني لم يرض بذلك لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر قال‏:‏ ويؤيده قوله في رواية شعيب ‏"‏ خذه فتموله ‏"‏ فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات‏.‏

وقال الطبري‏:‏ اختلفوا في قوله فخذه بعد إجماعهم على أنه أمر ندب، فقيل هو ندب لكل من أعطي عطية أبى قبولها كائنا من كان، وهذا هو الراجح يعني بالشرطين المتقدمين‏.‏

وقيل هو مخصوص بالسلطان، ويؤيده حديث سمرة في السنن ‏"‏ إلا أن يسأل ذا سلطان ‏"‏ وكان بعضهم يقول‏:‏ يحرم قبول العطية من السلطان، وبعضهم يقول يكره، وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر، والكراهة محمولة على الورع وهو المشهور من تصرف السلف والله أعلم‏.‏

والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حراما فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود ‏(‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏)‏ وقد رهن الشارع درعه عند يهودي مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة‏.‏

وفي حديث الباب أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها وإن كان غيره أحوج إليه منه، وأن رد عطية الإمام ليس من الأدب ولا سيما من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏)‏ الآية‏.‏

*3*باب مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من سأل الناس تكثرا‏)‏ أي فهو مذموم، قال ابن رشيد‏:‏ حديث المغيرة في النهي عن كثرة السؤال الذي أورده في الباب الذي يليه أصرح في مقصود الترجمة من حديث الباب، وإنما آثره عليه لأن من عادته أن يترجم بالأخفى، أو لاحتمال أن يكون المراد بالسؤال في حديث المغيرة النهي عن المسائل المشكلة كالأغلوطات، أو السؤال عما لا يغني، أو عما لم يقع مما يكره وقوعه، قال‏:‏ وأشار مع ذلك إلى حديث ليس على شرطه، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق حبشي ابن جنادة في أثناء حديث مرفوع وفيه ‏"‏ ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر ‏"‏ انتهى‏.‏

وفي صحيح مسلم من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة ما هو مطابق للفظ الترجمة، فاحتمال كونه أشار إليه أولى ولفظه ‏"‏ من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا ‏"‏ الحديث، والمعنى أنه يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ وَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ وَقَالَ مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبيد الله بن أبي جعفر‏)‏ في رواية أبي صالح الآتية ‏"‏ حدثنا عبيد الله‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مزعة لحم‏)‏ مزعة بضم الميم وحكي كسرها وسكون الزاي بعدها مهملة أي قطعة‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي، والذي أحفظه عن المحدثين الضم، قال الخطابي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به انتهى‏.‏

والأول صرف للحديث عن ظاهره، وقد يؤيده ما أخرجه الطبراني والبزار من حديث مسعود بن عمرو مرفوعا ‏"‏ لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه ‏"‏ وقال ابن أبي جمرة‏:‏ معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء، لأن حسن الوجه هو بما فيه من اللحم‏.‏

ومال المهلب إلى حمله على ظاهره، وإلى أن السر فيه أن الشمس تدنو يوم القيامة، فإذا جاء لا لحم بوجهه كانت أذية الشمس له أكثر من غيره، قال‏:‏ والمراد به من سأل تكثرا وهو غني لا تحل له الصدقة، وأما من سأل وهو مضطر فذلك مباح له فلا يعاقب عليه انتهى‏.‏

وبهذا تظهر مناسبة إيراد هذا الطرف من حديث الشفاعة عقب هذا الحديث، قال ابن المنير في الحاشية‏:‏ لفظ الحديث دال على ذم تكثير السؤال، والترجمة لمن سأل تكثرا، والفرق بينهما ظاهر، لكن لما كان المتوعد عليه على ما تشهد به القواعد هو السائل عن غني وأن سؤال ذي الحاجة مباح نزل البخاري الحديث على من يسأل ليكثر ماله‏.‏

‏(‏بآدم ثم بموسى‏)‏ هذا فيه اختصار، وسيأتي في الرقاق في حديث الشفاعة الطويل ذكر من يقصدونه بين آدم وموسى وبين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكذا الكلام على بقية ما في حديث الشفاعة مما يحتاج إلى الشرح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزاد عبد الله بن صالح‏)‏ كذا عند أبي ذر، وسقط قوله ‏"‏ ابن صالح ‏"‏ من رواية الأكثر، ولهذا جزم خلف وأبو نعيم بأنه ابن صالح، وقد رويناه في ‏"‏ الإيمان ‏"‏ لابن منده من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير وعبد الله بن صالح جميعا عن الليث، وساقه بلفظ ‏"‏ عبد الله بن صالح ‏"‏ وقد رواه موصولا من طريق عبد الله بن صالح وحده البزار عن محمد بن إسحاق الصغاني والطبراني في الأوسط عن مطلب بن شعيب وابن منده في ‏"‏ كتاب الإيمان ‏"‏ من طريق يحيى بن عثمان ثلاثتهم عن عبد الله بن صالح فذكره وزاد بعد قوله ‏"‏ استغاثوا بآدم‏:‏ فيقول لست بصاحب ذلك ‏"‏ وتابع عبد الله بن صالح على هذه الزيادة عبد الله بن عبد الحكم عن الليث أخرجه ابن منده أيضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بحلقة الباب‏)‏ أي باب الجنة، أو هو مجاز عن القرب إلى الله تعالى، والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى التي اختص بها وهي إراحة أهل الموقف من أهوال القضاء بينهم والفراغ من حسابهم، والمراد بأهل الجمع أهل الحشر لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم‏.‏

وسيأتي بقية الكلام على المقام المحمود في تفسير سورة سبحان إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال معلى‏)‏ بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة، وهو ابن أسد، وقد وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه، ومن طريق البيهقي، وآخر حديثه ‏"‏ مزعة لحم ‏"‏ وفيه قصة لحمزة بن عبد الله بن عمر مع أبيه في ذلك، ولهذا قيده المصنف بقوله ‏"‏ في المسألة ‏"‏ أي في الشق الأول من الحديث دون الزيادة، ورويناه أيضا في ‏"‏ معجم أبي سعيد بن الأعرابي ‏"‏ قال حدثنا حمدان بن علي عن معلى بن أسد به، وفي هذا الحديث أن هذا الوعيد يختص بمن أكثر السؤال لا من ندر ذلك منه، ويؤخذ منه جواز سؤال غير المسلم لأن لفظ ‏"‏ الناس ‏"‏ يعم قاله ابن أبي جمرة، وحكي عن بعض الصالحين أنه كان إذا احتاج سأل ذميا لئلا يعاقب المسلم بسببه لو رده‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا

وَكَمْ الْغِنَى وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله عز وجل ‏(‏لا يسألون الناس إلحافا‏)‏ وكم الغني‏؟‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يجد غني يغنيه ‏"‏ لقول الله عز وجل ‏(‏للفقراء الذين أحصروا‏)‏ الآية‏)‏ هذه اللام التي في قوله ‏"‏ لقول الله ‏"‏ لام التعليل لأنه أورد الآية تفسيرا لقوله في الترجمة ‏"‏ وكم الغني ‏"‏ وكأنه يقول‏:‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولا يجد غني يغنيه ‏"‏ مبين لقدر الغني لأن الله تعالى جعل الصدقة للفقراء الموصوفين بهذه الصفة، أي من كان كذلك فليس بغني ومن كان بخلافها فهو غني، فحاصله أن شرط السؤال عدم وجدان الغني لوصف الله الفقراء بقوله‏:‏ ‏(‏لا يستطيعون ضربا في الأرض‏)‏ إذ من استطاع ضربا فيها فهو واجد لنوع من الغنى، والمراد بالذين أحصروا الذين حصرهم الجهاد أي منعهم الاشتغال به من الضرب في الأرض - أي التجارة - لاشتغالهم به عن التكسب، قال ابن علية‏:‏ كل محيط يحصر بفتح أوله وضم الصاد، والأعذار المانعة تحصر بضم المثناة وكثر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط به، وللفقراء يتعلق بمحذوف تقديره الإنفاق المقدم ذكره لهؤلاء انتهى‏.‏

وأما قول المصنف في الترجمة ‏"‏ وكم الغني ‏"‏ فلم يذكر فيه حديثا صريحا فيحتمل أنه أشار إلى أنه لم يرد فيه شيء على شرطه، ويحتمل أن يستفاد المراد من قوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ الذي لا يجد غني يغنيه ‏"‏ فإن معناه لا يجد شيئا يقع موقعا من حاجته، فمن وجد ذلك كان غنيا‏.‏

وقد ورد فيه ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعا ‏"‏ من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش‏.‏

قيل يا رسول الله وما يغنيه‏؟‏ قال‏:‏ خمسون درهما أوقيمتها من الذهب ‏"‏ وفي إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف وقد تكلم فيه شعبة من أحل هذا الحديث، وحدث به سفيان الثوري عن حكيم فقيل له‏:‏ إن شعبة لا يحدث عنه، قال‏:‏ لقد حدثني به زبيد أبو عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد يعني شيخ حكيم أخرجه الترمذي أيضا، ونص أحمد في ‏"‏ علل الخلال ‏"‏ وغيرها على أن رواية زبيد موقوفة، وقد تقدم حديث أبي سعيد قريبا من عند النسائي في ‏"‏ باب الاستعفاف ‏"‏ وفيه ‏"‏ من سأل وله أوقية فقد ألحف ‏"‏ وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه بلفظ ‏"‏ فهو ملحف ‏"‏ وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ ‏"‏ فهو الملحف ‏"‏ وعن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد له صحبة في أثناء حديث مرفوع قال فيه ‏"‏ من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا ‏"‏ أخرجه أبو داود، وعن سهل ابن الحنظلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار‏.‏

فقالوا‏:‏ يا رسول الله وما يغنيه‏؟‏ قال قدر ما يغديه ويعشيه ‏"‏ أخرجه أبو داود أيضا وصححه ابن حبان، قال الترمذي في حديث ابن مسعود‏:‏ والعمل على هذا عند بعض أصحابنا كالثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق‏.‏

قال‏:‏ ووسع قوم في ذلك فقالوا‏:‏ إذا كان عنده خمسون درهما أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل العلم انتهى وقال الشافعي‏:‏ قد يكون الرجل غنيا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مـع ضعفه في نفسه وكثرة عياله‏.‏

وفي المسألة مذاهب أخرى‏:‏ أحدها قول أبي حنيفة‏:‏ إن الغني من ملك نصابا فيحرم عليه أخذ الزكاة، واحتج بحديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن وقول النبي صلى الله عليه وسلم له ‏"‏ تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ‏"‏ فوصف من تؤخذ الزكاة منه بالغنى وقد قال‏:‏ ‏"‏ لا تحل الصدقة لغني‏"‏‏.‏

ثانيها أن حده ‏"‏ من وجد ما يغديه ويعشيه ‏"‏ على ظاهر حديث سهل ابن الحنظلية حكاه الخطابي عن بعضهم، ومنهم من قال‏:‏ وجهه من لا يجد غداء ولا عشاء على دائم الأوقات‏.‏

ثالثها أن حده أربعون درهما، وهو قول أبي عبيد بن سلام على ظاهر حديث أبي سعيد، وهو الظاهر من تصرف البخاري لأنه أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏(‏لا يسألون الناس إلحافا‏)‏ وقد تضمن الحديث المذكور أن من سأل وعنده هذا القدر فقد سأل إلحافا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الْأُكْلَةَ وَالْأُكْلَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غِنًى وَيَسْتَحْيِي أَوْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في ذكر المسكين أورده من طريقين، والمسكين مفعيل من السكون قاله القرطبي قال فكأنه من قلة المال سكنت حركاته ولذا قال تعالى ‏(‏أو مسكينا ذا متربة‏)‏ أي لاصق بالتراب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأكلة والأكلتان‏)‏ بالضم فيهما، ويؤيده ما في رواية الأعرج الآتية آخر الباب ‏"‏ اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ‏"‏ وزاد فيه ‏"‏ الذي يطوف على الناس ‏"‏ قال أهل اللغة الأكلة بالضم اللقمة وبالفتح المرة من الغداء والعشاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليس له غنى‏)‏ زاد في رواية الأعرج غنى يغنيه، وهذه صفة زائدة على اليسار المنفي، إذ لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغني به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، وكأن المعنى نفي اليسار المفيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار، وهذا كقوله تعالى ‏(‏لا يسألون الناس إلحافا‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويستحيي‏)‏ زاد في رواية الأعرج ‏"‏ ولا يفطن به ‏"‏ وفي رواية الكشميهني ‏"‏ له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس ‏"‏ وهو بنصب يتصدق ويسأل، وموضع الترجمة منه قوله ‏"‏ ليس له غنى ‏"‏ وقد أورده المصنف في التفسير من طريق أخرى عن أبي هريرة يظهر تعلقها بهذه الترجمة أكثر من هذه الطريق، ولفظه هناك ‏"‏ إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم يعني قوله‏:‏ لا يسألون الناس إلحافا ‏"‏ كذا وقع فيه بزيادة يعني، وقد أخرجه مسلم وأحمد من هذا الوجه بدونها، وكذلك وقع فيه بزيادة ابن أبي حاتم في تفسيره‏.‏

وفي الحديث أن المسكنة إنما تحمد مع العفة عن السؤال والصبر على الحاجة، وفيه استحباب الحياء في كل الأحوال، وحسن الإرشاد لوضع الصدقة، وأن يتحرى وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح، وفيه دلالة لمن يقول‏:‏ إن الفقير أسوأ حالا من المسكين، وأن المسكين الذي له شيء لكنه لا يكفيه، والفقير الذي لا شيء له كما تقدم توجيهه، ويؤيده قوله تعالى ‏(‏أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر‏)‏ فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها، وهذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث والفقه، وعكس آخرون فقالوا‏:‏ المسكين أسوأ حالا من الفقير‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هما سواء، وهذا قول ابن القاسم وأصحاب مالك، وقيل الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل حكاه ابن بطال، وظاهره أيضا أن المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الإلحاف في السؤال، ولكن قال ابن بطال‏:‏ معناه المسكين الكامل وليس المراد نفي أصل المسكنة عن الطواف، بل هي كقوله ‏"‏ أتدرون من المفلس ‏"‏ الحديث، وقوله تعالى ‏(‏ليس البر‏)‏ الآية، وكذا قرره القرطبي وغير واحد‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ ابْنِ أَشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي كَاتِبُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنْ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ

الشرح‏:‏

حديث المغيرة وابن أشوع بالشين المعجمة وزاد أحمد في رواية الكشميهني ابن الأشوع، وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع نسب لجده وكاتب المغيرة هو وراد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإضاعة الأموال‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ المال ‏"‏ وموضع الترجمة منه قوله ‏"‏ وكثرة السؤال ‏"‏ قال ابن التين‏:‏ فهم منه البخاري سؤال الناس، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن المشكلات، أو عما لا حاجة للسائل به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ذروني ما تركتكم ‏"‏ قلت‏:‏ وحمله على المعنى الأعم أولى ويستقيم مراد البخاري مع ذلك‏.‏

وقد مضى بعض شرحه في كتاب الصلاة، ويأتي في كتاب الأدب وفي الرقاق مستوفي إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ رَجُلًا لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا قَالَ فَسَكَتُّ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا قَالَ فَسَكَتُّ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ فِيهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا يَعْنِي فَقَالَ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ بِهَذَا فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَجَمَعَ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي ثُمَّ قَالَ أَقْبِلْ أَيْ سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فَكُبْكِبُوا قُلِبُوا فَكُبُّوا مُكِبًّا أَكَبَّ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ وَاقِعٍ عَلَى أَحَدٍ فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قُلْتَ كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ وَكَبَبْتُهُ أَنَا

الشرح‏:‏

حديث سعد بن أبي وقاص أورده بإسنادين، وموضع الترجمة منه قوله في الرواية الثانية ‏"‏ فجمع بين عنقي وكتفي ثم قال‏:‏ أقبل أي سعد ‏"‏ وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في كتاب الإيمان، وأنه أمر بالإقبال أو بالقبول، ووقع عند مسلم ‏"‏ إقبالا أي سعد ‏"‏ على أنه مصدر أي أتقابلني قبالا بهذه المعارضة‏؟‏ وسياقه يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كره منه إلحاحه عليه في المسألة، ويحتمل أن يكون من جهة أن المشفوع له ترك السؤال فمدح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن أبيه عن صالح‏)‏ هو معطوف على الإسناد الأول، وكذا أخرجه مسلم عن الحسن الحلواني عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبو عبد الله‏)‏ هو المصنف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكبكبوا إلخ‏)‏ تقدمت الإشارة إليه في الإيمان، وجرى المصنف على عادته في إيراد تفسر اللفظة الغريبة إذا وافق ما في الحديث ما في القرآن‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏غير واقع‏)‏ أي لازما و ‏(‏إذا وقع‏)‏ أي إذا كان متعديا، والغرض أن هذه الكلمة من النوادر حيث كان الثلاثي متعديا والمزيد فيه لازما عكس القاعدة التصريفية، قيل ويجوز أن يكون ألف أكب للصيرورة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة الدال على ذم السؤال ومدح الاكتساب، وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في ‏"‏ باب الاستعفاف عن المسألة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ثُمَّ يَغْدُوَ أَحْسِبُهُ قَالَ إِلَى الْجَبَلِ فَيَحْتَطِبَ فَيَبِيعَ فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَكْبَرُ مِنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَدْ أَدْرَكَ ابْنَ عُمَرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏صالح بن كيسان‏)‏ يعني المذكور في الإسنادين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أكبر من الزهري‏)‏ يعني في السن، ومثل هذا جاء عن أحمد وابن معين‏.‏

وقال علي بن المديني‏:‏ كان أسن من الزهري، فإن مولده سنة خمسين وقيل بعدها ومات سنة ثلاث وعشرين ومائة وقيل سنه أربع، وأما صالح بن كيسان فمات سنة أربعين ومائة وقيل قبلها‏.‏

وذكر الحاكم في مقدار عمره سنا تعقبوه عليه‏.‏

وقوله ‏"‏أدرك ابن عمر ‏"‏ يعني أدرك السماع منه، وأما الزهري فمختلف في لقيه له والصحيح أنه لم يلقه وإنما يروي عن ابنه سالم عنه، والحديثان اللذان وقع في رواية معمر عنه أنه سمعهما عن ابن عمر ثبت ذكر سالم بينهما في رواية غيره والله أعلم‏.‏