فصل: مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ:

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ يُحَرّمُ رَضَاعُ الْكَبِيرِ وَلَوْ أَنّهُ شَيْخٌ فَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَقَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ بِحَدِيثِ أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ بِرَضَاعِ سَالِمٍ فَفَعَلَتْ وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا لَهَا. قَالَ عُرْوَةُ فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنْ الرّجَالِ فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمّ كُلْثُومٍ وَبَنَاتَ أَخِيهَا يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنْ الرّجَالِ. وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ: حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ سَقَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ لَبَنِهَا بَعْدَ مَا كُنْت رَجُلًا كَبِيرًا أَفَأَنْكِحُهَا؟ قَالَ قَالَ نَعَمْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَأْمُرُ بِذَلِكَ بَنَاتَ أَخِيهَا. وَهَذَا قَوْلٌ ثَابِتٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَهُوَ قَوْلُ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي مُحَمّدِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ وَرَضَاعُ الْكَبِيرِ وَلَوْ أَنّهُ شَيْخٌ يُحَرّمُ كَمَا يُحَرّمُ رَضَاعُ الصّغِيرِ. وَلَا فَرْقَ فَهَذِهِ مَذَاهِبُ النّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَلْنَذْكُرْ مُنَاظَرَةَ أَصْحَابِ الْحَوْلَيْنِ وَالْقَائِلِينَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ فَإِنّهُمَا طَرَفَانِ وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ.

.حُجّةُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ التّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ:

قَالَ أَصْحَابُ الْحَوْلَيْنِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ} [الْبَقَرَةَ 233] قَالُوا: فَجَعَلَ تَمَامَ الرّضَاعَةِ حَوْلَيْنِ فَدَلّ عَلَى أَنّهُ لَا حُكْمَ لِمَا بَعْدَهُمَا فَلَا يَتَعَلّقُ بِهِ التّحْرِيمُ. قَالُوا: وَهَذِهِ الْمُدّةُ هِيَ مُدّةُ الْمَجَاعَةِ الّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَصَرَ الرّضَاعَةَ الْمُحَرّمَةَ عَلَيْهَا. قَالُوا: وَهَذِهِ مُدّةُ الثّدْيِ الّذِي قَالَ فِيهَا: لَا رَضَاعَ إلّا مَا كَانَ فِي الثّدْيِ أَيْ فِي زَمَنِ الثّدْيِ وَهَذِهِ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَإِنّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ فُلَانٌ مَاتَ فِي الثّدْيِ أَيْ فِي زَمَنِ الرّضَاعِ قَبْلَ الْفِطَامِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ إنّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ فِي الثّدْيِ وَإِنّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنّةِ تُتِمّ رَضَاعَهُ يَعْنِي إبْرَاهِيمَ ابْنَهُ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَأَكّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا رَضَاعَ إلّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ فِي الثّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ لِلرّضَاعِ الْمُحَرّمِ وَمَعْلُومٌ أَنّ رَضَاعَ الشّيْخِ الْكَبِيرِ عَارٍ مِنْ الثّلَاثَةِ. قَالُوا: وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ: لَا رَضَاعَ إلّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْن قَالُوا: وَأَكّدَهُ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يُحَرّمُ مِنْ الرّضَاعَةِ إلّا مَا أَنْبَتَ اللّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ وَرَضَاعُ الْكَبِيرِ لَا يُنْبِتُ لَحْمًا وَلَا يُنْشِزُ عَظْمًا. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ مُحَرّمًا لَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَائِشَةَ- وَقَدْ تَغَيّرَ وَجْهُهُ وَكَرِهَ دُخُولَ أَخِيهَا مِنْ الرّضَاعَةِ عَلَيْهَا لَمّا رَآهُ كَبِيرًا:- اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنّ فَلَوْ حَرّمَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصّغِيرِ وَلَمَا كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنّ ثُمّ قَالَ فَإِنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ وَتَحْتَ هَذَا مِنْ الْمَعْنَى خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَضَعَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الرّضَاعِ وَهُوَ زَمَنُ الْمَجَاعَةِ فَلَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَلَا يَكُونُ أَخًا. قَالُوا: وَأَمّا حَدِيثُ سَهْلَةَ فِي رَضَاعِ سَالِمٍ فَهَذَا كَانَ فِي أَوّلِ الْهِجْرَةِ لِأَنّ قِصّتَهُ كَانَتْ عَقِيبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الْأَحْزَابَ 5] وَهِيَ نَزَلَتْ فِي أَوّلِ الْهِجْرَةِ. وَأَمّا أَحَادِيثُ اشْتِرَاطِ الصّغَرِ وَأَنْ يَكُونَ فِي الثّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ فَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبّاسٍ إنّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ إنّمَا أَسْلَمَ عَامَ فَتْحِ خَيْبَرَ بِلَا شَكّ كِلَاهُمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ قِصّةِ سَالِمٍ فِي رَضَاعِهِ مِنْ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ.

.حُجّةُ مَنْ حَرّمَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ:

قَالَ الْمُثْبِتُونَ لِلتّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الشّيُوخِ قَدْ صَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِحّةً لَا يَمْتَرِي فِيهَا أَحَدٌ أَنّهُ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ كَبِيرًا ذَا لِحْيَةٍ وَقَالَ أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ ثُمّ سَاقُوا الْحَدِيثَ وَطُرُقَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ بِلَا شَكّ. ثُمّ قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ وَتُبَيّنُ مُرَادَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ أَنّ الرّضَاعَةَ الّتِي تَتِمّ بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ أَوْ بِتَرَاضِي الْأَبَوَيْنِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ إذَا رَأَيَا فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلرّضِيعِ إنّمَا هِيَ الْمُوجِبَةُ الْأَبَوَانِ أَحَبّا أَمْ كَرِهَا. وَلَقَدْ كَانَ فِي الْآيَةِ كِفَايَةٌ مِنْ هَذَا لِأَنّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ} [الْبَقَرَةَ 233] فَأَمَرَ اللّهُ تَعَالَى الْوَالِدَاتِ بِإِرْضَاعِ الْمَوْلُودِ عَامَيْنِ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَحْرِيمٌ لِلرّضَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا أَنّ التّحْرِيمَ يَنْقَطِعُ بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمّهَاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ} [النّسَاءَ 23] وَلَمْ يَقُلْ فِي حَوْلَيْنِ وَلَا فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ زَائِدًا عَلَى الْآيَاتِ الْأُخَرِ وَعُمُومُهَا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلّا بِنَصّ يُبَيّنُ أَنّهُ تَخْصِيصٌ لَهُ لَا بِظَنّ وَلَا مُحْتَمَلٍ لَا بَيَانَ فِيهِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ يَعْنِي الّتِي فِيهَا التّحْرِيمُ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ قَدْ جَاءَتْ مَجِيءَ التّوَاتُرِ رَوَاهَا نِسَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ وَهِيَ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ وَزَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سَلَمَةَ وَهِيَ رَبِيبَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَوَاهَا مِنْ التّابِعِينَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمّدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ وَحُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ وَرَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ الزّهْرِيّ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ وَرَبِيعَةُ ثُمّ رَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ أَيّوبُ السّخْتِيَانِيّ وَسُفْيَانُ الثّوْرِيّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةُ وَمَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشُعَيْبٌ وَيُونُسُ وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعْمَرٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَغَيْرُهُمْ ثُمّ رَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْجَمّ الْغَفِيرُ وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ فَهِيَ نَقْلُ كَافّةٍ لَا يَخْتَلِفُ مُؤَالِفٌ وَلَا مُخَالِفٌ فِي صِحّتِهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ إلّا قَوْلُ الْقَائِلِ كَانَ ذَلِكَ خَاصّا بِسَالِمِ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ تَبِعَهُنّ فِي ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ مَنْ تَعَلّقَ بِهَذَا أَنّهُ ظَنّ مِمّنْ ظَنّ ذَلِكَ مِنْهُنّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ. هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ أَنّهُنّ قُلْنَ مَا نَرَى هَذَا إلّا خَاصّا بِسَالِمِ وَمَا نَدْرِي لَعَلّهَا كَانَتْ رُخْصَةً لِسَالِمٍ. فَإِذَا هُوَ ظَنّ بِلَا شَكّ فَإِنّ الظّنّ لَا يُعَارَضُ بِهِ السّنَنُ الثّابِتَةُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: {إِنّ الظّنّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئًا} [يُونُسَ 36] وَشَتّانَ بَيْنَ احْتِجَاجِ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِظَنّهَا وَبَيْنَ احْتِجَاجِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِالسّنّةِ الثّابِتَةِ وَلِهَذَا لَمّا قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ سَكَتَتْ أُمّ سَلَمَةَ وَلَمْ تَنْطِقْ بِحَرْفِ وَهَذَا إمّا عَائِشَةَ وَإِمّا انْقِطَاعٌ فِي يَدِهَا. قَالُوا: وَقَوْلُ سَهْلَةَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ بَيَانٌ جَلِيّ أَنّهُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ. قَالُوا: وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَاصّا بِسَالِمِ لَقَطَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِلْحَاقَ وَنَصّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ بَعْدَهُ كَمَا بَيّنَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ أَنّ جَذَعَتَهُ تُجْزِئُ عَنْهُ وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهُ.. وَأَيْنَ يَقَعُ ذَبْحُ جَذَعَةٍ أُضْحِيّةً مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَلّقِ بِهِ حِلّ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمُهُ وَثُبُوتُ الْمَحْرَمِيّةِ وَالْخَلْوَةِ بِالْمَرْأَةِ وَالسّفَرِ بِهَا؟ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّ هَذَا أَوْلَى بِبَيَانِ التّخْصِيصِ لَوْ كَانَ خَاصّا. قَالُوا: وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ حُجّةٌ لَنَا لِأَنّ شُرْبَ الْكَبِيرِ لِلّبَنِ يُؤَثّرُ فِي دَفْعِ مَجَاعَتِهِ قَطْعًا كَمَا يُؤَثّرُ فِي الصّغِيرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. فَإِنْ قُلْتُمْ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ إذَا كَانَ الْكَبِيرُ وَالصّغِيرُ فِيهِ سَوَاءً؟ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ إبْطَالُ تَعَلّقِ التّحْرِيمِ بِالْقَطْرَةِ مِنْ اللّبَنِ أَوْ الْمَصّةِ الْوَاحِدَةِ الّتِي لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَلَا تُنْبِتُ لَحْمًا وَلَا تُنْشِزُ عَظْمًا. قَالُوا: وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا رَضَاعَ إلّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ فِي الثّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ لَيْسَ بِأَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا رِبَا إلّا فِي النّسِيئَةِ وَإِنّمَا الرّبَا فِي النّسِيئَةِ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ ثُبُوتُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْأَدِلّةِ الدّالّةِ عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا. فَأَحَادِيثُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسُنَنُهُ الثّابِتَةُ كُلّهَا حَقّ يَجِبُ اتّبَاعُهَا وَلَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ بَلْ تَسْتَعْمِلُ كُلّا مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ. قَالُوا: وَمِمّا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنّ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَأَفْقَهَ نِسَاءِ الْأُمّةِ هِيَ الّتِي رَوَتْ هَذَا وَهَذَا إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ وَرَوَتْ حَدِيثَ سَهْلَةَ وَأَخَذَتْ بِهِ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهَا حَدِيثُ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ مُخَالِفًا لِحَدِيثِ سَهْلَةَ لَمَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ وَتَرَكَتْ حَدِيثًا وَاجَهَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَغَيّرَ وَجْهُهُ وَكَرِهَ الرّجُلَ الّذِي رَآهُ عِنْدَهَا وَقَالَتْ هُوَ أَخِي. قَالُوا: وَقَدْ صَحّ عَنْهَا أَنّهَا كَانَتْ تُدْخِلُ عَلَيْهَا الْكَبِيرَ إذَا أَرْضَعَتْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ أُخْتٌ مِنْ أَخَوَاتِهَا الرّضَاعَ الْمُحَرّمَ وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللّهِ وَنَقْطَعُ قَطْعًا نَلْقَاهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنّ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ لِتُبِيحَ سِتْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحَيْثُ يَنْتَهِكُهُ مَنْ لَا يَحِلّ لَهُ انْتِهَاكُهُ وَلَمْ يَكُنْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِيُبِيحَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصّدّيقَةِ بِنْتِ الصّدّيقِ الْمُبَرّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَقَدْ عَصَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْجَنَابَ الْكَرِيمَ وَالْحِمَى الْمَنِيعَ وَالشّرَفَ الرّفِيعَ أَتَمّ عِصْمَةٍ وَصَانَهُ أَعْظَمَ صِيَانَةٍ وَتَوَلّى صِيَانَتَهُ وَحِمَايَتَهُ وَالذّبّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَوَحْيِهِ وَكَلَامِهِ. قَالُوا: فَنَحْنُ نُوقِنُ وَنَقْطَعُ وَنَبُتّ الشّهَادَةَ لِلّهِ بِأَنّ فِعْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا هُوَ الْحَقّ وَأَنّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يَقَعُ بِهِ مِنْ التّحْرِيمِ وَالْمَحْرَمِيّةِ مَا يَقَعُ بِرَضَاعِ الصّغِيرِ وَيَكْفِينَا أُمّنَا أَفْقَهُ نِسَاءِ الْأُمّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ كَانَتْ تُنَاظِرُ فِي ذَلِكَ نِسَاءَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُجِبْنَهَا بِغَيْرِ قَوْلِهِنّ مَا أَحَدٌ دَاخِلٌ عَلَيْنَا بِتِلْكَ الرّضَاعَةِ وَيَكْفِينَا فِي ذَلِكَ أَنّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عَمّ نَبِيّنَا وَأَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حِينَ كَانَ خَلِيفَةً وَمَذْهَبُ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الّذِي شَهِدَ لَهُ الشّافِعِيّ بِأَنّهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إلّا أَنّهُ ضَيّعَهُ أَصْحَابُهُ وَمَذْهَبُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ذَكَرَهُ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ. وَذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَاحْتَجّ بِحَدِيثِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ فِي قِصّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنّ سَالِمَ بْنَ أَبِي جَعْدٍ الْمَوْلَى الْأَشْجَعِيّ أَخْبَرَهُ أَنّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنّهُ سَأَلَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَرَدْت أَنْ أَتَزَوّجَ امْرَأَةً قَدْ سَقَتْنِي مِنْ لَبَنِهَا وَأَنَا كَبِيرٌ تَدَاوَيْتُ بِهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيّ لَا تَنْكِحْهَا وَنَهَاهُ عَنْهَا قَالُوا: وَأَصْرَحُ أَحَادِيثِكُمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ تَرْفَعُهُ لَا يُحَرّمُ مِنْ الرّضَاعِ إلّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ فَمَا أَصْرَحَهُ لَوْ كَانَ سَلِيمًا مِنْ الْعِلّةِ لَكِنّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهَا شَيْئًا لِأَنّهَا كَانَتْ أَسَنّ مِنْ زَوْجِهَا هِشَامٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ عَامًا فَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتّينَ وَمَوْلِدُ فَاطِمَةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمَاتَتْ أُمّ سَلَمَةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَفَاطِمَةُ صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْهَا فَكَيْفَ تَحْفَظُ عَنْهَا وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْ خَالَةِ أَبِيهَا شَيْئًا وَهِيَ فِي حَجْرِهَا كَمَا حَصَلَ سَمَاعُهَا مِنْ جَدّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالُوا: وَإِذَا نَظَرَ الْعَالِمُ الْمُنْصِفُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَوَازَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ يَحُدّ مُدّةَ الرّضَاعِ الْمُحَرّمِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ سِتّةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِ اللّهِ أَوْ سُنّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ تَبَيّنَ لَهُ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا الطّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَعَلّ الْوَاقِفَ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ أَنّ هَذَا الْقَوْلَ تَنْتَهِي قُوّتُهُ إلَى هَذَا الْحَدّ وَأَنّهُ لَيْسَ بِأَيْدِي أَصْحَابِهِ قُدْرَةٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ وَتَصْحِيحِهِ فَاجْلِسْ أَيّهَا الْعَالِمُ الْمُنْصِفُ مَجْلِسَ الْحَكَمِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَافْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ لَا بِالتّقْلِيدِ وَقَالَ فُلَانٌ.
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْحَوْلَيْنِ فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَسَالِكَ أَحَدُهَا: أَنّهُ مَنْسُوخٌ وَهَذَا مَسْلَكُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْتُوا عَلَى النّسْخِ بِحُجّةِ سِوَى الدّعْوَى فَإِنّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إثْبَاتُ التّارِيخِ الْمَعْلُومِ التّأَخّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. وَلَوْ قَلَبَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ الدّعْوَى وَادّعَوْا نَسْخَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِحَدِيثِ سَهْلَةَ لَكَانَتْ نَظِيرَ دَعْوَاهُمْ. وَأَمّا قَوْلُهُمْ إنّهَا كَانَتْ فِي أَوّلِ الْهِجْرَةِ وَحِينَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الْأَحْزَابَ 5] وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنّهُمَا لَمْ يُصَرّحَا بِسَمَاعِهِ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ابْنُ عَبّاسٍ إلّا دُونَ الْعِشْرِينَ حَدِيثًا وَسَائِرُهَا عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ.
الثّانِي: أَنّ نِسَاءَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ تَحْتَجّ وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ بَلْ وَلَا غَيْرُهُنّ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِذَلِكَ بَلْ سَلَكْنَ فِي الْحَدِيثِ بِتَخْصِيصِهِ بِسَالِمِ وَعَدَمِ إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ.
الثّالِثُ أَنّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا نَفْسَهَا رَوَتْ هَذَا وَهَذَا فَلَوْ كَانَ حَدِيثُ سَهْلَةَ مَنْسُوخًا لَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَدْ أَخَذَتْ بِهِ وَتَرَكَتْ النّاسِخَ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهَا تَقَدّمُهُ مَعَ كَوْنِهَا هِيَ الرّاوِيَةَ لَهُ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ وَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ.
الرّابِعُ أَنّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا اُبْتُلِيَتْ بِالْمَسْأَلَةِ وَكَانَتْ تَعْمَلُ بِهَا وَتُنَاظِرُ عَلَيْهَا وَتَدْعُو إلَيْهَا صَوَاحِبَاتِهَا فَلَهَا بِهَا مَزِيدُ اعْتِنَاءٍ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا حُكْمًا مَنْسُوخًا قَدْ بَطَلَ كَوْنُهُ مِنْ الدّينِ جُمْلَةً وَيَخْفَى عَلَيْهَا ذَلِك وَيَخْفَى عَلَى نِسَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا تَذْكُرُهُ لَهَا وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ.
الْمَسْلَكُ الثّانِي: أَنّهُ مَخْصُوصٌ بِسَالِمِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ وَهَذَا مَسْلَكُ أُمّ سَلَمَةَ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ نِسَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ تَبِعَهُنّ وَهَذَا الْمَسْلَكُ أَقْوَى مِمّا قَبْلَهُ فَإِنّ أَصْحَابَهُ قَالُوا مِمّا يُبَيّنُ اخْتِصَاصَهُ بِسَالِمِ أَنّ فِيهِ أَنّ سَهْلَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنّهُ لَا يَحِلّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَ زِينَتَهَا إلّا لِمَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَسُمّيَ فِيهَا وَلَا يُخَصّ مِنْ عُمُومِ مَنْ عَدَاهُمْ أَحَدٌ إلّا بِدَلِيلٍ. قَالُوا: وَالْمَرْأَةُ إذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيّا فَقَدْ أَبْدَتْ زِينَتَهَا لَهُ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ تَمَسّكًا بِعُمُومِ الْآيَةِ فَعَلِمْنَا أَنّ إبْدَاءَ سَهْلَةَ زِينَتَهَا لِسَالِمٍ خَاصّ بِهِ. قَالُوا: وَإِذَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدًا مِنْ الْأُمّةِ بِأَمْرِ أَوْ أَبَاحَ لَهُ شَيْئًا أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِي الشّرِيعَةِ مَا يُعَارِضُهُ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقّ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمّةِ مَا لَمْ يَنُصّ عَلَى تَخْصِيصِهِ وَأَمّا إذَا أَمَرَ النّاسَ بِأَمْرِ أَوْ نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ ثُمّ أَمَرَ وَاحِدًا مِنْ الْأُمّةِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ النّاسَ أَوْ أَطْلَقَ لَهُ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ يَكُونُ خَاصّا بِهِ وَحْدَهُ وَلَا نَقُولُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنّ أَمْرَهُ لِلْوَاحِدِ أَمْرٌ لِلْجَمِيعِ وَإِبَاحَتَهُ لِلْوَاحِدِ إبَاحَةٌ لِلْجَمِيعِ لِأَنّ ذَلِكَ يُؤَدّي إلَى إسْقَاطِ الْأَمْرِ الْأَوّلِ وَالنّهْيِ الْأَوّلِ بَلْ نَقُولُ إنّهُ خَاصّ بِذَلِكَ الْوَاحِدِ لِتَتّفِقَ النّصُوصُ وَتَأْتَلِفَ وَلَا يُعَارِضَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَحَرّمَ اللّهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ تُبْدِيَ الْمَرْأَةُ زِينَتَهَا لِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَأَبَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَهْلَةَ أَنْ تُبْدِيَ زِينَتَهَا لِسَالِمِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْرَمٍ عِنْدَ إبْدَاءِ الزّينَةِ قَطْعًا فَيَكُونُ ذَلِكَ رُخْصَةً خَاصّةً بِسَالِمِ مُسْتَثْنَاةً مِنْ عُمُومِ التّحْرِيمِ وَلَا نَقُولُ إنّ حُكْمَهَا عَامّ فَيُبْطِلُ حُكْمَ الْآيَةِ الْمُحَرّمَةِ. قَالُوا: وَيَتَعَيّنُ هَذَا الْمَسْلَكُ لِأَنّا لَوْ لَمْ نَسْلُكْهُ لَزِمَنَا أَحَدُ مَسْلَكَيْنِ وَلَابُدّ مِنْهُمَا إمّا نَسْخُ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْأَحَادِيثِ الدّالّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الصّغَرِ فِي التّحْرِيمِ وَإِمّا نَسْخُهَا بِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتّارِيخِ وَلِعَدَمِ تَحَقّقِ الْمُعَارَضَةِ وَلِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ كُلّهَا فَإِنّا إذَا حَمَلْنَا حَدِيثَ سَهْلَةَ عَلَى الرّخْصَةِ الْخَاصّةِ وَالْأَحَادِيثَ الْأُخَرَ عَلَى عُمُومِهَا فِيمَا عَدَا سَالِمًا لَمْ تَتَعَارَضْ وَلَمْ يَنْسَخْ بَعْضُهَا بَعْضًا وَعُمِلَ بِجَمِيعِهَا. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ بَيّنَ أَنّ الرّضَاعَ إنّمَا يَكُونُ فِي الْحَوْلَيْنِ وَأَنّهُ إنّمَا يَكُونُ فِي الثّدْيِ وَإِنّمَا يَكُونُ قَبْلَ الْفِطَامِ كَانَ ذَلِكَ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ حَدِيثَ سَهْلَةَ عَلَى الْخُصُوصِ سَوَاءٌ تَقَدّمَ أَوْ تَأَخّرَ فَلَا يَنْحَصِرُ بَيَانُ الْخُصُوصِ فِي قَوْلِهِ هَذَا لَك وَحْدَك حَتّى يَتَعَيّنَ طَرِيقًا. قَالُوا: وَأَمّا تَفْسِيرُ حَدِيثِ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ اللّفْظِ وَلَا تَتَبَادَرُ إلَيْهِ أَفْهَامُ الْمُخَاطَبِينَ بَلْ الْقَوْلُ فِي مَعْنَاهُ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالنّاسُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَوْلُهُ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ يَقُولُ إنّ الّذِي إذَا جَاعَ كَانَ طَعَامُهُ الّذِي يُشْبِعُهُ اللّبَنَ إنّمَا هُوَ الصّبِيّ الرّضِيعُ. فَأَمّا الّذِي شِبَعُهُ مِنْ جُوعِهِ الطّعَامُ فَإِنّ رَضَاعَهُ لَيْسَ بِرَضَاعِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ إنّمَا الرّضَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ قَبْلَ الْفِطَامِ هَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالنّاسِ وَهُوَ الّذِي يَتَبَادَرُ فَهْمُهُ مِنْ الْحَدِيثِ إلَى الْأَذْهَانِ حَتّى لَوْ احْتَمَلَ الْحَدِيثُ التّفْسِيرَيْنِ عَلَى السّوَاءِ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِهِ لِمُسَاعَدَةِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَكَشْفِهَا لَهُ وَإِيضَاحِهَا وَمِمّا يُبَيّنُ أَنّ غَيْرَ هَذَا التّفْسِيرِ خَطَأٌ وَأَنّهُ لَا يَصِحّ أَنْ يُرَادَ بِهِ رَضَاعَةُ الْكَبِيرِ أَنّ لَفْظَةَ الْمَجَاعَةِ إنّمَا تَدُلّ عَلَى رَضَاعَةِ الصّغِيرِ فَهِيَ تُثْبِتُ رَضَاعَةَ الْمَجَاعَةِ وَتَنْفِي غَيْرَهَا وَمَعْلُومٌ يَقِينًا أَنّهُ إنّمَا أَرَادَ مَجَاعَةَ اللّبَنِ لَا مَجَاعَةَ الْخُبْزِ وَاللّحْمِ فَهَذَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلّمِ وَلَا السّامِعِ فَلَوْ جَعَلْنَا حُكْمَ الرّضَاعَةِ عَامّا لَمْ يَبْقَ لَنَا مَا يَنْفِي وَيُثْبِتُ. وَسِيَاقُ قَوْلِهِ لَمّا رَأَى الرّجُلَ الْكَبِيرَ فَقَالَ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ يُبَيّنُ الْمُرَادَ وَأَنّهُ إنّمَا يُحَرّمُ رَضَاعَةُ مَنْ يَجُوعُ إلَى لَبَنِ الْمَرْأَةِ وَالسّيَاقُ يُنَزّلُ اللّفْظَ مَنْزِلَةَ الصّرِيحِ فَتَغَيّرُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَكَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ الرّجُلِ وَقَوْلُهُ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنّ إنّمَا هُوَ لِلتّحَفّظِ فِي الرّضَاعَةِ وَأَنّهَا لَا تُحَرّمُ كُلّ وَقْتٍ وَإِنّمَا تُحَرّمُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا أَنّمَا الرّضَاعَةُ مَا كَانَ عَدَدُهَا خَمْسًا فَيُعَبّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ مِنْ الْمَجَاعَةِ وَهَذَا ضِدّ الْبَيَانِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَقَوْلُكُمْ إنّ الرّضَاعَةَ تَطْرُدُ الْجُوعَ عَنْ الْكَبِيرِ كَمَا تَطْرُدُ الْجُوعَ عَنْ الصّغِيرِ قَطّ يُشْبِعُهُ رَضَاعُ الْمَرْأَةِ وَيَطْرُدُ عَنْهُ الْجُوعَ بِخِلَافِ الصّغِيرِ فَإِنّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللّبَنِ فَهُوَ يَطْرُدُ عَنْهُ الْجُوعَ فَالْكَبِيرُ لَيْسَ ذَا مَجَاعَةٍ إلَى اللّبَنِ أَصْلًا وَاَلّذِي يُوَضّحُ هَذَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْمَجَاعَةِ وَإِنّمَا أَرَادَ مَظِنّتَهَا وَزَمَنَهَا وَلَا شَكّ أَنّهُ الصّغَرُ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلّا الظّاهِرِيّةَ وَأَنّهُ أَرَادَ حَقِيقَتَهَا لَزِمَكُمْ أَنْ لَا يُحَرّمَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ إلّا إذَا ارْتَضَعَ وَهُوَ جَائِعٌ فَلَوْ ارْتَضَعَ وَهُوَ شَبْعَانُ لَمْ يُؤَثّرْ شَيْئًا. وَأَمّا حَدِيثُ السّتْرِ الْمَصُونِ وَالْحُرْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْحِمَى الْمَنِيعِ فَرَضِيَ اللّهُ عَنْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنّهَا وَإِنْ رَأَتْ أَنّ هَذَا الرّضَاعَ يُثْبِتُ الْمَحْرَمِيّةَ فَسَائِرُ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخَالِفْنَهَا فِي ذَلِكَ وَلَا يَرَيْنَ دُخُولَ هَذَا السّتْرِ الْمَصُونِ وَالْحِمَى الرّفِيعِ بِهَذِهِ الرّضَاعَةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ وَأَحَدُ الْحِزْبَيْنِ مَأْجُورٌ أَجْرًا وَاحِدًا وَالْآخَرُ مَأْجُورٌ أَجْرَيْنِ وَأَسْعَدُهُمَا بِالْأَجْرَيْنِ مَنْ أَصَابَ حُكْمَ اللّهِ وَرَسُولِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَكُلّ مِنْ الْمُدْخِلِ لِلسّتْرِ الْمَصُونِ بِهَذِهِ الرّضَاعَةِ وَالْمَانِعِ مِنْ الدّخُولِ فَائِزٌ بِالْأَجْرِ مُجْتَهِدٌ فِي مَرْضَاةِ اللّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَتَنْفِيذِ حُكْمِهِ وَلَهُمَا أُسْوَةٌ بِالنّبِيّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ- دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ اللّذَيْنِ أَثْنَى اللّهُ عَلَيْهِمَا بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَخَصّ بِفَهْمِ الْحُكُومَةِ أَحَدَهُمَا.