فصل: هَلْ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بالمستبرأة بِغَيْرِ الْوَطْءِ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِبْرَاءُ؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.هَلْ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بالمستبرأة بِغَيْرِ الْوَطْءِ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِبْرَاءُ؟

فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَمْنَعُونَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بالمستبرأة بِغَيْرِ الْوَطْءِ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي يَجِبُ فِيهِ الِاسْتِبْرَاءُ؟ قِيلَ أَمّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا فَهَذِهِ لَا تَحْرِمُ قُبْلَتُهَا وَلَا مُبَاشَرَتُهَا وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا أَبُو مُحَمّدٍ الْمَقْدِسِيّ وَشَيْخُنَا وَغَيْرُهُمَا فَإِنّهُ قَالَ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً بِأَيّ شَيْءٍ تُسْتَبْرَأُ إذَا كَانَتْ رَضِيعَةً؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةِ إنْ كَانَتْ تَحِيضُ وَإِلّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ مِمّنْ تُوطَأُ وَتَحْبَلُ. قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ فَظَاهِرُ هَذَا أَنّهُ لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا وَلَا تَحْرِمُ مُبَاشَرَتُهَا وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَقَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ الصّحِيحُ لِأَنّ سَبَبَ الْإِبَاحَةِ مُتَحَقّقٌ وَلَيْسَ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلِيلٌ فَإِنّهُ لَا نَصّ فِيهَا وَلَا مَعْنَى نَصّ فَإِنّ تَحْرِيمَ مُبَاشَرَةِ الْكَبِيرَةِ إنّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ دَاعِيًا إلَى الْوَطْءِ الْمُحَرّمِ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ أُمّ وَلَدٍ لِغَيْرِهِ وَلَا يَتَوَهّمُ هَذَا فِي هَذِهِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِبَاحَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

.فصل مُبَاشَرَةُ الْبِكْرِ فِي وَقْتِ الِاسْتِبْرَاءِ:

وَإِنْ كَانَتْ مِمّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا فَظَاهِرٌ وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا: تَحْرِمُ قُبْلَتُهَا وَمُبَاشَرَتُهَا وَعِنْدِي أَنّهُ لَا يَحْرُمُ وَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ اسْتِبْرَائِهَا لِأَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ تَحْرِيمُ دَوَاعِيهِ كَمَا فِي حَقّ الصّائِمِ لَا سِيّمَا وَهُمْ إنّمَا حَرّمُوا تَحْرِيمَ مُبَاشَرَتِهَا لِأَنّهَا قَدْ تَكُونُ حَامِلًا فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِأَمَةِ الْغَيْرِ هَكَذَا عَلّلُوا تَحْرِيمَ الْمُبَاشَرَةِ ثُمّ قَالُوا: وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَسْبِيّةِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ لِأَنّهَا لَا يُتَوَهّمُ فِيهَا انْفِسَاخُ الْمِلْكِ لِأَنّهُ قَدْ اسْتَقَرّ بِالسّبْيِ فَلَمْ يَبْقَ لِمَنْعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْقُبْلَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبِكْرِ مَعْنًى. وَإِنْ كَانَتْ ثَيّبًا فَقَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمْ يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ قَالُوا: لِأَنّهُ اسْتِبْرَاءٌ يُحَرّمُ الْوَطْءَ فَحَرّمَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْعِدّةِ وَلِأَنّهُ لَا يَأْمَنُ أُمّ وَلَدٍ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ فَيَكُونُ مُسْتَمْتِعًا بِأُمّ وَلَدِ غَيْرِهِ. قَالُوا: وَلِهَذَا فَارَقَ وَطْءَ تَحْرِيمِ الْحَائِضِ وَالصّائِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ: لَا يَحْرُمُ مِنْ الْمُسْتَبْرَأَةِ إلّا فَرْجَهَا وَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطَأْ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا مَنَعَ مِنْ الْوَطْءِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِمّا دُونَهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ تَحْرِيمُ مَا دُونَهُ كَالْحَائِضِ وَالصّائِمَةِ وَقَدْ قِيلَ إنّ ابْنَ عُمَرَ قَبّلَ جَارِيَتَهُ مِنْ السّبْيِ حِينَ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا. وَلِمَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يَقُولَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَرَاةِ وَالْمُعْتَدّةِ أَنّ الْمُعْتَدّةَ قَدْ صَارَتْ أَجْنَبِيّةً مِنْهُ فَلَا يَحِلّ وَطْؤُهَا وَلَا دَوَاعِيهِ بِخِلَافِ الْمَمْلُوكَةِ فَإِنّ وَطْأَهَا إنّمَا يَحْرُمُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ خَشْيَةَ اخْتِلَاطِ مَائِهِ بِمَاءِ غَيْرِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الدّوَاعِي فَهِيَ أَشْبَهُ بِالْحَائِضِ وَالصّائِمَةِ وَنَظِيرُ هَذَا أَنّهُ لَوْ زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَا يَحْرُمُ دَوَاعِيهِ وَكَذَلِكَ الْمَسْبِيّةُ كَمَا سَيَأْتِي. وَأَكْثَرُ مَا يُتَوَهّمُ كَوْنُهَا حَامِلًا مِنْ سَيّدِهَا فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَهَذَا بِنَاءً عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عِلّاتِهِ وَلَا يُلْزَمُ الْقَائِلُ بِهِ لِأَنّهُ لَمّا اسْتَمْتَعَ بِهَا كَانَتْ مِلْكَهُ ظَاهِرًا وَذَلِكَ يَكْفِي فِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ كَمَا يَخْلُو بِهَا وَيُحَدّثُهَا وَيَنْظُرُ مِنْهَا مَا لَا يُبَاحُ مِنْ الْأَجْنَبِيّةِ وَمَا كَانَ جَوَابُكُمْ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْقُبْلَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يُعْلَمُ فِي جَوَازِ هَذَا نِزَاعٌ فَإِنّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبْضِ أَمَتِهِ وَحَوْزِهَا إلَى بَيْتِهِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا مِنْهُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النّظَرُ إلَيْهَا وَالْخَلْوَةُ بِهَا وَالْأَكْلُ مَعَهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَالِانْتِفَاعُ بِمَنَافِعِهَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ.

.فصل الِاسْتِمْتَاعُ بِغَيْرِ الْوَطْءِ لِلْمَسْبِيّةِ:

وَإِنْ كَانَتْ مَسْبِيّةً فَفِي جَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ. دُونَ الْفَرْجِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيّ لِأَنّهُ قَالَ وَمَنْ مَلَكَ أَمَةً لَمْ يُصِبْهَا وَلَمْ يُقَبّلْهَا حَتّى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ لَهَا.
وَالثّانِيَةُ لَا يَحْرُمُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَمْلُوكَةِ بِغَيْرِ السّبْيِ أَنّ الْمَسْبِيّةَ لَا يُتَوَهّمُ فِيهَا كَوْنُهَا أُمّ وَلَدٍ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ عَلَى كُلّ حَالٍ بِخِلَافِ غَيْرِهَا كَمَا تَقَدّمَ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.هَلْ تَبْدَأُ مُدّةُ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ:

فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَكُونُ أَوّلُ مُدّةِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ أَوْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ؟ قِيلَ فِيهِ قَوْلَانِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ حِينِ الْبَيْعِ لِأَنّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِهِ.
وَالثّانِي: مِنْ حِينِ الْقَبْضِ لِأَنّ الْقَصْدَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهَا فِي يَدِهِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ. أَمّا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فَيَكْفِي عِنْدَهُ الِاسْتِبْرَاءُ قَبْلَ الْبَيْعِ فِي الْمَوَاضِعِ الّتِي تَقَدّمَتْ. فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ خِيَارٌ فَمَتَى يَكُونُ ابْتِدَاءُ مُدّةِ الِاسْتِبْرَاءِ؟ قِيلَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ فِي مُدّةِ الْخِيَارِ فَمَنْ قَالَ يَنْتَقِلُ فَابْتِدَاءُ الْمُدّةِ عِنْدَهُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ وَمَنْ قَالَ لَا يَنْتَقِلُ فَابْتِدَاؤُهَا عِنْدَهُ مِنْ حِينِ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ خِيَارَ عَيْبٍ؟ قِيلَ ابْتِدَاءُ الْمُدّةِ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنّ خِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل هَلْ سَكَتَتْ السّنّةُ عَنْ اسْتِبْرَاءِ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ:

فَإِنْ قِيلَ قَدْ دَلّتْ السّنّةُ عَلَى اسْتِبْرَاءِ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَعَلَى اسْتِبْرَاءِ الْحَائِلِ بِحَيْضَةِ فَكَيْفَ سَكَتَتْ عَنْ اسْتِبْرَاءِ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ وَلَمْ تَسْكُتْ عَنْهُمَا فِي الْعِدّةِ؟ قِيلَ لَمْ تَسْكُتْ عَنْهُمَا بِحَمْدِ اللّهِ بَلْ بَيّنَتْهُمَا بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ وَالتّنْبِيهِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ عِدّةَ الْحُرّةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ثُمّ جَعَلَ عِدّةَ الْآيِسَةِ وَاَلّتِي لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَعُلِمَ أَنّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ فِي مُقَابَلَةِ كُلّ قُرْءٍ شَهْرًا. وَلِهَذَا أَجْرَى سُبْحَانَهُ عَادَتَهُ الْغَالِبَةَ فِي إمَائِهِ أَنّ الْمَرْأَةَ تَحِيضُ فِي كُلّ شَهْرٍ حَيْضَةً وَبَيّنَتْ السّنّةُ أَنّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ الْحَائِضِ بِحَيْضَةِ فَيَكُونُ الشّهْرُ قَائِمًا مُقَامَ الْحَيْضَةِ وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهَا تُسْتَبْرَأُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ مَا احْتَجّ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ فَإِنّهُ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ كَيْفَ جَعَلْتَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ حَيْضَةٍ وَإِنّمَا جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ مَكَانَ كُلّ حَيْضَةٍ شَهْرًا؟ فَقَالَ أَحْمَدُ إنّمَا قُلْنَا: ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ فَإِنّهُ لَا يَتَبَيّنُ فِي أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَجَمَعَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْقَوَابِلَ فَأَخْبَرُوا أَنّ الْحَمْلَ لَا يَتَبَيّنُ فِي أَقَلّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ: إنّ النّطْفَةَ تَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً ثُمّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا خَرَجَتْ الثّمَانُونَ صَارَتْ بَعْدَهَا مُضْغَةً وَهِيَ لَحْمٌ فَيَتَبَيّنُ حِينَئِذٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ لِي: هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ النّسَاءِ. فَأَمّا شَهْرٌ فَلَا مَعْنَى فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرٍ وَنِصْفٍ فَإِنّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ قَالَ عَطَاءٌ إنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً. قَالَ حَنْبَلٌ قَالَ عَمّي: لِذَلِكَ أَذْهَبُ لِأَنّ عِدّةَ الْمُطَلّقَةِ الْآيِسَةِ كَذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنّهَا لَوْ طَلُقَتْ وَهِيَ آيِسَةٌ اعْتَدّتْ بِشَهْرٍ وَنِصْفٍ فِي رِوَايَةٍ فَلَأَنْ تُسْتَبْرَأَ الْأَمَةُ بِهَذَا الْقَدْرِ أَوْلَى. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ أَنّهَا تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرَيْنِ حَكَاهَا الْقَاضِي عَنْهُ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَلَمْ أَرَ لِذَلِكَ وَجْهًا. قَالَ وَلَوْ كَانَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرَيْنِ لَكَانَ اسْتِبْرَاءُ ذَاتِ الْقُرُوءِ بِقُرْأَيْنِ وَلَمْ نَعْلَمْ بِهِ قَائِلًا. وَوَجْهُ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّهَا اُعْتُبِرَتْ بِالْمُطَلّقَةِ وَلَوْ طَلُقَتْ وَهِيَ أُمّةٌ لَكَانَتْ عِدّتُهَا شَهْرَيْنِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ وَاحْتَجّ فِيهِ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصّوَابُ لِأَنّ الْأَشْهَرَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْقُرُوءِ وَعِدّةُ ذَاتِ الْقُرُوءِ قُرْءَانِ فَبَدَلُهُمَا شَهْرَانِ وَإِنّمَا صِرْنَا إلَى اسْتِبْرَاءِ ذَاتِ الْقُرْءِ بِحَيْضَةِ لِأَنّهَا عِلْمٌ ظَاهِرٌ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِنْ الْحَمْلِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِشَهْرِ وَاحِدٍ فَلَا بُدّ مِنْ مُدّةٍ تَظْهَرُ فِيهَا بَرَاءَتُهَا وَهِيَ إمّا شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَكَانَتْ الشّهْرَانِ أَوْلَى لِأَنّهَا جُعِلَتْ عِلْمًا عَلَى الْبَرَاءَةِ فِي حَقّ الْمُطَلّقَةِ فَفِي حَقّ الْمُسْتَبْرَأَةِ أَوْلَى فَهَذَا وَجْهُ هَذِهِ الرّوَايَةِ. وَبَعْدُ فَالرّاجِحُ مِنْ الدّلِيلِ الِاكْتِفَاءُ بِشَهْرِ وَاحِدٍ وَهُوَ الّذِي دَلّ عَلَيْهِ إيمَاءُ النّصّ وَتَنْبِيهُهُ وَفِي جَعْلِ مُدّةِ اسْتِبْرَائِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُرّةِ وَجَعْلُهَا بِشَهْرَيْنِ تَسْوِيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُطَلّقَةِ فَكَانَ أَوْلَى الْمُدَدِ بِهَا شَهْرًا فَإِنّهُ الْبَدَلُ التّامّ وَالشّارِعُ قَدْ اعْتَبَرَ نَظِيرَ هَذَا الْبَدَلِ فِي نَظِيرِ الْأَمَةِ وَهِيَ الْحُرّةُ وَاعْتَبَرَهُ الصّحَابَةُ فِي الْأَمَةِ الْمُطَلّقَةِ فَصَحّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ عِدّتُهَا حَيْضَتَانِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ فَشَهْرَانِ احْتَجّ بِهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ. وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ فِي أَشْهَرِ الرّوَايَاتِ عَنْهُ عَلَى أَنّهَا إذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفْعُهُ اعْتَدّتْ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ تِسْعَةٍ لِلْحَمْلِ وَشَهْرٍ مَكَانَ الْحَيْضَةِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ تَعْتَدّ بِسَنَةِ هَذِهِ طَرِيقَةُ الشّيْخِ أَبِي مُحَمّدٍ قَالَ وَأَحْمَدُ هَاهُنَا جَعَلَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ شَهْرًا لِأَنّ اعْتِبَارَ تَكْرَارِهَا فِي الْآيِسَةِ لِتُعْلَمَ بَرَاءَتُهَا مِنْ الْحَمْلِ وَقَدْ عُلِمَ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ هَاهُنَا بِمُضِيّ غَالِبِ مُدّتِهِ فَجُعِلَ الشّهْرُ مَكَانَ الْحَيْضَةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَهَذَا هُوَ الّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيّ مُفَرّقًا بَيْنَ الْآيِسَةِ وَبَيْنَ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَقَالَ فَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَبِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفْعُهُ اعْتَدّتْ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ وَشَهْرٍ مَكَانَ الْحَيْضَةِ. الْبَرَكَاتِ فَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي الّذِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا كَالْخِلَافِ فِي الْآيِسَةِ وَجَعَلَ فِيهَا الرّوَايَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ غَالِبِ مُدّةِ الْحَمْلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيِسَةِ فَقَالَ فِي مُحَرّرِهِ: وَالْآيِسَةُ وَالصّغِيرَةُ بِمُضِيّ شَهْرٍ. وَعَنْهُ بِمُضِيّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَعَنْهُ شَهْرَيْنِ وَعَنْهُ شَهْرٌ وَنِصْفٌ. وَإِنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفْعُهُ فَبِذَلِكَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَطَرِيقَةُ الْخِرَقِيّ وَالشّيْخِ أَبِي مُحَمّدٍ أَصَحّ وَهَذَا الّذِي اخْتَرْنَاهُ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِشَهْرِ هُوَ الّذِي مَالَ إلَيْهِ الشّيْخُ فِي الْمُغْنِي فَإِنّهُ قَالَ وَوَجْهُ اسْتِبْرَائِهَا بِشَهْرِ أَنّ اللّهَ جَعَلَ الشّهْرَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الشّهُورُ بِاخْتِلَافِ الْحَيْضَاتِ فَكَانَتْ عِدّةُ الْحُرّةِ الْآيِسَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ الثّلَاثَةِ قُرُوءٍ وَعِدّةُ الْأَمَةِ شَهْرَيْنِ مَكَانَ الْقُرْأَيْنِ وَلِلْأَمَةِ الْمُسْتَبْرَأَةِ الّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ تِسْعَةٌ لِلْحَمْلِ وَشَهْرٌ مَكَانَ الْحَيْضَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْحَيْضَةِ هُنَا شَهْرٌ كَمَا فِي حَقّ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا. قَالَ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ وَجَدْتُمْ مَا دَلّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَهُوَ تَرَبّصٌ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. قُلْنَا: وَهَاهُنَا مَا يَدُلّ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَهُوَ الْإِيَاسُ فَاسْتَوَيَا.

.ذِكْرُ أَحْكَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْبُيُوعِ:

.ذِكْرُ حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا يَحْرُمُ بَيْعُه:

ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ: مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّه عَنْهُمَا أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ حَرّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنّهَا يُطْلَى بِهَا السّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النّاسُ؟ فَقَالَ لَا هُوَ حَرَامٌ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ ذَلِكَ قَاتَلَ اللّهُ الْيَهُودَ إنّ اللّهَ لَمّا حَرّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمّلُوهُ ثُمّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ بَلَغَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ سَمُرَةَ بَاعَ خَمْرًا فَقَالَ قَاتَلَ اللّهُ سَمُرَةَ أَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ حُرّمَتْ عَلَيْهِمْ الشّحُومُ فَجَمّلُوهَا فَبَاعُوهَا فَهَذَا مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَجَعَلَاهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عَبّاسٍ وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَلَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي الْحَرَامَ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إلَى السّمَاءِ فَتَبَسّمَ فَقَالَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ لَعَنَ اللّهُ الْيَهُودَ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ حَرّمَ عَلَيْهِمْ الشّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثَمَانَهَا إنّ اللّهَ إذَا حَرّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَإِنّ الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عَبْدَانَ عَنْ الصّفّارِ عَنْ إسْمَاعِيلَ الْقَاضِي حَدّثَنَا مُسَدّدٌ حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضّلِ حَدّثَنَا خَالِدٌ الْحَذّاءُ عَنْ بَرَكَةَ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ. وَفِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ. نَحْوُهُ دُونَ قَوْلِهِ إنّ اللّهَ إذَا حَرّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرّمَ ثَمَنَهُ.

.أَجْنَاسُ الْمُحَرّمَاتِ:

فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْجَوَامِعُ عَلَى تَحْرِيمِ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ مَشَارِبَ تُفْسِدُ الْعُقُولَ وَمَطَاعِمَ تُفْسِدُ الطّبَاعَ وَتُغَذّي غِذَاءً خَبِيثًا؟ وَأَعْيَانٍ تُفْسِدُ الْأَدْيَانَ وَتَدْعُو إلَى الْفِتْنَةِ وَالشّرْكِ. عَمّا يُزِيلُهَا وَيُفْسِدُهَا وَبِالثّانِي: الْقُلُوبَ عَمّا يُفْسِدُهَا مِنْ وُصُولِ أَثَرِ الْغِذَاءِ الْخَبِيثِ إلَيْهَا وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي وَبِالثّالِثِ الْأَدْيَانُ عَمّا وُضِعَ لِإِفْسَادِهَا. فَتَضَمّنَ هَذَا التّحْرِيمُ صِيَانَةَ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ وَالْأَدْيَانِ. وَلَكِنّ الشّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِهِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ لِتَسْتَبِينَ عُمُومُ كَلِمَاتِهِ وَجَمْعُهَا وَتَنَاوُلُهَا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الّتِي شَمِلَهَا عُمُومُ كَلِمَاتِهِ وَتَأْوِيلُهَا بِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ الّتِي شَمِلَهَا عُمُومُ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَهَذِهِ خَاصّيّةُ الْفَهْمِ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ الّتِي تَفَاوَتَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَيُؤْتِيهِ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ.

.تَحْرُمُ بَيْعُ الْخَمْرِ:

فَأَمّا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخَمْرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُلّ مُسْكِرٍ مَائِعًا كَانَ أَوْ جَامِدًا عَصِيرًا أَوْ مَطْبُوخًا فَيَدْخُلُ فِيهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَخَمْرُ الزّبِيبِ وَالتّمْرِ وَالذّرَةِ وَالشّعِيرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَاللّقْمَةُ الْمَلْعُونَةُ لُقْمَةُ الْفِسْقِ وَالْقَلْبِ الّتِي تُحَرّكُ الْقَلْبَ السّاكِنَ إلَى أَخْبَثِ الْأَمَاكِنِ فَإِنّ هَذَا كُلّهُ خَمْرٌ بِنَصّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّحِيحِ الصّرِيحِ الّذِي لَا مَطْعَنَ فِي سَنَدِهِ وَلَا إجْمَالَ فِي مَتْنِهِ إذْ صَحّ عَنْهُ قَوْلُهُ كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَصَحّ عَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ الّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمّةِ بِخِطَابِهِ وَمُرَادِهِ أَنّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ فَدُخُولُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ تَحْتَ اسْمِ الْخَمْرِ كَدُخُولِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْبُرّ وَالشّعِيرِ وَالتّمْرِ وَالزّبِيبِ تَحْتَ قَوْلِهِ لَا تَبِيعُوا الذّهَبَ بِالذّهَبِ وَالْفِضّةَ بِالْفِضّةِ وَالْبُرّ بِالْبِرّ وَالشّعِيرَ بِالشّعِيرِ وَالتّمْرَ بِالتّمْرِ وَالْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إلّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَكَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ عَنْ تَنَاوُلِ اسْمِهِ لَهُ فَهَكَذَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُسْكِرِ عَنْ اسْمِ الْخَمْرِ فَإِنّهُ يَتَضَمّنُ مَحْذُورَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْرَجَ مِنْ كَلَامِهِ مَا قَصَدَ دُخُولَهُ فِيهِ.
وَالثّانِي: أَنْ يُشْرَعَ لِذَلِكَ النّوْعِ الّذِي أُخْرِجَ حُكْمٌ غَيْرُ حُكْمِهِ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِأَلْفَاظِ الشّارِعِ وَمَعَانِيهِ فَإِنّهُ إذَا سَمّى ذَلِكَ النّوْعَ بِغَيْرِ الِاسْمِ الّذِي سَمّاهُ بِهِ الشّارِعُ أَزَالَ عَنْهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمُسَمّى وَأَعْطَاهُ حُكْمًا آخَرَ. وَلَمّا عَلِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أُمّتِهِ مَنْ يُبْتَلَى بِهَذَا كَمَا قَالَ لَيَشْرَبَنّ نَاسٌ مِنْ أُمّتِي الْخَمْرَ يُسَمّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا قَضَى قَضِيّةً كُلّيّةً عَامّةً لَا يَتَطَرّقُ إلَيْهَا إجْمَالٌ وَلَا احْتِمَالٌ بَلْ هِيَ شَافِيَةٌ كَافِيَةٌ فَقَالَ كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ هَذَا وَلَوْ أَنّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَالْخَلِيلَ وَأَضْرَابَهُمَا مِنْ أَئِمّةِ اللّغَةِ ذَكَرُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ هَكَذَا لَقَالُوا: قَدْ نَصّ أَئِمّةُ اللّغَةِ عَلَى كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَقَوْلُهُمْ حُجّةٌ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ هَدْيِهِ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ مَزِيدٌ تَقْرِيرٌ لِهَذَا وَأَنّهُ لَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَفْظُهُ لَكَانَ الْقِيَاسُ الصّرِيحُ الّذِي اسْتَوَى فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ مِنْ كُلّ وَجْهٍ حَاكِمًا بِالتّسْوِيَةِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالشّرْبِ فَالتّفْرِيقُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.