فصل: فَصْلٌ فِي الْأَوْهَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل هَلْ وَقَفَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ الْوَدَاعِ:

وَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ وَهِيَ وُقُوفُهُ فِي الْمُلْتَزَمِ، فَاَلّذِي رُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ فَعَلَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ، قَالَ لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ، انْطَلَقْتُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْكَعْبَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ اسْتَلَمُوا الرّكْنَ مِنْ الْبَابِ إلَى الْحَطِيمِ، وَوَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى الْبَيْتِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَطَهُمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللّهِ فَلَمّا حَاذَى دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ أَلَا تَتَعَوّذُ؟ قَالَ نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ النّارِ، ثُمّ مَضَى حَتّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، فَقَامَ بَيْنَ الرّكْنِ وَالْبَابِ فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ هَكَذَا، وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَفْعَلُه فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْوَدَاعِ وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ وَلَكِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشّافِعِيّ بَعْدَهُ وَغَيْرُهُمَا: إنّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَقِفَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَيَدْعُو، وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا يَلْتَزِمُ مَا بَيْنَ الرّكْنِ وَالْبَابِ وَكَانَ يَقُولُ لَا يَلْتَزِمُ مَا بَيْنَهُمَا أَحَدٌ يَسْأَلُ اللّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ إيّاهُ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل أَيْنَ صَلّى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّبْحَ لَيْلَةَ الْوَدَاعِ؟

وَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الثّالِثَةُ وَهِيَ مَوْضِعُ صَلَاتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلَاةَ الصّبْحِ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الصّحِيحَيْنِ: عَنْ أُمّ سَلَمَةَ، قَالَتْ شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّي أَشْتَكِي، فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. قَالَتْ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَئِذٍ يُصَلّي إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِـ {وَالطّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَجْرِ وَفِي غَيْرِهَا، وَأَنْ يَكُونَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ وَغَيْرِهِ فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَإِذَا الْبُخَارِيّ قَدْ رَوَى فِي صَحِيحِهِ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ أُمّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتْ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصّبْحِ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنّاسُ يُصَلّونَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلّ حَتّى خَرَجَتْ وَهَذَا مَحَالٌ قَطْعًا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ النّحْرِ فَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بِلَا رَيْبٍ فَظَهَرَ أَنّهُ صَلّى الصّبْحَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَسَمِعَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالطّورِ.

.فصل ارْتِحَالُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ:

ثُمّ ارْتَحَلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمّا كَانَ بِالرّوْحَاءِ، لَقِيَ رَكْبًا، فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مَنْ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: فَمَنْ الْقَوْمُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَفَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيّا لَهَا مِنْ مِحَفّتِهَا، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ أَلِهَذَا حَجّ؟ قَالَ نَعَمْ وَلَكِ أَجْر فَلَمّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، بَاتَ بِهَا، فَلَمّا رَأَى الْمَدِينَةَ، كَبّرَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَقَالَ لَا إلَه إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ دَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرّسِ، وَخَرَجَ مِنْ طَرِيقِ الشّجَرَةِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي الْأَوْهَامِ:

وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي قَوْلِهِ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْلَمَ النّاسَ وَقْتَ خُرُوجِهِ أَنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجّةً:
فَمِنْهَا: وَهْمٌ لِأَبِي مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ حَيْثُ قَالَ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْلَمَ النّاسَ وَقْتَ خُرُوجِهِ أَنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجّةً وَهَذَا وَهْمٌ ظَاهِرٌ فَإِنّهُ إنّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ حَجّتِهِ إذْ قَالَ لِأُمّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيّةِ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟ قَالَتْ لَمْ يَكُنْ لَنَا إلّا نَاضِحَانِ فَحَجّ أَبُو وَلَدِي وَابْنِي عَلَى نَاضِحٍ وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ. قَالَ فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجّةً هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَالَ هَذَا لِأُمّ مَعْقِلٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ جَدّتِهِ أُمّ مَعْقِلٍ، قَالَتْ لَمّا حَجّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَأَصَابَنَا مَرَضٌ فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ حَجّهِ جِئْتُهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِي مَعَنَا؟ فَقَالَتْ لَقَدْ تَهَيّأْنَا، فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ وَهُوَ الّذِي نَحُجّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ. قَالَ فَهَلّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ؟ فَإِنّ الْحَجّ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَأَمّا إذْ فَاتَتْكِ هَذِهِ الْحَجّةُ مَعَنَا فَاعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنّهَا كَحَجّةٍ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا وَهْمٌ آخَرُ لَهُ وَهُوَ أَنّ خُرُوجَهُ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسِتّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ خَرَجَ لِخَمْسٍ وَأَنّ خُرُوجَهُ كَانَ يَوْمَ السّبْتِ.
فصل:
وَهِمَ مُحِبّ الدّينِ الطّبَرِيّ بِقَوْلِهِ خَرَجَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصّلَاةِ.
وَمِنْهَا وَهْمٌ آخَرُ لِبَعْضِهِمْ ذَكَرَ الطّبَرِيّ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ أَنّهُ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصّلَاةِ. وَاَلّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَهْمِ الْقَبِيحِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ خَرَجَ لِسِتّ بَقِينَ فَظَنّ أَنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلّا أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ تَمَامُ السّتّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَأَوّلُ ذِي الْحِجّةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَإِنّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ الّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنّهُ صَلّى الظّهْرَ يَوْمَ خُرُوجِهِ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصّحِيحَيْنِ. وَحَكَى الطّبَرِيّ فِي حَجّتِهِ قَوْلًا ثَالِثًا: إنّ خُرُوجَهُ كَانَ يَوْمَ السّبْتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْوَاقِدِيّ، وَهُوَ الْقَوْلُ الّذِي رَجّحْنَاهُ أَوّلًا، لَكِنّ الْوَاقِدِيّ، وَهِمَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَوْهَامٍ أَحَدُهَا: أَنّهُ زَعَمَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى يَوْمَ خُرُوجِهِ الظّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ الْوَهْمُ الثّانِي: أَنّهُ أَحْرَمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَقِيبَ صَلَاةِ الظّهْرِ وَإِنّمَا أَحْرَمَ مِنْ الْغَدِ بَعْدَ أَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ الْوَهْمُ الثّالِثُ أَنّ الْوَقْفَةَ كَانَتْ يَوْمَ السّبْتِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ وَهُوَ وَهْمٌ بَيّنٌ.
فصل:
وَهِمَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَطَيّبَ قَبْلَ غَسْلِهِ ثُمّ غَسَلَ الطّيبَ عَنْهُ لَمّا اغْتَسَلَ.
وَمِنْهَا وَهْمٌ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَغَيْرِهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَطَيّبَ هُنَاكَ قَبْلَ وَمَنْشَأُ هَذَا الْوَهْمِ مِنْ سِيَاقِ مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ بَعْدَ ذَلِك، ثُمّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا وَاَلّذِي يَرُدّ هَذَا الْوَهْمَ قَوْلُهَا: طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِإِحْرَامِهِ وَقَوْلُهَا: كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطّيبِ أَيْ بَرِيقِهِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَفِي لَفْظٍ وَهُوَ يُلَبّي بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ إحْرَامِهِ وَفِي لَفْظٍ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ تَطَيّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ ثُمّ أَرَى وَبِيصَ الطّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكُلّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَلْفَاظُ الصّحِيحِ وَأَمّا الْحَدِيثُ الّذِي احْتَجّ بِهِ فَإِنّهُ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا: كُنْتُ أُطَيّبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ الطّيبَ الثّانِيَ عِنْدَ إحْرَامِهِ.
فَصْلٌ:
وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْرَمَ قَبْلَ الظّهْرِ:
وَمِنْهَا: وَهْمٌ آخَرُ لِأَبِي مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْرَمَ قَبْلَ الظّهْرِ وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ لَمْ يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَإِنّمَا أَهَلّ عَقِيبَ صَلَاةِ الظّهْرِ فِي مَوْضِعِ مُصَلّاهُ ثُمّ رَكِبَ نَاقَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ وَهُوَ يُهِلّ، وَهَذَا يَقِينًا كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ الظّهْرِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.
فصل:
وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ وَكَانَ هَدْيَ تَطَوّعٍ.
وَمِنْهَا وَهْمٌ آخَرُ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ وَكَانَ هَدْيَ تَطَوّعٍ وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَصْلِهِ الّذِي انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الْأَئِمّةِ أَنّ الْقَارِنَ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيٌ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمٌ آخَرُ لِمَنْ قَالَ إنّهُ لَمْ يُعَيّنْ فِي إحْرَامِهِ نُسُكًا، بَلْ أَطْلَقَهُ وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَيّنَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً كَانَ مُتَمَتّعًا بِهَا، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَصَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرِهِمَا، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَيّنَ حَجّا مُفْرَدًا مُجَرّدًا لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَيّنَ عُمْرَةً ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجّ وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَيّنَ حَجّا مُفْرَدًا، ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ مُسْتَنَدِ ذَلِكَ وَوَجْهُ الصّوَابِ فِيهِ. وَاللّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمٌ لِأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الطّبَرِيّ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ لَهُ أَنّهُمْ لَمّا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ صَادَ أَبُو قَتَادَةَ حِمَارًا وَحْشِيّا وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، فَأَكَلَ مِنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا إنّمَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمٌ آخَرُ لِبَعْضِهِمْ حَكَاهُ الطّبَرِيّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ دَخَلَ مَكّةَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنّمَا دَخَلَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجّةِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ قَالَ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَلّ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ بَيّنّا أَنّ مُسْتَنَدَ هَذَا الْوَهْمِ وَهُمْ مُعَاوِيَةُ، أَوْ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَنّهُ قَصّرَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ فِي حَجّتِهِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُقَبّلُ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ فِي طَوَافِهِ وَإِنّمَا الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَسَمّاهُ الْيَمَانِيّ لِأَنّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْآخَرِ الْيَمَانِيّيْنِ. فَعَبّرَ بَعْضُ الرّوَاةِ عَنْهُ بِالْيَمَانِيّ مُنْفَرِدًا.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمٌ فَاحِشٌ لِأَبِي مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ أَنّهُ رَمَلَ فِي السّعْيِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الْوَهْمِ وَهْمُهُ فِي حِكَايَةِ الِاتّفَاقِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الّذِي لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ سِوَاهُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ طَافَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا، وَكَانَ ذَهَابُهُ وَإِيَابُهُ مَرّةً وَاحِدَةً وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ بُطْلَانِهِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الصّبْحَ يَوْمَ النّحْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْوَهْمِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الْفَجْرَ يَوْمَ النّحْرِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا وَهَذَا إنّمَا أَرَادَ بِهِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الّذِي كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يُصَلّيَهَا فِيهِ فَعَجّلَهَا عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ وَلَابُدّ مِنْ هَذَا التّأْوِيلِ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، إنّمَا يَدُلّ عَلَى هَذَا، فَإِنّهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَمَا يَأْتِي النّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْفَجْرِ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ وَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ فَصَلّى الصّبْحَ حِينَ تَبَيّنَ لَهُ الصّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا وَهْمُ مَنْ وَهِمَ فِي أَنّهُ صَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ تِلْكَ اللّيْلَةَ بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ.
وَوَهِمَ مَنْ قَالَ صَلّاهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ أَصْلًا، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصّحِيحُ أَنّهُ صَلّاهُمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ لِكُلّ صَلَاةٍ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ خَطَبَ بِعَرَفَةَ خُطْبَتَيْنِ جَلَسَ بَيْنَهُمَا، ثُمّ أَذّنَ الْمُؤَذّنُ فَلَمّا فَرَغَ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ الثّانِيَةِ فَلَمّا فَرَغَ مِنْهَا، أَقَامَ الصّلَاةَ وَهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْبَتّةَ وَحَدِيثُ جَابِرٍ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ لَمّا أَكْمَلَ خُطْبَتَهُ أَذّنَ بِلَالٌ، وَأَقَامَ الصّلَاةَ فَصَلّى الظّهْرَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمٌ لِأَبِي ثَوْرٍ أَنّهُ لَمّا صَعِدَ أَذّنَ الْمُؤَذّنُ فَلَمّا فَرَغَ قَامَ فَخَطَبَ وَهَذَا وَهْمٌ ظَاهِرٌ فَإِنّ الْأَذَانَ إنّمَا كَانَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ رَوَى، أَنّهُ قَدّمَ أُمّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النّحْرِ وَأَمَرَهَا أَنْ تُوَافِيَهُ صَلَاةَ الصّبْحِ بِمَكّةَ وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُهُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ أَخّرَ طَوَافَ الزّيَارَةِ يَوْمَ النّحْرِ إلَى اللّيْلِ وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَأَنّ الّذِي أَخّرَهُ إلَى اللّيْلِ إنّمَا هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَمُسْتَنَدُ هَذَا أَعْلَمُ- أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ أَفَاضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا، فَحَمَلَ عَنْهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَقِيلَ أَخّرَ طَوَافَ الزّيَارَةِ إلَى اللّيْلِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ وَهِمَ وَقَالَ إنّهُ أَفَاضَ مَرّتَيْنِ مَرّةً بِالنّهَارِ وَمَرّةً مَعَ نِسَائِهِ بِاللّيْلِ وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْوَهْمِ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فَزَارُوا الْبَيْتَ يَوْمَ النّحْرِ ظَهِيرَةً وَزَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا وَهَذَا غَلَطٌ وَالصّحِيحُ عَنْ عَائِشَةَ خِلَافُ هَذَا: أَنّهُ أَفَاضَ نَهَارًا إفَاضَةً وَاحِدَةً وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ وَخِيمَةٌ جِدّا، سَلَكَهَا ضِعَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُتَمَسّكُونَ بِأَذْيَالِ التّقْلِيدِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ طَافَ لِلْقُدُومِ يَوْمَ النّحْرِ ثُمّ طَافَ بَعْدَهُ لِلزّيَارَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ مُسْتَنَدُ ذَلِكَ وَبُطْلَانُهُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ يَوْمَئِذٍ سَعَى مَعَ هَذَا الطّوَافِ. وَاحْتَجّ بِذَلِكَ عَلَى أَنّ الْقَارِنَ يَحْتَاجُ إلَى سَعْيَيْنِ وَقَدْ تَقَدّمَ بُطْلَانُ ذَلِكَ عَنْهُ وَأَنّهُ لَمْ يَسَعْ إلّا سَعْيًا وَاحِدًا، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: عَلَى الْقَوْلِ الرّاجِحِ وَهْم مَنْ قَالَ إنّهُ صَلّى الظّهْرَ يَوْمَ النّحْرِ بِمَكّةَ، وَالصّحِيحُ أَنّهُ صَلّاهَا بِمِنًى كَمَا تَقَدّمَ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ لَمْ يُسْرِعْ فِي وَادِي مُحَسّرٍ حِينَ أَفَاضَ مِنْ جَمْعٍ إلَى مِنًى، وَأَنّ ذَلِكَ إنّمَا هُوَ فِعْلُ الْأَعْرَابِ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْوَهْمِ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّمَا كَانَ بَدْءُ الْإِيضَاعِ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانُوا يَقِفُونَ حَافّتَيْ النّاسِ حَتّى قَدْ عَلّقُوا الْقِعَابَ وَالْعِصِيّ وَالْجِعَابَ فَإِذَا أَفَاضُوا، تَقَعْقَعَتْ تِلْكَ فَنَفَرُوا بِالنّاسِ وَلَقَدْ رُئِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ ذِفْرَى نَاقَتِهِ لَيَمَسّ حَارِكَهَا وَهُوَ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ عَلَيْكُمْ السّكِينَة وَفِي رِوَايَةٍ إنّ الْبِرّ لَيْسَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، فَعَلَيْكُمْ بِالسّكِينَةِ فَمَا رَأَيْتُهَا رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتّى أَتَى مِنًى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ طَاوُوسٌ وَالشّعْبِيّ، قَالَ الشّعْبِيّ: حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنّهُ أَفَاضَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عَرَفَةَ، فَلَمْ تَرْفَعْ رَاحِلَتُهُ رِجْلَهَا عَادِيَةً حَتّى بَلَغَ جَمْعًا. قَالَ وَحَدّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبّاسٍ، أَنّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جَمْعٍ، فَلَمْ تَرْفَعْ رَاحِلَتُهُ رِجْلَهَا عَادِيَةً حَتّى رَمَى الْجَمْرَةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ إنّمَا أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ الْإِسْرَاعَ وَمَنْشَأُ هَذَا الْوَهْمِ اشْتِبَاهُ الْإِيضَاعِ وَقْتَ الدّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ الّذِي يَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ وَجُفَاةُ النّاسِ بِالْإِيضَاعِ فِي وَادِي مُحَسّرٍ، فَإِنّ الْإِيضَاعَ هُنَاكَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ نَهَى عَنْهُ وَالْإِيضَاعُ فِي وَادِي مُحَسّرٍ سُنّةٌ نَقَلَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَابِرٌ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ ابْنُ الزّبَيْرِ يُوضِعُ أَشَدّ الْإِيضَاعِ وَفَعَلَتْهُ عَائِشَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصّحَابَةِ وَالْقَوْلُ فِي هَذَا قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ لَا قَوْلُ مَنْ نَفَى. وَاللّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا وَهِمَ طَاوُوسٌ وَغَيْرُهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُفِيضُ كُلّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي مِنًى إلَى الْبَيْتِ وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحِهِ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسّانَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيّامَ مِنًى وَرَوَاهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ دَفَعَ إلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ كِتَابًا قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي وَلَمْ يَقْرَأْهُ قَالَ وَكَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَسّانَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ كُلّ لَيْلَةٍ مَا دَامَ بِمِنًى قَالَ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا وَاطَأَهُ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَرَوَاهُ الثّوْرِيّ فِي جَامِعِهِ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى مَكّةَ بَعْدَ أَنْ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ وَبَقِيَ فِي مِنًى إلَى حِينِ الْوَدَاعِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا وَهْمُ مَنْ قَالَ إنّهُ وَدّعَ مَرّتَيْنِ. وَوَهْمُ مَنْ قَالَ إنّهُ جَعَلَ مَكّةَ دَائِرَةً فِي دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ فَبَاتَ بِذِي طُوًى، ثُمّ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا، ثُمّ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمُحَصّبِ عَنْ يَمِينِ مَكّةَ، فَكَمُلَتْ الدّائِرَةُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْهَا وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ انْتَقَلَ مِنْ الْمُحَصّبِ إلَى ظَهْرِ الْعَقَبَةِ، فَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ الْأَوْهَامِ نَبّهْنَا عَلَيْهَا مُفَصّلًا وَمُجْمَلًا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهَدَايَا وَالضّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ.
وَهِيَ مُخْتَصّةٌ بِالْأَزْوَاجِ الثّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا عَنْ الصّحَابَةِ هَدْيٌ وَلَا أُضْحِيّةٌ وَلَا عَقِيقَةٌ مِنْ غَيْرِهَا، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ مَجْمُوعِ أَرْبَعِ آيَاتٍ. إحْدَاهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [الْمَائِدَةُ 1].
وَالثّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الْحَجّ: 28].
وَالثّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلَا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ذَكَرَهَا.
الرّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [الْمَائِدَةُ 95]. فَدَلّ عَلَى أَنّ الّذِي يَبْلُغُ الْكَعْبَةَ مِنْ الْهَدْيِ هُوَ هَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثّمَانِيَةُ وَهَذَا اسْتِنْبَاطُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. وَالذّبَائِحُ الّتِي هِيَ قُرْبَةٌ إلَى اللّهِ وَعِبَادَةٌ هِيَ ثَلَاثَةٌ الْهَدْيُ وَالْأُضْحِيّةُ وَالْعَقِيقَةُ. فَأَهْدَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغَنَمَ وَأَهْدَى الْإِبِلَ وَأَهْدَى عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ وَأَهْدَى فِي مَقَامِهِ وَفِي عُمْرَتِهِ وَفِي حَجّتِهِ وَكَانَتْ سُنّتُهُ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ دُونَ إشْعَارِهَا. وَكَانَ إذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ مِنْهُ حَلَالًا. وَكَانَ إذَا أَهْدَى الْإِبِلَ قَلّدَهَا وَأَشْعَرَهَا، فَيَشُقّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ يَسِيرًا حَتّى يَسِيلَ الدّمُ. قَالَ الشّافِعِيّ: وَالْإِشْعَارُ فِي الصّفْحَةِ الْيُمْنَى، كَذَلِكَ أَشْعَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَكَانَ إذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ أَمَرَ رَسُولَهُ إذَا أَشْرَفَ عَلَى عَطَبٍ شَيْءٌ مِنْهُ أَنْ يَنْحَرَهُ ثُمّ يَصْبُغَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ ثُمّ يَجْعَلَهُ عَلَى صَفْحَتِهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ ثُمّ يَقْسِمُ لَحْمَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ هَذَا الْأَكْلِ سَدّا لِلذّرِيعَةِ فَإِنّهُ لَعَلّهُ رُبّمَا وَشَرّكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الْهَدْيِ كَمَا تَقَدّمَ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ كَذَلِكَ. وَأَبَاحَ لِسَائِقِ الْهَدْيِ رُكُوبَهُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ حَتّى يَجِدَ ظَهْرًا غَيْرَه وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْرَ الْإِبِلِ قِيَامًا، مُقَيّدَةً مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى، عَلَى ثَلَاثٍ وَكَانَ يُسَمّي اللّهَ عِنْدَ نَحْرِهِ وَيُكَبّرُ وَكَانَ يَذْبَحُ نُسُكَهُ بِيَدِهِ وَرُبّمَا وَكّلَ فِي بَعْضِهِ كَمَا أَمَرَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ يَذْبَحَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمِائَةِ. وَكَانَ إذَا ذَبَحَ الْغَنَمَ وَضَعَ قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهَا ثُمّ سَمّى، وَكَبّرَ وَذَبَحَ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ نَحَرَ بِمِنًى وَقَالَ إنّ فِجَاجَ مَكّةَ كُلّهَا مَنْحَر وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَنَاحِرُ الْبُدْنِ بِمَكّةَ، وَلَكِنّهَا نُزّهَتْ عَنْ الدّمَاءِ وَمِنًى مِنْ مَكّةَ، وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَنْحَرُ بِمَكّةَ. وَأَبَاحَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأُمّتِهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ هَدَايَاهُمْ وَضَحَايَاهُمْ وَيَتَزَوّدُوا مِنْهَا، وَنَهَاهُمْ مَرّةً أَنْ يَدّخِرُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ لِدَافّةٍ دَفّتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْعَامَ مِنْ النّاسِ فَأُحِبّ أَنْ يُوَسّعُوا عَلَيْهِم وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ ضَحّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَنَا لَحْمَ هَذِهِ الشّاةِ قَالَ فَمَا زِلْتُ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذِهِ الْقِصّةَ وَلَفْظُهُ فِيهَا: إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ أَصْلِحْ هَذَا اللّحْمَ قَالَ فَأَصْلَحْتُهُ فَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ مِنْهُ حَتَى بَلَغَ الْمَدِينَة وَكَانَ رُبّمَا قَسَمَ لُحُومَ الْهَدْيِ وَرُبّمَا قَالَ مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ فَعَلَ هَذَا، وَنَحْوِهِ وَفُرّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا لَا يَتَبَيّنُ.