فصل: فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الطّعَامِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل الدّعَاءُ فِي الْعَشْرِ:

وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكْثِرُ الدّعَاءَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ وَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِكْثَارِ مَنْ التّهْلِيلِ وَالتّكْبِيرِ وَالتّحْمِيدِ.

.التّكْبِيرُ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى عَصْرِ ثَالِثِ أَيّامِ التّشْرِيقِ:

وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يُكَبّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيّامِ التّشْرِيقِ فَيَقُولُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ، وَاللّهُ أَكْبَرُ وَلِلّهِ الْحَمْدُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحّ إسْنَادُهُ فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ هَكَذَا يَشْفَعُ التّكْبِيرَ وَأَمّا كَوْنُهُ ثَلَاثًا، فَإِنّمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبّاسٍ مِنْ فِعْلِهِمَا ثَلَاثًا فَقَطْ وَكِلَاهُمَا قَالَ الشّافِعِيّ: إنْ زَادَ فَقَالَ اللّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلّا إيّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ لَا إلَه إلّا اللّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ لَا إلَه إلّا اللّهُ وَاللّهُ أَكْبَرُ كَانَ حَسَنًا.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّكْرِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ:

يُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ اللّهُمّ أَهِلّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبّي وَرَبّك اللّهُ قَالَ التّرْمِذِيّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُمّ أَهِلّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالتّوْفِيقِ لِمَا يُحِبّ رَبّنَا وَيَرْضَى، رَبّنَا وَرَبّكَ اللّهُ ذَكَرَهُ الدّارِمِيّ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَتَادَةَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِاَلّذِي خَلَقَكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ ثُمّ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا، وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا وَفِي أَسَانِيدِهَا لِينٌ. أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ سُنَنِهِ أَنّهُ قَالَ لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الطّعَامِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ:

كَانَ إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الطّعَامِ قَالَ بِسْمِ اللّهِ وَيَأْمُرُ الْآكِلَ بِالتّسْمِيَةِ وَيَقُول: إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللّهِ تَعَالَى، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللّهِ فِي أَوّلهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ فِي أَوّلِهِ وَآخِرِهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَالصّحِيحُ وُجُوبُ التّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَأَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِهَا صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا، وَلَا إجْمَاعَ يُسَوّغُ مُخَالَفَتَهَا وَيُخْرِجُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا، وَتَارِكُهَا شَرِيكُهُ الشّيْطَانُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ.

.فصل هَلْ تَزُولُ مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ لِلْآكِلِينَ بِتَسْمِيَةِ أَحَدِهِمْ؟

وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا، وَهِيَ أَنّ الْآكِلِينَ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ بِتَسْمِيَتِهِ وَحْدَهُ أَمْ لَا تَزُولُ إلّا بِتَسْمِيَةِ الْجَمِيعِ؟ فَنَصّ الشّافِعِيّ عَلَى إجْزَاءِ تَسْمِيَةِ الْوَاحِدِ عَنْ الْبَاقِينَ وَجَعَلَهُ أَصْحَابُهُ كَرَدّ السّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَقَدْ يُقَالُ لَا تُرْفَعُ مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ لِلْآكِلِ إلّا بِتَسْمِيَتِهِ هُوَ وَلَا يَكْفِيهِ تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ إنّا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامًا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنّمَا تُدْفَعُ فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صلى اللّهُ عليه وسلم بيدها، ثُمّ جاء أَعْرَابِيّ كَأَنّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الشّيْطَانَ لَيَسْتَحِلّ الطّعَامَ أَنْ لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيّ لِيَسْتَحِلّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّ يَدَهُ لَفِي يَدِي مَعَ يَدَيْهِمَا ثُمّ ذَكَرَ اسْمَ اللّهِ وَأَكَلَ وَلَوْ كَانَتْ تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ تَكْفِي، لَمَا وَضَعَ الشّيْطَانُ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الطّعَامِ. وَلَكِنْ قَدْ يُجَابُ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ وَسَمّى بَعْدُ وَلَكِنّ الْجَارِيَةَ ابْتَدَأَتْ بِالْوَضْعِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَكَذَلِكَ الْأَعْرَابِيّ، فَشَارَكَهُمَا الشّيْطَانُ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنّ الشّيْطَانَ شَارَكَ مَنْ لَمْ يُسَمّ بَعْدَ تَسْمِيَةِ غَيْرِهِ؟ فَهَذَا مِمّا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَكِنْ قَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ وَصَحّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي سِتّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ أَعْرَابِيّ، فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا إنّهُ لَوْ سَمّى لَكَفَاكُمْ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأُولَئِكَ السّتّةَ سَمّوْا، فَأَكَلَ وَلَمْ يُسَمّ شَارَكَهُ الشّيْطَانُ فِي أَكْلِهِ فَأَكَلَ الطّعَامَ بِلُقْمَتَيْنِ وَلَوْ سَمّى لَكَفَى الْجَمِيعَ.

.وَأَمّا مَسْأَلَةُ رَدّ السّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ:

فَفِيهَا نَظَرٌ وَقَدْ صَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللّهَ فَحَقّ عَلَى كُلّ مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمّتَهُ وَإِنْ سَلِمَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ ظَاهِرٌ فَإِنّ الشّيْطَانَ إنّمَا يَتَوَصّلُ إلَى مُشَارَكَةِ الْآكِلِ فِي أَكْلِهِ إذَا لَمْ يُسَمّ فَإِذَا سَمّى غَيْرُهُ لَمْ تُجِزْ تَسْمِيَةُ مَنْ سَمّى عَمّنْ لَمْ يُسَمّ مِنْ مُقَارَنَةِ الشّيْطَانِ لَهُ فَيَأْكُلُ مَعَهُ بَلْ تَقِلّ مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ بِتَسْمِيَةِ بَعْضِهِمْ وَتَبْقَى الشّرِكَةُ بَيْنَ مَنْ لَمْ يُسَمّ وَبَيْنَهُ وَاللّهُ أَعْلَمُ. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمّيَ عَلَى طَعَامِهِ، فَلْيَقْرَأْ {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ} إذَا فَرَغَ وَفِي ثُبُوتِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ.
وَكَانَ إذَا رُفِعَ الطّعَامُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيّ وَلَا مُوَدّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبّنَا عَزّ وَجَل ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ. كَانَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ وَكَانَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي كَفَانَا وَآوَانَا وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنّي وَلَا قُوّةٍ غَفَرَ اللّهُ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ إذَا قُرّبَ إلَيْهِ الطّعَامُ قَالَ بِسْمِ اللّهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ اللّهُمّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وَأَحْيَيْتَ فَلَك الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَفِي السّنَنِ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا فَرَغَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي مَنّ عَلَيْنَا وَهَدَانَا، وَاَلّذِي أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا، وَمِنْ كُلّ الْإِحْسَانِ آتَانَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي السّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُل اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ. وَمَنْ سَقَاهَ اللّهُ لَبَنًا، فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ وَيُجْزِئُ عَنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ غَيْرُ اللّبَنِ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ إذَا شَرِبَ فِي الْإِنَاءِ تَنَفّسَ ثَلَاثَةَ أَنْفَاسٍ وَيَحْمَدُ اللّهَ فِي كُلّ نَفَسٍ وَيَشْكُرُهُ فِي آخِرِهِنّ.

.فصل أَحْكَامُ الدّعْوَةِ إلَى الطّعَامِ:

وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ رُبّمَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطّ، بَلْ كَانَ إذَا اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ وَسَكَتَ وَرُبّمَا قَالَ أَجِدُنِي أَعَافُهُ إنّي لَا أَشْتَهِيهِ وَكَانَ يَمْدَحُ الطّعَامَ أَحْيَانًا، كَقَوْلِهِ لَمّا سَأَلَ أَهْلَهُ الْإِدَامَ فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا إلّا خَلّ، فَدَعَا بِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلّ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى اللّبَنِ وَاللّحْمِ وَالْعَسَلِ وَالْمَرَقِ وَإِنّمَا هُوَ مَدْحٌ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ الّتِي حَضَرَ فِيهَا، وَلَوْ حَضَرَ لَحْمٌ أَوْ لَبَنٌ كَانَ أَوْلَى بِالْمَدْحِ مِنْهُ وَقَالَ هَذَا جَبْرًا وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِ مَنْ قَدّمَهُ لَا تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدَامِ. وَكَانَ إذَا قُرّبَ إلَيْهِ طَعَامٌ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ إنّي صَائِمٌ وَأَمَرَ مَنْ قُرّبَ إلَيْهِ الطّعَامُ وَهُوَ صَائِمٌ أَنْ يُصَلّيَ أَيْ يَدْعُو لِمَنْ قَدّمَهُ وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ. وَكَانَ إذَا دُعِيَ لِطَعَامٍ وَتَبِعَهُ أَحَدٌ، أَعْلَمَ بِهِ رَبّ الْمَنْزِلِ وَقَالَ إنّ هَذَا تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ وَكَانَ يَتَحَدّثُ عَلَى طَعَامِهِ كَمَا تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ الْخَلّ وَكَمَا قَالَ لِرَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ يُؤَاكِلُهُ سَمّ اللّهَ وَكُلْ مِمّا يَلِيك. كَانَ يُكَرّرُ عَلَى أَضْيَافِهِ عَرْضَ الْأَكْلِ عَلَيْهِمْ مِرَارًا، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكَرَمِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هَرِيرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيّ فِي قِصّةِ شُرْبِ اللّبَنِ وَقَوْلِهِ لَهُ مِرَارًا: اشْرَبْ، فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ حَتّى قَالَ وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ لَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا وَكَانَ إذَا أَكَلَ عِنْدَ قَوْمٍ لَمْ يَخْرُجْ حَتّى يَدْعُوَ لَهُمْ فَدَعَا فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُسْرٍ، فَقَالَ اللّهُمّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَدَعَا فِي مَنْزِلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ وَصَلّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ لَمّا دَعَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيْهَانِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَأَكَلُوا، فَلَمّا فَرَغُوا قَالَ أَثِيبُوا أَخَاكُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا إثَابَتُهُ؟ قَالَ إنّ الرّجُلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ فَأُكِلَ طَعَامُهُ وَشُرِبَ شَرَابُهُ فَدَعَوْا لَهُ فَذَلِكَ إثَابَتُهُ. وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ لَيْلَةً فَالْتَمَسَ طَعَامًا فَلَمْ يَجِدْهُ فَقَالَ اللّهُمّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي. عَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ سَقَاهُ لَبَنًا فَقَالَ اللّهُمّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ فَمَرّتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ. وَكَانَ يَدْعُو لِمَنْ يُضِيفُ الْمَسَاكِينَ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَرّةً أَلَا رَجُلٌ يُضِيفُ هَذَا رَحِمَهُ اللّهُ وَقَالَ لِلْأَنْصَارِيّ وَامْرَأَتِهِ اللّذَيْنِ آثَرَا بِقُوتِهِمَا وَقُوتِ صِبْيَانِهِمَا ضَيْفَهُمَا: لَقَدْ عَجِبَ اللّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللّيْلَةَ.

.عَدَمُ الْأَنَفَةِ مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَيّ إنْسَانٍ:

وَكَانَ لَا يَأْنَفُ مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَحَدٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، حُرّا أَوْ عَبْدًا، أَعْرَابِيّا أَوْ مُهَاجِرًا، حَتّى لَقَدْ رَوَى أَصْحَابُ السّنَنِ عَنْهُ أَنّهُ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ فَقَالَ كُلْ بِسْمِ اللّهِ ثِقَةً بِاَللّهِ، وَتَوَكّلًا عَلَيْهِ.

.الْأَكْلُ بِالْيَمِينِ:

وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَيَنْهَى عَنْ الْأَكْلِ بِالشّمَالِ وَيَقُولُ إنّ الشّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَمُقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمُ الْأَكْلِ بِهَا، وَهُوَ الصّحِيحُ فَإِنّ الْآكِلَ بِهَا، إمّا شَيْطَانٌ وَإِمّا مُشَبّهٌ بِهِ. وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَكَلَ فَأَكَلَ بِشِمَالِهِ كُلْ بِيَمِينِكَ، فَقَالَ لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ لَا اسْتَطَعْتَ فَمَا رَفَعَ يَدَهُ إلَى فِيهِ بَعْدَهَا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، لَمَا دَعَا عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ كِبْرُهُ حَمَلَهُ عَلَى تَرْكِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَذَلِك أَبْلَغُ فِي الْعِصْيَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الدّعَاءِ عَلَيْهِ. وَأَمَرَ مَنْ شَكَوْا إلَيْهِ أَنّهُمْ لَا يَشْبَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِهِمْ وَلَا يَتَفَرّقُوا، وَأَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكُ لَهُمْ فِيهِ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ إنّ اللّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ يَحْمَدُه عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشّرْبَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَالصّلَاةِ وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ وَأَحْرَى بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَالْوَاقِعُ فِي التّجْرِبَةِ يَشْهَدُ بِهِ.

.فَصْلٌ فِي هَدْيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ:

ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ أَفْضَلَ الْإِسْلَامِ وَخَيْرَهُ إطْعَامُ الطّعَامِ وَأَنْ تَقْرَأَ السّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِف. وَفِيهِمَا أَنّ آدَمَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ لَمّا خَلَقَهُ اللّهُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَسَلّمْ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمِعْ مَا يُحَيّونَكَ بِهِ فَإِنّهَا تَحِيّتُكَ وَتَحِيّةُ ذُرّيّتِكَ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا: السّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللّهِ. وَفِيهِمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِإِفْشَاءِ السّلَامِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إذَا أَفْشَوْا السّلَامَ بَيْنَهُمْ تَحَابّوا، وَأَنّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى يُؤْمِنُوا، وَلَا يُؤْمِنُونَ حَتّى يَتَحَابّوا. وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ عَمّارٌ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ.

.فَضَائِلُ الْإِنْصَافِ:

وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أُصُولَ الْخَيْرِ وَفُرُوعَهُ فَإِنّ الْإِنْصَافَ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءَ حُقُوقِ اللّهِ كَامِلَةً مُوَفّرَةً وَأَدَاءِ حُقُوقِ النّاسِ كَذَلِكَ وَأَنْ لَا يُطَالِبَهُمْ بِمَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يُحَمّلَهُمْ فَوْقَ وُسْعِهِمْ وَيُعَامِلَهُمْ بِمَا يُحِبّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ وَيُعْفِيَهُمْ مِمّا يُحِبّ أَنْ يُعْفُوهُ مِنْهُ وَيَحْكُمَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إنْصَافُهُ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا يَدّعِي لَهَا مَا لَيْسَ لَهَا، وَلَا يُخْبِثُهَا بِتَدْنِيسِهِ لَهَا، وَتَصْغِيرِهِ إيّاهَا، وَتَحْقِيرِهَا بِمَعَاصِي اللّهِ وَيُنَمّيهَا وَيُكَبّرُهَا وَيَرْفَعُهَا بِطَاعَةِ اللّه وَتَوْحِيدِهِ وَحُبّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ وَمُحَابّهِ عَلَى مُرَاضِي الْخَلْقِ وَمُحَابّهِمْ وَلَا يَكُونُ بِهَا مَعَ الْخَلْقِ وَلَا مَعَ اللّهِ بَلْ يَعْزِلُهَا مِنْ الْبَيْنِ كَمَا عَزَلَهَا اللّهُ وَيَكُونُ بِاَللّهِ لَا بِنَفْسِهِ فِي حُبّهِ وَبُغْضِهِ وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَكَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ فَيُنْجِي نَفْسَهُ مِنْ الْبَيْنِ وَلَا يَرَى لَهَا مَكَانَةً يَعْمَلُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مِمّنْ ذَمّهُمْ اللّهُ بِقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الْأَنْعَامُ 135] فَالْعَبْدُ الْمَحْضُ لَيْسَ لَهُ مَكَانَةٌ يَعْمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنّهُ مُسْتَحَقّ الْمَنَافِعِ وَالْأَعْمَالِ لِسَيّدِهِ وَنَفْسُهُ مِلْكٌ لِسَيّدِهِ فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى أَنْ يُؤَدّيَ إلَى سَيّدِهِ مَكَانَةٌ أَصْلًا، بَلْ قَدْ كُوتِبَ عَلَى حُقُوقٍ مُنَجّمَةٍ كُلّمَا أَدّى نَجْمًا حَلّ عَلَيْهِ نَجْمٌ آخَرُ وَلَا يَزَالُ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنّ إنْصَافَهُ مِنْ نَفْسِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةَ رَبّهِ وَحَقّهُ عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةَ نَفْسِهِ وَمَا خُلِقَتْ لَهُ وَأَنْ لَا يُزَاحِمَ بِهَا مَالِكَهَا، وَفَاطِرَهَا وَيَدّعِي لَهَا الْمَلَكَةَ وَالِاسْتِحْقَاقَ وَيُزَاحِمُ مُرَادَ سَيّدِهِ وَيَدْفَعَهُ بِمُرَادِهِ هُوَ أَوْ يُقَدّمُهُ وَيُؤْثِرَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْسِمُ إرَادَتَهُ بَيْنَ مُرَادِ سَيّدِهِ وَمُرَادِهِ وَهِيَ قِسْمَةٌ ضِيزَى، مِثْلَ قِسْمَةِ الّذِينَ قَالُوا: {هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَامُ 136]. فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِمّنْ وَصْفُهُ الظّلْمُ وَالْجَهْلُ؟ وَكَيْفَ يُنْصِفُ الْخَلْقَ مَنْ لَمْ يُنْصِفْ الْخَالِقَ؟ كَمَا فِي أَثَرٍ إلَهِيّ يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، خَيْرِي إلَيْكَ نَازِلٌ وَشَرّكَ إلَيّ صَاعِدٌ كَمْ أَتَحَبّبُ إلَيْكَ بِالنّعَمِ وَأَنَا غَنِيّ عَنْكَ وَكَمْ تَتَبَغّضُ إلَيّ بِالْمَعَاصِي وَأَنْتَ فَقِيرٌ إلَيّ وَلَا يَزَالُ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ يَعْرُجُ إلَيّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ.
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي، خَلَقْتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَايَ. ثُمّ كَيْفَ يُنْصِفُ غَيْرَهُ مَنْ لَمْ يُنْصِفْ نَفْسَهُ وَظَلَمَهَا أَقْبَحَ الظّلْمِ وَسَعَى فِي ضَرَرِهَا أَعْظَمَ السّعْيِ وَمَنَعَهَا أَعْظَمَ لَذّاتِهَا مِنْ حَيْثُ ظَنّ أَنّهُ يُعْطِيهَا إيّاهَا، فَأَتْعَبَهَا كُلّ التّعَبِ وَأَشْقَاهَا كُلّ الشّقَاءِ مِنْ حَيْثُ ظَنّ أَنّهُ يُرِيحُهَا وَيُسْعِدُهَا، وَجَدّ كُلّ الْجِدّ فِي حِرْمَانِهَا حَظّهَا مِنْ اللّهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُنِيلُهَا حُظُوظَهَا، وَدَسّاهَا كُلّ التّدْسِيَةِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُكَبّرُهَا وَيُنَمّيهَا، وَحَقّرَهَا كُلّ التّحْقِيرِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُعَظّمُهَا، فَكَيْفَ يُرْجَى الْإِنْصَافُ مِمّنْ هَذَا إنْصَافُهُ لِنَفْسِهِ؟ إذَا كَانَ هَذَا فِعْلَ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ فَمَاذَا تَرَاهُ بِالْأَجَانِبِ يَفْعَلُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنّ قَوْلَ عَمّارٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك، وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ كَلَامٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الْخَيْرِ وَفُرُوعِهِ.

.بَذْلُ السّلَامِ:

وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ يَتَضَمّنُ تَوَاضُعَهُ وَأَنّهُ لَا يَتَكَبّرُ عَلَى أَحَدٍ، بَلْ يَبْذُلُ السّلَامَ لِلصّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَمَنْ يَعْرِفْهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَالْمُتَكَبّرُ فَكَيْفَ يَبْذُلُ السّلَامَ لِكُلّ أَحَدٍ.