فصل: فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل:

أَوّلَ مَا أَوْحَى إلَيْهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبّهِ الّذِي خَلَقَ وَذَلِكَ أَوّلَ نُبُوّتِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ إذْ ذَاكَ بِتَبْلِيغٍ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ {يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [الْمُدّثّرُ 1، 2] فَنَبّأَهُ بِقَوْلِهِ: {اقْرَأْ} وَأَرْسَلَهُ بِـ {يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ} ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ ثُمّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ثُمّ أَنْذَرَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، ثُمّ أَنْذَرَ الْعَرَبَ قَاطِبَةً ثُمّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ فَأَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ نُبُوّتِهِ يُنْذِرُ بِالدّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ وَيُؤْمَرُ بِالْكَفّ وَالصّبْرِ وَالصّفْحِ. ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمّنْ اعْتَزَلَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ ثُمّ كَانَ الْكُفّارُ مَعَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ وَأَهْلُ حَرْبٍ وَأَهْلُ ذِمّةٍ فَأُمِرَ بِأَنْ يُتِمّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ عَهْدَهُمْ وَأَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِهِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَأُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ. وَلَمّا نَزَلَتْ (سُورَةُ بَرَاءَةٌ) نَزَلَتْ بِبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كُلّهَا، فَأَمَرَهُ فِيهَا أَنْ يُقَاتِلَ عَدُوّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَجَاهَدَ الْكُفّارَ بِالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُجّةِ وَاللّسَانِ.

.الْفَرْقُ بَيْنَ أَشْهُرِ التّسْيِيرِ الْحُرُمِ وَبَيْنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:

وَأَمَرَهُ فِيهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِ الْكُفّارِ وَنَبْذِ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ وَجَعَلَ أَهْلَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمًا أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا لَهُ فَحَارَبَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ. وَقِسْمًا لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقّتٌ لَمْ يَنْقُضُوهُ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدّتِهِمْ. وَقِسْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ أَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ فَأُمِرَ أَنْ يُؤَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَتْ قَاتَلَهُمْ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التّوْبَةُ 2] وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التّوْبَةُ 5] فَالْحُرُمُ هَاهُنَا: هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ أَوّلُهَا يَوْمُ الْأَذَانِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ التّأْذِينُ بِذَلِكَ وَآخِرُهَا الْعَاشِرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التّوْبَةُ 36] فَإِنّ تِلْكَ وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ. وَلَمْ يُسَيّرْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنّهَا غَيْرُ مُتَوَالِيَةٍ وَهُوَ إنّمَا أَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ أَمَرَهُ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَقَتَلَ النّاقِضَ لِعَهْدِهِ وَأَجّلَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لِلْمُوفِي بِعَهْدِهِ عَهْدَهُ إلَى مُدّتِهِ فَأَسْلَمَ هَؤُلَاءِ كُلّهُمْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إلَى مُدّتِهِمْ وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ الْجِزْيَةَ. فَاسْتَقَرّ أَمْرُ الْكُفّارِ مَعَهُ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُحَارِبِينَ لَهُ وَأَهْلِ عَهْدٍ وَأَهْلِ ذِمّةٍ ثُمّ آلَتْ حَالُ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارُوا مَعَهُ قِسْمَيْنِ مُحَارِبِينَ وَأَهْلَ ذِمّةٍ وَالْمُحَارِبُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَصَارَ أَهْلُ الْأَرْضِ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُسَالِمٌ لَهُ آمِنٌ وَخَائِفٌ مُحَارِبٌ. وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ فَإِنّهُ أُمِرَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحُجّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُبَلّغَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إلَى نُفُوسِهِمْ وَنَهَاهُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَهَذِهِ سِيرَتُهُ فِي أَعْدَائِهِ مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.

.فصل سِيرَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ:

وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ. وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلّفَ عَنْهُ حَتّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ كَمَا هَجَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ. خُلّفُوا. وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى مُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ شَرِيفُهُمْ وَدَنِيئُهُمْ.

.مَعْنَى خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ:

وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِأَنْ يَدْفَعَ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيُقَابِلَ إسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ وَجَهْلَهُ بِالْحِلْمِ وَظُلْمَهُ بِالْعَفْوِ وَقَطِيعَتَهُ بِالصّلَةِ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَادَ عَدُوّهُ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ. وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِهِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنّ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُمْ وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي (سُورَةِ الْأَعْرَافِ) و(الْمُؤْمِنُونَ) فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَعْرَافِ 199- 200] فَأَمَرَهُ بِاتّقَاءِ شَرّ الْجَاهِلِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِاتّقَاءِ شَرّ الشّيْطَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَجَمَعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمَ كُلّهَا، فَإِنّ وَلِيّ الْأَمْرِ لَهُ مَعَ الرّعِيّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَإِنّهُ لَابُدّ لَهُ مِنْ حَقّ عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِهِ وَأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَلَابُدّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقّهِ فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَقّ الّذِي عَلَيْهِمْ مَا طَوّعَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَسَمَحَتْ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَشُقّ وَهُوَ الْعَفْوُ الّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ بِبَذْلِهِ ضَرَرٌ وَلَا مَشَقّةٌ وَأُمِرَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْعُرْفِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السّلِيمَةُ وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَتُقِرّ بِحُسْنِهِ وَنَفْعِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا لَا بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَابِلَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يُقَابِلَهُ بِمِثْلِهِ فَبِذَلِكَ يَكْتَفِي شَرّهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ {قُلْ رَبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ 93- 97] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم فُصّلَتْ {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فُصّلَتْ 134] فَهَذِهِ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْسِهِمْ وَجِنّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ.

.فَصْلٌ فِي سِيَاقِ مَغَازِيهِ وَبُعُوثِهِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَار:

.سَرِيّةُ حَمْزَةَ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ:

وَكَانَ أَوّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ وَكَانَ لِوَاءً أَبْيَضَ وَكَانَ حَامِلُهُ أَبُو مَرْثَدٍ كَنّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْغَنَوِيّ حَلِيفَ حَمْزَةَ وَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ خَاصّةً يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ جَاءَتْ مِنْ الشّامِ، وَفِيهَا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ. فَبَلَغُوا سَيْفَ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ، فَالْتَقَوْا وَاصْطَفّوا لِلْقِتَالِ فَمَشَى مَجْدِي بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِي، وَكَانَ حَلِيفًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتّى حَجَزَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَقْتَتِلُوا.

.فصل سَرِيّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِب:

.سَعْدٌ هُوَ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ:

ثُمّ بَعَثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ فِي سَرِيّةٍ إلَى بَطْنِ رَابِغٍ فِي شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ وَحَمَلَهُ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانُوا فِي سِتّينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيّ فَلَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَهُوَ فِي مِائَتَيْنِ عَلَى بَطْنِ رَابِغٍ، عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْجُحْفَةِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ الرّمْيُ وَلَمْ يَسُلّوا السّيُوفَ وَلَمْ يَصْطَفّوا لِلْقِتَالِ وَإِنّمَا كَانَتْ مُنَاوَشَةً وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِيهِمْ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللّه ثُمّ انْصَرَفَ الْفَرِيقَانِ عَلَى حَامِيَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ عَلَى الْقَوْمِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَقَدّمَ سَرِيّةَ عُبَيْدَةَ عَلَى سَرِيّةِ حَمْزَةَ.

.فصل سَرِيّةُ سَعْدٍ إلَى بَطْنِ رَابِغٍ:

ثُمّ بَعَثَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ وَحَمَلَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانُوا عِشْرِينَ رَاكِبًا يَعْتَرِضُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَعَهِدَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْخَرّارَ، فَخَرَجُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ فَكَانُوا يَكْمُنُونَ بِالنّهَارِ وَيَسِيرُونَ بِاللّيْلِ حَتّى صَبّحُوا الْمَكَانَ صَبِيحَةَ خَمْسٍ فَوَجَدُوا الْعِيرَ قَدْ مَرّتْ بِالْأَمْسِ.

.فصل غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ وَهِيَ أَوّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا بِنَفْسِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:

ثُمّ غَزَا بِنَفْسِهِ غَزْوَةَ الْأَبْوَاءِ، وَيُقَالُ لَهَا: وَدّانَ، وَهِيَ أَوّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا بِنَفْسِهِ وَكَانَتْ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَخَرَجَ فِي الْمُهَاجِرِينَ خَاصّةً يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَادَعَ مَخْشِيّ بْنَ عَمْرٍو الضّمْرِيّ وَكَانَ سَيّدَ بَنِي ضَمْرَةَ فِي زَمَانِهِ عَلَى أَلّا يَغْزُو بَنِي ضَمْرَةَ، وَلَا يَغْزُوهُ وَلَا أَنْ يُكَثّرُوا عَلَيْهِ جَمْعًا، وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوّا، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.

.فصل غَزْوَةُ بُوَاطَ:

ثُمّ غَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُوَاطَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ وَحَمَلَ لِوَاءَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَخَرَجَ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فِيهَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيّ، وَمِائَةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَلْفَانِ وَخَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ فَبَلَغَ بُوَاطًا، وَهُمَا جَبَلَانِ فَرْعَانِ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ مِنْ جِبَالِ جُهَيْنَةَ، مِمّا يَلِي طَرِيقَ الشّامِ، وَبَيْنَ بُوَاطَ وَالْمَدِينَةِ نَحْوُ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا فَرَجَعَ.

.فصل خُرُوجُهُ فِي طَلَبِ كُرْزٍ الْفِهْرِيّ:

ثُمّ خَرَجَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ يَطْلُبُ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَكَانَ كُرْزٌ قَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَاقَهُ وَكَانَ يَرْعَى بِالْحِمَى، فَطَلَبَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَفْوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَفَاتَهُ كُرْزٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ.

.فصل غَزْوَةُ الْعَشِيرَةِ:

ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ- عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ، وَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَيُقَالُ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى الْخُرُوجِ وَخَرَجُوا عَلَى ثَلَاثِينَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا يَعْتَرِضُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ذَاهِبَةً إلَى الشّامِ، وَقَدْ كَانَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِفُصُولِهَا مِنْ مَكّةَ فِيهَا أَمْوَالٌ لِقُرَيْشٍ، فَبَلَغَ ذَا الْعَشِيرَةِ، وَقِيلَ الْعُشَيْرَاءُ بِالْمَدّ. وَقِيلَ الْعَسِيرَةِ بِالْمُهْمَلَةِ وَهِيَ بِنَاحِيَةِ يَنْبُعَ، وَبَيْنَ يَنْبُعَ وَالْمَدِينَةِ تِسْعَةُ بُرُدٍ فَوَجَدَ الْعِيرَ قَدْ فَاتَتْهُ بِأَيّامٍ وَهَذِهِ هِيَ الْعِيرُ الّتِي خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حِينَ رَجَعَتْ مِنْ الشّامِ، وَهِيَ الّتِي وَعَدَهُ اللّهُ إيّاهَا، أَوْ الْمُقَاتِلَةُ وَذَاتُ الشّوْكَةِ وَوَفّى لَهُ بِوَعْدِهِ. وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَادَعَ بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ. قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الْحَافِظُ: وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَنّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا أَبَا قَالَ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ إنّمَا كَنّاهُ أَبَا تُرَابٍ بَعْدَ نِكَاحِهِ فَاطِمَةَ، وَكَانَ نِكَاحُهَا بَعْدَ بَدْرٍ، فَإِنّهُ لَمّا دَخَلَ عَلَيْهَا وَقَالَ أَيْنَ ابْنُ عَمّكِ؟ قَالَتْ خَرَجَ مُغَاضِبًا، فَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَهُ مُضْطَجِعًا فِيهِ وَقَدْ لَصِقَ بِهِ التّرَابَ فَجَعَلَ يَنْفُضُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ وَهُوَ أَوّلُ يَوْمٍ كُنّيَ فِيهِ أَبَا تُرَابٍ.

.فصل سَرِيّةُ نَخْلَةَ:

ثُمّ بَعَثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيّ إلَى نَخْلَةَ فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كُلّ اثْنَيْنِ يَعْتَقِبَانِ عَلَى بَعِيرٍ فَوَصَلُوا إلَى بَطْنِ نَخْلَةَ يَرْصُدُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَفِي هَذِهِ السّرِيّةِ سَمّى عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمّ يَنْظُرَ فِيهِ وَلَمّا فَتَحَ الْكِتَابَ وَجَدَ فِيهِ إذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَامْضِ حَتّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا، وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ فَقَالَ سَمْعًا وَطَاعَةً وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَبِأَنّهُ لَا يَسْتَكْرِهُهُمْ فَمَنْ أَحَبّ الشّهَادَةَ فَلْيَنْهَضْ وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَلْيَرْجِعْ وَأَمّا أَنَا فَنَاهِضٌ فَمَضَوْا كُلّهُمْ فَلَمّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطّرِيقِ أَضَلّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلّفَا فِي طَلَبِهِ وَبَعُدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ حَتّى نَزَلَ بِنَخْلَةَ فَمَرّتْ بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأَدَمًا وَتِجَارَةً فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيّ، وَعُثْمَانُ وَنَوْفَلٌ ابْنَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ فَتَشَاوَرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: نَحْنُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ الشّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنْ قَاتَلْنَاهُمْ انْتَهَكْنَا الشّهْرَ الْحَرَامَ وَإِنْ تَرَكْنَاهُمْ اللّيْلَةَ دَخَلُوا الْحَرَمَ، ثُمّ أَجْمَعُوا عَلَى مُلَاقَاتِهِمْ فَرَمَى أَحَدُهُمْ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ فَقَتَلَهُ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَوّلُ قَتِيلٍ فِي الْإِسْلَامِ وَأَوّلُ أَسِيرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْكَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ وَاشْتَدّ تَعَنّتُ قُرَيْشٍ وَإِنْكَارُهُمْ ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنّهُمْ قَدْ وَجَدُوا مَقَالًا، فَقَالُوا: قَدْ أَحَلّ مُحَمّدٌ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَاشْتَدّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ؟ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [الْبَقَرَةِ 217] يَقُولُ سُبْحَانَهُ هَذَا الّذِي أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَمَا ارْتَكَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ مِنْ الْكُفْرِ بِاَللّهِ وَالصّدّ عَنْ سَبِيلِهِ وَعَنْ بَيْتِهِ وَإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ هُمْ أَهْلُهُ مِنْهُ وَالشّرْكِ الّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَالْفِتْنَةِ الّتِي حَصَلَتْ مِنْكُمْ بِهِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ مِنْ قِتَالِهِمْ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَأَكْثَرُ السّلَفِ فَسّرُوا الْفِتْنَةَ هَاهُنَا بِالشّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الْبَقَرَةِ 193] وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ 23] أَيْ لَمْ يَكُنْ مَآلُ شِرْكِهِمْ وَعَاقِبَتُهُ وَآخِرُ أَمْرِهِمْ إلّا أَنْ تَبَرّءُوا مِنْهُ وَأَنْكَرُوهُ. وَحَقِيقَتُهَا: أَنّهَا الشّرْكُ الّذِي يَدْعُو صَاحِبُهُ إلَيْهِ وَيُقَاتِلُ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُ مَنْ لَمْ يَفْتَتِنْ بِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمْ وَقْتَ عَذَابِهِمْ بِالنّارِ وَفِتْنَتِهِمْ بِهَا: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تَكْذِيبَكُمْ. وَحَقِيقَتُهُ ذُوقُوا نِهَايَةَ فِتْنَتِكُمْ وَغَايَتَهَا، وَمَصِيرَ أَمْرِهَا، كَقَوْلِهِ: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزّمَرِ 24] وَكَمَا فَتَنُوا عِبَادَهُ عَلَى الشّرْكِ فُتِنُوا عَلَى النّارِ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنّ الّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ لَمْ يَتُوبُوا} [الْبُرُوجِ 10] فُسّرَتْ الْفِتْنَةُ هَاهُنَا بِتَعْذِيبِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ وَإِحْرَاقِهِمْ إيّاهُمْ بِالنّارِ وَاللّفْظُ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ وَحَقِيقَتُهُ {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} وَقَوْلِ مُوسَى: {إِنْ هِيَ إِلّا فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الْأَعْرَافِ 155] فَتِلْكَ بِمَعْنًى آخَرَ وَهِيَ بِمَعْنَى الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ مِنْ اللّهِ لِعِبَادِهِ بِالْخَيْرِ وَالشّرّ بِالنّعَمِ وَالْمَصَائِبِ فَهَذِهِ لَوْنٌ وَفِتْنَةُ الْمُشْرِكِينَ لَوْنٌ وَفِتْنَةُ الْمُؤْمِنِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ لَوْنٌ آخَرُ وَالْفِتْنَةُ الّتِي يُوقِعُهَا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْفِتْنَةِ الّتِي أَوْقَعَهَا بَيْنَ أَصْحَابِ عَلِيّ وَمُعَاوِيَةَ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفّينَ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتّى يَتَقَاتَلُوا وَيَتَهَاجَرُوا لَوْنٌ آخَرُ وَهِيَ الْفِتْنَةُ الّتِي قَالَ فِيهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السّاعِي وَأَحَادِيثُ الْفِتْنَةِ الّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا بِاعْتِزَالِ الطّائِفَتَيْنِ هِيَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ. وَقَدْ تَأْتِي الْفِتْنَةُ مُرَادًا بِهَا الْمَعْصِيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي} [التّوْبَةِ 49]، يَقُولُهُ الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ، لَمّا نَدَبَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى تَبُوكَ، يَقُولُ ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَلَا تَفْتِنّي بِتَعَرّضِي لِبَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَإِنّي لَا أَصْبِرُ عَنْهُنّ قَالَ تَعَالَى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التّوْبَةِ 49] أَيْ وَقَعُوا فِي فِتْنَةِ النّفَاقِ وَفَرّوا إلَيْهَا مِنْ فِتْنَةِ بَنَاتِ الْأَصْفَرِ. وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَلَمْ يُبْرِئْ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْإِثْمِ بِالْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ بَلْ أَخْبَرَ أَنّهُ كَبِيرٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُجَرّدِ الْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ فَهُمْ أَحَقّ بِالذّمّ وَالْعَيْبِ وَالْعُقُوبَةِ لَا سِيّمَا وَأَوْلِيَاؤُهُ كَانُوا مُتَأَوّلِينَ فِي قِتَالِهِمْ ذَلِكَ أَوْ مُقَصّرِينَ نَوْعَ تَقْصِيرٍ يَغْفِرُهُ اللّهُ لَهُمْ فِي جَنْبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ التّوْحِيدِ وَالطّاعَاتِ وَالْهِجْرَةِ مَعَ رَسُولِهِ وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللّهِ فَهُمْ كَمَا قِيلَ:
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ** جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعٍ

فَكَيْفَ يُقَاسُ بِبَغِيضٍ عَدُوّ جَاءَ بِكُلّ قَبِيحٍ وَلَمْ يَأْتِ بِشَفِيعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحَاسِنِ.