فصل: فصل تَحْرِيمُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل تَحْرِيمُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ:

وَأَمّا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلّ مَا يُسَمّى مَيْتَةً سَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ ذُكّيَ ذَكَاةً لَا تُفِيدُ حِلّهُ. وَيَدْخُلُ فِيهِ أَبْعَاضُهَا أَيْضًا وَلِهَذَا اسْتَشْكَلَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ تَحْرِيمَ بَيْعِ الشّحْمِ مَعَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَأَخْبَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ أَنّ قَوْلَهُ لَا هُوَ حَرَامٌ هَلْ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْبَيْعِ أَوْ عَائِدٌ إلَى الْأَفْعَالِ الّتِي سَأَلُوا عَنْهَا؟ فَقَالَ شَيْخُنَا: هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْبَيْعِ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَخْبَرَهُمْ أَنّ اللّهَ حَرّمَ بَيْعَ الْمَيْتَةِ قَالُوا: إنّ فِي شُحُومِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ كَذَا وَكَذَا يَعْنُونَ فَهَلْ ذَلِكَ مُسَوّغٌ لِبَيْعِهَا؟ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ قُلْت: كَأَنّهُمْ طَلَبُوا تَخْصِيصَ الشّحُومِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ بِالْجَوَازِ كَمَا طَلَبَ الْعَبّاسُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تَخْصِيصَ الْإِذْخِرِ مِنْ جُمْلَةِ تَحْرِيمِ نَبَاتِ الْحَرَمِ بِالْجَوَازِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ التّحْرِيمُ عَائِدٌ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَقَالَ هُوَ حَرَامٌ وَلَمْ يَقُلْ هِيَ لِأَنّهُ أَرَادَ الْمَذْكُورَ جَمِيعَهُ وَيُرَجّحُ قَوْلَهُمْ عَوْدُ الضّمِيرِ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَيُرَجّحُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنّ إبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ذَرِيعَةٌ إلَى اقْتِنَاءِ الشّحُومِ وَبَيْعِهَا وَيُرَجّحُهُ أَيْضًا: أَنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَقَالَ لَا هِيَ حَرَامٌ وَهَذَا الضّمِيرُ إمّا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الشّحُومِ وَإِمّا إلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَعَلَى التّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ حُجّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَفْعَالِ الّتِي سَأَلُوا عَنْهَا. وَيُرَجّحُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي الْفَأْرَةِ الّتِي وَقَعَتْ فِي السّمْنِ إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِ قُرْبَانٌ لَهُ. وَمَنْ رَجّحَ الْأَوّلَ يَقُولُ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّهُ لَا يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي غَيْرِ أَكْلٍ كَالْوَقِيدِ وَسَدّ الْبُثُوقِ وَنَحْوِهِمَا. قَالُوا: وَالْخَبِيثُ إنّمَا تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَالْأَكْلِ وَاللّبْسِ وَأَمّا الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَابَسَةٍ فَلِأَيّ شَيْءٍ يَحْرُمُ؟ قَالُوا: وَمَنْ تَأَمّلَ سِيَاقَ حَدِيثِ جَابِرٍ عَلِمَ أَنّ السّؤَالَ إنّمَا كَانَ مِنْهُمْ عَنْ الْبَيْعِ وَأَنّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرَخّصَ لَهُمْ فِي بَيْعِ الشّحُومِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ هُوَ حَرَامٌ فَإِنّهُمْ لَوْ سَأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لَقَالُوا: أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَصْبِحَ بِهَا النّاسُ وَتُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ؟ وَلَمْ يَقُولُوا: فَإِنّهُ يَفْعَلُ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَإِنّ هَذَا إخْبَارٌ مِنْهُمْ لَا سُؤَالٌ وَهُمْ لَمْ يُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ عَقِيبَ تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ قَوْلُهُ لَا هُوَ حَرَامٌ صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِهَا وَإِنّمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ عَقِيبَ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ فَكَأَنّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُرَخّصَ لَهُمْ فِي بَيْعِ الشّحُومِ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الّتِي ذَكَرُوهَا فَلَمْ يَفْعَلْ. وَنِهَايَةُ الْأَمْرِ أَنّ الْحَدِيثَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَحْرُمُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ حَرّمَهُ. قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ نَهَاهُمْ عَنْ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ وَأَبَاحَ لَهُمْ أَنْ قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنّ إيقَادَ النّجَاسَةِ وَالِاسْتِصْبَاحَ بِهَا انْتِفَاعٌ خَالٍ عَنْ هَذِهِ الْمُفْسِدَةِ وَعَنْ مُلَابَسَتِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ. وَمَا كَانَ هَكَذَا فَالشّرِيعَةُ لَا تُحَرّمُهُ فَإِنّ الشّرِيعَةَ إنّمَا تُحَرّمُ الْمَفَاسِدَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرّاجِحَةَ وَطُرُقَهَا وَأَسْبَابَهَا الْمُوَصّلَةَ إلَيْهَا. قَالُوا: وَقَدْ أَجَازَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ الِاسْتِصْبَاحَ بِشُحُومِ الْمَيْتَةِ إذَا خَالَطَتْ دُهْنًا طَاهِرًا فَإِنّهُ فِي أَكْثَرِ الرّوَايَاتِ عَنْهُ يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِالزّيْتِ النّجِسِ وَطَلْيُ السّفُنِ بِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ الشّيْخُ أَبُو مُحَمّدٍ وَغَيْرُهُ وَاحْتَجّ بِأَنّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنَيْهِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللّهِ لَا يُعْجِبُنِي بَيْعُ النّجِسِ وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ إذَا لَمْ يَمَسّوهُ لِأَنّهُ نَجِسٌ وَهَذَا يَعُمّ النّجِسَ وَالْمُتَنَجّسُ وَلَوْ قُدّرَ أَنّهُ إنّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُتَنَجّسَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْقَوْلِ بِجَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِمَا خَالَطَهُ نَجَاسَةُ مَيْتَةٍ أَوْ غَيْرُهَا وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَأَيّ فَرْقٍ بَيْنَ الِاسْتِصْبَاحِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا وَبَيْنَ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ إذَا خَالَطَهُ دَهْنٌ طَاهِرٌ فَنَجّسَهُ؟ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ مُفْرَدًا فَهُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ وَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ تَنَجّسَ بِهِ فَأَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالْغُسْلِ فَصَارَ كَالثّوْبِ النّجِسِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الدّهْنِ الْمُتَنَجّسِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ دُهْنِ الْمَيْتَةِ. قِيلَ لَا رَيْبَ أَنّ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ الّذِي عَوّلَ عَلَيْهِ الْمُفَرّقُونَ بَيْنَهُمَا وَلَكِنّهُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ. أَحْمَدَ وَلَا عَنْ الشّافِعِيّ الْبَتّةَ غَسْلُ الدّهْنِ النّجِسِ وَلَيْسَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنّمَا ذَلِكَ مِنْ فَتْوَى بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ.
الثّانِي: أَنّ هَذَا الْفَرْقَ وَإِنْ تَأَتّى لِأَصْحَابِهِ فِي الزّيْتِ وَالشّيْرَجِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَتَأَتّى لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَدْهَانِ فَإِنّ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ وَأَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ قَدْ أَطْلَقَا الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِالدّهْنِ النّجِسِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ. وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُفِيدُ فِي دَفْعِ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا لِلْخَبِيثِ وَالنّجَاسَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنِيّةً أَوْ طَارِئَةً فَإِنّهُ إنْ حَرّمَ الِاسْتِصْبَاحَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْخَبِيثِ فَلَا فَرْقَ وَإِنْ حَرُمَ لِأَجْلِ دُخَانِ النّجَاسَةِ فَلَا فَرْقَ وَإِنْ حَرُمَ لِكَوْنِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ ذَرِيعَةً إلَى اقْتِنَائِهِ فَلَا فَرْقَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهَذَا دُونَ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ. وَأَيْضًا فَقَدَ جَوّزَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الِانْتِفَاعَ بِالسّرْقِينِ النّجِسُ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلزّرْعِ وَالثّمَرِ وَالْبَقْلِ مَعَ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ وَمُلَابَسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْمُوقَدِ وَظُهُورُ أَثَرِهِ فِي الْبُقُولِ وَالزّرُوعِ وَالثّمَارِ فَوْقَ ظُهُورِ أَثَرِ الْوَقِيدِ وَإِحَالَةُ النّارِ أَتَمّ مِنْ إحَالَةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالشّمْسِ لِلسّرْقِينِ فَإِنْ كَانَ التّحْرِيمُ لِأَجْلِ دُخَانِ النّجَاسَةِ فَمَنْ سَلّمَ أَنّ دُخَانَ النّجَاسَةِ نَجِسٌ وَبِأَيّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيّةِ سُنّةٍ ثَبَتَ ذَلِكَ؟ وَانْقِلَابُ النّجَاسَةِ إلَى الدّخَانِ أَتَمّ مِنْ انْقِلَابِ عَيْنِ السّرْقِينِ وَالْمَاءِ النّجِسِ ثَمَرًا أَوْ زَرْعًا وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُشَكّ فِيهِ بَلْ مَعْلُومٌ بِالْحِسّ وَالْمُشَاهَدَةِ حَتّى جَوّزَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللّهُ بَيْعَهُ فَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَذِرَةِ لِأَنّ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعَ النّاسِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الزّبْلِ. قَالَ اللّخْمِيّ وَهَذَا يَدُلّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنّهُ يَرَى بَيْعَ الْعَذِرَةِ. وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الزّبْلِ الْمُشْتَرِي أَعْذَرُ فِيهِ مِنْ الْبَائِعِ يَعْنِي فِي اشْتِرَائِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَمْ قُلْت: وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَأَنّ بَيْعَ ذَلِكَ حَرَامٌ وَإِنْ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي غَيْرِ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهَا كَالْوَقِيدِ وَإِطْعَامِ الصّقُورِ وَالْبُزَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصّ مَالِكٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِصْبَاحِ بِالزّيْتِ النّجِسِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى جَوَازِ عَمَلِ الصّابُونِ مِنْهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ بَابَ الِانْتِفَاعِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فَلَيْسَ كُلّ مَا حَرُمَ بَيْعُهُ حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ لَا تَلَازُمُ بَيْنَهُمَا فَلَا يُؤْخَذُ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَيْعِ.

.فصل تَحْرِيمُ بَيْعِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ الّتِي تَحِلّهَا الْحَيَاةُ وَتُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ وَحِلّ بَيْعِ الشّعْرِ وَالْوَبَرِ وَالصّوفِ:

وَيَدْخُلُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ بَيْعُ أَجْزَائِهَا الّتِي تَحِلّهَا الْحَيَاةُ وَتُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ كَاللّحْمِ وَالشّحْمِ وَالْعَصَبِ وَأَمّا الشّعْرُ وَالْوَبَرُ وَالصّوفُ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ لِأَنّهُ لَيْسَ بِمَيْتَةِ وَلَا تَحِلّهُ الْحَيَاةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّ شُعُورَ الْمَيْتَةِ وَأَصْوَافَهَا وَأَوْبَارَهَا طَاهِرَةٌ إذَا كَانَتْ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاللّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثّوْرِيّ وَدَاوُد وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْمُزَنِيّ وَمِنْ التّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَانْفَرَدَ الشّافِعِيّ بِالْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهَا وَاحْتَجّ لَهُ بِأَنّ اسْمَ الْمَيْتَةِ يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ أَجْزَائِهَا بِدَلِيلِ الْأَثَرِ وَالنّظَرِ أَمّا الْأَثَرُ فَفِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ ادْفِنُوا الْأَظْفَارَ وَالدّمَ وَالشّعَرَ فَإِنّهَا مَيْتَةٌ وَأَمّا النّظَرُ فَإِنّهُ مُتّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ يَنْمُو بِنَمَائِهِ فَيُنَجّسُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ أَعْضَائِهِ وَبِأَنّهُ شَعَرٌ نَابِتٌ فِي مَحَلّ نَجِسٍ فَكَانَ نَجِسًا كَشَعْرِ الْخِنْزِيرِ وَهَذَا لِأَنّ ارْتِبَاطَهُ بِأَصْلِهِ خِلْقَةً يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُهُ تَبِعَا فَإِنّهُ مَحْسُوبٌ مِنْهُ عُرْفًا وَالشّارِعُ أَجْرَى الْأَحْكَامَ فِيهِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ فَأَوْجَبَ غَسْلَهُ فِي الطّهَارَةِ وَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ يَأْخُذُهُ مِنْ الصّيْدِ كَالْأَعْضَاءِ وَأَلْحَقَهُ بِالْمَرْأَةِ فِي النّكَاحِ وَالطّلَاقِ حِلّا وَحُرْمَةً وَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَبِأَنّ الشّارِعَ لَهُ تَشَوّفٌ إلَى إصْلَاحِ الْأَمْوَالِ وَحِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا وَعَدَمِ إضَاعَتِهَا. وَقَدْ قَالَ لَهُمْ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ هَلّا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ كَانَ الشّعْرُ طَاهِرًا لَكَانَ إرْشَادُهُمْ إلَى أَخْذِهِ أَوْلَى لِأَنّهُ أَقَلّ كُلْفَةً وَأَسْهَلُ تَنَاوُلًا. قَالَ الْمُطَهّرُونَ لِلشّعُورِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النّحْلُ 80] وَهَذَا يَعُمّ أَحْيَاءَهَا وَأَمْوَاتَهَا وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ: عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عبيد الله بن عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ مَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَاةِ لِمَيْمُونَةَ مَيّتَةٍ فَقَالَ أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا: وَكَيْفَ وَهِيَ مَيْتَةٌ؟ قَالَ إنّمَا حَرُمَ لَحْمُهَا وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدّا فِي إبَاحَةِ مَا سِوَى اللّحْمِ وَالشّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَالْأَلْيَةِ كُلّهَا دَاخِلَةٌ فِي اللّحْمِ كَمَا دَخَلَتْ فِي تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِالْعَظْمِ وَالْقَرْنِ وَالظّفْرِ وَالْحَافِرِ فَإِنّ الصّحِيحَ طَهَارَةُ ذَلِكَ كَمَا سَنُقَرّرُهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَالُوا: وَلِأَنّهُ لَوْ أُخِذَ حَالَ الْحَيَاةِ لَكَانَ طَاهِرًا فَلَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ كَالْبَيْضِ وَعَكْسُهُ الْأَعْضَاءُ. قَالُوا: وَلِأَنّهُ لَمّا لَمْ يَنْجُسْ بِجَزّهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ بِالْإِجْمَاعِ دَلّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْحَيَوَانِ وَأَنّهُ لَا رَوْحَ فِيهِ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَا أُبِينَ مِنْ حَيّ فَهُوَ مَيْتَة رَوَاهُ أَهْلُ السّنَنِ. وَلِأَنّهُ لَا يَتَأَلّمُ بِأَخْذِهِ وَلَا يَحُسّ بِمَسّهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ وَأَمّا النّمَاءُ فَلَا يَدُلّ عَلَى بِمُفَارَقَتِهَا فَإِنّ مُجَرّدَ النّمَاءِ لَوْ دَلّ عَلَى الْحَيَاةِ وَنَجِسَ الْمَحَلّ بِمُفَارَقَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ لَتَنَجّسَ الزّرْعُ بِيُبْسِهِ لِمُفَارَقَةِ حَيَاةِ النّمُوّ وَالِاغْتِذَاءِ لَهُ. قَالُوا: فَالْحَيَاةُ نَوْعَانِ حَيَاةُ حِسّ وَحَرَكَةٍ وَحَيَاةُ نُمُوّ وَاغْتِذَاءٍ فَالْأَوْلَى: هِيَ الّتِي يُؤَثّرُ فَقْدُهَا فِي طَهَارَةِ الْحَيّ دُونَ الثّانِيَةِ. قَالُوا: وَاللّحْمُ إنّمَا يَنْجُسُ لِاحْتِقَانِ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ الْخَبِيثَةِ فِيهِ وَالشّعُورُ وَالْأَصْوَافُ بَرِيئَةٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَنْتَقِضُ بِالْعِظَامِ وَالْأَظْفَارِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ. قَالُوا: وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْيَانِ الطّهَارَةُ وَإِنّمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا التّنْجِيسُ بِاسْتِحَالَتِهَا كَالرّجِيعِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْ الْغِذَاءِ وَكَالْخَمْرِ الْمُسْتَحِيلِ عَنْ الْعَصِيرِ وَأَشْبَاهِهَا وَالشّعُورِ فِي حَالِ اسْتِحَالَتِهَا كَانَتْ طَاهِرَةً ثُمّ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا مَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهَا بِخِلَافِ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ فَإِنّهَا عَرَضَ لَهَا مَا يَقْتَضِي نَجَاسَتَهَا وَهُوَ احْتِقَانُ الْفَضَلَاتِ الْخَبِيثَةِ. قَالُوا: وَأَمّا حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ فَفِي إسْنَادِهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوّاد. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ: أَحَادِيثُهُ مُنْكَرَةٌ لَيْسَ مَحَلّهُ عِنْدِي الصّدْقَ وَقَالَ عَلِيّ بْنُ الحسين بن الْجُنَيْدِ: لَا يُسَاوِي فَلْسًا يُحَدّثُ بِأَحَادِيثِ كَذِبٍ. وَأَمّا حَدِيثُ الشّاةِ الْمَيْتَةِ وَقَوْلُهُ أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا وَلَمْ يَتَعَرّضْ لِلشّعَرِ فَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنّهُ أَطْلَقَ الِانْتِفَاعَ بِالْإِهَابِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِزَالَةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الشّعَرِ مَعَ أَنّهُ لَابُدّ فِيهِ مِنْ شَعَرٍ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُقَيّدْ الْإِهَابَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ بِوَجْهِ دُونَ وَجْهٍ فَدَلّ عَلَى أَنّ الِانْتِفَاعَ بِهِ فَرْوًا وَغَيْرَهُ مِمّا لَا يَخْلُو مِنْ الشّعَرِ.
وَالثّانِي: أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَرْشَدَهُمْ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالشّعْرِ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ حَيْثُ يَقُولُ إنّمَا حَرّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلَهَا أَوْ لَحْمَهَا وَالثّالِثُ أَنّ الشّعْرَ لَيْسَ مِنْ الْمَيْتَةِ لِيَتَعَرّضَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنّهُ لَا يَحِلّهُ الْمَوْتُ وَتَعْلِيلُهُمْ بِالتّبَعِيّةِ يَبْطُلُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ فَإِنّهُ يَطْهُرُ دُونَ الشّعَرِ عِنْدَهُمْ وَتَمَسّكُهُمْ بِغَسْلِهِ فِي الطّهَارَةِ يَبْطُلُ بِالْجَبِيرَةِ وَتَمَسّكُهُمْ بِضَمَانِهِ مِنْ الصّيْدِ يَبْطُلُ بِالْبَيْضِ وَبِالْحَمْلِ. وَأَمّا فِي النّكَاحِ فَإِنّهُ يَتْبَعُ الْجُمْلَةَ لِاتّصَالِهِ وَزَوَالِ الْجُمْلَةِ بِانْفِصَالِهِ عَنْهَا وَهَاهُنَا لَوْ فَارَقَ الْجُمْلَةَ بَعْدَ أَنْ تَبِعَهَا فِي التّنَجّسِ لَمْ يُفَارِقْهَا فِيهِ عِنْدَهُمْ فَعُلِمَ الْفِرَقُ.

.فصل هَلْ يَحْرُمُ بَيْعُ عَظْمِ الْمَيْتَةِ وَقَرْنِهَا وَجِلْدِهَا بَعْدَ الدّبّاغِ:

فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَدْخُلُ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهَا تَحْرِيمُ بَيْعِ عَظْمِهَا وَقَرْنِهَا وَجِلْدِهَا بَعْدَ الدّبَاغِ لِشُمُولِ اسْمِ الْمَيْتَةِ لِذَلِكَ؟ قِيلَ الّذِي يَحْرُمُ بَيْعُهُ مِنْهَا هُوَ الّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَاسْتِعْمَالِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النّبِيّ بِقَوْلِهِ إنّ اللّهَ تَعَالَى إذَا حَرّمَ شَيْئًا حَرّمَ ثَمَنَهُ وَفِي اللّفْظِ الْآخَرِ إذَا حَرّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرّمَ ثَمَنَهُ فَنَبّهَ عَلَى أَنّ الّذِي يَحْرُمُ بَيْعُهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ.

.بَيْعُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ:

وَأَمّا الْجِلْدُ إذَا دُبِغَ فَقَدْ صَارَ عَيْنًا طَاهِرَةً يَنْتَفِعُ فِي اللّبْسِ وَالْفُرُشِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ بَيْعِهِ وَقَدْ نَصّ الشّافِعِيّ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ عَلَى أَنّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ الْقَفّالُ لَا يَتّجِهُ هَذَا إلّا بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ يُوَافِقُ مَالِكًا فِي أَنّهُ يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ طَهُرَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَإِنّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَيْتَةِ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَعَظْمِهَا وَلَحْمِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدّبْغِ لِأَنّهُ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ يُنْتَفَعُ بِهَا فَجَازَ بَيْعُهَا كَالْمُذَكّى وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنّ الدّبْغَ إزَالَةٌ أَوْ قُلْنَا: إحَالَةٌ جَازَ بَيْعُهُ لِأَنّهُ قَدْ اسْتَحَالَ مِنْ كَوْنِهِ جُزْءً مَيْتَةً إلَى عَيْنٍ أُخْرَى وَإِنْ قُلْنَا: إزَالَةٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِأَنّ وَصْفَ الْمَيْتَةِ هُوَ الْمُحَرّمُ لِبَيْعِهِ وَذَلِكَ بَاقٍ لَمْ يُسْتَحَلّ. وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ جَوَازَ أَكْلِهِ وَلَهُمْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَكْلُهُ مُطْلَقًا وَتَحْرِيمُهُ مُطْلَقًا وَالتّفْصِيلُ بَيْنَ جِلْدِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ فَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الْأَوّلِ غَلّبُوا حُكْمَ الْإِحَالَةِ وَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الثّانِي غَلّبُوا حُكْمَ الْإِزَالَةِ وَأَصْحَابُ الْوَجْهِ الثّالِثِ أَجْرَوْا الدّبَاغَ مَجْرَى الذّكَاةِ فَأَبَاحُوا بِهَا مَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بِالذّكَاةِ إذَا ذُكّيَ دُونَ غَيْرِهِ وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ أَكْلِهِ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ السّنّةِ وَلِهَذَا لَمْ يُمَكّنْ قَائِلُهُ الْقَوْلَ بِهِ إلّا بَعْدَ مَنْعِهِ كَوْنَ الْجِلْدِ بَعْدَ الدّبْغِ مَيْتَةً وَهَذَا مَنْعٌ بَاطِلٌ فَإِنّهُ جِلْدُ مَيْتَةٍ حَقِيقَةً وَحِسّا وَحُكْمًا وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ حَيَاةٌ بِالدّبْغِ تَرْفَعُ عَنْهُ اسْمَ الْمَيْتَةِ وَكَوْنُ الدّبْغِ إحَالَةً بَاطِلٌ حِسّا فَإِنّ الْجِلْدَ لَمْ يُسْتَحَلّ ذَاتُهُ وَأَجْزَاؤُهُ وَحَقِيقَتُهُ بِالدّبَاغِ فَدَعْوَى أَنّ الدّبَاغَ إحَالَةٌ عَنْ حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ أُخْرَى كَمَا تُحِيلُ النّارُ الْحَطَبَ إلَى الرّمَادِ وَالْمُلّاحَةُ مَا يُلْقَى فِيهَا مِنْ الْمَيْتَاتِ إلَى الْمِلْحِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ. وَأَمّا أَصْحَابُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ فَفِي الْمُدَوّنَةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا وَإِنْ دُبِغَتْ وَهُوَ الّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ التّهْذِيبِ. وَقَالَ الْمَازِرِيّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَوْلِ بِأَنّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدّبَاغِ. قَالَ وَأَمّا إذَا فَرّعْنَا عَلَى أَنّهَا تَطْهُرُ بِالدّبَاغِ طِهَارَةً كَامِلَةً فَإِنّا نُجِيزُ بَيْعَهَا لِإِبَاحَةِ جُمْلَةِ مَنَافِعِهَا. قُلْت: عَنْ مَالِكٍ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ رِوَايَتَانِ. إحْدَاهُمَا: يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَبِهَا قَالَ وَهْبٌ وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ جَوّزَ أَصْحَابُهُ بَيْعَهُ.
وَالثّانِيَةُ- وَهِيَ أَشْهَرُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- أَنّهُ يَطْهُرُ طَهَارَةً مَخْصُوصَةً يَجُوزُ مَعَهَا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ وَفِي الْمَاءِ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ قَالَ أَصْحَابُهُ وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الصّلَاةُ فِيهِ وَلَا الصّلَاةُ عَلَيْهِ. الْإِمَامِ أَحْمَدَ: فَإِنّهُ لَا يَصِحّ عِنْدَهُ بَيْعُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ دَبْغِهِ. وَعَنْهُ فِي جَوَازِهِ بَعْدَ الدّبْغِ رِوَايَتَانِ هَكَذَا أَطْلَقَهُمَا الْأَصْحَابُ وَهُمَا عِنْدِي مَبْنِيّتَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الرّوَايَةِ عَنْهُ فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَ الدّبَاغِ.

.بَيْعُ الدّهْنِ النّجِسِ:

وَأَمّا بَيْعُ الدّهْنِ النّجَسِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِهِ:
أَحَدُهَا: أَنّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَالثّانِي: أَنّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَافِرِ يَعْلَمُ نَجَاسَتَهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ. قُلْت: وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ النّجَاسَةِ الْعِلْمُ بِالسّبَبِ الْمُنَجّسِ لَا اعْتِقَادَ الْكَافِرِ نَجَاسَتَهُ.
وَالثّالِثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِكَافِرٍ وَمُسْلِمٍ. وَخَرَجَ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ جَوَازِ إيقَادِهِ وَخَرَجَ أَيْضًا مِنْ طَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ فَيَكُونُ كَالثّوْبِ النّجِسِ وَخَرّجَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَجْهًا بِبَيْعِ السّرْقِينِ النّجِسِ لِلْوَقِيدِ مِنْ بَيْعِ الزّيْتِ النّجِسِ لَهُ وَهُوَ تَخْرِيجٌ صَحِيحٌ.