فصل: فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل الدّلِيلُ عَلَى كِتَابَةِ الْعِلْمِ:

وَفِي الْقِصّةِ أَنّ رَجُلًا مِنْ الصّحَابَةِ يُقَال لَهُ أَبُو شَاهٍ، قَامَ فَقَالَ اُكْتُبُوا لِي، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ يُرِيدُ خُطْبَتَهُ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كِتَابَةِ الْعِلْمِ وَنَسْخِ النّهْيِ عَنْ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ كَتَبَ عَنّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَهَذَا كَانَ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ خَشْيَةَ أَنْ يَخْتَلِطَ الْوَحْيُ الّذِي يُتْلَى بِالْوَحْيِ الّذِي لَا يُتْلَى، ثُمّ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِحَدِيثِهِ. وَصَحّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنّهُ كَانَ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَكَانَ مِمّا كَتَبَهُ صَحِيفَةٌ تُسَمّى الصّادِقَةَ وَهِيَ الّتِي رَوَاهَا حَفِيدُهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ وَهِيَ مِنْ أَصَحّ الْأَحَادِيثِ وَكَانَ بَعْضُ أَئِمّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَجْعَلُهَا فِي دَرَجَةِ أَيّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ احْتَجّوا بِهَا.

.فصل الصّلَاةُ فِي الْمَكَانِ الْمُصَوّرِ أَشَدّ كَرَاهَةً مِنْ الصّلَاةِ فِي الْحَمّامِ:

وَفِي الْقِصّةِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلّى فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ حَتّى مُحِيَتْ الصّوَرُ مِنْهُ. فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمُصَوّرِ وَهَذَا أَحَقّ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ الصّلَاةِ فِي الْحَمّامِ لِأَنّ كَرَاهَةَ الصّلَاةِ فِي الْحَمّامِ إمّا لِكَوْنِهِ مَظِنّةَ النّجَاسَةِ وَإِمّا لِكَوْنِهِ بَيْتَ الشّيْطَانِ وَهُوَ الصّحِيحُ وَأَمّا مَحَلّ الصّوَرِ فَمَظِنّةُ الشّرْكِ غَالِبُ شِرْكِ الْأُمَمِ كَانَ مِنْ جِهَةِ الصّوَرِ وَالْقُبُورِ.

.فصل جَوَازُ لُبْسِ السّوَادِ:

وَفِي الْقِصّةِ أَنّهُ دَخَلَ مَكّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ جَعَلَ خُلَفَاءُ بَنِي الْعَبّاسِ لُبْسَ السّوَادِ شِعَارًا لَهُمْ وَلِوُلَاتِهِمْ وَقُضَاتِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَلْبَسْهُ لِبَاسًا رَاتِبًا، وَلَا كَانَ شِعَارَهُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَالْمَجَامِعِ الْعِظَامِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا اتّفَقَ لَهُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ السّوْدَاءِ يَوْمَ الْفَتْحِ دُونَ سَائِرِ الصّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَائِرُ لِبَاسِهِ يَوْمَئِذٍ السّوَادَ بَلْ كَانَ لِوَاؤُهُ أَبْيَضَ.

.فصل مَتَى حُرّمَتْ مُتْعَةُ النّسَاءِ؟

وَمِمّا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ إبَاحَةُ مُتْعَةِ النّسَاءِ ثُمّ حَرّمَهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكّةَ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الّذِي حُرّمَتْ فِيهِ الْمُتْعَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنّهُ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ. مِنْهُمْ الشّافِعِيّ وَغَيْرُهُ.
وَالثّانِي: أَنّهُ عَامَ فَتْحِ مَكّةَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَطَائِفَةٍ.
وَالثّالِثُ أَنّهُ عَامَ حُنَيْنٍ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْقَوْلُ الثّانِي، لِاتّصَالِ غَزَاةِ حُنَيْنٍ بِالْفَتْحِ.
وَالرّابِعُ أَنّهُ عَامَ حَجّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرّوَاةِ سَافَرَ فِيهِ وَهْمُهُ مِنْ فَتْحِ مَكّةَ إلَى حَجّةِ الْوَدَاعِ كَمَا سَافَرَ وَهْمُ مُعَاوِيَةَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعِرّانَةِ إلَى حَجّةِ الْوَدَاعِ حَيْثُ قَالَ قَصّرْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ فِي حَجّتِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْحَجّ وَسَفَرُ الْوَهْمِ مِنْ زَمَانٍ إلَى زَمَانٍ وَمِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ وَمِنْ وَاقِعَةٍ إلَى وَاقِعَةٍ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلْحُفّاظِ فَمَنْ دُونَهُمْ.

.تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ:

وَالصّحِيحُ أَنّ الْمُتْعَةَ إنّمَا حُرّمَتْ عَامَ الْفَتْحِ لِأَنّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّهُمْ اسْتَمْتَعُوا عَامَ الْفَتْحِ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِذْنِهِ وَلَوْ كَانَ التّحْرِيمُ زَمَنَ خَيْبَرَ، لَزِمَ النّسْخُ مَرّتَيْنِ وَهَذَا لَا عَهْدَ بِمِثْلِهِ فِي الشّرِيعَةِ الْبَتّةَ وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِيهَا، وَأَيْضًا: فَإِنّ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمَاتٌ وَإِنّمَا كُنّ يَهُودِيّاتٍ وَإِبَاحَةُ نِسَاءِ أَهْلِ أُبِحْنَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [الْمَائِدَةَ 5]، وَهَذَا مُتّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةَ 3]، وَبِقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [الْمَائِدَةَ 3]، وَهَذَا كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ حَجّةِ الْوَدَاعِ أَوْ فِيهَا، فَلَمْ تَكُنْ إبَاحَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ ثَابِتَةً زَمَنَ خَيْبَرَ، وَلَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ رَغْبَةٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِنِسَاءِ عَدُوّهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَ الْفَتْحِ اُسْتُرِقّ مَنْ اُسْتُرِقّ مِنْهُنّ وَصِرْنَ إمَاءً لِلْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ وَهَذَا صَحِيحٌ صَرِيحٌ؟. قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ صَحّتْ رِوَايَتُهُ بِلَفْظَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا.
وَالثّانِي: الِاقْتِصَارُ عَلَى نَهْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزّهْرِيّ. قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: يَعْنِي أَنّهُ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ، لَا عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَفِي التّمْهِيدِ: ثُمّ قَالَ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ النّاسِ انْتَهَى، فَتَوَهّمَ بَعْضُ الرّوَاةِ أَنّ يَوْمَ خَيْبَرَ ظَرْفٌ لِتَحْرِيمِهِنّ فَرَوَاهُ حَرّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُتْعَةَ زَمَنَ خَيْبَرَ، وَالْحُمُرَ الْأَهْلِيّةَ وَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى رِوَايَةِ بَعْضِ الْحَدِيثِ فَقَالَ حَرّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُتْعَةَ زَمَنَ خَيْبَرَ، فَجَاءَ بِالْغَلَطِ الْبَيّنِ. فَإِنْ قِيلَ فَأَيّ فَائِدَةٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التّحْرِيمَيْنِ إذَا لَمْ يَكُونَا قَدْ وَقَعَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَأَيْنَ الْمُتْعَةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْحُمُرِ؟ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- مُحْتَجّا بِهِ عَلَى ابْنِ عَمّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ فِي كَانَ يُبِيحُ الْمُتْعَةَ وَلُحُومَ الْحُمُرِ فَنَاظَرَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَرَوَى لَهُ التّحْرِيمَيْنِ وَقَيّدَ تَحْرِيمَ الْحُمُرِ بِزَمَنِ خَيْبَرَ، وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ وَقَالَ إنّك امْرُؤٌ تَائِهٌ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ الْمُتْعَةَ وَحَرّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ كَمَا قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النّاسِ فَرَوَى الْأَمْرَيْنِ مُحْتَجّا عَلَيْهِ بِهِمَا، لَا مُقَيّدًا لَهُمَا بِيَوْمِ خَيْبَرَ وَاللّهُ الْمُوَفّقُ. وَلَكِنْ هَاهُنَا نَظَرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّهُ هَلْ حَرّمَهَا تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ الّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ أَوْ حَرّمَهَا عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَأَبَاحَهَا لِلْمُضْطَرّ؟ هَذَا هُوَ الّذِي نَظَرَ فِيهِ ابْنُ عَبّاسٍ وَقَالَ أَنَا أَبَحْتُهَا لِلْمُضْطَرّ كَالْمَيْتَةِ وَالدّمِ فَلَمّا تَوَسّعَ فِيهَا مَنْ تَوَسّعَ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ الضّرُورَةِ أَمْسَكَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ الْإِفْتَاءِ بِحِلّهَا، وَرَجَعَ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى إبَاحَتَهَا وَيَقْرَأُ {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ} [الْمَائِدَة 87]، فَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ كُنّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنَا: أَلَا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا، ثُمّ رَخّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثّوْبِ إلَى أَجَلٍ ثُمّ قَرَأَ عَبْدُ اللّهِ {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ} [الْمَائِدَة 87]. وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللّهِ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: الرّدّ عَلَى مَنْ يُحَرّمُهَا، وَأَنّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الطّيّبَاتِ لَمَا أَبَاحَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
وَالثّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ آخِرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ الرّدّ عَلَى مَنْ أَبَاحَهَا مُطْلَقًا، وَأَنّهُ مُعْتَدّ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا رَخّصَ فِيهَا لِلضّرُورَةِ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْغَزْوِ وَعِنْدَ عَدَمِ النّسَاءِ وَشِدّةِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَرْأَةِ. فَمَنْ رَخّصَ فِيهَا فِي الْحَضَرِ مَعَ كَثْرَةِ النّسَاءِ وَإِمْكَانِ النّكَاحِ الْمُعْتَادِ فَقَدْ اعْتَدَى، وَاللّهُ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ. فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَا: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا يَعْنِي: مُتْعَةَ النّسَاءِ قِيلَ هَذَا كَانَ زَمَنَ الْفَتْحِ قَبْلَ التّحْرِيمِ ثُمّ حَرّمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ رَخّصَ لَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا، ثُمّ نَهَى عَنْهَا. وَعَامُ أَوْطَاسٍ: هُوَ عَامُ الْفَتْحِ لِأَنّ غَزَاةَ أَوْطَاسٍ مُتّصِلَةٌ بِفَتْحِ مَكّةَ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ كُنّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنْ التّمْرِ وَالدّقِيقِ الْأَيّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حَتّى نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَفِيمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا: مُتْعَةُ النّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجّ قِيلَ النّاسُ فِي هَذَا طَائِفَتَانِ طَائِفَةٌ تَقُولُ إنّ عُمَرَ هُوَ الّذِي حَرّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاتّبَاعِ مَا سَنّهُ الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ وَلَمْ تَرَ هَذِهِ الطّائِفَةُ تَصْحِيحَ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ فَإِنّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ وَقَدْ تَكَلّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ، وَلَمْ يَرَ الْبُخَارِيّ إخْرَاجَ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِهِ مَعَ شِدّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَوْنِهِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ صَحّ عِنْدَهُ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ إخْرَاجِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ قَالُوا: وَلَوْ يَخْفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حَتّى يَرْوِيَ أَنّهُمْ فَعَلُوهَا، وَيَحْتَجّ بِالْآيَةِ وَأَيْضًا وَلَوْ صَحّ لَمْ يَقُلْ عُمَرُ إنّهَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَنْهَى عَنْهَا، وَأُعَاقِبُ عَلَيْهَا، بَلْ كَانَ يَقُولُ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا. قَالُوا: وَلَوْ صَحّ لَمْ تُفْعَلْ عَلَى عَهْدِ الصّدّيقِ وَهُوَ عَهْدُ خِلَافَةِ النّبُوّةِ حَقّا. وَالطّائِفَةُ الثّانِيَةُ رَأَتْ صِحّةَ حَدِيثِ سَبْرَةَ وَلَوْ لَمْ يَصِحّ فَقَدْ صَحّ حَدِيثُ عَلِيّ- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ مُتْعَةَ النّسَاءِ فَوَجَبَ حَمْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ عَلَى أَنّ الّذِي أَخْبَرَ عَنْهَا بِفِعْلِهَا لَمْ يَبْلُغْهُ التّحْرِيمُ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ اشْتَهَرَ حَتّى كَانَ زَمَنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَلَمّا وَقَعَ فِيهَا النّزَاعُ ظَهَرَ تَحْرِيمُهَا وَاشْتَهَرَ وَبِهَذَا تَأْتَلِفُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهَا. وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.

.فصل جَوَازُ إجَارَةِ الْمَرْأَةِ وَأَمَانِهَا لِلرّجُلَيْنِ:

وَفِي قِصّةِ الْفَتْحِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ إجَارَةِ الْمَرْأَةِ وَأَمَانِهَا لِلرّجُلِ وَالرّجُلَيْنِ كَمَا أَجَازَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَانَ أُمّ هَانِئٍ لِحَمَوَيْهَا.

.جَوَازُ قَتْلِ الْمُرْتَدّ الّذِي تَغَلّظَتْ رِدّتُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ:

وَفِيهَا مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ قَتْلِ الْمُرْتَدّ الّذِي تَغَلّظَتْ رِدّتُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ فَإِنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ ارْتَدّ وَلَحِقَ بِمَكّةَ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَتَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُبَايِعَهُ فَأَمْسَكَ عَنْهُ طَوِيلًا، ثُمّ بَايَعَهُ وَقَالَ إنّمَا أَمْسَكْت عَنْهُ لِيَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُكُمْ، فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ هَلّا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَقَالَ مَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ فَهَذَا كَانَ قَدْ تَغَلّظَ كُفْرُهُ بِرِدّتِهِ بَعْدَ إيمَانِهِ وَهِجْرَتِهِ وَكِتَابَةِ الْوَحْيِ ثُمّ ارْتَدّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ يَطْعَنُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَعِيبُهُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَلَمّا جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرّضَاعَةِ لَمْ يَأْمُرْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِ حَيَاءً مِنْ عُثْمَانَ وَلَمْ يُبَايِعْهُ لِيَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَيَقْتُلَهُ فَهَابُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى قَتْلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَاسْتَحَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُثْمَانَ وَسَاعَدَ الْقَدَرُ السّابِقُ لِمَا يُرِيدُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِعَبْدِ اللّهِ مِمّا ظَهَرَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْفُتُوحِ فَبَايَعَهُ وَكَانَ مِمّنْ اسْتَثْنَى اللّهُ بِقَوْلِهِ: {كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آلَ عِمْرَانَ 86- 89]، وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُن أَيْ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ وَلَا سِرّهُ عَلَانِيَتَهُ وَإِذَا نُفّذَ حُكْمُ اللّهِ وَأَمْرُهُ لَمْ يُومِ بِهِ بَلْ صَرّحَ بِهِ وَأَعْلَنَهُ وَأَظْهَرَهُ.

.فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ:

وَتُسَمّى غَزْوَةَ أَوْطَاسٍ وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ، فَسُمّيَتْ الْغَزْوَةُ بِاسْمِ مَكَانِهَا، وَتُسَمّى غَزْوَةَ هَوَازِنَ، لِأَنّهُمْ الّذِينَ أَتَوْا لِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّصْرِيّ، وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا، وَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ مُضَرُ وَجُشَمُ كُلّهَا، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إلّا هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ إلّا رَأْيُهُ وَمُعْرِفَتُهُ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شُجَاعًا مُجَرّبًا، وَفِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهُمْ وَفِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَفِي بَنِي مَالِكٍ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ، فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاقَ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ اجْتَمَعَ إلَيْهِ النّاسُ وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ، فَلَمّا نَزَلَ قَالَ بِأَيّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بِأَوْطَاسٍ. قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضِرْسٌ وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّبِيّ وَيُعَارَ الشّاءِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. قَالَ أَيْنَ مَالِكٌ؟ قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ. قَالَ يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِك، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ؟ قَالَ سُقْتُ مَعَ النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ وَلِمَ؟ قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ. فَقَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِك وَمَالِك، ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ. قَالَ غَابَ الْحَدّ وَالْجِدّ لَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَوَدِدْت أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرّانِ. يَا مَالِكُ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ كَانَتْ لَك، لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك، إنْ كَانَتْ عَلَيْك، أَلْفَاك ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَك وَمَالَك. قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ عَقْلُكَ وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَوْ لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ وَرَأْيٌ فَقَالُوا: أَطَعْنَاك، فَقَالَ دُرَيْدٌ هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي.
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ** أَخُبّ فِيهَا وَأَضَع

أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ ** كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ

ثُمّ قَالَ مَالِكٌ لِلنّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَبَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ قَالَ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ وَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى، فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ. وَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ حَتّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ جَمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ، ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا وَسِلَاحًا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَى فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا، فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ بَلْ عَارِيّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتّى نُؤَدّيَهَا إلَيْكَ، فَقَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا، فَفَعَلَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ، مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَفَتَحَ اللّهُ بِهِمْ مَكّةَ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ أَمِيرًا، ثُمّ مَضَى يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ، انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا. قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ قَدْ أَجْمَعُوا، وَتَهَيّئُوا، وَأَعَدّوا فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا- وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ- إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ إلَى أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ؟ هَلُمّ إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ وَالْعَبّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ ابْنُ أُمّ أَيْمَنَ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ. قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتّبَعُوهُ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ أَهْوَى عَلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ قَالَ فَأَتَى عَلِيّ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ قَالَ فَاجْتَلَدَ النّاسُ. قَالَ فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا الْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ- وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: صَوَابُهُ كَلَدَةُ- أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لِأُمّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا: اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك، فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ. وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيّ، قَالَ لَمّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ عَنْوَةً قُلْت: أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ إلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ فَعَسَى إنْ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمّدٍ غِرّةً فَأَثْأَرَ مِنْهُ فَأَكُونَ أَنَا الّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلّهَا، وَأَقُولُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إلّا اتّبَعَ مُحَمّدًا، مَا تَبِعْتُهُ أَبَدًا، وَكُنْت مُرْصِدًا لَمّا خَرَجْتُ لَهُ لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِي إلّا قُوّةً فَلَمّا اخْتَلَطَ النّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ فَأَصْلَتَ السّيْفَ فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا أُرِيدُ مِنْهُ وَرَفَعْتُ سَيْفِي حَتّى كِدْتُ أُشْعِرَهُ إيّاهُ فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ كَادَ يَمْحَشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدَيّ عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ فَالْتَفَتَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَادَانِي: يَا شَيْبُ اُدْنُ مِنّي فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ صَدْرِي، ثُمّ قَالَ اللّهُمّ أَعِذْهُ مِنْ الشّيْطَانِ قَالَ فَوَاَللّهِ لَهُوَ كَانَ سَاعَتَئِذٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَنَفْسِي، وَأَذْهَبَ اللّهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِي، ثُمّ قَالَ اُدْنُ فَقَاتِل بِنَفْسِي كُلّ شَيْءٍ وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السّاعَةَ أَبِي لَوْ كَانَ حَيّا لَأَوْقَعْتُ بِهِ السّيْفَ فَجَعَلْت أَلْزَمُهُ فِيمَنْ لَزِمَهُ حَتّى تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ فَكَرّوا كَرّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَقُرّبَتْ بَغْلَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ حَتّى تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ وَرَجَعَ إلَى مُعَسْكَرِهِ فَدَخَلَ خِبَاءَهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرِي حُبّا لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَسُرُورًا بِهِ فَقَالَ يَا شَيْبُ الّذِي أَرَادَ اللّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمّا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ، ثُمّ حَدّثَنِي بِكُلّ مَا أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مَا لَمْ أَكُنْ أَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ قَطّ قَالَ فَقُلْتُ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ، وَأَنّكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قُلْت: اسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ غَفَرَ اللّهُ لَكَ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ قَدْ شَجَرْتُهَا بِهَا، وَكُنْت امْرَءًا جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حَيْنَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ إلَى أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ؟ قَالَ فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ فَقَالَ يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ، فَأَجَابُوا: لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ وَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا فَكَانَتْ الدّعْوَةُ أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لَلْأَنْصَارِ ثُمّ خَلَصَتْ آخِرًا: يَا لَلْخَزْرَجِ وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَزَادَ غَيْرُهُ:
أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ ** أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطّلِبْ

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ثُمّ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهَا. فِي وُجُوهِ الْكُفّارِ ثُمّ قَالَ انْهَزَمُوا وَرَبّ مُحَمّدٍ فَمَا هُوَ إلّا أَنْ رَمَاهُمْ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا. وَفِي لَفْظٍ لَهُ إنّهُ نَزَلَ عَنْ الْبَغْلَةِ ثُمّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ ثُمّ اسْتَقْبَلَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَقَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ فَمَا خَلَقَ اللّهُ مِنْهُمْ إنْسَانًا إلّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلّوْا مُدْبِرِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت- قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ- مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ أَقْبَلَ مِنْ السّمَاءِ حَتّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ فَلَمْ يَكُنْ إلّا هَزِيمَةَ الْقَوْمِ فَلَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَتَوْا الطّائِفَ، وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ فَأَدْرَكَ مِنْ النّاسِ بَعْضَ مَنْ انْهَزَمَ فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ فَأَخَذَ الرّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ فَقَاتَلَهُمْ فَفَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ فَهَزَمَهُمْ اللّهُ وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِي عَامِرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ وَأَهْلِهِ وَاجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ وَاسْتَغْفَرَ لِأَبِي مُوسَى. ثَقِيفٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّبْيِ وَالْغَنَائِمِ أَنْ تُجْمَعَ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلّهُ وَوَجّهُوهُ إلَى الْجِعِرّانَةِ، وَكَانَ السّبْيُ سِتّةَ آلَافِ رَأْسٍ وَالْإِبِلُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَالْغَنَمُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَاةٍ وَأَرْبَعَةَ آلَافِ أُوقِيّةً فِضّةً فَاسْتَأْنَى بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ مُسْلِمِينَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.