فصل: هَلْ يَحْرُمُ نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرّضَاعِ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.هَلْ يَحْرُمُ نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرّضَاعِ؟

وَهَلْ يَحْرُمُ نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرّضَاعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمّ امْرَأَتِهِ مِنْ الرّضَاعِ وَبِنْتُهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَامْرَأَةُ ابْنِهِ مِنْ الرّضَاعَةِ أَوْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرّضَاعَةِ أَوْ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ؟ فَحَرّمَهُ الْأَئِمّةُ وَقَالَ إنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَحَدٌ بِعَدَمِ التّحْرِيمِ فَهُوَ أَقْوَى. قَالَ الْمُحَرّمُونَ تَحْرِيمُ هَذَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ فَأَجْرَى الرّضَاعَةَ مَجْرَى النّسَبِ وَشَبّهَهَا بِهِ فَثَبَتَ تَنْزِيلُ وَلَدِ الرّضَاعَةِ وَأَبِي الرّضَاعَةِ مَنْزِلَةَ وَلَدِ النّسَبِ وَأَبِيهِ فَمَا ثَبَتَ لِلنّسَبِ مِنْ التّحْرِيمِ ثَبَتَ لِلرّضَاعَةِ فَإِذَا حَرُمَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ وَالِابْنِ وَأُمّ الْمَرْأَةِ وَابْنَتُهَا مِنْ النّسَبِ حَرُمْنَ بِالرّضَاعَةِ. وَإِذَا حَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَ أُخْتَيْ النّسَبِ حَرُمَ بَيْنَ أُخْتَيْ الرّضَاعَةِ هَذَا تَقْدِيرُ احْتِجَاجِهِمْ عَلَى التّحْرِيمِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اللّهُ سُبْحَانَهُ حَرّمَ سَبْعًا بِالنّسَبِ وَسَبْعًا بِالصّهْرِ كَذَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ. قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنّ تَحْرِيمَ الرّضَاعَةِ لَا يُسَمّى صِهْرًا وَإِنّمَا يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ وَفِي رِوَايَةٍ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَلَمْ يَقُلْ وَمَا يَحْرُمُ بِالْمُصَاهَرَةِ وَلَا ذَكَرَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا ذَكَرَ تَحْرِيمَ الصّهْرِ وَلَا ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ فِي الرّضَاعِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي النّسَبِ وَالصّهْرُ قَسِيمُ النّسَبِ وَشَقِيقُهُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الْفُرْقَانِ: 54] فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النّاسِ بِالنّسَبِ وَالصّهْرِ وَهُمَا سَبَبَا التّحْرِيمِ وَالرّضَاعُ فَرْعٌ عَلَى النّسَبِ وَلَا تُعْقَلُ الْمُصَاهَرَةُ إلّا بَيْنَ الْأَنْسَابِ وَاللّهُ تَعَالَى إنّمَا حَرّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا لِئَلّا يُفْضِيَ إلَى قَطِيعَةِ الرّحِمِ الْمُحَرّمَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنّ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرّضَاعِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرّمَةٌ فِي غَيْرِ النّكَاحِ وَلَا تَرَتّبَ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أُخُوّةِ الرّضَاعِ حُكْمٌ قَطّ غَيْرُ تَحْرِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَلَا يَرِثُهُ وَلَا يَسْتَحِقّ النّفَقَةَ الْوَصِيّةِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَقَارِبِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ وَلَا يَحْرُمُ التّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمّ وَوَلَدِهَا الصّغِيرِ مِنْ الرّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَالتّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النّكَاحِ سَوَاءٌ وَلَوْ مَلَكَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرّمَاتِ بِالرّضَاعِ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَإِذَا حُرّمَتْ عَلَى الرّجُلِ أُمّهُ وَبِنْتُهُ وَأُخْتُهُ وَعَمّتُهُ وَخَالَتُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ أُمّ امْرَأَتِهِ الّتِي أَرْضَعَتْ امْرَأَتَهُ فَإِنّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَا مُصَاهَرَةَ وَلَا رَضَاعَ وَالرّضَاعَةُ إذَا جُعِلَتْ كَالنّسَبِ فِي حُكْمٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ فِي كُلّ حُكْمٍ بَلْ مَا افْتَرَقَا فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَضْعَافُ مَا اجْتَمَعَا فِيهِ مِنْهَا وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ اللّتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ مُحَرّمَةٌ كَمَا جَمَعَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيّ وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَحْرِيمٌ يَمْنَعُ جَوَازَ نِكَاحِ أَحَدِهَا لِلْآخَرِ لَوْ كَانَ ذَكَرًا فَهَذَا نَظِيرُ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرّضَاعَةِ سَوَاءٌ لَأَنّ سَبَبَ تَحْرِيمِ النّكَاحِ بَيْنَهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيّ مِنْهُمَا الّذِي لَا رِضَاعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَلَا صِهْرَ وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَاحْتَجّ أَحْمَدُ بِأَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيّ وَابْنَتِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ قَالَ الْبُخَارِيّ: وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ بَيْنَ بِنْتَيْ عَمّ فِي لَيْلَةٍ وَجَمَعَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيّ وَابْنَتِهِ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرّةً ثُمّ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ. وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِقَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النّسَاءِ 24] هَذَا كَلَامُ الْبُخَارِيّ.
نِسَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُنّ أُمّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي التّحْرِيمِ وَالْحُرْمَةِ فَقَطْ لَا فِي الْمَحْرَمِيّةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْلُوَ بِهِنّ وَلَا يَنْظُرَ إلَيْهِنّ بَلْ قَدْ أَمَرَهُنّ اللّهُ بِالِاحْتِجَابِ عَمّنْ حُرِمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنّ مِنْ غَيْرِ أَقَارِبِهِنّ وَمَنْ بَيْنَهُنّ وَبَيْنَهُ رَضَاعٌ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الْأَحْزَابِ 53] ثُمّ هَذَا الْحُكْمُ لَا يَتَعَدّى إلَى أَقَارِبِهِنّ الْبَتّةَ فَلَيْسَ بَنَاتُهُنّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ يَحْرُمْنَ عَلَى رِجَالِهِمْ وَلَا بَنُوهُنّ إخْوَةٌ لَهُمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِنّ بَنَاتُهُنّ وَلَا أَخَوَاتُهُنّ وَأَخَوَاتُهُنّ خَالَاتٍ وَأَخْوَالًا بَلْ هُنّ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَانَتْ أُمّ الْفَضْلِ أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ الْعَبّاسِ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ أُخْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَحْتَ الزّبَيْرِ وَكَانَتْ أُمّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَحْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمّ حَفْصَةَ تَحْتَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَيْسَ لِرَجُلِ أَنْ يَتَزَوّجَ أُمّهُ وَقَدْ تَزَوّجَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ وَإِخْوَتُهُ وَأَوْلَادُ أَبِي بَكْرٍ وَأَوْلَادُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَلَوْ كَانُوا أَخْوَالًا لَهُنّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْكِحُوهُنّ فَلَمْ تَنْتَشِرْ الْحُرْمَةُ مِنْ أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أَقَارِبِهِنّ وَإِلّا لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النّسَبِ بَيْنَ الْأُمّةِ وَبَيْنَهُنّ ثُبُوتُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ. وَمِمّا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرّمَاتِ {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النّسَاءِ 23]. وَمَعْلُومٌ أَنّ لَفْظَ الِابْنِ إذَا أُطْلِقَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ ابْنُ الرّضَاعِ فَكَيْفَ إذَا قُيّدَ بِكَوْنِهِ ابْنَ صُلْبٍ وَقُصِدَ إخْرَاجُ ابْنِ التّبَنّي بِهَذَا لَا يَمْنَعُ إخْرَاجَ ابْنِ الرّضَاعِ وَيُوجِبُ دُخُولَهُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ: أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لِيَصِيرَ مَحْرَمًا لَهَا فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ أَبِي حُذَيْفَةَ زَوْجِهَا وَصَارَ ابْنَهَا وَمَحْرَمَهَا بِنَصّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصّا بِسَالِمِ أَوْ عَامّا كَمَا قَالَتْهُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَبَقِيَ سَالِمٌ مَحْرَمًا لَهَا لِكَوْنِهَا أَرْضَعَتْهُ وَصَارَتْ أُمّهُ وَلَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لَهَا لِكَوْنِهَا امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ سَهْلَةَ لَهُ بَلْ لَوْ أَرْضَعَتْهُ جَارِيَةٌ لَهُ أَوْ امْرَأَةٌ أُخْرَى صَارَتْ سَهْلَةُ امْرَأَةَ أَبِيهِ وَإِنّمَا التّأْثِيرُ لِكَوْنِهِ وَلَدَهَا نَفْسَهَا وَقَدْ عُلّلَ بِهَذَا فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ وَلَفْظُهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضِعِيهِ فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَا يُمْكِنُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَنْ ادّعَاهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فَإِنّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ وَعَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ وَأَبَا قِلَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُثْبِتُونَ التّحْرِيمَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ الزّبَيْرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ التّحْرِيمَ إنّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْأُمّهَاتِ فَقَطْ فَهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يَجْعَلُوا الْمُرْتَضِعَ مِنْ لَبَنِ الْفَحْلِ وَلَدًا لَهُ فَأَنْ لَا يُحَرّمُوا عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَلَا عَلَى الرّضِيعِ امْرَأَةَ الْفَحْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَبُو زَوْجِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَا ابْنُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ. فَإِنْ قِيلَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا الْبُنُوّةَ بَيْنَ الْمُرْتَضِعِ وَبَيْنَ الْفَحْلِ فَلَمْ تَثْبُتْ الْمُصَاهَرَةُ لِأَنّهَا فَرْعُ ثُبُوتِ بُنُوّةِ الرّضَاعِ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُ لَمْ يَثْبُتْ فَرْعُهَا وَأَمّا مَنْ أَثْبَتَ بُنُوّةَ الرّضَاعِ مِنْ جِهَةِ الْفَحْلِ كَمَا دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ تَثْبُتْ الْمُصَاهَرَةُ بِهَذِهِ الْبُنُوّةِ فَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِمّنْ ذَهَبَ إلَى التّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ إنّ زَوْجَةَ أَبِيهِ وَابْنِهِ مِنْ الرّضَاعَةِ لَا تَحْرُمُ؟ قِيلَ الْمَقْصُودُ أَنّ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ نِزَاعًا وَأَنّهُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَبَقِيَ النّظَرُ فِي مَأْخَذِهِ هَلْ هُوَ إلْغَاءُ لَبَنِ الْفَحْلِ وَأَنّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَوْ إلْغَاءُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ جِهَةِ الرّضَاعِ وَأَنّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا وَإِنّمَا التّأْثِيرُ لِمُصَاهَرَةِ النّسَبِ؟ وَلَا شَكّ أَنّ الْمَأْخَذَ الْأَوّلَ بَاطِلٌ لِثُبُوتِ السّنّةِ الصّرِيحَةِ بِالتّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ وَقَدْ بَيّنّا أَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِالتّحْرِيمِ بِهِ إثْبَاتُ الْمُصَاهَرَةِ بِهِ إلّا بِالْقِيَاسِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَضْعَافُ أَضْعَافُ الْجَامِعِ وَأَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النّسَبِ ثُبُوتُ حُكْمٍ آخَرَ. أُمّ الرّضَاعِ وَأُخْتَ الرّضَاعَةِ دَاخِلَةً تَحْتَ أُمّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النّسَاءِ 23] ثُمّ قَالَ: {وَأُمّهَاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ} [النّسَاءِ 23] فَدَلّ عَلَى أَنّ لَفْظَ أُمّهَاتِنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنّمَا يُرَادُ بِهِ الْأُمّ مِنْ النّسَبِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ} مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَأُمّهَاتُكُمْ} إنّمَا هُنّ أُمّهَاتُ نِسَائِنَا مِنْ النّسَبِ فَلَا يَتَنَاوَلُ أُمّهَاتِهِنّ مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَوْ أُرِيدَ تَحْرِيمَهُنّ لَقَالَ وَأُمّهَاتُهُنّ اللّاتِي أَرْضَعْنَهُنّ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي أُمّهَاتِنَا وَقَدْ بَيّنّا أَنّ قَوْلَهُ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ إنّمَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَنْ حَرُمَ عَلَى الرّجُلِ مِنْ النّسَبِ حَرُمَ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ بِالصّهْرِ أَوْ بِالْجَمْعِ حَرُمَ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ بَلْ يَدُلّ مَفْهُومُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مَعَ عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النّسَاءِ 24].

.مَنْ جَوّزَ مِنْ السّلَفِ نِكَاحَ بَنَاتِ الزّوْجَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ:

وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّ تَحْرِيمَ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ مِنْ الرّضَاعَةِ لَيْسَ مَسْأَلَةَ إجْمَاعٍ أَنّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السّلَفِ جَوَازُ نِكَاحِ بِنْتِ امْرَأَتِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ كَمَا صَحّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النّصْرِيّ قَالَ كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ وَقَدْ وَلَدَتْ لِي فَتُوُفّيَتْ فَوَجَدْت عَلَيْهَا فَلَقِيتُ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لِي: مَا لَك؟ قُلْتُ تُوُفّيَتْ الْمَرْأَةُ قَالَ لَهَا ابْنَةٌ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ كَانَتْ فِي حِجْرِك؟ قُلْت: لَا هِيَ فِي الطّائِفِ. قَالَ فَانْكِحْهَا قُلْت: فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ}؟ [النّسَاءِ 23]. قَالَ إنّهَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِك وَإِنّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَتْ فِي حِجْرِك.
إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُوَاءَةَ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مَعْبَدٍ أَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا أَخْبَرَهُ أَنّ أَبَاهُ أَوْ جَدّهُ كَانَ قَدْ نَكَحَ امْرَأَةً ذَاتَ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِهِ ثُمّ اصْطَحَبَا مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ نَكَحَ امْرَأَةً شَابّةً فَقَالَ أَحَدُ بَنِي الْأُولَى قَدْ نَكَحْت عَلَى أُمّنَا وَكَبِرَتْ وَاسْتَغْنَيْتَ عَنْهَا بِامْرَأَةِ شَابّةٍ فَطَلّقْهَا قَالَ لَا وَاَللّهِ إلّا أَنْ تُنْكِحَنِي ابْنَتَك قَالَ فَطَلّقَهَا وَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ وَلَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ هِيَ وَلَا أَبُوهَا. قَالَ فَجِئْت سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ فَقُلْت: اسْتَفْتِ لِي عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. قَالَ لَتَحُجّنّ مَعِي فَأَدْخَلَنِي عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِمِنَى فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْخَبَرَ فَقَالَ عُمَرُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَاذْهَبْ فَسَلْ فُلَانًا ثُمّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي. قَالَ وَلَا أُرَاهُ إلّا عَلِيّا قَالَ فَسَأَلْته فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ. فَإِذَا كَانَ عُمَرُ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمَا قَدْ أَبَاحَا الرّبِيبَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِ الزّوْجِ مَعَ أَنّهَا ابْنَةُ امْرَأَتِهِ مِنْ النّسَبِ فَكَيْفَ يُحَرّمَانِ عَلَيْهِ ابْنَتَهَا مِنْ الرّضَاعِ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ قُيُودٍ ذَكَرَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَحْرِيمِهَا. أَنْ تَكُونَ فِي حَجْرِهِ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِأُمّهَا. فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُجَرّدُ ابْنَتِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَيْسَتْ فِي حَجْرِهِ وَلَا هِيَ رَبِيبَتُهُ لُغَةً فَإِنّ الرّبِيبَةَ بِنْتُ الزّوْجَةِ وَالرّبِيبُ ابْنُهَا بِاتّفَاقِ النّاسِ وَسُمّيَا رَبِيبًا وَرَبِيبَةً لِأَنّ زَوْجَ أُمّهِمَا يَرُبّهُمَا فِي الْعَادَةِ وَأَمّا مَنْ أَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَتُهُ بِغَيْرِ لَبَنِهِ وَلَمْ يَرُبّهَا قَطّ وَلَا كَانَتْ فِي حَجْرِهِ فَدُخُولُهَا فِي هَذَا النّصّ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لَفْظًا وَمَعْنَى وَقَدْ أَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَحْرِيمِ الرّبِيبَةِ بِكَوْنِهَا فِي الْحَجْرِ. فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ أَنّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنّ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أُخْبِرْتُ أَنّك تَخْطُبُ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِنْتَ أُمّ سَلَمَةَ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ إنّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي لَمَا حَلّتْ لِي وَهَذَا يَدُلّ عَلَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَيْدَ الّذِي قَيّدَهُ اللّهُ فِي التّحْرِيمِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي حَجْرِ الزّوْجِ. وَنَظِيرُ هَذَا سَوَاءً أَنْ يُقَالَ فِي زَوْجَةِ ابْنِ الصّلْبِ إذَا كَانَتْ مُحَرّمَةً بِرَضَاعِ لَوْ لَمْ تَكُنْ حَلِيلَةَ ابْنِي الّذِي لِصُلْبِي لَمَا حَلّتْ لِي سَوَاءً وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.

.فصل التّحْرِيمُ بِلَبَنِ الْفَحْلِ:

الْحُكْمُ الثّانِي: الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ السّنّةِ أَنّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرّمُ وَأَنّ التّحْرِيمَ يَنْتَشِرُ مِنْهُ كَمَا يَنْتَشِرُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ الّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِغَيْرِهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ خَالَفَ مِنْ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَسُنّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَقّ أَنْ تُتّبَعَ وَيُتْرَكَ مَا خَالَفَهَا لِأَجْلِهَا وَلَا تُتْرَكُ هِيَ لِأَجْلِ قَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ. وَلَوْ تُرِكَتْ السّنَنُ لِخِلَافِ مَنْ خَالَفَهَا لِعَدَمِ بُلُوغِهَا لَهُ أَوْ لِتَأْوِيلِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَتُرِكَ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ جِدّا وَتُرِكَتْ الْحُجّةُ إلَى غَيْرِهَا وَقَوْلُ مَنْ يَجِبُ اتّبَاعُهُ إلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجِبُ اتّبَاعُهُ وَقَوْلُ الْمَعْصُومِ إلَى قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذِهِ بَلِيّةٌ نَسْأَلُ اللّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهَا وَأَنْ لَا نَلْقَاهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: كَانَ عِمَارَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا حَتّى أَتَاهُمْ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ أَبِي الْقُعَيْسِ يَعْنِي: فَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ وَرَجَعُوا عَنْهُ وَهَكَذَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْعِلْمِ إذَا أَتَتْهُمْ السّنّةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجَعُوا إلَيْهَا وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ بِغَيْرِهَا.
قَالَ الّذِينَ لَا يُحَرّمُونَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ إنّمَا ذَكَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ التّحْرِيمَ بِالرّضَاعَةِ مِنْ جِهَةِ الْأُمّ فَقَالَ: {وَأُمّهَاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ} [النّسَاءَ 23] وَاللّامُ لِلْعَهْدِ تَرْجِعُ إلَى الرّضَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ رَضَاعَةُ الْأُمّ وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النّسَاءَ 24] لَكُنّا قَدْ نَسَخْنَا الْقُرْآنَ بِالسّنّةِ وَهَذَا- عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ الزّيَادَةُ عَلَى النّصّ نَسْخٌ- أَلْزَمُ قَالُوا: وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمّةِ بِسُنّتِهِ وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ التّحْرِيمَ بِهِ فَصَحّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنّ أُمّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمّ سَلَمَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ امْرَأَةُ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ قَالَتْ زَيْنَبُ وَكَانَ الزّبَيْرُ يَدْخُلُ عَلَيّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنِ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي وَيَقُولُ أَقْبِلِي عَلَيّ فَحَدّثِينِي أَرَى أَنّهُ أَبِي وَمَا وَلَدَ مِنْهُ فَهُمْ إخْوَتِي ثُمّ إنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ أَرْسَلَ إلَيّ يَخْطُبُ أُمّ كُلْثُومٍ ابْنَتِي عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَكَانَ حَمْزَةُ لِلْكَلْبِيّةِ فَقَالَتْ لِرَسُولِهِ وَهَلْ تَحِلّ لَهُ؟ وَإِنّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ إنّمَا أَرَدْتِ بِهَذَا الْمَنْعَ مِنْ قِبَلِكِ. أَمّا مَا وَلَدَتْ أَسَمَاءُ فَهُمْ إخْوَتُك وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَسْمَاءَ فَلَيْسُوا لَك بِإِخْوَةِ فَأَرْسِلِي فَاسْأَلِي عَنْ هَذَا فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُتَوَافِرُونَ فَقَالُوا لَهَا إنّ الرّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرّجُلِ لَا تُحَرّمُ شَيْئًا فَأَنْكِحِيهَا إيّاهُ فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى هَلَكَ عَنْهَا. قَالُوا: وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ قَالُوا: وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ الرّضَاعَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ الرّجُلِ. قَالَ الْجُمْهُورُ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مَا يُعَارِضُ السّنّةَ الصّحِيحَةَ الصّرِيحَةَ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا. أَمّا الْقُرْآنُ فَإِنّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ مِنْ الرّضَاعَةِ فَيَكُونَ دَالّا عَلَى تَحْرِيمِهَا وَإِمّا أَنْ لَا يَتَنَاوَلَهَا فَيَكُونَ سَاكِتًا عَنْهَا فَيَكُونَ تَحْرِيمُ السّنّةِ لَهَا تَحْرِيمًا مُبْتَدَأً وَمُخَصّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النّسَاءَ 24] وَالظّاهِرُ يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْأُخْتِ لَهَا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ عَمّمَ لَفْظَ الْأَخَوَاتِ مِنْ الرّضَاعَةِ فَدَخَلَ فِيهِ كُلّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا أُخْتَه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنّ أُخْتَهُ مِنْ أَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ لَيْسَتْ أُخْتًا لَهُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا: ائْذَنِي لِأُفْلِحَ فَإِنّهُ عَمّك فَأَثْبَتَ الْعُمُومَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِلَبَنِ الْفَحْلِ وَحْدَهُ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْعُمُومَةُ بَيْنَ الْمُرْتَضِعَةِ وَبَيْنَ أَخِي صَاحِبِ اللّبَنِ فَثُبُوتُ الْأُخُوّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مِثْلِهِ. فَالسّنّةُ بَيّنَتْ مُرَادَ الْكِتَابِ لَا أَنّهَا خَالَفَتْهُ وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أَثْبَتَتْ تَحْرِيمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ أَوْ تَخْصِيصَ مَا لَمْ يَرِدْ عُمُومُهُ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَرَوْنَ التّحْرِيمَ بِذَلِكَ فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصّحَابَةِ فَقَدْ صَحّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إثْبَاتُ التّحْرِيمِ بَهْ وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحِهِ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالْأُخْرَى غُلَامًا أَيَحِلّ أَنْ يَنْكِحَهَا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَا اللّقَاحُ وَاحِدٌ وَهَذَا الْأَثَرُ الّذِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ صَرِيحٌ عَنْ الزّبَيْرِ أَنّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنّ زَيْنَبَ ابْنَتُهُ بِتِلْكَ الرّضَاعَةِ وَهَذِهِ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِين رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُفْتِي: أَنّ لَبَنَ الْفَحْلِ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَلَمْ يَبْقَ بِأَيْدِيكُمْ إلّا عَبْدُ اللّه بْنُ الزّبَيْرِ وَأَيْنَ يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ. وَأَمّا الّذِينَ سَأَلَتْهُمْ فَأَفْتَوْهَا بِالْحِلّ فَمَجْهُولُونَ غَيْرُ مُسَمّيْنَ وَلَمْ يَقُلْ الرّاوِي: فَسَأَلَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ بَلْ لَعَلّهَا أَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ السّنّةُ الصّحِيحَةُ مِنْهُمْ فَأَفْتَاهَا بِمَا أَفْتَاهَا بِهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ الصّحَابَةُ إذْ ذَاكَ مُتَوَافِرِينَ بِالْمَدِينَةِ بَلْ كَانَ مُعْظَمُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ بِالشّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ. وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الرّضَاعَةَ إنّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ الْأُمّ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنّمَا اللّبَنُ لِلْأَبِ الّذِي ثَارَ بِوَطْئِهِ وَالْأُمّ وِعَاءٌ لَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَثْبُتُ أُبُوّةُ صَاحِبِ اللّبَنِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ أُمُومَةُ الْمُرْضِعَةِ أَوْ قِيلَ هَذَا الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلَةً كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ رَضْعَتَيْنِ فَإِنّهُنّ لَا يَصِرْنَ أُمّا لَهَا لِأَنّ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ لَمْ تُرْضِعْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ. وَهَلْ يَصِيرُ الزّوْجُ أَبًا لِلطّفْلَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِيرُ أَبًا كَمَا لَمْ تَصِرْ الْمُرْضِعَاتُ أُمّهَاتٍ وَالثّانِي وَهُوَ الْأَصَحّ يَصِيرُ أَبًا لِكَوْنِ الْوَلَدِ ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَلَبَنُ الْفَحْلِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَفَرّعٍ عَلَى أُمُومَةِ الْمُرْضِعَةِ فَإِنّ الْأُبُوّةَ إنّمَا تَثْبُتُ بِحُصُولِ الِارْتِضَاعِ مِنْ لَبَنِهِ لَا لِكَوْنِ الْمُرْضِعَةِ أُمّهُ وَلَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى أَصْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَإِنّ عِنْدَهُمَا قَلِيلَ الرّضَاعِ وَكَثِيرَهُ مُحَرّمٌ فَالزّوْجَاتُ الْأَرْبَعُ أُمّهَاتٌ لِلْمُرْتَضِعِ فَإِذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ الْأُبُوّةِ وَهُوَ الصّحِيحُ حَرُمَتْ الْمُرْضِعَاتُ عَلَى الطّفْلِ لِأَنّهُ رَبِيبُهُنّ وَهُنّ مَوْطُوآتُ أَبِيهِ فَهُوَ ابْنُ بَعْلِهِنّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَثْبُتُ الْأُبُوّةُ لَمْ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ بِهَذَا الرّضَاعِ. وَعَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسُ بَنَاتٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلًا كُلّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةً لَمْ يَصِرْنَ أُمّهَاتٍ لَهُ. وَهَلْ يَصِيرُ الرّجُلُ جَدّا لَهُ وَأَوْلَادُهُ الّذِينَ هُمْ إخْوَةُ الْمُرْضِعَاتِ أَخْوَالًا لَهُ وَخَالَاتٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: يَصِيرُ جَدّا وَأَخُوهُنّ خَالًا لِأَنّهُ قَدْ كَمّلَ الْمُرْتَضِعُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ لَبَنِ بَنَاتِهِ فَصَارَ جَدّا كَمَا لَوْ كَانَ الْمُرْتَضِعُ بِنْتًا وَاحِدَةً. وَإِذَا صَارَ جَدّا كَانَ أَوْلَادُهُ الّذِينَ هُمْ إخْوَةُ الْبَنَاتِ أَخْوَالًا وَخَالَاتٍ لِأَنّهُنّ إخْوَةُ مَنْ كَمَلَ لَهُ مِنْهُنّ خَمْسُ رَضَعَاتٍ فَنُزّلُوا بِالنّسْبَةِ إلَيْهِ مَنْزِلَةَ أُمّ وَاحِدَةٍ وَالْآخَرُ لَا يَصِيرُ جَدّا وَلَا أَخَوَاتُهُنّ خَالَاتٍ لِأَنّ كَوْنَهُ جَدّا فَرْعٌ عَلَى كَوْنِ ابْنَتِهِ أُمّا وَكَوْنُ أَخِيهَا خَالًا فَرْعٌ عَلَى كَوْنِ أُخْتِهِ أُمّا وَلَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ فَلَا يَثْبُتُ فَرْعُهُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ الّتِي قَبْلَهَا فَإِنّ ثُبُوتَ الْأُبُوّةِ فِيهَا لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُمُومَةِ عَلَى الصّحِيحِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنّ الْفَرْعِيّةَ مُتَحَقّقَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْمُرْضِعَاتِ وَأَبِيهِنّ فَإِنّهُنّ بَنَاتُهُ وَاللّبَنُ لَيْسَ لَهُ فَالتّحْرِيمُ هُنَا بَيْنَ الْمُرْضِعَةِ وَابْنِهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أُمّا لَمْ يَكُنْ أَبُوهَا جَدّا صَاحِبِ اللّبَنِ فَسَوَاءٌ ثَبَتَتْ أُمُومَةُ الْمُرْضِعَةِ أَوْ لَا فَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا: يَصِيرُ أَخُوهُنّ خَالًا فَهَلْ تَكُونُ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ خَالَةً لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَكُونُ خَالَةً لِأَنّهُ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ لَبَنِ أَخَوَاتِهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَلَا تَثْبُتُ الْخُؤُولَةُ.
وَالثّانِي: تَثْبُتُ لِأَنّهُ قَدْ اجْتَمَعَ مِنْ اللّبَنِ الْمُحَرّمِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَكَانَ مَا ارْتَضَعَ مِنْهَا وَمِنْ أَخَوَاتِهَا مُثْبِتًا لِلْخُؤُولَةِ وَلَا تَثْبُتُ أُمُومَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ إذْ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَلَا يُسْتَبْعَدُ ثُبُوتُ خُؤُولَةٍ بِلَا أُمُومَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ أُبُوّةٌ بِلَا أُمُومَةٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. أَنّ الْخُؤُولَةَ فَرْعٌ مَحْضٌ عَلَى الْأُمُومَةِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ فَرْعُهُ؟ بِخِلَافِ الْأُبُوّةِ وَالْأُمُومَةِ فَإِنّهُمَا أَصْلَانِ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا مَسْأَلَةُ مَا لَوْ كَانَ لِرِجْلِ أُمّ وَأُخْتٌ وَابْنَةٌ وَزَوْجَةُ ابْنٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلَةً كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ رَضْعَةً لَمْ تَصِرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ أُمّهَا وَهَلْ تَحْرُمُ عَلَى الرّجُلِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَوْجَهُهُمَا: مَا تَقَدّمَ. وَالتّحْرِيمُ هَاهُنَا بَعِيدٌ فَإِنّ هَذَا اللّبَنَ الّذِي كَمَلَ لِلطّفْلِ لَا يَجْعَلُ الرّجُلَ أَبًا لَهُ وَلَا جَدّا وَلَا أَخًا وَلَا خَالًا وَاللّهُ أَعْلَمُ.